مفاسد النظام الحالي
على أي حق بُنِيَتِ الملكية تاريخيًّا، وعلى أي حق تُبنى الآن منطقيًّا وعمرانيًّا؟
إذا استقصينا تاريخ الملكية إلى أبعد ما يمكننا في العصور الغابرة نجد أنها بُنِيَتْ على خرافة غريبة مؤدَّاها أن آباءنا المتوحشين اهتدَوْا إلى الزراعة بواسطة موتاهم. فإنهم كانوا قبلًا يعيشون في الغابات يأكلون أثمارها وحبوبها البرية. وكانوا يعتقدون أن الميت يحتاج للغذاء في العالم الثاني، فكانوا يضعون في قبره بعض الأثمار والحبوب. وجثة الإنسان إذا أنتنت وتحللت صارت سمادًا عظيمًا للأرض. فكان لا يمضي على دفن الميت زمن كبير حتى تنبت النباتات فوق قبره قوية باسقة لكثرة ما في تربتها من السماد. فكان أهل الميت يأتون ويجنون أثمار القبر معتقدين أن عزيزهم المائت هو الذي خلقها لهم خصيصًا حتى ينعموا بها، فكانوا يمنعون غيرها من جني هذه الأثمار، إذ لكل عائلة ميت يأتي لها بأثمارها وغلَّاتها فلا يجب أن تعتدي إحداها على الأخرى. هذا فضلًا عمَّا يلحق أشخاص الموتى من القداسة النسبية التى تؤدي إلى ألا يزور قبر الميت ويجلس فوقه أو بقربه غير أهله.
فمن هنا نشأت الملكية والزراعة. لأن القبر أصبح مزرعة وحرمًا في وقت واحد. وكما صار جائزًا للفرد أن يمتلك حرم أبيه أو أمِّه المتوفاة أصبح جائزًا أيضًا له — بتقدم الزمن — أن يمتلك الماشية أو غيرها من المملوكات الحاضرة بعد أن كانت شائعة للقبيلة كلها لا يختص بها فرد دون آخر.
على أن الملكيين يردون على الاشتراكيين قائلين: «دعونا من التاريخ. وابحثوا في المسألة من وجهها المنطقي العمراني. فالناس تتفاضل عقلًا. فمنهم من يخترع آلة أو يؤلِّف كتابًا أو يكتشف سمادًا قويًّا للأرض، ومنهم من لا يخترع ولا يكتشف ولا يؤلِّف. فعلام تُساوون بينهم ولا تعطون للمخترع الحق في امتلاك اختراعه؟»
وهنا يقر الاشتراكيون بوجود سبب صحيح للملكية، ولكن لا إلى الأبد كما هو حاصل الآن، بل إلى حدٍّ محدود. كأن يتمتع المخترع باختراعه عشرين أو ثلاثين سنة على نحو ما فعلت الحكومة الإنجليزية حينما أرادت حفظ حقوق المؤلفين. فإنها حفظت للمؤلف الحق في احتكار طبع مؤلَّفه مدة أربعين سنة أو نحو هذا القدر من السنين. وبعد ذلك يصير المؤلَّف ملكًا شائعًا للأمة.
ولو كان الملك في الأرض والمسكن والمنجم مبنيًّا على قاعدة الملك في التأليف لما نشأت الأضرار الحاضرة، ولما تجشم الاشتراكيون الدعوة إلى مذهبهم. هذا مع العلم بان امتلاك الأراضي والمناجم والمساكن لا يحتاج من الاستنباط والتفوق العقلي عُشْرَ ما يحتاجه اختراع آلة أو اكتشاف نظرية في العلوم، بل على العكس من ذلك قد يحتاج إلى كثير من النذالة والحطة والضِّعَة كما نشاهد بأعيننا في المُرابين والمقامرين والتجار … إلخ.
ولِسائل: لماذا لا يتمتع المخترع أو المكتشف أو المؤلف بعمله هو وأولاده إلى الأبد كما يتمتع الآن صاحب الأرض؟
والجواب على ذلك أننا أولًا لا يمكننا أن نقدر قيمة الأشياء تقديرًا دقيقًا صحيحًا. وثانيًا نقول إن المكتشف أو المؤلف مَدِينٌ للأمة باكتشافه أو اختراعه أو مؤلفه.
ولنأخذ مثالًا على ذلك: داروين ومذهبه. فإن هذا المذهب أنار بصيرة العلماء وغيَّرَ وجهة العلم وبدَّدَ كثيرًا من غيوم الخرافات والغباوات. فالطبيب والمهندس والقاضي والتاجر والزارع والصحفي، بل والحداد والنجار، يستبصرون به. ومع ذلك هل في العالم من يستطيع أن يكافئ داروين أو ورثته مكافأة مالية تساوي قيمة هذا المذهب؟
ثم هل في العالم من يستطيع أن يحقق بالتدقيق القدر الذي أخذه داروين من الكُتَّابِ الذين سبقوه، وألمعوا إلى نظريته، واستنار هو بهم، والقدر الآخر الذي استنبطه هو من نفسه حتى يكافأ عليه؟ إن هذا محال.
هذا من الوجهة المنطقية. أما من الوجهة العمرانية فمن المحالات أيضًا أن يحتكر المخترع اختراعه على مدى الزمن. ولو جاز ذلك لوجب أن تكون السكك الحديدية الموجودة في العالم الآن ملكًا لعائلة «ستيفنسون» مخترع القطارات البخارية الحاضرة. ولوجب أن تكون الأسمدة الكيماوية التي زادت غلات العالم بالملايين من الجنيهات ملكًا لمخترع الأسمدة.
ولو جاز ذلك أيضًا لأصبح العالم ملكًا لجملة عائلات لا تتعدى المئة ممن نبغ منها المخترعون والمكتشفون: فتصبح أميركا كلها ملكًا لعائلة كولمبس و … و … إلخ
والحقيقة أن المستنبط لا يصل إلى استنباطه إلا بعد أن يكون قد هيَّأ له الذين سبقوه الطريق إليه. فلولا العلماء الذين سبقوا داروين، وبصروا بنظرياته عن بعد، لما اكتشف هو مذهبه. فهو آخر درجة من سلم طويل عديد الدرجات. فعل نحو ما تفعل القردة في حراجها، فإنها إذا رأت ثمرة تجري في النهر وخافت النزول إليه لإلتقاطها صعدت بجموعها إلى شجرة على شاطئه وربطت بعضها بعضًا بأذنابها، فتكون بذلك سلسلة طويلة، ثم تتدلى من أحد الأغصان إلى النهر حتى تصل إلى الماء ويلتقط آخر قرد منها الثمرة، ويعود بها فيفرقها على إخوانه. فمركز كولمبس في اكتشافه أمريكا، وداروين في اكتشافه مذهبه، كمركز القرد الأخير بالضبط.
ولكن مُلَّاك الأراضي أو المناجم أو المعامل أو البيوت الحاضرين لا يمكنهم أن يبرهنوا على أن نصيب الاستنباط في امتلاكهم لهذه الأشياء يزيد أو يضاهى نصيب السرقة الصحيحة الصريحة. لأنهم أكثر ما يكونون قد ورثوها أبًا عن جد، إلى الجد الأعلى، اللص أو المغتصب.
وأكثر ما تزيد قيمة هذه الأشياء عن مجرد ظروف وحالات ليس لملاكها يَدٌ فيها. كأن تتسع مدينةٌ ما فتزيد قيمة الأراضي الزراعية المجاورة ألف ضعف لأنها تصبح مُعَدَّةً للبناء.
أي إننا لا نجد إذا بحثنا مبررًا من الوجهة المنطقية لامتلاك الأراضي أو المناجم أو المعامل أو البيوت، ولو إلى مدة محدودة، كحق المؤلف في تأليفه واحتكاره عشرين أو ثلاثين سنة.
- (١)
إننا كلنا باستثناء صغير نشتغل أولًا وأخرًا لجمع المال. بحيث لا يبقى هذا الشغل مجالًا لعمل آخر مفيد. وقد رهن «كروبتكين» على أنه يكفى الناس أن يشتغلوا في اليوم ساعة أو ساعتين لعمل المطعم والملبس والمسكن إذا كانوا في نظام اشتراكي أو شبيه بالاشتراكي. ولكننا الآن مدفوعون كلنا إلى التنافس والتحاسد والتكاثر بالمال، على قلة قيمته الحقيقية. وهناك ما كان يجب أن يشغلنا ويملأ وقتنا، كتأليف كتاب أو اختراع آلة أو تصوير صورة أو اكتشاف حقيقة خفية أو التمتع بالسياحة، أو غير ذلك من الأعمال التي يكاد يكون كل الشرف الإنساني معلقًا بها.
- (٢)
إننا انقسمنا إلى فئتين: فئة غنية تكتظ معدها بالمأكولات الدسمة وأخرى فقيرة ترمق العيش ترميقًا. والفئتان تستغلان لجمع المال، حتى الغنية منهما. فأصبحت لذلك قرانا قرة ببيوت الفقراء، وعمالنا ضعفاء لقلة الغذاء، وأطفالهم مباءة أمراض تنتقل منهم إلى أطفال الأغنياء. وأصبح الأغنياء في حيرة كيف يصرفون أموالهم، فمنهم من يركب متن الشهوات فيشجع الناس على البغاء والقيادة وإيجاد المنكرات، ومنهم من يخزن أمواله فيضيق على الناس في معاشهم.
- (٣)
لقد أوجد نظامنا الحاضر جملة وظائف غير طبيعية وغير لازمة لجمعية بشرية منظمة. مثل المحاماة والبغاء والمقامرة … إلخ. فإن هذه الوظائف وجدت كنتيجة للنظام الحاضر وهي أول ما يُلغى في نظام اشتراكي. وذلك اقتصاد كبير.
- (٤)
إن نظامنا الحاضر أضاع من النفوس شرفها ومن الضمائر حياتها، فالتاجر يذكب ويخدع، ويغش مصنوعاته، حتى إنه ليسم الخبز إذا رأى في ذلك ربحًا. ويبني البيت وكل همه أن يؤجر بأعلى أجرة بلا نظر لحالته الصحية أو الجمالية. ويصنع الأحذية من الورق بلون الجلد إلخ … لأن الغاية المال وهو يبرر كل واسطة.
- (٥)
إن أكبر الجرائم الحاضرة وما تكلفنا من سجون منشؤها الفقر لا الجهل كما يدَّعون، فالجوع كافر والبرد أكفر والعراء أنكس من الاثنين، وهذه تلقي الحقد في صدور الفقراء وتدفعهم إلى الإجرام. وقد أبنَّا أن النظام الاقتصادي الحاضر يتطلب أحيانًا توقف المعامل عن العمل وبالتالي إصابة العمال بالبطالة وما ينشأ عنها من جوع وعراء.
- (٦)
إن جمع المال يحتاج إلى أشياء كثيرة، من خراب الذمة وموت الضمير وضعف الإحساس. والذين يبذون أقرانهم في جمعه بهذه الوسائل يبرهنون على حطة طبائعهم. ومع ذلك فهم الذين يتيح لهم بأنسال النسل في الأمة، في حين أن غيرهم من الذين يترفعون عن جمع المال بهذه الوسائل يعيشون فقراء عزبًا، فيبيدون من الأمة وينقرضون مع رفعة طبائعهم. وفي ذلك من الخسارة على الأمة ما فيه؛ لأن كل نظام عمراني يجب أن يكون غرضه قبل كل شيء آخر إيجاد نسل أحسن وأصلح من الأبوين، بحيث تتتابع الأجيال فيفضل كل جيل سابقه.
- (٧)
إن الحروب الحاضرة على ما فيها من بشاعة وشناعة وتوحش، وخسائر في الناس والمال والوقت، لا تنشب إلا لأجل المال. فالبنوك لا تستثمر جُلَّ أموالها إلا عند الحكومات. وهذه لا تحتاج لها إلا وقت الحروب. فالماليون في كل أمة متمدنة يعملون على تحريش الأمم ببعضها قصد إيقاعها في حرب كبيرة تحتاج منها إلى استلاف المبالغ الجسيمة منهم، وليس الاستعمار إلا إحدى نتائج نظامنا الحاضر أيضًا مع ما فيه من الظلم والاسترقاق؛ فإن إنجلترا لا تستعمر الهند وتسترق تلك الملايين العديدة من الهنود لمجرد الفخر أو المجد، بل لأن مالييها العظام وجدوا أن استغلال أمولهم في الهند يعود عليهم بربح أوفر مما لو استغلوها في إنجلترا، لرخص أجور العمال الهنود وغلاء أجور العمال الإنجليز. هؤلاء يدفعون أمتهم دائمًا إلى إيجاد العوامل التي تقلل أجور العمال الهنود وبالتالي تمنع تدينهم.
- (٨)
أقذر وأحط ما يدفع الناس إليه نظامنا الاقتصادي الحاضر هو الزواج المالي. فإن الشيخ الفاني الذي تغضن وجهه أو سال لعابه يتزوج بالصبية الحسناء الفتية شاريًا عرضها بالمال. فيذهب جمالها وشبابها وصحتها سدى على الأمة. ولو لم تكن للمال قيمته الحاضرة لما اضطرت فتاة إلى قهر عواطفها والرضى بالمعيشة مع من هو في عمر جدودها.
نكتفي بما ذكرناه كدليل على كثرة المفاسد في النظام الاقتصادي الحاضر المبني على الملكية الفردية ونحن ذاكرون ما يقدمه الاشتراكيون كعلاج وبدل له.