بيد العناية السموية
مضى على جوزفين في ذلك السجن القصي نحو عام وهي لم ترَ بشرًا غير تلك الكهلة اليونانية أُوَيْقات قليلة في النهار، أما سليم وعلي فلم يُؤذَن لهما البتة أن يصعدا إلى الطبقة العليا من المنزل، وجلُّ ما عرفاه أن الخَوَاجَه جاك سيدهما قد حبس زوجته فوق ليمنعها عن عشيقها، فكانا يأتمران بأمر تلك الكهلة الحارثة كما تشاء، وأما سنتورلي فكان ينام بعض الليالي في الغرفة المجاورة لغرفة جوزفين؛ لكي يوهم الخدم أنه نائم عند امرأته.
ولا ريب أن يدرك القارئ ما قاسته جوزفين في ذلك السجن المرتفع وهي لا تقدر أن تشكو أمرها لأحد؛ فإن تلك اليونانية حارستها لم تكن لتشفي لها غلًّا البتة؛ لأنها غريبة اللغة عنها، فإذا احتاجت جوزفين أمرًا حارت كيف تبلغه إلى حارستها، وهذه لم تكن مطالب جوزفين لتهمها؛ إذ لم يكن واجبًا عليها أن تلبي لها طلبًا؛ لأن وظيفتها انحصرت في تقديم الطعام والشراب لها، وإخراجها في بعض الأمساء إلى البلكون فقط.
وقد قصد سنتورلي من اختيار حارسة جوزفين امرأة غريبة اللغة عنها أن يمنع كل صلة بين قلبيهما؛ لأنه حسب أن التفاهم الصريح بينهما يعقد الألفة، والألفة تفضي إلى إشفاق اليونانية على جوزفين عند إطلاعها على الظلم اللاحق بها، وحينئذ يستحيل عليه أن يأمن جانب المرأة اليونانية، فلا بد أن تخونه، فإما أن تطلق جوزفين من سجنها، أو أنها تغدر به وتشكو أمره للبوليس، أو أنهما تفران معًا.
ولكن بما أن اليونانية لم تكن لتفهم شيئًا من جوزفين، ظلت تعتقد ما طبعه في ذهنها المسيو جاك — سنتورلي — من خيانة زوجته له وتعلقها بعشيقها، وبما أنها كانت متورعة ومتدينة كانت تحسب جوزفين امرأة شريرة جدًّا فتكرهها، وكانت إذا توسلت إليها جوزفين وتضرعت تظنها تلتمس مشاهدة حبيبها فتزداد كرهًا لها؛ ولذلك كانت قاسية عليها جدًّا، فإذا أكثرت جوزفين من التضرع والتوسل حرمتها الحارسة من الخروج إلى البلكون.
وقد حارت المسكينة جوزفين في كيف تسترضي حارستها أو تُفهمها مطلوبها؛ فتارة كانت تكتب لها بعض مقاصدها بالفرنسية وتومئ إليها أن تلتمس من شخص آخر أن يترجم لها تلك الكتابة، فتعرض الحارسة الورقة على سنتورلي فيخبرها ما يشاء، وإذ تكرر هذا الأمر بضع مرات، وخشي سنتورلي سوء عاقبته أمر الحارسة أن لا تقبل منها ورقًا البتة؛ لأنه هو يستفهم منها حاجتها متى اجتمع بها.
وأما الغرض الذي كان يرمي إليه الأمير عاصم وسنتورلي من إبقاء جوزفين جاهلة سبب سجنها، والأشخاص الذين قضوا عليها بهذا الشقاء، ومن احتجاب سنتورلي عنها لأنها تعرفه، الغرض من هذا كله هو أنهما كانا يحسبان حساب إطلاق جوزفين من هذا السجن، أو إفلاتها منه لسبب من الأسباب، فإذا خرجت وهي لا تدري أين كانت سجينة ومن سَجَنها بقي جرمهما مكتومًا، وهذا منتهى التحوز الذي وصل إليه الكائدون، وقد أصابا في تحرزهما هذا؛ لأن سنتورلي ملَّ السهر في مراقبة جوزفين والحرص عليها في سجنها، وصار يلتمس وسيلة للتخلص منها ولو بخلاصها؛ ولذلك عقد النية على أن يطلق سبيلها إذا لم يفلح في المكيدة الأخيرة؛ لأنه خاف ألا يبقى أمرها خفيًّا على تمادي الزمان، فإذا أطلقها من سجنها بالطريقة التي أدخلها إليه فيها أَمِن انفضاح أمره؛ لأنها إلى ذلك العهد لم تكن تعرف مَن أتى بها إلى هناك ولا أين هي ولا سبب ذلك كله.
قلنا إن جوزفين المسكينة ذاقت من العذاب في ذلك السجن ألوانًا، وكانت تشتهي سُمًّا ناقعًا يقلص أعصابها ويوقف دورتها الدموية، أو نصلًا تغمده في فؤادها، بل كانت تشتهي أن ترى الشخص الآمر بسجنها لكي ترتمي عند قدميه وتتوسل إليه أن يُجهِز عليها.
ولقد حارت في سبب سجنها، فكان يخطر لها تارة أن الأمير نعيمًا كرهها وأمر بسجنها لكي يتخلص منها، ولكن لا تلبث أن تتفل على الشيطان وتستغفر ربها على هذا الظن؛ لأنها كانت تحسبه تجديفًا، وتارة كانت تظن أن شخصًا يهواها فأقصاها عن نعيم وانتظر ريثما تنساه … افتكرت أفكارًا عديدة، ولكن لم تجد فكرًا ينطبق على ضميرها وعقلها.
وفي المساء السابق لمساء القضاء عليها كانت في سريرها تقلبها الهواجس على جانبيها، وقد اتحد غم الظلام وظلام الغم بالضغط الثقيل على صدرها، فكانت ترفع الغطاء عنها؛ لأنها تشعر به ثقيلًا ثقل الجبل، ثم تتنهد حتى تكاد تدوي الغرفة من تنهدها، وبقيت كذلك حتى انتصف الليل ولم تنتصف سِنة النوم في جفنيها، فسمعت نقرًا خفيفًا على شباكها، فأعارت أذنها للشباك وأصغت جيدًا، فسمعت نقرًا متتاليًا، فهلع فؤادها فنزلت من سريرها بكل هدوء من غير أن يُسمَع لها صوت، ودنت من الشباك وأنصتت، فسمعت نقر حصى صغير على الشباك، وصوتًا خافتًا يقول: «جوزفين، جوزفين، جوزفين.» فأصغت جيدًا، والنقر والنداء متتابعان، فاضطربت في أول الأمر، ولكنها ما لبثت أن استأنست؛ لأنها أملت من تلك الصوت فرحًا، إما بقطع حبل حياتها أو بخلاصها؛ إذ أصبح الأمران سيين عندها، فوضعت يدها على مزلاج الشباك وهي تنتفض كأن مجرى كهربائيًّا قويًّا يعبر فيها، ولكنها لم تجسر أن تفتح، فقالت بصوت ضعيف بالإفرنسية: «من؟» ولكن لو كانت أذن الطارق عند شفتيها لما سمع غير تصعد أنفاسها؛ لأنها لم تستطع أن ترفع صوتها، بيد أنها توهمته في نفسها صراخًا يكاد يوقظ أهل العزبة، قالت «من؟» وأصغت فلم تسمع إلا نداء اسمها، فقالت: «من؟» أيضًا، فسكت الصوت وخافت أن يبرح من غير أن تراه، فشددت قلبها وحركت المزلاح فتحرك المصراع كله، فسمعت حينئذ الصوت يقول: «افتحي … افتحي … لا تخافي.» فاستأنست جدًّا وشددت قلبها وفتحت المصراع نصف فتح، وتطلَّعت فرأت شبحًا متسلقًا على شجرة غضة قريبة من ذلك الشباك، فذُعِرت في أول الأمر، وقالت بالإفرنسية: من أنت؟
فأجابها بالفرنسية أيضًا: أأنت جوزفين؟
فأجابت جازعة وهي تنتفض: نعم، من أنت؟
– لا تخافي، أنا مرسَل من الله مخلصًا لكِ.
– ولكن، قل لي من أنت؟
– لا تخافي يا جوزفين … لا تخافي، ثقي بي وإن لم تعرفي اسمي؛ لأني لا أقدر أن أبوح به لك، فربما تعرفينه بعدئذ.
– يالله! لقد رُعْتَني يا هذا، قل لي من أنت؟
– لا تخافي يا سيدتي، لا تخافي، اطمئني واسمعي ما أقول لك.
وكان روع جوزفين قد سكن قليلًا حينذاك، فقالت: أصادق في ما تقول؟ إني إلى الآن لا أعرف من هو صديقي ولا من هو عدوي.
– لست عدوك يا مولاتي، ولو كنت من أعدائك لما اضطررت أن أتسلق الشجرة إليك، بل كنت آتي إليك من باب سجنك.
– معقول ما تقول، وسواء كنت صديقًا أو عدوًّا فلا فرق عندي؛ لأني أنتظر الفرج من نقمة العدو كما أنتظره من نعمة الصديق، فقل يا هذا ما شأنك؟
– قبل كل شيء يجب أن تثقي بي.
– ما برهانك على صدقك لكي أثق بك؟
– مهما كنتُ أخدعك فلا أقودك إلى شقاء أعظم من شقائك الحالي، فثقي بلا برهان.
– صدقتَ؛ لأني لم أتصور شقاء أعظم من شقائي الحالي، فإن كان ثمَّة أعظم فأرني ها إني مستسلمة.
فتأفف ذلك الشبح وقال: صدقيني يا سيدتي، إني أريد كل الخير لك، فاسمعي كلامي كله وثقي به وإلا كنتِ بعد غد جثة باردة.
فذُعِرت قائلة: ويلاه! كيف ذلك؟
– أعداؤك ينصبون شَرَكًا لك وللأميرة نعمت هانم.
– من هم أعدائي؟
– لا يجوز أن تعرفيهم؛ لأن معرفتك لهم ولي تفضي إلى وضعي في أعماق السجن.
– يالله! أراكَ كتلة أسرار، ولكني أشعر باستئناس فيك، فها أنا مستسلمة إليك، فماذا تريد أن أفعل؟
– اعلمي أن طعامك غدًا يحتوي على أفيون بغية أن يصرعك، لكي تُنقَلي من هذا المكان إلى قصر الأميرة نعمت صريعة السبات، وهناك تُحقَنين تحت جلد ذراعك بسمٍّ ناقع، فلا تمضي عليك ربع ساعة حتى تفارقي الحياة الأرضية، يجري ذلك في قصر الأميرة من غير أن تعلم ولا تراك في الصباح إلا جثة في منزلها، فتضطرب بسببك حتى يطوف الشرطة قصرها ويقبضون عليها وعلى خدمها.
وكانت جوزفين تقاطعه عند كل جملة بقولها: «ويلاه ويلاه!»
– إذا لم يكن لي الأمل بالخلاص من هذا السجن إلا إلى القبر، فأفضِّل القبر عليه.
– بل تخلصين إذا طاوعتِنِي.
– ماذا تريد أن أفعل؟
– أن لا تأكلي من الطعام الذي يُقدَّم لك غدًا بعد الظهر؛ لأنه يشتمل على مقدار كبير من الأفيون يصرعك بحيث لا يبقى لك إحساس، فتموتين به نصف موت، وربما كل الموت، ولكن ليس غرض أعدائك أن تموتي هنا، وإنما يجب عليك أن تتظاهري أنك نائمة، بل أنك في سبات ثقيل لكي تُنقَلي في منتصف الليل من هذا المكان.
– أخاف أني لا أعرف أن أتقن هذا التظاهر.
– إذن كلي بعض الأكل لكي يستولي عليك النعاس، فتنامي نومًا ثقيلًا لا يؤذيك؛ لأنك إذا صُرعتِ بفعل الأفيون صرعًا شديدًا يتعذر عليَّ الهرب بك.
– إذن آكل بعض الأكل، ولكن أخاف أن يكون ما آكله يحتوي على المقدار الكافي لقتلي!
– لا تخافي؛ لأنهم لا يريدون أن تصلي إلى قصر الأميرة نعمت إلا سالمة من الموت؛ لأنهم يخافون أن يخفق سعيهم في إدخالك إلى القصر، فيضطرون إلى إرجاعك إلى هنا، ولا يوافقهم أن تكوني هنا ميتة.
– وكيف أسلم من السم الناقع الذي سيحقنونني به؟
– لقد أصبح ذلك السم الذي أعدوه لك ماء نقيًّا فلا تخافي، فإذا شعرت بألم الحقنة فلا تصرخي، بل يكفي أن تختلجي فقط، لا تمانعي ولا تستيقظي لئلا تعودي إلى هذا السجن.
– وبعد أن أُحقَن تحت الجلد؟
– يتركونك هناك وأنا أتولى أمرك.
– ولكن لماذا هذا التدارك المستصعب؟! ألا تقدر أن تأخذني من هنا؟
– أنَّى لي ذلك والشباك محدَّد كشباك السجون؟
– آتيني بمبرد فأبرد عارضة، ثم آتيني بحبل فأربطه بهذا الحديد وأتدلى.
– ليس الوقت كافيًا في هذا الليل ولم يبقَ لك هنا سواه، ثم إنه لا يوافقني أن تهربي من هنا؛ إذ لا يعرف بوجودك في هذا المكان أحد من غير أعدائك إلا أنا، فيعلمون من غير بد أني أنا الذي سرقتك وخلَّصتك، وهم يقدرون بكل سهولة أن ينتقموا مني شر نقمة.
– إذن أستسلم لك بعد استسلامي لله.
– تفعلين حسنًا.
– ولماذا تهتم بخلاصي يا سيدي؟ أتعرفني؟ ألك صلة بي أو غرض معي؟
– أعرفك معرفة سطحية جدًّا، وإنما أخلِّصك وأخلِّص الأميرة نعمت تكفيرًا عن ذنبين اجترمتهما وتبت عنهما.
– لم أفهم.
– لا يهمك أن تفهمي، بل أرجوك أن تقصري عن الأسئلة؛ لئلا تجلبي عليَّ خطرًا عظيمًا عن غير قصد منك.
– لا تخف، إني أحرص على أسرارك.
– بل أخاف؛ لأني لا أطمئن على أسراري مع سواي، ثم إن أسراري لا تفيدك شيئًا.
– ليكن ما تريد.
– إذن إلى اللقاء بعد نصف الليل القادم.
– إلى اللقاء، ليكن الله معك أيها المخلص، يا رسول الخير وملاك السلام.
ثم عادت جوزفين إلى سريرها وهي تحسب أن السعادة عادت إليها بعد جفاء طويل، وصارت تفتكر كيف تقابل نعيمًا بعد الغد، فلا تدري بأي حالة يستقبلها.
أما ذلك الشبح فنزل من الشجرة إلى أرض الحديقة، ثم تسلق الجدار وقفز عنه إلى الغيض من غير أن يشعر به أحد البتة.