المحاكمة
– اسمك إيه؟
لم أتوقع توجيه مثل هذا السؤال لي، فأنا كاتب معروف منذ نصف قرن، ليس في مصر وحدها، ولكن في كل أرجاء العالم العربي. وتمت ترجمة أكثر من كتاب لي إلى اللغات الأجنبية، ولكن لا بأس، فهي تجرِبة على كل حال.
– عملك؟
– وهل يوجد أحد في الدنيا لا يعرف عملي؟
أنا الكاتب والأديب والناقد الكبير، الذي أشعلت المعارك واقتحمت الصعب ونمت في السجون سنوات في سبيل ما أومن به، ومع ذلك لا بأس، فهي تجرِبة على كل حال.
– ما علاقتك بالمدعو حميدو؟
– لا علاقة لي به على الإطلاق، كل ما هناك أنني كنت أتعامل معه في فترة من الفترات، فقد كان يمسح الأحذية في قهوة كتكوت، وكنت أنا من زبائنها الدائمين، هذا كل ما هناك.
– ولكني أسألك عن علاقتك به الآن بعد أن صار من كبار رجال الأعمال، وأصبح نجمًا من نجوم المجتمع.
– لا شيء على الإطلاق، كل ما هناك أنه جاء ذات مرة إلى القهوة وحدثني في شأن شركته التي على وشك إنشائها، وعرض عليَّ أن أشاركه في مشروعه، واندهشت جدًّا لهذا العرض، وفكرت في أن أرده ردًّا عنيفًا، ولكن صرفته بهدوء وانتهى الأمر.
– ألم تحضر لك زوجته، وذهبت معها إلى كازينو شاطئ النيل، وعرضت عليك الاشتراك في المشروع؟
– أظن أنه حدث شيء من هذا.
– تظن أم حدث بالفعل؟
– حدث بالفعل.
– وماذا كانت النتيجة؟
– صرفتها بمعروف أيضًا واعتذرت لها.
– ولماذا وقع الاختيار عليك أنت بالذات للمشاركة في هذا المشروع؟
– لا أعرف ولا أدرك نواياهم الحقيقية في هذا العرض المشبوه.
– لماذا وصفت العرض بأنه مشبوه؟
– لأن شخصًا مثل حميدو كان لا بد أن يعلم أنني لن أقبل الاشتراك معه في أي عمل مهما كانت الظروف.
– ولماذا لا تقبل الاشتراك في مشروع حميدو، وهو عمل تجاري مشروع؟ هل أنت ضد الانفتاح؟
– أنا لست ضد الانفتاح ولا مع الانفتاح، وأرى أن هذا الانفتاح أفاد مصر من بعض النواحي، كما سبب لها الضرر في نواحٍ أخرى.
– ما هي أوجه الضرر وأسبابها؟
– لأن الانفتاح سمح لبعض الشوائب من شاكلة حميدو للظهور على قمة المجتمع عن طريق قروض هائلة من البنوك لإنشاء شركة توظيف أموال، مع أنه لا يفهم في شيء إلا مسح الجزم.
– ولكن هناك الكثير من ملوك التجارة والمال بدءوا حياتهم بأعمال تافهة مثل حميدو في مسح الجزم وتوزيع الجرائد وغسيل الصحون والمطاعم.
– هؤلاء ظهروا في مجتمعات تختلف كثيرًا عن مجتمعنا، فهناك طلبة في جامعة أوكسفورد يعملون في غسيل الصحون، وهناك طلبة في جامعة هارفارد يقومون بجمع الزبالة. ومقارنة حميدو بهؤلاء ليست من المنطق في شيء.
– أنت تقول إنك رفضت الاشتراك مع حميدو رغم أنه عرض عليك العمل معه، وأيضًا السيدة زوجته.
– نعم، هذا حدث.
– لماذا عدت وقبلت العمل معهم بعد ذلك؟
– أنا لم أقبل العمل معهم في أي وقت.
– ألم تذهب إلى بيت حميدو أكثر من مرة؟
– نعم ذهبت مرة في زيارة خاطفة، ولم أمكث هناك إلا فترة قصيرة من الوقت.
– قررت زوجة حميدو أنك قمت بزيارتهم في المنزل ثلاث مرات، وقضيت السهرة هناك، وتناولت معهم طعام العشاء.
– أنا لا أتذكر عدد المرات، ويخيل إليَّ أني ذهبت مرتين وأنني تناولت العشاء مرة.
– ما سبب قيامك بهذه الزيارات إذا كنت قد رفضت العمل معهم، وأنك لا تعرف حميدو إلا كماسح أحذية في قهوة كتكوت؟
– في الواقع أنا ذهبت إلى منزله تحت إلحاح السيدة الفاضلة زوجته لدرجة التوسل، وتصورت أنها تريدني في مسألة إنسانية تخصها، ولذلك قررت الذهاب إلى المنزل.
– زوجة حميدو قررت أنها أقنعتك في تلك الزيارات بالاشتراك معهم؟
– هذا محض افتراء. لقد زرتها بالفعل وقضيت معها بعض الوقت. كان لديها مشكلة وسألتني النصيحة، وهذا كل ما في الأمر.
– هل تذكر هذه المشكلة التي كانت تعاني منها؟
– لا، لا أذكر الآن.
– ولكنها تقول إنك وافقت على الاشتغال معهم، وبراتب شهري قدره عشرة آلاف جنيه، وأنك أديت بالفعل بعض الأعمال.
– هذا محض افتراءٍ وكذبٌ صريح.
– طيب … ما رأيك في هذه الورقة؟
وأخرج من مكتبه ورقة وقدمها للأستاذ.
– ما هذا؟
– هل هذا خطك؟
أخرج الأستاذ نظارته الطبية من جيبه وثبتها على أرنبة أنفه وتفرس في الورقة ثم قال: ما هذا؟
– أنا الذي أسألك وعليك أنت الجواب، هل هذا خطك؟
– الواقع لا أستطيع أن أقطع بأنه خطي من عدمه، ولكن الذي أذكره أنها طلبت مني، فيما يشبه التوسل، أن أكتب لها صيغة إعلان لأن حميدو طلب منها ذلك، باعتبارها قطعت مرحلة من مراحل التعليم، ولما كانت غير مستعدة وغير قادرة وغير مؤهلة، فقد طلبت مني إنقاذها حتى لا يغضب منها حميدو، وأظن أنني كتبت لها الإعلان لكي أنقذها من ورطتها.
– وهل من عادة أستاذ كبير مثلك أن يقبل كتابة مثل هذه الأعمال التافهة إذا توسل إليك أي أحد؟
– في الواقع إن الليلة التي سهرت فيها معها كانت لها ظروف خاصة، فقد كنت أشعر بضيق لوجودي في هذا المنزل، ولم يكن زوجها حاضرًا فشعرت بالقلق، وخشيت أن تكون هذه الزيارة هي إحدى ألاعيب حميدو لتوريطي في أمر ما، وقبلت أن أكتب لها هذا الكلام لكي أتمكن من الخروج ومغادرة المنزل.
– قرر حميدو أنه حضر متأخرًا إلى المنزل بعد حضوره اجتماعًا لمجلس الإدارة ووجدك هناك مع الحاجة زيزي، وكنت مرتاحًا ومطمئنًّا، بدليل أنك جلست معهما حتى ساعة متأخرة من الليل.
– في الحقيقة أنا لا أذكر شيئًا الآن من تفاصيل هذه السهرة، وما قررته الحقيقة بعينها.
– ما رأيك في أننا ضبطنا في أوراق الشركة اسمك في كشف المرتبات، ومثبت أمامه أنك تتقاضى عشرة آلاف جنيه في الشهر؟
– هذا اختلاق وتزوير، لأنني لم أتقاض مليمًا واحدًا منهم.
– ولكن حميدو وزوجته الحاجة زيزي ذكرا في التحقيق أنك تقاضيت مرتب سنة كاملة تحت الحساب.
وهنا ثار الأستاذ وضرب المائدة بكفه وصرخ بأعلى صوته: أنا رجل شريف ولم يدخل جيبي مليم واحد من هذه الشركة أو من غيرها، وأنا مَدينٌ، واسألوا البنك الذي أتعامل معه، ولو كنت من هذا النوع الرخيص لجمعت الملايين.
وحاول المحقق أن يهدئ من ثورة الأستاذ وقال: كل ما أسعى إليه هو إظهار الحقيقة، ويهمنا أن نبرهن على أن صفحتك بيضاء من غير سوء، فأنت من رموز الأمة وأحد ضمائرها الحية، ولكنا نريد إظهار الحقيقة، ولسنا في خصومة مع أحد.
وطلب المحقق فنجان قهوة للأستاذ، ولكن الأستاذ اعتذر، كما اعتذر عن استمرار التحقيق وطلب تأجيله إلى وقت آخر، واستجاب المحقق لطلب الأستاذ على الفور، وأمر كاتب النيابة بإغلاق المحضر في ساعته وتاريخه، على أن يُستأنف التحقيق بعد أربعة أيام.
وانصرف الأستاذ وهو لا يكاد يرى الطريق تحت أقدامه، كان مضطربًا وعصبيًّا وشديد الغيظ، كيف استطاعت الحاجة زيزي الإيقاع به على هذا النحو؟ وهل هو ساذَج إلى هذا الحد؟ لقد قضى عمره كله مهمومًا بقضايا الوطن، فكيف وصل به الحال إلى استدراجه إلى هذا الفخ بتدبير ماسح أحذية وزوجته التي كانت قطاعًا عامًّا على أرصفة القاهرة في يوم من الأيام؟ وهل الرأسمالية متوحشة إلى هذا الحد، لا ترعى حرمة ولا تعمل حسابًا لكائنٍ من كان؟
ولكن حميدو وزوجته ليسا من الرأسماليين، إنهما مجرد زبالة، والسقوط في هذه الهاوية كان بسببه هو وليس بسبب الآخرين، لقد خانته شيخوخته، ولعبت بأعصابه المرأة الفاجرة زوجة حميدو، وقادته إلى مصرعه بفضل بعض الحركات التي ذكرته بشبابه الذي ولى منذ زمن طويل. المأساة أنه نسي نفسه وتوهم أنه فارس مغوار، وأنه محل رعاية واهتمام ومطاردة الحاجة زيزي، ولكن هل يلوم الحاجة زيزي؟ لقد كانت البنت تقوم بدورٍ مرسوم في مسرحية من تأليف حميدو، وأتقنت دورها إلى الحد الذي جعل الأستاذ يتخيل أن زيزي تقوم بدور حقيقي على مسرح الحياة، وهذا ما أضعفه عندما وقع في الفخ بهذه السهولة. إن ما حدث له ليس فضيحة فقط ولكنها فضحية ومأساة، فهو مرتشٍ قَبِلَ مائة وعشرين ألف جنيه، لقد كان يتوقع خلال حياته الطويلة أنه سيقع في فخ من هذا النوع، ولكن تقديره أنه كان سيقع في الفخ نتيجة تدبيرٍ محكم من أجهزة مدربة على مثل هذا العمل، ولكنه وقع أخيرًا في الفخ بسبب مؤامرة من تدبير ماسح أحذية سابق في قهوة كتكوت، وزوجته التي كانت تعرض لحمها الرخيص على أرصفة القاهرة، وأوقعت من؟ الكاتب الجهبذ والمفكر الكبير والناقد الذي يخشى قلمَه كلُّ الأدباء.
وصل الأستاذ إلى منزله، وألقى بنفسه على مقعد في الصالون، وراح يدخن السيجارة تلو السيجارة، كان مهمومًا بحق، وكان يشعر بالنار تأكل قلبه وعقله، ماذا يمكن أن يفعله الآن لكي يمسح وصمة العار هذه من تاريخه، لا شيء يمكن أن يمحو هذا العار إلا قتل حميدو وزوجته، ولكنه لو فعلها ستكون الفضيحة أكبر وأعم، وسيعلم الجميع أن الأستاذ الخطير سقط في فخ ماسح الأحذية، يا لها من نكتة بايخة، ولكن سيضحك لها الجميع. وهو يذكر الآن يوم وقع في قبضة الإنجليز وقادوه إلى معسكر اعتقال في منطقة فايد، ولمح الغدر في أعينهم، ولكنه لم يهتز لحظة واحدة، ويذكر أيضًا يوم أخذوه إلى معسكر الاعتقال في الصحراء الغربية، وكيف أهانوه وعذبوه، ومع ذلك لم يهتز لحظة واحدة، ويذكر أيضًا يوم حاكموه أمام محكمة عسكرية استثنائية، وحكموا بإعدامه وخُفِّفَ الحكم بعد ذلك إلى الأشغال الشاقة، لم يهتز لحظة واحدة. ها هي الأيام تدور به ولا يجد مخرجًا لورطته الحالية إلا بقتل هذا الكلب حميدو والسيدة حرمه.
ولكن يستحق ما جرى له وما سوف يجري عليه. كان ضحية ماسح أحذية، ولكن هل صحيح أن حميدو ماسح أحذية؟ لقد ضحك على الناس وضحك على البنوك وضحك على الدولة.
واستدرج الأستاذ إلى فخ لا يجيد نصبه إلا الأبالسة والشياطين. هل هو صحيح ماسح أحذية؟ أم هو ملك المرحلة وفيلسوف الوقت ومفكر الزمان. ونام الأستاذ على مقعده، وفي الصباح كان نعيه يحتل الصفحة الأولى من كل الجرائد الكبرى وكل الجرائد الصغرى. مات الأستاذ بعد حياة حافلة أمضاها في خدمة الفكر والأدب والكتابة، وعاش حياته في خدمة قضايا الوطن ومات من أجلها!