السفيرة عزيزة!
بالطبع لم يكن مسموحًا لأحد من النساء دخول قهوة كتكوت، ولكن فتاة واحدة كان لها هذا الحق، وكان اسمها عزيزة، كان من حقها دخول القهوة والطواف على الزبائن وعرض ما تحمله من أوراق اليانصيب. ولم يحدث في أي وقت أن أحد الزبائن كسب شيئًا من وراء عملية شراء أوراق اليانصيب، خصوصًا التي توزعها عزيزة، ولكن بعض الزبائن ظلوا مواظبين على شراء أوراق اليانصيب من عزيزة، حتى المعلم كتكوت نفسه كان يسعد برؤيتها، وأحيانًا كان يغمز بعينه للواد ريعو الجرسون ليقدم لها واحد حلبة حصى، وهو المشروب الذي كانت تفضله عزيزة، ومقابل الواحد حلبة حصى كانت عزيزة تشارك الواد ريعو في تنظيف القهوة وكنس الرصيف، وأحيانًا كانت تشارك عم عبده القهوجي في غسيل الأكواب بعد إغلاق القهوة. أما عزيزة نفسها فكانت فتاة في الثامنة عشرة من عمرها، جسمها «متفصل» — كما كان يقول ريعو — لها وجه مليح وابتسامة حلوة، وكانت لها غمازتان تظهران بوضوح على خديها كلما ابتسمت، وكان الواد ريعو يضرب جبهته بكفه ويقول في لوعة: «يا سلام لو تُفرج يا جدعان.» وكان عم عبده القهوجي يسأله في استفزاز: «هتعمل إيه يعني؟» ويرد الواد ريعو قائلًا: هاتجوز عزيزة ونعيش سوا في التبات والنبات.
– هو انت لاقي تحلق!
– ما انا بقولك لما تُفرج.
– وهتُفرج منين؟
– ورقة يانصيب تكسب البريمو.
وكانت شلة الأدباء التي تجلس على قهوة كتكوت هم أفضل الزبائن عند عزيزة. كتب شاعرٌ شابٌّ منهم قصيدة بعنوان «عزيزة» وقرأها أمامها، وكادت تطير فرحًا. وقال لها أستاذ الفن الشعبي عكاشة ذات مرة: انت فيك شبه كبير من عزيزة المزاتية.
– عزيزة مين دي يا أستاذ، أنا والله ما أعرفها.
وقال لها الأستاذ عكاشة مطمْئنًا: عزيزة المزاتية شخصية من شخصيات التغريبة الهلالية.
وتلفتت عزيزة حولها، ثم أسرعت بالانصراف، ولم تفهم شيئًا.
وكان الوحيد من شلة الأدباء الذي يضايقه وجود عزيزة هو الأستاذ طلبة، وهو الموظف بمصلحة الكهرباء، ومواظب على كتابة قصص قصيرة، ولكنه لم ينجح في نشر أي قصة منها، فقد كانت القصة من النوع الذي يأخذ طريقه بسهولة إلى سلة المهملات. ولما اشتد به اليأس أصدر مجموعة قصص على حسابه بعنوان «الهاوية»، ونشر صورته على الغلاف وقد وضع قبضة يده تحت ذقنه، وكتب تحت الصورة اسمه «الأستاذ طلبة عبد الستار»! ووزع بعض نسخ المجموعة على بعض المكتبات بالجيزة، وكان يسأل أصحابها بين الحين والآخر عن مصير النسخ، ولكنه كان يُصدم في كل مرة بأن النسخ مكانها لم تنقص نسخة واحدة في أي يوم. وكان أحيانًا عندما تجمعه مناسبة مع بعض الأدباء الشبان يتساءل في ضيق شديد: ما هو السر في اشتهار بعض الأدباء وذيوع صيتهم، بينما يصيب بعض الأدباء الأفول ويَلُفُّهم الصمت ويذهب إنتاجهم هباء؟! وكان يتحمس دائمًا للشاعر إسماعيل عبد الواحد، ويؤكد أنه لا يقل قامة عن الشاعر أحمد شوقي وحافظ إبراهيم! ولم يفصح الأستاذ طلبة في أي وقت عن شخصية الشاعر إسماعيل عبد الواحد، ولم يكشف في أي وقت عن نماذج من شعره. وكان الأستاذ طلبة يجلس صامتًا في حضور الأدباء المشاهير، ولكنه كان يتبجح في الكلام عندما يكون جالسًا مع بعض الأدباء الشبان، أو عند حضور عزيزة ببضاعتها من أوراق اليانصيب، وكان يعتب أحيانًا على الأدباء احتفالهم بهذه البنت الصايعة، وكان ينسب إلى أوراق اليانصيب سر ضعف الناس وعميق صبرهم؛ فهذه الأوراق تجعلهم في حالة انتظار للمجهول الذي يأتي فجأة فيحل مشاكلهم كلها ويوفر الحياة الكريمة لصاحب النصيب. ثم حدث ذات عصرية أنه جاء مبكرًا على غير العادة وجلس على رصيف القهوة، وكان الجو حارًّا، والقهوة خالية تقريبًا من الزبائن، عندما جاءت البنت عزيزة تحمل أوراق اليانصيب، وعندما اقتربت من مكان الأستاذ طلبة واكتشفت أنه هو الجالس هناك، فرت هاربة كغزالة اكتشفت وجود الصياد على مقربة منها. نادى عليها الأستاذ طلبة بصوت عالٍ فتوقفت ونظرت نحوه مندهشة، وقالت في صوتٍ ملوَّن بالخوف: أنا يا بيه؟
– فيه حد غيرك هنا اسمه عزيزة؟
وزحفت عزيزة نحوه وهي تتوجس شرًّا حتى أصبحت على مسافة قريبة من مجلسه، ولكنه أشار إليها بالاقتراب أكثر، ولأول مرة في حياته يرتسم على فمه شبح ابتسامة، مما شجع عزيزة على الاقتراب، ومد يده نحوها وأخذ أوراق اليانصيب منها وراح يلقي عليها نظرة، ولكنه تعمد أن يلمس يدها بأصابعه، ثم راح يختلس النظر إليها من فوق لتحت، البنت فعلًا ملفوفة، ولولا بعض الشحوب الذي يبدو على وجهها من سوء التغذية لكانت أحق البنات بلقب السفيرة عزيزة، اختار الأستاذ طلبة بعض أوراق اليانصيب وأعطاها ثمنها وفوقه قرشان بقشيشًا لها، وعندما قالت له إنها تقاضت أكثر من حقها، أجابها وهو يبتسم: انت تستاهلي كل خير يا ست عزيزة.
ست عزيزة مرة واحدة … ما هو سر التغير الذي طرأ على الأستاذ طلبة؟ لقد كان ينظر إليها شزرًا ويرسم على وجهه علامات الغضب كلما رآها، وتمنت عزيزة أن تفوز إحدى الأوراق التي اشتراها ليستمر التعاون بينهما على هذا النحو. وأصبح من عادة الأستاذ طلبة أن يحضر كل يوم في هذا الوقت المبكر لكي ينفرد بعزيزة، ولكن عزيزة لسوء الحظ اختفت في الأيام الثلاثة الأولى، ثم ظهرت في اليوم الرابع، وعندما اقتربت منه جاءت تتقصع وقد أضاء وجهها بابتسامة عريضة، واستقبلها الأستاذ طلبة مرحِّبًا وسألها عن سر غيابها في الأيام الماضية، فردت بأنها كانت تشعر بالتعب، وكان صوتها مبحوحًا كأنها تعاني من نزلة برد. ثم تناول ورقة يانصيب وأعطاها ورقة بخمسة قروش، ولما مدت له يدها بالباقي أزاح يدها بعيدًا وقال لها: اشتري برتقال واعصريه وخديه مع أسبرين عشان البرد يروح، ثم ابتسم وقال: مش عاوز أشوفك عيانه، اللي زيك حرام يعيا.
ابتسمت عزيزة في دلال، وقبل أن تغادر القهوة وقفت على الرصيف وألقت نظرة على الأستاذ طلبة، فاكتشفت أنه يتفرس فيها بطريقة أشاعت الخوف في نفسها، ولكنها مع ذلك ابتسمت له ابتسامة مشجعة ثم مضت واختفت عن الأنظار.
ما الذي غير موقف الأستاذ طلبة من عزيزة؟ وماذا يريد منها على وجه التحديد؟ يا سلام لو طلبها الأستاذ للزواج وعاشت معه في شقة كبقية النساء. لقد قضت عمرها كله تحلم برجل مثل الأستاذ طلبة ينتشلها من هذا الشقاء الذي لا تبدو له نهاية، ويخلصها من أمها العمياء التي تقضي الوقت كله في عراك مع أبيها، أحيانًا بسبب وأغلب الوقت بلا أسباب، وأبيها الشيال الذي يقضي نهاره على رصيف المحطة بحثًا عن لقمة العيش، ويقضي جانبًا من ليله في الحانة التي تقدم البوظة للزبائن، وعندما يعود مخمورًا تدب الخناقة بينه وبين زوجته العمياء، ولا تنفض الخناقة إلا بعد أن تنتهي الزوجة من تفتيش هدومه والاستيلاء على القروش القليلة التي تبقت معه. أما إخوتها الذكور فهم صياع، وإن كانوا يساهمون بمجهودهم العضلي في مصروف البيت؛ فهم يقومون بخطف كل أنواع الخضراوات من عربات الكارو التي تنقل خيرات الريف من الحقول إلى سوق الخضار بالعاصمة، وأحيانًا يحصل العيال على أكثر من حاجة البيت، فيقومون بعرض ما سرقوه للبيع على الرصيف المجاور لمسكنهم. أما المسكن فهو لا يمت للمساكن بصلة، إنه إسطبل خيول يملكه شيخ عربجية الجيزة، وقد سمح للرجل الشقيان والد عزيزة بالسكن فيه بدون أجرة إكرامًا للمرأة الكفيفة زوجته، ومن يومها والعائلة تسكن مع حصانين وبغل وعدة حمير، ولكنه وضع أفضل من النوم على الرصيف. يا سلام يا ناس … هل يأتي يوم يكون لعزيزة شقة خاصة وتليفزيون وستارة على النافذة وكنبة تجلس عليها لتشاهد البرامج؟! … يمكن للحلم أن يتحقق لو تزوجت من الأستاذ طلبة، صحيح أن فارق السن كبير ولكن … ما دخل السن في السعادة؟
كان الوقت مساءً عندما وصلت عزيزة إلى القهوة، وكان الجو حارًّا، وشلة الأدباء تجلس على الرصيف ومعهم الأستاذ طلبة، وقدمت الأوراق بيدها للأستاذ وتعمدت أن ترسم على شفتيها ابتسامة عريضة، ولما لم ينتبه الأستاذ طلبة لوجودها إلى جانبه، مدت يدها وقرصته في كتفه، فلما وقع بصره عليها ظهر الغضب الشديد على وجهه وثار ثورة عارمة، واستبد الذعر بعزيزة ففرت هاربة، بينما صوت الأستاذ طلبة الغاضب يطاردها، الأمر الذي شد انتباه الزبائن الجالسين على الرصيف، مما دفع أحدهم إلى ملاحقة البنت والقبض عليها والعودة بها إلى حيث تجلس شلة الأدباء ظنًّا من الرجل أن البنت سرقت شيئًا من متعلقاتهم، غير أن الأستاذ عكاشة شكر الرجل الطيب الذي طاردها وأشار عليه بإطلاق سراحها، وطيب خاطر البنت وأخرج من جيبه بعض الأوراق المالية، وعندما حاول إعطاءها لعزيزة رفضت بشدة وانخرطت في بكاء شديد. وفي ذلك المساء عاتب الأستاذ عكاشة صديقه الأستاذ طلبة لمسلكه الغريب مع البنت عزيزة، خصوصًا وأن غضبه الشديد لم يكن له مبرر أو سبب، وقد اعتذر بشدة عما بدر منه تجاه عزيزة، وبرر موقفه بأنه متوتر الأعصاب بسبب مرض أخته الوحيدة التي تعاني من إصابة بالسرطان، بالرغم من أنها لا تزال شابة وأمًّا لطفلين، ووعد الجميع بالاعتذار لعزيزة وتعويضها عما سببه لها من إيذاء.
مضت أيام كثيرة قبل أن يلتقي طلبة بعزيزة في قهوة كتكوت، وعندما وقع بصره عليها نهض من مكانه واتجه نحوها، ولكنها تجمدت في مكانها واستبد بها الذعر وهمت بالفرار، ولكن الابتسامة العريضة التي ارتسمت على شفتي الأستاذ طلبة بعثت الطمأنينة في نفسها فتوقفت مكانها، وعندما اقترب طلبة منها ربت على كتفها وأبدى اعتذاره الشديد لها. كان طلبة لطيفًا مع عزيزة إلى درجة أن قبلت اعتذاره، وذهبت معه إلى حيث يجلس، وعرضت عليه أوراق اليانصيب، واختار منها ثلاث ورقات ثمنها ثلاثة قروش، ثم نقدها عشرة قروش وترك لها الباقي على سبيل البقشيش، ووقفت عزيزة تدعو للأستاذ طلبة بالصحة وطول العمر، وصفق الأستاذ طلبة بشدة، وعندما جاء الواد ريعو طلب منه واحد حلبة حصى لعزيزة، وعندما انصرف ريعو تناول الأستاذ نسخة من كتابه وناولها لعزيزة، وعندما شاهدت صورته على الغلاف استبدت بها الفرحة الشديدة لدرجة أنها أطلقت زغرودة، وسألته بسذاجة: همة كاتبين عنك في الجرنال ده.
وشرح لها الأستاذ طلبة الأمر، فهذا الذي قدمه لها هو كتاب من تأليفه وصورته منشورة على الغلاف باعتباره المؤلف، وأرعشت عزيزة حاجبيها وقالت بأسف: يا خسارة يا ريتني كنت أعرف أقرأ واكتب.
ورد الأستاذ طلبة قائلًا: دي مسألة بسيطة وسيبيها عليَّ أنا!
لم تلفت نظرها عبارة الأستاذ طلبة الأخيرة، فشكرته بشدة على كرمه وعلى الواحد حلبة حصى، وانصرفت إلى داخل القهوة واتخذت لنفسها ركنًا على يمين «النصبة» حيث جاء الواد ريعو بكوب الحلبة الحصى. ولما شاهد ريعو النسخة من كتاب الأستاذ بين يدي عزيزة اختطفه من بين يديها وراح يتفرس في صورة الأستاذ، ثم أعاد النسخة إليها وجرى مسرعًا إلى حيث يجلس طلبة، وطلب منه نسخة أخرى (زي اللي مع البنت عزيزة) ولكن الأستاذ طلبة اعتذر لعدم وجود نسخ أخرى معه، ولكن ريعو أشار إلى كومة منها موضوعة على المائدة الموجودة أمامه، ولكن الأستاذ طلبة اعتذر مرة أخرى لأنها جميعًا مهداة إلى بعض النقاد، وعليها إهداءات شخصية بأسمائهم، ووعده بإهدائه نسخة له مع إهداءٍ منه شخصيًّا، ولكن الولد ريعو لم يقتنع بهذا الكلام ووقف يصرخ بصوت عالٍ أمام الأستاذ طلبة: بقى تدي البنت الصايعة دي كتاب وانا لأ، هي إيه الحكاية؟ على الأقل أنا باعرف أفك الخط وعزيزة دي ما تعرفش السما م العمى، هي كوسة! واستفزت كلمة كوسة الأستاذ طلبة فنهض من مكانه ليضرب الواد ريعو بالألم على وجهه، وصرخ ريعو بطريقة مبالغ فيها وكأن الأستاذ طلبة أطلق عليه رصاصة، فخرج المعلم كتكوت بنفسه لمعرفة حقيقة الأمر، وبادره الأستاذ طلبة شاكيًا له قلة أدب الواد ريعو وعدم تربيته، فلطش المعلم كتكوت الواد ريعو ألمًا على قفاه، فقد كان المعلم يؤمن بالنظرية الاقتصادية التي تقول: «الزبون دائمًا على حق.» ولكن ريعو صاح مرة أخرى محتجًّا على تصرف المعلم قبل أن يعرف أصل الحكاية، وتساءل المعلم قائلًا: وإيه أصل الحكاية ياد؟
وقال ريعو والدموع تلمع في عينيه: يا معلم أنا ما عملتش حاجة، الأستاذ عنده كتاب عليه صورته، خدت عزيزة كتاب منهم، جيت طلبت منه كتاب ما رضيش، قلت له تدي كتاب لعزيزة الجاموسة وانا لأ، راح ضاربني بالألم!
هرش المعلم في ذقنه النابتة وقال للأستاذ طلبة: كتاب إيه دا يا أستاذ؟
– دا كتاب من تأليفي أنا يا معلم، وبعدين أنا كنت شخطت في البنت عزيزة وحبيت أصالحها فأهديتها نسخة، يقوم الواد اللي ما عندوش أدب يقوللي قدام الناس: إيه شغل الكوسة ده؟ أنت يرضيك الكلام ده؟
– حقك عليَّ، هو أصله مسحوب من لسانه، لكن حقك علي أنا، امسحها في دقني أنا.
وسحب المعلم الواد ريعو من يده ودخل القهوة، ثم سأله: كتاب إيه يا واد؟
– وانا إيش عرفني أنا يا معلم، أهو كتاب بيقول انه هو اللي كتبه.
وتفرس المعلم في وجه البنت عزيزة وقال لها: وريني الكتاب دا يا بت.
وناولته الكتاب في صمت، وجلس المعلم على مقعده الدائم في مواجهة «النصبة»، وتفرس بعض الوقت في صورة الأستاذ طلبة، ثم راح يقلب صفحات الكتاب ببطء في البداية ثم بسرعة بعد ذلك، ولما استعرض صفحات الكتاب أغلقه ووضعه أمامه وقال لريعو: وإيه اللي عاجبك في الكتاب؟ دا كله كلام مالوش لازمة، لا واحدة عريانة ولا صورة حلوة، وبعدين تقوم تقل أدبك ع الأستاذ، مش هتبطل قلة أدبك دي.
وبينما المناقشة محتدمة بين المعلم والجرسون انسحبت البنت عزيزة من القهوة في هدوء، وغادرت الميدان كله، واختفت في زحام شارع عباس. ولمدة أسابيع مرت والولد يحكي ما حدث بينه وبين الأستاذ طلبة، وعن الكتاب الذي أهداه الأديب الأستاذ طلبة للبنت عزيزة بتاعة اليانصيب، وعندما حكى القصة للشيخ شهاب كبير الأدباء أضاف إليها أنه ضبط الأستاذ أكثر من مرة وهو ينظر إلى البنت عزيزة نظرات من إياها، دا راجل كبير لكنه مش مظبوط، ثم هو فاهم إيه؟ دا انا لو قلت للراجل أبوها دا ممكن يقتلها ويشرب من دمها، ويمكن يقتله هو راخر.
ولما سمع الشيخ شهاب بالحكاية ضرب كفًّا بكف وقال ساخرًا: بقى الأستاذ طلبة رفض يديني كتاب ويدي البنت عزيزة!
وقال ريعو للشيخ شهاب: الحقيقة يا مولانا الشيخ، كل الأدباتية اللي بيقعدوا هنا ناس محترمين، إلا طلبة دا، طبعه حاجة ثانية، وبلاش الواحد يتكلم.
ولما شجعه الشيخ شهاب على الكلام قال ريعو: أقول إيه بس يا مولانا، طب وحياة دي النعمة (وأشار إلى كوب الشاي) أنا شايفه بعيني دي اللي هياكلها الدود، وهو بيطبطب على البنت.
– قدام الناس يا واد يا ريعو؟ دا معقول؟
– ما كانش فيه ناس يا عم الشيخ، كان هو بس اللي ع الرصيف، وواحد فلاح كان قاعد بعيد وبيشرب دخان.
وغاب الأستاذ طلبة فترة من الوقت فلم يشاهده أحد في القهوة، واختفت البنت عزيزة أيضًا فلم يعد يشاهدها أحد في أي مكان. ولكن الأستاذ طلبة ظهر فجأة وحول رقبته كرافتة سوداء، فقد انتقلت أخته إلى رحمة الله بعد صراع طويل مع المرض. وعاتبه أصدقاؤه من شلة الأدباء، وقال الأستاذ عكاشة: طيب اتصل بأي واحد منا، أو انشر نعيًا في الجرايد.
ورد الأستاذ طلبة قائلًا: والله يا إخواني أنا كنت في حالة سيئة للغاية، انتو عارفين إنها أختي الوحيدة، واضطُررت إلى دفنها في قريتي مع والدتها حسب وصيتها، والحقيقة أنني كنت في حالة دوخة أشد من دوخة السكران. والكارثة أنها تركت لي طفلين لا أعرف كيف أتصرف معهما، وهذا السبب الذي جعلني ألازم شقتي لا أبارحها إلا للشديد القوي. لقد انتهت حياة الفرح والمرح وجاءت أيام الشدة والتعاسة.
وقال له الأستاذ الشيخ شهاب: ما عليك يا رجل، فلا أنت أول من واجه مثل هذه الكوارث، ولن تكون آخرهم … المهم أن تنهض من بين أنقاض المصائب وتواصل الحياة من جديد.
وتساءل الأستاذ طلبة قائلًا: كيف يا سيدنا الشيخ، إن الكلام سهل كما تعرف ولكن الواقع صعب!
وانبرى الشيخ شهاب يقول بحماس شديد: لو انا مكانك في هذه الورطة كنت أتزوج من بنت غلبانة تريد الاستقرار وترغب في الستر، تكون قريبة إلى قلبي ومربية للأطفال الأيتام الذين تركتهم المرحومة أختك. وأظن أن دخلك يحقق لك هذه الأهداف.
– وأين هذه البنت يا مولانا الشيخ؟ وأنت تعرف بنات هذه الأيام اللواتي يشغفن بالموضة وبالسينما والأغاني والحفلات.
– أنا لا أقصد هذه النوعية من البنات يا سيد طلبة، أنا أتكلم عن بنات من نوع آخر، بنات يحلمن بحياة مستقرة وكريمة، وكل ما يبحثن عنه هو الستر في ظل رجل طيب وبارٍّ ويستطيع حمايتهن.
– ومن أين لي بهذه البنت يا عمنا الشيخ؟
– البنت عزيزة بياعة اليانصيب.
ألقى الشيخ شهاب، الذي كان يهوَى النكتة ويحب المزاح، بهذه القنبلة التي هزت القهوة هزًّا. وثار الأستاذ طلبة ثورة غطت على كل شيء في القهوة، حتى صوت الراديو. وصاح الأستاذ طلبة: لم يعد غير هذا الولد الصايع ريعو يؤثر فيك يا عمنا الشيخ؟ أنت رجل الدين والفقه والمنطق تتأثر بكلام هذا الواد التافه؟ يا له من زمن قبيح ورديء يا عم الشيخ، لو سمع كلامك أحد من الصالحين من أهل زماننا لصاح على الفور: الآن بطن الأرض خير لنا من ظهرها.
كانت الضجة قد جذبت الكثيرين من داخل القهوة إلى الرصيف، وكان من بينهم المعلم كتكوت والولد ريعو أيضًا، وما إن وقع بصر الأستاذ طلبة على ريعو حتى ثار بشدة وهدد بإبلاغ الشرطة لقيامه بتلويث سمعته ونشر الإشاعات ضده مع سبق الإصرار والترصد، ثم نظر إلى المعلم كتكوت وقال: وأنت كمان يا معلم كتكوت عاجباك عمايل الواد الصايع ده؟ عاجباك الإشاعات اللي عمال ينشرها ضدي، حتى الشيخ شهاب صدق الكلام بتاعه؟ وعلى كل حال يا معلم، أنا أو الواد دا في القهوة.
ثم ألقى السلام على شلة الأدباء وانصرف غاضبًا. وحاول المعلم أن يعتذر لأفراد الشلة، وعلل بعضهم سر ثورة الأستاذ بظروفه الصعبة بعد موت شقيقته، وعلق الأستاذ عكاشة قائلًا: بسبب إن الواد ريعو غلطان ولازم يتأدب.
وقال المعلم في صوت خفيض: أنا مش ممكن أخلِّي جرسون قليل الأدب عندي، بس انتو عارفين الظروف، النهارده الزبون كتير الحمد لله، بس الصنايعي مفيش، عشان كده ولاد الكلاب افتروا ع الآخر، والواد ريعو بقى يبوق في وشي دلوقت … كان يستجري الصنايعي يبص في عيني وانا باكلمه، الدنيا اتغيرت يا بيه. ثم وعد شلة الأدباء بالذهاب للأستاذ طلبة في أي مكان ويعتذر له عما بدر من الواد ريعو، وقال واثقًا من نفسه: وهاخد الواد ريعو معايا وأخليه يبوس إيده ورجله كمان!
وقال الأستاذ عكاشة: المسألة مش محتاجة بوس الإيد والرجل، إحنا حنسترضيه، بس الواد ريعو لازم يتحاسب يا معلم، وإذا تكرر منه هذا العمل سنتضامن جميعًا مع الأستاذ طلبة … أنا بقولك أهه!
ولما كان للأستاذ عكاشة وضع خاص عند المعلم كتكوت فقد قال المعلم: إيدي على كتفك يا سعادة البيه، هاتلي جرسون تاني وانا هاطرده دلوقت.
ولكن الشيخ شهاب كان له رأي آخر، قال بصوت غير مسموع: وهو ريعو عمل إيه بس؟ إحنا ما نجيش إلا ع الفقير؟!
كانت الساعة قد بلغت الواحدة بعد منتصف الليل، فقام الجميع وانصرف كل منهم إلى بيته.