الفطير المشلتت!
جلس توفيق أمام الأستاذ عشماوي يستمع إليه في اهتمام. حاول عشماوي فتح اللفافة التي تحوي الفطير المشلتت، ولكن عشماوي توقف عن ذلك بعد أن صرخ توفيق في وجهه صرخة مدوية، وبأسلوب يكشف عن مدى غضبه الشديد الذي لا يتناسب مع الموضوع الذي وقع الخلاف بشأنه. ولذلك دقق عشماوي النظر في وجه توفيق وقال: إنت إيه حكايتك بالضبط؟
– مالها حكايتي … فيها إيه؟
– أنا شايف إنك عصبي أكثر من اللازم، وحكاية الفطير ما تستاهلش الزعيق دا كله.
– أنا ما زعقتش … أنا صوتي كده.
ضحك الأستاذ عشماوي ضحكة طويلة وقال لتوفيق.
على العموم مش مشكلة، خلينا في المهم أحسن.
– ويا ريت تخش في الموضوع بسرعة لأن أنا تعبان قوي.
قال الأستاذ عشماوي متهكمًا: الله يكون في عونك. شوف يا سيدي …
وراح عشماوي يشرح الموضوع لتوفيق الذي لم يتحمس في البداية، فالسر الذي كشفه عشماوي يحتمل الاهتمام به أو لا، والأستاذ عشماوي نفسه أحيانًا يقول ما يستحق الاهتمام، وغالبًا يكون مجرد خرافات وأوهام. ولكن الذي استرعى اهتمام توفيق هو قول عشماوي إنه اتفق مع الضابط على البدء في تكوين خلية صغيرة من خمسة أشخاص يمثلون قوى الشعب العامل.
غريبة! اتفق معه متى وأين؟ هل يقابل عشماوي الضابط من وراء ظهره؟ وهل يثق الضابط في عشماوي بشكل أكبر من ثقته في صديقه القديم توفيق؟ ولكن هذا النبأ، وإن كان مثيرًا إلا أنه كان عاديًّا بالنسبة لتوفيق. أما الأمر الذي هزه هزًّا وكاد يفقده وعيه، فهو الاقتراح الذي قدمه عشماوي في سياق حديثه.
– وأنا شايف يا توفيق ضرورة الإسراع في تشكيل هذه الخلية، عندنا الضابط وأنت وأنا ونرجس وعاوزين عامل معانا كمان وتبقى المسألة تمام.
وانفجر توفيق فجأة وصاح مستنكرًا: وإيه علاقة نرجس بموضوع زي دا؟
ورد عشماوي ببرود: علاقة متينة جدًّا؛ أولًا: واحدة ست، وأي تنظيم محتاج لعنصر نسائي. ثانيًا: مثقفة وواعية جدًّا. ثالثًا: جماهيرية وعلى علاقات حسنة ومتوازنة بالجميع. رابعًا وخامسًا وعاشرًا … دي زميلتك وصديقتك أيضًا.
ولكن توفيق لم يهدأ ولكنه ازداد هياجًا، وصاح بصوت عالٍ وهو يغادر مكتبه في حالة قرف شديدة: وانا بصراحة لا علاقة لي بأي تنظيم فيه الست دي. وبعدين يا أستاذ عشماوي يكون في علمك أنا لن أسمح لأي مخلوق باستغلال مكتبي إلا في الأغراض بتاعتى، المحاسبة وبس.
اندفع توفيق كالإعصار خارجًا من المكتب، وعشماوي يحاول اللَّحاق به. وفي الشارع تذكر عشماوي أنه ترك لفة الفطير المشلتت على المكتب، وحاول إعادة توفيق إلى المكتب، ليس للتفاهم حول مستقبل التنظيم، أو لإعادة رسم خريطة الوطن، ولكن من أجل استعادة الفطير فقط، الله يلعنك يا توفيق يا ابن الهايفة، ضيع على الأستاذ عشماوي الاستمتاع بلقمة الفطير المشلتت التي صنعها الحاج محمد الدمياطي بنفسه وبالزبدة الدمياطي التي ليس لها مثيل في الكون. ولم يكن هناك سبب لهذا الغضب الذي انتاب توفيق إلا غيرته الشديدة، فهو يحب نرجس ولكن شخصيته وعقده النفسية تجعل بينه وبين صنف النساء ساترًا غير منظور، فهو يحبها ولكن ليس بما فيه الكفاية، وهو يشعر بغيرة شديدة عليها، ولكنه لا يعلن ذلك ولا يسمح لأحد بأن يكشف سره. وهو يعلم تمام العلم أن الأستاذ عشماوي أكبر منه سنًّا وأقل منه وسامة وأناقة، ولكنه يقدم بضاعة جيدة هي الكلام، فهو كلمنجي من طراز رفيع، كما أن شهرته تمهد له الطريق إلى قلوب السيدات. ولا بد أن اقتراحه بتشكيل اللجنة وضم نرجس إليها هي مكيدة من مكائده هدفها الوحيد اصطياد نرجس ليس إلا، ولكن توفيق لن يسمح بذلك، حتى لو أدى الأمر إلى قطع علاقته بكل ما يربطه بحياته الجديدة، والعودة إلى سابق عهده … ومهما تكن النتائج. فهو لن يسمح بأن يكون جسرًا للعشاق أو ممرًّا للمنافقين والانتهازيين.
اعتكف توفيق في منزله عدة أيام، فاضطُر الأستاذ عشماوي إلى زيارته في منزله، واستبدت الدهشة بالمحاسب توفيق عندما وقع بصره على الأستاذ عشماوي يقتحم عليه غرفته وفي يده باقة ورد متعددة الألوان. لا يغيظ توفيق في الأستاذ عشماوي إلا عدم إحساسه وبروده. وبعض الناس يتصور أن هذا البرود هو من سمات الشخصية القوية. ولكن نظرة توفيق لعشماوي كانت تختلف عن نظرة الآخرين. فعشماوي مجرد همباك مخادع وكسول وكذاب أيضًا، عرف أجزاءً من هنا وهناك، ولكنه يعرف كل شيء وهو نصاب يطمع في أموال النساء اللاتي يقعن في غرامه. وتوفيق سيكشفه ويفضحه إذا حاول الإيقاع بنرجس.
ولكن توفيق أخفى مشاعره ورحب بالأستاذ عشماوي عندما وجده أمامه في غرفته. صحيح أن ترحيبه به كان فاترًا، ولكن عشماوي انطلق كعادته فراح يسرد على مسامع توفيق كل الأحداث التي وقعت في مصر خلال فترة مرضه، وقص عليه بالتفصيل ما جرى في قهوة كتكوت، ثم زف إليه بشرى موافقة صديقه الضابط على اقتراحه بتشكيل هذه الخلية التي تحدث معه بشأنها. والكارثة الكبرى أن عشماوي حدد يوم الأربعاء القادم للجلسة الأولى، وسيكون الاجتماع في مكتب المحاسب توفيق الساعة الثامنة مساءً.
لا حول ولا قوة إلا بالله، عشماوي أصبح صاحب الأمر والنهي في كل شيء حتى بالنسبة لمكتبه. غمغم توفيق بكلمات غير مفهومة ثم قال: واشمعنى مكتبي يعني، ما تقعدوا في أي حتة تانية، ثم دا مكتب عمل وأكل عيش وفيه زباين بتجيلي في الساعة دي، وبعدين أعمل أنا إيه معاهم، أعتذر لهم لأني عندي اجتماع؟! المفروض إن إحنا نقعد بعيد عن مكاتبنا.
ولم يفاجأ الأستاذ عشماوي باعتراض المحاسب توفيق فقال: أنا شخصيًّا كنت عامل حساب المسألة دي، ولذلك أفترض إن إحنا ننقل الاجتماع من مكتبك بعد كده، وهيكون الاجتماع الثاني في بيتي أنا، والاجتماع الثالث هيكون عند مدام نرجس.
ورد المحاسب توفيق بعصبية: يبقى عند نرجس ازاي دي ست متجوزة، وبعدين جوزها يقول إيه؟ وهو معقول تاخد معاها أربعة رجالة طوال عراض وتروح لجوزها تقوله إيه؟ دا كلام فارغ ماحدش يوافق.
ورد الأستاذ عشماوي بهدوء: وإذا كانت هي موافقة، ورحبت بالفكرة لما عرضتها عليها.
– إمتى وافقت؟
– امبارح. وبالعكس … تحمست جدًّا للفكرة وقالت يا ريت تعملوا الاجتماع عندي على طول. وعلى فكرة …
ونطق عشماوي العبارة الأخيرة كأنه يمهد للكشف عن سر خطير. ثم تابع قائلًا: صاحبك ريحها على الآخر. وتم نقلها من المكان اللي هي فيه واستلمت منصبها الجديد.
– منصب إيه الجديد ده؟ ثم مين صاحبي ده؟
– حضرة الضابط، بتليفون منه نقلها من المكان اللي بتشتكي منه، وأصبحت الآن عضوًا في المكتب الاستشاري للسيد رئيس الجهاز.
– ومين اللي قال للضابط؟ هي نرجس؟!
– لأ طبعًا … أنا اللي قلتله.
يادي المصيبة الكبرى اللي حطت على دماغك يا توفيق … هكذا أصبح عشماوي هو همزة الوصل بين الضابط وبقية الناس.
– طيب وانت شفت نرجس فين؟
فأجاب عشماوي على السؤال ببساطة: في بيتها … على فكرة … الراجل جوزها مدهش للغاية، واكتشفت أنه قارئ عظيم وذواقة كمان. تصور … قرأ لي روايتي «نهر بلا مصب»، واكتشفت أنه فهم الرسالة اللي أنا عاوز أوصلها، مع إن قلة قليلة اللي فهمت المعنى اللي أنا عاوز أوصله. تصور أن أنا لقيت كل كتبي عنده في المكتبة، وعامل على الهوامش ملاحظات في غاية الأهمية، ولقيت هناك خلاف بينه وبين نرجس على بعض الملاحظات، وقعدنا نتكلم إحنا الثلاثة ومع ذلك ما عرفتش أحل الخلاف، لأن كل واحد عنده حججه ووجهة نظره، ووعدتهم لازم نعمل قاعدة تانية وتالتة لحد ما نوصل لحل. الحقيقة إنه بيت مدهش وأسرة جميلة تستاهل كل خير.
عندما انتهى عشماوي من حديثه كان توفيق في حالة يرثى لها كمن أصيب بضربة قاضية. لم يعلق بشيء ولم ينطق بحرف. عشماوي استطاع التسلل إلى بيت نرجس وصار فردًا من العائلة. وبالطبع سحرهم بحديثه وبهرهم بشهرته، ونرجس ناعمة ورقيقة وحالمة، وهو يعلم تمامًا أنها قبلت الزواج من زوجها بدون حب، ولكنها ارتضت به بهدف تكوين أسرة وبناء بيت، وسيكون عشماوي بمثابة المشهيات التي تفتح النفس، فيكون لها زوج هو رب البيت، وعشيق يجعل الحياة سهلة وهنية ويساعد على استمرار الحياة. يا للكارثة التي ليس لها مثيل، وتوفيق كالعادة سيخرج من المولد بلا حمص. كانت هذه حالته دائمًا بسبب تردده وخوفه وعدم قدرته على خوض المعارك في اللحظة المناسبة. ما العمل الآن وقد ضاع منه كل شيء، صديقه الضابط وحبيبة القلب نرجس، وسيكون مجرد عضو على الهامش في الخلية التي يسيطر عليها عشماوي ويوجهها إلى الجهة التي يريدها، ولكن هذا لن يكون، ولن يمر عشماوي إلى هدفه إلا على جثة توفيق. وعندما طلب عشماوي منه أن يكون حاضرًا في استقبالهم مساء الأربعاء حيث تقرر عقد الاجتماع في مكتبه، اعتذر توفيق عن عدم حضوره لأنه يشعر بأن مرضه سيطول، ثم مد يده بمفتاح المكتب قائلًا له: على العموم المكتب مكتبك وانتو فيكو البركة، وانا قلبي معاكو، واللي يريده ربنا هيكون.
ومد عشماوي يده والتقط المفتاح، ثم قال لتوفيق: إن شاء الله على يوم الأربع هتقوم زي السكة الحديد وهتحضر معانا، عشان نبدأ الانطلاقة ونعمل اللازم، وكل شيء هيكون على ما يرام.
وقال توفيق وهو يصطنع المرض: على كل حال أنا حاسس بنفسي وحاسس إن أنا تعبان قوي.
ورد عشماوي معقبًا: على كل حال حاول، وإذا ما قدرتش تقوم إحنا هنجتمع في الميعاد وبعديها هنيجي نزورك هنا ونبلغك باللي حصل. وبعدين إحنا مش هنجتمع مرة واحدة وبعدين كل واحد يروح لحاله، دي هتبقى رفقة زي رفقة السلاح، يعني جواز كاثوليكي من غير طلاق.
وضحك الأستاذ ضحكة عالية، وقال وهو يستأذن في الانصراف: بس نصيحة لك من أخوك حبيبك بلاش تستسلم للمرض، لأن الاجتماع الجاي دا اجتماع تاريخي ويتوقف عليه حاجات كتير قوي، ولو حسيت إنك عيان بصحيح يبقى نكلم صاحبك الضابط يدخلك مستشفى عسكري، لأن الخدمة هناك تمام والدكاترة تمام وبعدين مش هاندفع حاجة.
يا للصفاقة التي ليس لها مثيل، يقولون إن الأديب حساس … أين هي الحساسية التي يتمتع بها هذا الرجل، تصوروا، هو الذي سيتكلم مع الضابط صاحبي، الضابط صاحبي أنا، ولكن هو واسطتي إليه! طيب … كيف؟ وبأمارة إيه؟ ولكن كله كوم ودخوله بيت نرجس كوم آخر. ليه يا نرجس يا بنت الناس؟ توليت ذبح العبد لله مرتين، مرة في البداية ومرة في النهاية. ولكن من الملوم في هذا الأمر؟ لقد كانت في البداية طوع إشارة منك يا توفيق، ولكنك جبان ومتردد ولا تحسن التعامل مع النساء. وفي هذه المرة جاءت إليك بنفسها وطلبت منك أن تتدخل مع الضابط صاحبك لكي ينقلها إلى عمل مريح ولكنك غطرشت وأهملت. ساذج أنت يا توفيق ولن تجد لنفسك مكانًا تحت الشمس. وهذا هو العشماوي قدمته لصديقك الضابط فجلس على العرش وتربع. هو الذي قام بتشكيل اللجنة، وهو الذي حدد أعضاءها، وهو الذي اختار نرجس باعتبارها ممثلة للمرأة، وهو الذي اختار مكتبي أنا ليكون محلًّا مختارًا للجنة. ماذا تبقى لك يا توفيق؟ وإلى متى تظل حبيس شرنقة نفسك؟ وهل ستقنع حتى نهاية العمر بموقف المتفرج؟ وهل ستدع الأستاذ عشماوي يمر ويستمتع بكل شيء، بينما تبقى محلك سر، وتذوب كالشمعة حسرة وأسفًا؟
بسبب القلق والأرق لم يذق توفيق طعم النوم حتى أشرقت الشمس، ثم نام حتى صلاة المغرب. وبالرغم من أنه نام طويلًا إلا أنه لم يستطع النهوض من الفراش، شعر بجفاف شديد في حلقه، وبألم شديد في مفاصله، وبتكسير في عظامه. واستدعت أمه الطبيب فاكتشف أن حرارته مرتفعة، وأنه مريض بالحمى ويحتاج علاجه إلى وقت طويل.
عندما فتح توفيق عينيه بعد ثلاثة أيام كان غارقًا في بحر من العرق، وكأن بعينيه غشاوة فلم يستطع أن يتبين ملامح الذين أحاطوا بسريره. ولكنه بعد لحظات اكتشف أن المحيطين بسريره هم صديقه الضابط والأستاذ عشماوي ونرجس، ولكن دهشته تضاعفت عندما رأى الواد ريعو جرسون قهوة كتكوت يجلس بينهم، وما الذي جاء بالولد ريعو هنا، لا بد أن المعلم كتكوت أرسله للاطمئنان على صحته. وتمالك توفيق نفسه ونهض، أو بمعنًى أصح حاول النهوض، ولكنه فشل في ذلك فاكتفى بوضع عدة وسائد تحت رأسه، وراح يجفف عرقه بفوطة كبيرة، ثم طلب من أمه كوبًا من مشروب النعناع، ولكن نرجس تطوعت بإعداد كوب النعناع. وعندما حاول الأستاذ عشماوي أن يلحق بها إلى المطبخ للمساعدة، شخط توفيق في عشماوي شخطة أعادته إلى مقعده بدون تعليق. ونظر توفيق إلى عشماوي ثم نظر مرة أخرى إلى ريعو ثم سأله: المعلم كتكوت بعتك؟
وتدخل عشماوي في الحديث وقال لتوفيق: أولًا الحمد لله على سلامتك.
ثم أشار نحو ريعو وقال: دا العامل اللي قلتلك عليه.
ولم يَبْدُ على توفيق أنه فهم شيئًا، ولكنه عندما حاول أن يفتح فمه، نظر عشماوي إلى ريعو وأشار له بالخروج قائلًا له: قوم يا ريعو إنت روح القهوة شوف شغلك.
وأجاب ريعو بسرعة: أنا ماعنديش شغل الليلة دي، أنا في أجازة.
– زي بعضه روح إنت الوقت وبعدين هابقى أتصل بك.
وقف ريعو استعدادًا للرحيل. وقبل أن يذهب ألقى سؤالًا على عشماوي: والاجتماع الجاي إمتى؟
– أنا هابقى ابلغك.
– وهنا في بيت المحاسب توفيق برضه؟
– بعدين هاقولك … بعدين.
تساءل توفيق: إيه اللي جاب ريعو معاكو؟
– ما هو دا العامل اللي قلتلك عليه.
– عامل إيه؟ مش فاهم.
– العامل اللي هينضم للخلية بتاعتنا.
هب توفيق من فراشه مذعورًا وقال: يا خبر اسود … ريعو في الخلية.
ورد عشماوي قائلًا: وفيها إيه؟
– دا جرسون، يعني خدام مش عامل، تجيبوا خدام في الخلية؟
نفخ عشماوي بحرارة ثم قال: إنت نظرتك للناس نظرة طبقية فوقية وحقيرة للغاية، إنت يا توفيق لا تصلح في العمل السياسي على الإطلاق.
كانت نرجس قد انتهت من عمل كوب النعناع، وكانت أصوات توفيق وعشماوي تتصاعد في فضاء الحجرة ويتردد صداها بين الجدران. في نفس اللحظة التي دخلت فيها نرجس الحجرة، كانت ثورة توفيق قد بلغت مداها، فلم يشعر بنفسه وهو يلتقط كوب النعناع ويقذف به نحو الحائط، وانكسر الكوب وتتطايرت شظاياه في كل اتجاه، وأصابت الشظايا وجه نرجس وسال الدم على خدها، وأسرع الأستاذ عشماوي يمسح الدم بمنديل انتزعه من جيبه، وصرخت نرجس من شدة الألم، وهرعت الأم إلى الحجرة تستطلع ما جرى، وجُن جنون توفيق فصرخ في وجه عشماوي ونرجس يأمرهما بمغادرة المنزل، وضربت الأم صدرها بيدها وصاحت: يا عيب الشوم يا بني … إيه اللي جرالك يا توفيق!
وقال عشماوي في صوت مهذب: مفيش حاجة يا ست الحاجَّة، دا من تأثير الحرارة العالية اللي كانت عند توفيق.
واستفزت هذه العبارة توفيق بشدة، فازداد هياجه وارتفع صياحه، واستبد الخوف بنرجس فولت هاربة إلى الشارع، وصاح توفيق بجنون: أنا مش م الصنف دا يا أستاذ عشماوي، قال إيه خلية قال، دا شغل بولوتيكا دا، وجايبين واحد جرسون للخلية، خلية يا عشماوي يا نصاب، والله العظيم لافضحكم فضيحة بجلاجل. قال إيه قوى الشعب العامل، الشعب العامل واللا الشعب الجرسون، يا بتوع التلات ورقات يا ولاد شيكا بيكا. وفتح توفيق الشباك وراح يصرخ في الشارع صرخات هستيرية، بينما كان يتصبب عرقًا بشدة، واستأذن الأستاذ عشماوي من الحاجَّة وخرج مسرعًا. ومن قهوة كتكوت اتصل بالضابط، وبعد ساعة كانت سيارة إسعاف تقف أمام بيت توفيق، وعندما انطلقت عائدة كان بداخلها المحاسب توفيق في طريقه إلى مستشفى المجاذيب!