لا تدري أين هو
وبعد برهة ساعة فُتِح الباب، فدخلت امرأة إفرنجية تكاد تتجاوز طور الكهولة، وقدمت لجوزفين فُطُورًا من اللبن والعيش والزبدة، وقالت لها بكل لطف باليونانية ما معناه: خذي يا بنيتي كُلِي.
فاستأنست جوزفين بليونة صوتها ولكنها لم تفهم مقالها؛ لأن اليونانية رطانة عندها، فكلَّمتها بالفرنسية قائلة: بحق من تحبين وتعزين يا سيدتي قولي لي لماذا أُتي بي إلى هنا؟
ولم تكن المرأة تفهم من الفرنسية إلا كلمات معدودة وأما من النمساوية التي هي لغة جوزفين فلم تكن تفهم كلمة؛ ولذلك عزَّ على جوزفين أن تسترحمها إلا بالإشارات كالركوع أمامها والسجود عند قدميها، فكانت تجيبها تلك المرأة اليونانية بهز كتفها، ولسان حالها يقول: «لا أفهم ماذا تقولين؟ وإذا فهمت فماذا تستفيدين؟»
ثم أدارت لها ظهرها، وانصرفت، وأقفلت الباب وراءها.
ولا نتمادى في وصف ما لقيته جوزفين من العذاب في ذلك السجن ومن آلام الوحدة وأحزان الفراق وغموم الوحشة، فكانت تقضي كل النهار وحدها في تلك الغرفة تبكي وتنوح، وتلك المرأة السجَّانة كانت تدخل عليها في ميعاد الأكل وتُقدِّم لها طعامها، وعند العصر تُخرجها من الغرفة إلى رحبة المنزل، وبعد الغروب تخرج إلى الشرفة لكي تتنشق الهواء النقي، فلا ترى جوزفين غير الظلام وبعض الأنوار الضئيلة على بُعد شاسع جدًّا؛ ولذلك لم يتسنَّ لها أن تعرف ما نسبة سجنها هذا إلى المدينة، أهو إلى جنوبها أو إلى شمالها؟ ولا مسافة بُعْدِهِ عن قَصْرِها.
ولا ريب أن يشعر القارئ من نفسه مع هذه المسكينة وما لاقته من الأحزان، ويدرك ما آلت إليه حالها من السقم والهزال وضعف الجسم وخبال العقل.
ولا بد أن يتوق القارئ إلى ما تجهله جوزفين من أحوال سجنها، أما المنزل فكان بيتًا صغيرًا ذا طبقتين، بناه الأمير عاصم في وسط عزبة صغيرة له في ضواحي مصر البعيدة؛ لكي يقيم فيه في بعض الأيام، وأقام فيه سنتورلي هذه الكهلة اليونانية حارسة لجوزفين، وجعل تحت يدها خادمين يقضيان حاجاتها، وهما في الطبقة السفلى من المنزل، وجلُّ ما عرفته هذه الكهلة من أمر جوزفين أنها زوجة سنتورلي، وأنه يحبسها هناك بغية منعها عن عشيق تريد اللحاق به، وكانت الكهلة تعرف سنتورلي باسم جاك، وقد حرَّم عليها أن تقابل جوزفين إلا للضرورة، وأوصى الخادمين أن يستدعياها حالًا إذا مكثت في الطبقة العليا أكثر من دقيقتين.
وقد رضيت تلك الكهلة بكل هذه الشروط؛ لأن سنتورلي كان يدفع لها أجرة حسنة جزاء احتباسها في ذلك المكان.
وقد أُرسلت إليه في ليل دامس لكي لا تعرف نسبته إلى المدينة حتى إذا عادت منه لا تعرف أين مقره.
وكان الخادمان وطنيين يعتقدان أن في الطبقة العليا محظية أو زوجة جاك سيدهما — لأنهما كانا يعرفان سنتورلي بهذا الاسم — وأنه قد وضعها هناك لكي لا يتصل بها أحد، ولم يكونا يعرفان شيئًا عن حقيقة أمرها، وكان أحدهما — سليم — يعرف بعض اليونانية؛ لأنه خدم منذ صغره بعض اليونان وعرف البسيط منها بالممارسة، فكان يفهم مطالب الحارسة بسهولة.
وكان سنتورلي كل ليلة بعد ليلة يذهب إلى ذلك المنزل ليتفقد الأحوال، وأحيانًا كان ينام في غرفة مجاورة لغرفة جوزفين؛ إيهامًا للخدم والحارسة اليونانية أنه ينام مع عشيقته أو زوجته، ولكنه لم يكن ليرى جوزفين قط؛ لأنها تعرفه لو رأته.
أما ذلك الشاب الإفرنسي الذي استكتبها فهو شقي من أشقياء الإفرنج، بحث عنه سنتورلي واستأجره لهذه المهمة، وجاء به إلى ذلك المكان في تلك الليلة التي نُقِلت فيها جوزفين منومة إلى سجنها، وقد أفهمه سنتورلي أن جوزفين مومس وهي عشيقة شاب شريف، وقد حار أهله في كيفية فصله عنها، فخطر لهم أن يستكتبوها رسالة تنبئه عن هجرها إياه عساه يكرهها، وأعطاه الورقة المكتوبة بالنمساوية في ذلك الليل، وأمره أن ينام في الغرفة المجاورة لغرفة جوزفين على نية أن ينهض في الصباح ويدخل إلى غرفتها ويرغمها أن تكتب الورقة. ولما ظفر من جوزفين بالمطلوب خرج من عندها وسلَّم الرسالة إلى الكهلة ومكث في غرفته إلى أن جنَّ الليل، فعاد به سنتورلي من حيث أتى، وبهذه الوسيلة لم ينطبع في مخيلته وجه سنتورلي جيدًا؛ لأنه لم يكن يقابله إلا على نور ضعيف، ولا العزبة؛ لأنه لم يخرج من المنزل إلا في الليل كما دخل.
وبقي سنتورلي في الطبقة السفلى من المنزل المذكور في ذلك اليوم لكي يراقب مشروعه، ويحرس الفرنساوي لئلا يخرج وحده في بحر النهار ويفضح عمله، ولكي يرى الرسالة التي كتبتها جوزفين ويقابلها بالأصل حتى إذا كانت تختلف عنه ردها إلى الإفرنسي الشقي لكي يعيد الكرة على جوزفين وتكتب سواها طبق الأصل، ولكن جوزفين كتبت ذنبها المزور بكل أمانه؛ لأن الخوف والذعر وطيبة القلب لم تترك لها سبيلًا للتلاعب، ولا سيما لأنها لا تجهل أن التلاعب في مثل هذه الحال لا يجدي.
وكانت الكهلة في ذلك النهار رسولًا بين الشقي الفرنساوي وسنتورلي، على أن سنتورلي أتقن دوره جيدًا، بحيث إنه لم يدع ذلك الشقي يفهم شيئًا من أغراضه في تخفِّيه، ولا ودعه يلاحظ أنه يتجنب رؤيته في النهار. والخلاصة أن ذلك الشقي قضى مهمته وأخذ أجرته وهو لا يقدر أن يفهم أو يفسِّر أو يشرح شيئًا مما كان، فكان فعلًا آلة بيد القدر كما قال، ولكن لم يكن القدر إلا سنتورلي نفسه.