القطط السودا!
خطَّاب أفندي مدرس إلزامي كانت له شهرة واسعة في الجيزة بسبب أشعاره الحماسية التي كان يلقيها بمناسبة وبدون مناسبة في أغلب الأحيان، وهي أشعار حماسية ووطنية ولكنها فقيرة الموهبة وخالية من الفن. وكان الجرسون ريعو هو أعظم مشجع للشاعر خطَّاب، عندما كان خطَّاب أفندي يقفز فجأة واقفًا داخل القهوة ثم يلقي قصيدته التي هي غالبًا بدون معنًى وبدون هدف، أشعار كان يستخدمها في المعارك الانتخابية ضد معارضي حزبه الذي كان يفخر بالانتساب إليه، وهو الحزب السعدي، وهو حزب أقلية كانت له قيادة ولم يكن له قاعدة أو جماهير من أي نوع.
ولكن الحزب إياه كان يقفز إلى السلطة عندما يغضب الملك على حزب الوفد ويطرده من السلطة، عندئذٍ ينجلي خطَّاب أفندي ويلمع ويجوب الجيزة كلها يلقي أشعاره الفخيمة على الناس، سواء رغبوا في سماعها أم انصرفوا عنها.
وكان خطَّاب أفندي في ظل حكومة السعديين يمارس حياته بين الناس كواحد من كبار المسئولين، فكان يقوم بفك أسر بعض المواطنين الذين احتجزهم البوليس على سبيل التحري، ويضمن بعض التجار الذين وُضعوا في أقسام البوليس للعرض على النيابة بسبب مخالفتهم للتسعيرة. وكان خطَّاب أفندي يتلقى بعض الهدايا نظير هذه الخدمات، وكان ضباط البوليس يعاملونه باحترام ويتقون شره لصلته ببعض وزراء الحكومة. وكان له بيت شعر مشهور يحشره في كل قصيدة، وكان يهاجم فيه المعارضين للحكومة:
وكانت الجماهير التي يتصادف وجودها يصفقون بشدة، ولعل هذا هو السبب الذي جعل خطَّاب أفندي يحشر البيت إياه في كل قصيدة. كما أن الواد ريعو كان يداعب خطَّاب أفندي أحيانًا قائلًا: «من زمان ما سمعتش القطط السودا.» ولكن خطَّاب أفندي كان يواجه أيامًا صعبة عندما يخرج الحزب السعدي من السلطة، ولذلك كان يَصدر قرار بنقله إلى مدرسة في ريف الجيزة، فيختفي رغم أنفه من قهوة كتكوت؛ لأن مشواره إلى المدرسة الريفية كان كفيلًا بهد حيله، ولكنه كان يعاود الظهور يوم الخميس ويوم الجمعة، ولا يكف عن ترديد أشعاره ضد الحكومة القائمة إذا كانت ضد الحزب السعدي. وفي المرة الأخيرة التي جاء فيها الوفد إلى السلطة اختفى خطَّاب تقريبًا من الجيزة ومن قهوة كتكوت، ولكنه عاد إلى الظهور بعد حريق القاهرة ومجيء وزارة علي ماهر، ثم وجد وسيلة استطاعت إعادته إلى مدرسته القديمة في شارع سوق البرسيم في الجيزة، ولكنه لم يستطع الحصول على ميزات أخرى غير النقل، فلم يكن بإمكانه التوسط لدى قسم البوليس للإفراج عن أحد، كما أن علي ماهر باشا لم يكن من أعداء الحزب السعدي، والبلد كلها كانت تعيش في ظل الأحكام العرفية بعد حريق القاهرة، وكان السهر ممنوعًا، والمحلات العامة تغلق أبوابها قبل التاسعة مساءً. كانت أيامًا عاصفة بلا شك. ذهب علي ماهر وجاء أحمد نجيب الهلالي، حكومة في نظر خطَّاب أفندي بلا لون وبلا رائحة، ولكنها أعطت مجالًا لخطَّاب أفندي عندما رفعت شعار التطهير، فانطلق يؤلف أشعارًا في ضرورة تطهير البلد من الخونة والمفسدين، وركز حملته على النحاس باشا، ولكن بعض الشباب الوفدي المتحمس تعقبه ذات مساءٍ وضربه علقة ساخنة.
واستثمر خطَّاب أفندي الحادث، فنام على سريره بالمستشفى، ورفع قضية أمام المحاكم يطالب بتعويض مالي كبير، متهمًا النحاس باشا شخصيًّا بالتحريض على ضربه. ولكنْ فجأة، وخطَّاب أفندي في المستشفى، وقع حادث ليس له شبيه في تاريخ مصر، فقد قامت ثورة ٢٣ يوليو، وتولى الجيش إدارة شئون البلاد، وجاء محمد نجيب رئيسًا للجمهورية، واعتقد رواد قهوة كتكوت أن عصر خطَّاب أفندي انتهى ولن تقوم له قائمة بعد ذلك. كان الشاب الذي تولى أمر هيئة التحرير بالجيزة ضابطًا سابقًا بالقوات المسلحة، وكان برتبة اليوزباشي عندما ودع الحياة العسكرية واشتغل بالعمل السياسي في الهيئة، ولم يكن له سابق معرفة بالعمل السياسي أو التعامل مع الجماهير، ولكنه كان مؤمنًا بالثورة، ومتحمسًا للتغيير، ولكن التغيير إلى ماذا؟ وإلى أين؟ كانت مهمة صعبة للغاية، ولكن عزاءه الوحيد أن الناس كانت متحمسة للثورة، ولديها الاستعداد للالتفاف حول رجالها … واحتل الشاب الطيب مكتبًا كان يتبع المجلس البلدي، ونصحه البعض بإقامة مؤتمرات جماهيرية، واستفسر عن الوسيلة التي تؤدي إلى عقد هذه المؤتمرات، فنصحه البعض بإرسال بطاقات دعوة لبعض الشخصيات في الجيزة. ونصحه البعض الآخر بالقيام بجولة في أنحاء الجيزة للتعرف على الجماهير. ولكنه اختار الاقتراح الأول بإرسال بطاقات الدعوة، وحددوا الموعد وزينوا المقر، ولكن المنظر لم يكن يدعو إلى الاطمئنان، لبى الدعوة عدد من أصحاب محلات البقالة ورئيس المجلس البلدي، وبعض الصياع الذين وجدوها فرصة لشرب الشاي وتدخين السجاير.
وجلس مندوب هيئة التحرير الشاب يشرح للناس أهداف حركة الجيش، ولم يفهم أحد شيئًا على الإطلاق. ويبدو أن مندوب الهيئة لم يكن يفهم شيئًا هو الآخر، وجلس المندوب قلقًا على مستقبل الهيئة، ولكن قلقه على مستقبله السياسي كان أكبر. وخيم الصمت على الاجتماع، فلم يكن للحاضرين أي رابطة من أي نوع من قبل.
وربما لم يلتقوا في أي مناسبة قبل ذلك. ولم يعرف مندوب الهيئة الشاب كيف يتصرف لمواجهة هذه الحالة من الإحباط والخيبة … وفجأة انتفض أحد الحاضرين كالإعصار، وألقى قصيدة عصماء، وسرعان ما عرف الناس صاحبها عندما راح يصرخ بكل قوة ببيت الشعر الشهير: قطط سود ولها ذنب … وعندما انتهى خطَّاب أفندي من قصيدته العصماء، انطلق مندوب الهيئة نحوه واحتضنه بشدة، وأمسكه من يده، وظل ممسكًا بها حتى انفض الاجتماع، ودعاه إلى العشاء، ولم يتركه إلا عند باب منزله. وبالرغم من إلحاح خطَّاب أفندي على النزول قبل البيت بمسافة، إلا أن مندوب الهيئة الشاب أقسم ألف يمين ألا يتركه إلا عند باب البيت، ولو كانت الظروف تسمح لبقي معه حتى الصباح، ولكنه تواعد معه على اللقاء عصر اليوم التالي في مقر الهيئة. عندما خرج خطَّاب من الاجتماع، كان قد أصبح المسئول التثقيفي للهيئة، ولما كان المقر لا يسمح بوجود مكتب للأستاذ خطَّاب، فقد اتخذ من قهوة كتكوت محلًّا مختارًا له … وكان مندوب الهيئة الشاب يتردد عليه أحيانًا، ثم أصبح يلازمه كل ليلة، ويستشيره فيما يجب عليه أن يفعله من أجل تحريك الجماهير وحشدها، ثم أصبح يعتمد عليه في كتابة الخطب المناسبة ليلقيها في المناسبات الهامة. وصار خطَّاب أفندي هو ممثل حركة الجيش في الجيزة، والتف حوله أصحاب الحاجات، وعاد لخطَّاب أفندي نفوذه القديم، يتوسط للناس لإخراجهم من قسم البوليس، ويتوسط لهم لإلحاقهم بالوظائف لزوم أكل العيش … وكان المعلم كتكوت شديد الذكاء لدرجة أنه أعفى خطَّاب أفندي من ثمن المشروبات، عشان خاطر البيه الضابط الشاب الذي صار مندوبًا لهيئة التحرير. ثم تطورت الأمور وذهبت بعيدًا إلى درجة أن الضابط الشاب مندوب الهيئة كان يستفسر عن الأهداف الحقيقية للهيئة، وكان خطَّاب أفندي لا يبخل على الضابط الشاب بنصائحه واقتراحاته … وأقنعه بأن مصلحة العمل الجماهيري والسياسي في الجيزة أن يكون لقهوة كتكوت الحق في السهر حتى الصباح.
وبالفعل بذل الضابط جهدًا مشكورًا حتى حصل لقهوة كتكوت على هذا التصريح.
وبالطبع لم يبخل المعلم كتكوت على خطَّاب أفندي، فأجرى عليه راتبًا شهريًّا خمسة جنيهات عدا ثمن المشروبات. فلما كثرت الطلبات وتضاعفت المشاريب، اشترط المعلم كتكوت على خطَّاب أفندي أن يُعفَى من المشروبات الضيوف الذين يجلسون على مائدة خطَّاب أفندي، أما الذين يقصدونه لأشغال أو مصالح ويجلسون بعيدًا عنه فيدفعون ثمن مشروباتهم … ولم يمانع خطَّاب أفندي بل رحب بالفكرة، واقترح اقتراحًا مفيدًا هو أن تضاعف القهوة ثمن مشروبات أصحاب الحاجات والمصالح، بشرط مضاعفة المكافأة المالية لخطَّاب أفندي إلى عشرة جنيهات، وانتهز المعلم كتكوت الفرصة فبالغ في ثمن المشروبات، ولكن الزبائن كانوا يقبلون بالأثمان التي يحددها المعلم كتكوت، فيكفي أنهم يلتقون بخطَّاب أفندي ويحصلون على كروت توصية، وهي كروت البيه الضابط الشاب مندوب هيئة التحرير بالجيزة … وكان لها مفعول السحر في البداية، ثم هبط تأثيرها بعد ذلك، ثم تلاشى التأثير تمامًا … ومع ذلك لم تنقطع وفود أصحاب الحاجات عن التردد على قهوة كتكوت، ولم يتوقف خطَّاب أفندي عن ترديد الوعود بكروت التوصية، مع علمه بأنها أصبحت غير ذي موضوع.
المهم أن الفائدة تتم بحضور الوفود وطلب المشاريب ودفع ثمنها للمعلم كتكوت، ثم صرف المكافأة الشهرية لخطَّاب أفندي.
أخيرا طابت الحياة واستقرت لخطَّاب أفندي، فالثورة باقية إلى نهاية الدهر، والبيه المندوب شاب لا يزال، وسيبقى في منصبه إلى نصف قرن من الزمان … لم يدرك خطَّاب أفندي أن الحياة ممكن أن تستقر ولكنها لا تستمر على حال واحد، ولو حدث هذا لفسدت الحياة وربما انتهت أيضًا. فجأة اختفى الضابط الشاب، فلم يعد يراه أحد في الجيزة، حتى مكتب الهيئة أخلوه، انطفأت أنواره وغاب حراسه، وسمع خطَّاب أفندي أن الهيئة فشلت في تحقيق أهدافها، ولذلك سيجري تصفيتها وإغلاق أبوابها وتسريح أعضائها. هذه إشاعة وحق الله يا خطَّاب أفندي، فالهيئة كانت آخر انضباط، والجماهير التفت حولها، بدليل تواصل البشر التي تقصد قهوة كتكوت لمقابلة خطَّاب أفندي. ولكن هكذا المصريون لا يستقرون على قرار ولا يُجمِعون على رأي واحد. وهم أهل هدم لا أهل بناء، وقد حدث هذا من قبل للحزب السعدي، رغم أنه كان حزبًا جماهيريًّا ليس له نظير! وتصور خطَّاب أفندي أنها مجرد إشاعة، وربما غمة لا تلبث أن تزول، ولكن غياب الضابط الشاب أقلقه بشدة، ثم تضاعف قلقه عندما بدأت الوفود التي تقصد القهوة في الانحسار، ثم ما لبثت أن تضاءلت ثم تلاشت.
وعلى الفور أمسك المعلم كتكوت يده فلم يعد يدفع الهدية الشهرية للأفندي خطَّاب، والولد ريعو بدأ يقل أدبه على خطَّاب أفندي، وعلى البقية الباقية من الذين كانوا يقصدونه للزيارة والسلام. ولكن خطَّاب أفندي لم يتعلم الدرس، وثار وغضب وطالب الجميع بضرورة احترامه وتوقيره، وألمح للمعلم كتكوت بأنه سينتقم منه انتقامًا رهيبًا عندما تعود المياه إلى مجاريها … وأقسم أنه عندما يعود الزمان إلى الابتسام سينقل نشاطه السياسي والجماهيري إلى قهوة عبده الإنجليزي. ومرت شهور طويلة، وجرت مياه كثيرة تحت كوبرى عباس قبل أن يكتشف خطَّاب أفندي أن هيئة التحرير قد جرى عليها ما يجري على كل شيء في الحياة، وأن الاتحاد القومي حل محلها. وعندما شاع الخبر وذاع، احتدمت الخلافات بينه وبين الولد ريعو والمعلم كتكوت، وذاتَ خناقةٍ قامت بينه وبين الولد ريعو اضطُر المعلم كتكوت إلى مغادرة مكانه بجوار النصبة، وأغلظ القول لخطَّاب أفندي، واضطُر المعلم لدفعه دفعة قوية خارج القهوة. وعندما تدخل البعض لفض الاشتباك ولفتوا نظر المعلم كتكوت إلى سابق عهده، رد عليهم المعلم كتكوت قائلًا: «سيبوكم م الكلام الفاضي ده، خطَّاب راحت عليه زي ما راحت على بديعة!»