لمعة تاريخية
لما قام «لوثيروس» بدعوته كانت الأفكار الأوروبية قد تنبهت بعض التنبه على اثر اكتشاف أمريكا وترجمة الكتب اليونانية بواسطة المهاجرين البيزنطيين الذين فروا من وجه الأتراك. وكانت الدعوة اللوثيروسية في الحقيقة إحدى نتائج هذا التنبه. على أنها ما انتشرت قليلًا ومدَّت أصولها بين الأوروبيين حتى أصبحت هي أيضًا سببًا مهمًّا لهذا التنبه. ففكت بواسطتها العقولَ من قيود التقاليد وبدأت تُنبت في العقل الآري تلك الأغراسَ التي زرعها البيزنطيون، فمدت بفروعها وغارت بجذورها حتى لم يأتِ القرن الثامن عشر إلا وأصبح الصانع يخترع في مصنعه، والمؤلف يستنبط النظريات على مكتبته. والناس كل يوم يتطلعون للجديد في كل شيء: في الحكومة وفي الدين والمصنع والمزرعة والعيلة والجمعية.
وكان حظ الاستنباط في المصانع أكثرَ منه في غيرها؛ فإن الصناعة بعد أن كانت في يد الصناع، يشتغلون مستقلِّين كل في بيته أو دكانه، أصبحت وقد خرجت باختراع الآلات منهم إلى يد أصحاب المعامل الذين استطاعوا شراء الآلات الجديدة. وبعض ما تصنعه الآلة في ساعة واحدة تحت نظر عامل واحد قد لا يصنعه عشرون عاملًا في يوم كامل إذا اشتغلوا بدونها.
ومن هنا نشأت طبقة من الناس قليلة العدد واسعة الثراء، تمتلك الآلات وتستغلها بواسطة عمال كانوا قبل اختراع هذه الآلات مستقلين كلٌّ يملك دكانه ويعرف صنعته فيشتغل ويبيع بنفسه مصنوعاته. أما بعد اختراع الآلات فإن هؤلاء الصناع المالكين لم يستطيعوا مزاحمتها وأصبحوا لذلك عمالًا مأجورين يزاحمون بعضهم بعضًا حتى هبطت أجورهم إلى الحد الأدنى. فإذا حدث واكتظ السوق بالمصنوعات، كما يحدث أحيانًا: اضْطُرَّ صاحب العمل إلى صرف عماله ريثما تتصرف البضاعة الموجودة بالسوق ويأتيه من التجار طلب على مصنوعاته. فيقع العمال من ذلك البطالة من وقت لوقت حسب تقلبات السوق ويتجرعون كئوسها من جوع وعراء وشقاء.
فتوجهت إلى هذه الحالة أنظار العمرانيين. وقام في الثلث الأول من القرن التاسع عشر إنجليزي يُدعى «أوين» كان شريف النفس عاليَ الهمة فأحرز ثروة واسعة من معمل كان يديره. وأدرك بنافذ بصيرته أن العمال الذين يشتغلون في معمله، أو في أي معمل آخر، مظلومون لا ينالون كل أجرهم. فارتأى أن يتحد العمال معًا ويشتركون في إنشاء معمل أو معامل ويستغلونها لأنفسهم بأنفسهم، فلا يضيع تعبهم لفائدة أصحاب المعامل الأغنياء بل يعود عليهم بالذات. وهذه هي فكرة التعاون التي فشت هذه الأيام بين العمال الأوروبيين وبين بعض مُزَارِعِينَا. وللعمال الإنجليز الآن ثروة تقدر بالملايين جَنَوْهَا بواسطة شركات التعاون التي ألَّفوها. غير أن فقر العمال حال دون تحقيق غرض «أوين» في تحرير العمال من ربقة الأجور وبقوا إلى اليوم وقد ساءت حالهم أكثر مما كانت في عصره. لأن إنشاء المعامل يحتاج إلى رأس مال كبير لا يقوى العمال على جمعه.
وقام في عصر«أوين» فرنسوي يدعى «برودون» بحث بحثًا نظريًّا عن أصل الملكية وأثبت أن المالك «لص» ليس له حق الامتلاك مطلقًا، وان الثورة بأصنافها يجب أن تكون ملكًا مشاعًا للأمة يستغله كل فرد منها ولا يأخذ أجرًا على عمله إلا ما يستحقه. وتألفت من ذلك الوقت أحزاب عديدة بقصد تحقيق الاشتراكية، ولكن التناقض والتخاصم كان فاشيًا بينها. لأن الفكرة كانت لا تزال غامضة متلجلجة في صدور المفكرين …
والخلاصة … أن رأس المال هو عبارة عمَّا سرقه صاحب المعمل من أجور عماله، فبدلًا من أن يدفع لهم عشرة قروش دفع ثمانية مثلًا، وهذا الفرق صار يضيفه إلى ما عنده حتى كبرت ثروته وأصبح من كبار الأغنياء. على أنه كان يكون فقيرًا لو كان قد دفع لكل عامل أجرة عمله كاملة. واقترح «ماركس» علاجًا لذلك وهو أن تُلغِي الحكومة حقَّ الامتلاك الفردي. فتمتلك هي بواسطة مجالسها المحلية والبرلمانية كل موارد الثورة الإنتاجية مثل الأراضي والمناجم والمعامل، ويكون أفراد الأمة عمالها فينالون أجورهم كاملة ويعود الربح على مصالحهم.
هذه خلاصة تاريخية للاشتراكية، وقد انتشرت الآن في أوروبا ولها من الأحزاب ما ينبئ بقرب الملكوت الذي يَنْشُدُهُ الاشتراكيون، ويكفى دليلًا على ذلك أن لهم في ألمانيا فقط نحو مئة جريدة يومية ومن الأصوات في الانتخابات البرلمانية ما يقارب النصف.