الإصلاح الاشتراكي في الأمة
إن الإصلاح الذي نسمع عن قيام وسقوط وزارات من أجله في أوروبا الآن يسير في سبل اشتراكية أو شبيهة بالاشتراكية. فإن الاشتراكيين قد قبضوا على زمام الفكر السياسي الأوروبي. وإن لم يقبضوا بعد على مقاليد الحكومات. فترى الأحزاب المحافظة، أو الحرة، أو غير ذلك، لا تفكر إلا في الإصلاح إلا وتتجه نحو الاشتراكية رغم أنفها. لأن الاشتراكية نتيجة لازمة لنظامنا الاقتصادي الحاضر، حتى قال «ماركس»: «لا تجهدوا أنفسكم في الدعوة إلى الاشتراكية لأنها آتية بعد هذا النظام كما يأتي الليل بعد النهار».
فأول إصلاح اتجهت إليه أنظار السياسيين هو التعليم المجاني الإلزامى الابتدائي. وهو مبني على فكرة أن الناس يجب أن يتساووا في الحصول على كل شيء من التَّنَوُّرِ ينفعهم في حياتهم، لا يمتاز في ذلك غني على فقير. وقد عم هذا الإصلاح كل أوروبا تقريبًا الآن. ولكن الاشتراكيين يطلبون تعميم التعليم الثانوي والعالي بحيث يمكن لكل فرد أن يُظهر كفاءاته ويستفيد بها مهما كان فقيرًا. وقد نالوا شيئًا من رغبتهم هذه في ألمانيا حيث أصبح بعض التعليم الثانوي إلزاميًّا ومجانيًّا. وفي فرنسا الآن يُعتبر التعليم الثانوي والعالي مجانيًّا تقريبًا لرخص أجر التعليم ولا تكتفي الآن بلدية لندن بتعليم الأطفال بل تقدم لهم الغذاء الكافي عندما تجد أن فقر عائلاتهم يحول دون تغذيتهم.
والبلديات الإنجليزية الآن تبني بنفسها المساكن الصحية للعمال، وتؤجرها لهم بأجور رخيصة، وهي متبعة هذه الخطة تزيد عدد مساكنها من عالم إلى آخر. وظاهر للقارئ النتيجة النهائية لهذه الخطة، وهي إلغاء الملك الفردي والاستعاضة بالملك الاشتراكي.
وقد بَيَّنَّا أن الناس لا يحتاجون في نظام اشتراكي إلى الشغل لإيجاد الحاجات المادية أكثر من ساعة أو نحو ذلك في اليوم. ولهذا يجتهد الاشتراكيون في تقليل عدد الساعات التي يشتغل فيها العمال حتى يجدوا من الوقت متسعًا للراحة والاستنارة ويفتحوا لغيرهم أبواب الرزق. وقد توصلوا في إنجلترا وأستراليا إلى جعل عدد ساعات العمل في اليوم ثمانية في بعض الحرف. هذا غير مساعيهم في زيادة الأجور، فإنهم ينظمون الاعتصابات العديدة لهذين العرضين.
ولما كانت الشيخوخة من أرذل ما يصيب العمال، جدَّ الاشتراكيون وسَعَوْا في إيجاد معاش لا يقل عن ثلاثين جنيهًا سنويًّا لكل من يبلغ السبعين من عمره في إنجلترا والخامسة والستين في أستراليا. ومن يرى الرمم الحية التي تجور بين الفهوات والبارات وتستكدي الجلوس عندنا يعرف قدر هذا الإصلاح. فإن الإنسان الذي يخدم أمته في شبابه يجب أن تخدمه الأمة في شيخوخته.
ومن الإصلاحات المهمة التي تُعْزَى إلى مجهودات الاشتراكيين قانون التعويض، عند البطالة أو الكسر أو الموت. فإن الحكومة الإنجليزية الآن تلزم صاحب المعمل على أن يدفع عوضًا لعامله أو لعائلته إذا كسر أحد أعضائه وقت الشغل، وتعطل من ذلك عن كسب معاشه، أو إذا مات وهو في المعمل من وقوع آلة أو فساد عدة أو غير ذلك. ويدلك على جسامة قدر هذا العوض أن أصحاب المعامل صاروا يؤمنون على أنفسهم من حدوث موت أو تعطيل أحد العمال الذين يشتغلون عندهم. وفي العام الأسبق اشترعت الحكومة شرعة أخرى تدفع بموجبها للعامل عند خلو يده من العمل ما يسد رمقه هو وعائلته إلى أن يجد عملًا ما.
ومن الإصلاحات الاشتراكية التي شاعت عند بعض الأمم المتمدنة ضرائب الأيلولة، فقد بيَّنَّا قبلًا أن الإرث منافٍ للحرية الاقتصادية التي تتطلب مساواة الناس في فرصة الإثراء. ولذلك تضرب الحكومات ضريبة فادحة الآن عند الأيلولة على الثروة. وقد فرضت حكومتنا هذا العام رسمًا على الميراث لا يكاد يُعْتَدُّ به لقلته. ولكنه يعتبر افتتاحًا مباركًا لخطة حسنة (غير أن الجمعية التشريعية لم توافق عليه بعد).
وبعض الحكومات يفرض ضريبة تدريجية على الإيراد بحيث أن كل من لا يزيد إيراده عن مئتي جنيه تقريبًا يُعفى من الضريبة التي تفرض تدريجيًّا على الإيرادات الزائدة عن هذا الحد. بحيث أن ما يؤخذ على المئة من إيراد قدره ألف جنيه يقل عما يؤخذ على المئة من إيراد قدره ألفي جنيه، وهكذا. وهذا العمل إقرار من الحكومات بالإجحاف الحاصل في تقسيم الثروة واعتراف بصحة نظر الاشتراكيين.
ومن الحكومات من يحتكر الآن بعض الثروات لاستغلالها بذاتها حتى تعود أرباحها على الأمة لا على الأفراد المالكين لها، على نحو ما تفعل حكومتنا في استغلال السكك الحديدية الأميرية.
فمن ذلك أن حكومة أستراليا تتاجر باللحم الآن، وتقوم بتبريده وتصديره إلخ، وتملك مناجم الفحم وتستغلها وتبيعها للسكان.
وحكومة فرنسا تتاجر بالتبغ والكبريت وتحتكرهما.
وحكومة اليابان تتاجر بالكافور وبعض أشياء أخرى.
والمجالس البلدية في أوروبا وأمريكا على ساق وقدم في توطين الثروات وإخراجها من يد الأفراد إلى يد الأمة.
فبلدية فيينا تتاجر بالخبز وتبيعه للسكان نظيفًا غير مغشوش، وهناك بلديات تبيع اللحم أيضًا.
وبعض البلديات، فضلًا عن الاتِّجار بالضوء والمياه كما تفعل بلدياتنا يتجر بالفنادق والجرائد والحمامات والمراقص والتياترات. أي إن هذه الأشياء أصبحت ملكًا للبلدية، أي للأمة، وطُورِدَتِ الملكية الفردية حتى زالت.
وعليه يجب على كل مصري يرى بعينه الظلم الحاصل بالفلاح، وحرمانه من ثمرة أتعابه، أن يشجع خطة توطن المملوكات الفردية الحاضرة بإخراجها من يد الأفراد إلى يد البلديات والحكومة. وعليه أن ينشر الاشتراكية، خصوصًا بعدما عرف وشاع الآن من أن أكثر من نصف الثروة المصرية يملكها أجانب يستغلون العامل المصري. فكل إصلاح اشتراكي ينقل بذلك جزءًا مهمًّا من ثروة الأجانب إلى الوطنيين. وعليه أن يشجع عمالنا على الاعتصاب السلمي حتى تزيد أجورهم ويقل شغلهم.