لو كنتِ تعلمين
في مساء الاثنين المعهود وافى أحمد بك نظيم وكيل دائرة صدقي باشا إلى قصر الأميرة نعمت هانم، ففتح له الخدم القاعة وسأل عن الأميرة، فأبلغوها خبر قدومه، فقالت: «ما خبره؟ ما كنتُ أظنه يزورني قط!» وبقيت في غرفتها تقرأ في روايتها نحو ربع ساعة، ثم سألت: «ألم يزل موجودًا في القاعة؟» فقيل لها: «نعم.» فوافت إليه تجر أذيال العُجْب والخيلاء، فحيَّته وهو انحنى لها ثم جلست على المقعد رزينة جدًّا تثقلها الكبرياء ويستخفها الجمال البديع. وكانت كما علم القارئ واجدة على أحمد بك؛ لأنه لم يتمم رغبتها في قبول يدها وعدَّت ذلك منه إهانة، وكان بعد دخولها على القاعة سكوت هنيهة بترته بقولها: أمِن حاجة لك يا أحمد بك فأقضيها؟
– لا أرجو إلا سلامة سيدتي، فما أتيتُ لقضاء حاجات بل لزيارة، فإن كانت زيارتي في غير حينها فأعود من حيث أتيت.
– ليس من عادتي أن أكون فظة إلى حد أن أطرد زائري طردًا وإن كنت في حاجة إلى النوم؛ لأني سهرت الليل السابق كله.
– إذن ائذني لي يا سيدتي بالانصراف أستودعك الله.
وهمَّ أن ينصرف، فقالت له وهي تبحث في نفسها عن طريقة لإغاظته واحتقاره: بل تبقى ولو نصف ساعة على الأقل؛ لئلا تقول إن نعمت خشنة.
– من يستطيع أن يقول ذلك يا مولاتي، وأي خشونة منك ليست كل اللطف والرقة؟
– أشكر لك إطراءك وأرجوك أن تدعنا من هذا الموضوع.
سكتا هنيهة، ثم قالت: ما بالك ساكتًا يا أحمد بك؟ أتنتظر أن تفاتحك بالحديث سيدة؟
– كلا، وإنما لا أدري ماذا أتكلم يا سيدتي؛ لأني كيفما تكلَّمت أشعر أن كلامي في غير محله.
– لا لا، وإنما أحب أن تعلم أن كلامك معي صار يجب أن يكون محدودًا بحدود، فلا يخفى عليك أني أود أن أسترد الابتذال الذي ابتذلته لك، وأنا أظنك أرفع نفسًا مما ظهر لي منك.
– مهما تنازلتِ يا مولاتي فإني لا أجهل قدرك، على أني أشعر بأن القدر لم يجعلني مستحقًّا تنازلك …
– لا لزوم للتمادي بهذا الحديث لئلا يثور طبعي، فكفى ما ثار سخطًا وغضبًا وحنقًا على الأمير عاصم بسببك حتى أصبحنا كالعدوين، لولا ما جُبِلْنا عليه من طيب القلب.
فتلمظ أحمد بك ريقه وجعل يزدرد كلامه مخافة أن ينتشر مِن فيه شررًا حاميًا فيحرقه، وبعد سكوت هنيهة قال: ماذا تعرفين يا مولاتي الآن عن الأمير نعيم؟
– آخر رسائله لي من فينَّا منذ شهر، وبعد ذلك لم أدرِ أين هو، مسكين نعيم، ما أشد تأثير هذا الحادث عليه! مضى عام على فرار جوزفين الخائنة وهو لم يزل هائجًا غاضبًا كما كان يوم فرارها؛ لأنك تعلم أن نعيمًا أعظم المتمسكين بشرف النفس، مسكين! مسكين! إن تلك الملعونة وحدها سبب شقائه.
– أتؤكدين يا مولاتي أن تلك الفتاة كانت خائنة؟
– من غير بدٍّ، فإن نعيمًا لم يرْتَبْ قط بخط يدها، وقد قرأ رسالتها التي تعترف له فيها بخيانتها وراجعها مرارًا، وتأملها فلم يظهر له دليل على أن الخط غير خطها وأن كلامها يُفهَم بخلاف ظاهره، نعم إنه في أول الأمر أبى أن يُصَدِّق أنها خائنة لفرط حبه لها، ولكنه إذ لم يستطع أخيرًا الشك بخط يدها ولا تأويل كتابتها اقتنع بأنها خائنة، وهل تنتظر يا أحمد بك أن هؤلاء الإفرنجيات الفقيرات الوضيعات الأصل يثبتن على عهد؟! كلهن كاذبات منافقات يبتززن أموال الأغنياء ثم يخنَّهم، ولو لم يكن أخي طيب القلب جدًّا لما عاهد تلك الملعونة الخبيثة وثبت على عهده معها إلى أن فاجأته بخيانة، فهو أخلصَ لها الود وحافظ على العهد حرصًا على مبادئه الشريفة، لا لوُلوعه بها فقط.
– ولكن أما عرفتم شيئًا عن تلك المرأة؟
– لا، ولا نهتم أن نعرف، بل نحن نشكر الله أن أخي تخلص منها من غير أن ينقض عهده معها، ولو بقي مرتبطًا بها لظل مُبغَضًا من جميع أفراد الأسرة؛ لأنهم استنكروا أنَّ نابغتهم يكون معصومًا بعصمة الزواج من غريبة وضيعة الأهل دنيئة النسب، ولا سيما لأن وصية أبيه كانت على الضد من ذلك.
– ولكن لو ظهرت هذه الفتاة وثبت أنها غير خائنة …
– عجيب! كيف يثبت ذلك وهي أقرَّت من نفسها؟! وهَبْ أنها بريئة فكيف تثبت براءتها؟ ومن يصدقها؟ وهب أنها صدقت فهل نعود فنقرِّب إلينا امرأة كانت سببًا لجعل أخي مضغة في الأفواه؟ من لم يعلم بأمر هذه الفتاة وعلاقة أخي بها؟ وأنت تعلم أن الناس يقدِّرون الحادثة بقدر أشخاصها، فلو حصلت حادثة أخي مع غيره من العامة لما عرف بها أحد، بل كم يحدث كل يوم كحادثة أخي وأغرب فلا يُعرَف عنها شيء!
– ولكن ألا تظنين أن الأمير نعيمًا إذا صادف الفتاة في أوروبا وأثبتت له براءتها يغفر لها؟
– عجيب يا أحمد بك! ما بالك تحدثني ببراءة هذه الفتاة كأنك مقتنع أنها بريئة أو تعرف أنها بريئة؟!
فامتقع لون أحمد بك واستدرك قائلًا: كلا، وإنما فرضت أنها كذلك لأعلم كم مبلغ السخط عليها.
– إنه لشديد، وأنا أؤكد لك أن أخي لو صادفها لا يمهلها إلى أن تلفق له الأعذار، بل يعاجلها في الحال بضربة قاضية؛ لأنه بقدر ما كان يحبها أصبح يشتهي الانتقام منها، بل أؤكد لك أن أخي لا يُفرَّج همه ولا يزول غمه إلا إذا انتقم منها، فليته يلتقي بها.
– ولكن لماذا يكترث بها وهي أصبحت نفاية؟!
– لا يستطيع أن يسلوها؛ لأنه عُنِيَ بها جدًّا في أيام حبه لها، فلا يطمئن له بال إلا إذا عُنِيَ في انتقامه منها بمقدار عنايته بها لعهد حبهما، وما غلطَ أخي الآن وإنما غلطَ في السابق، غلطُهُ في إيثاق عهده معها، وقد أوشكتُ أنا أن أغلط نفس غلطته ولكني نجوت والحمد لله منها.
فاغتاظ أحمد بك من هذه الوخزة الأليمة التي وخزته بها الأميرة وقال: مولاتي، أحتمل منك كل شيء إلا ما يمس نفسي الكبيرة، نعم إنك أرقى مني حسبًا ونسبًا ومقامًا في الهيئة الاجتماعية، وأما في شرف النفس وشرف المبدأ وشرف الكلمة فلا أظنك تبلغين مبلغي.
– أراك تتطاول يا أحمد بك وأنت وضيع جدًّا.
– لستُ وضيعًا البتة.
– بل وضيع، وأنت نفسك أقررت بضعتك يوم جئتَ أغالطك وأبرهن لك أنك رفيع المقام، فكذَّبت قولي وجاهدت الجهاد الحسن في إثبات ضعتك.
– إنك تهينينني جدًّا يا حضرة الأميرة.
– كلا، بل أضعك في مقامك الوضيع الذي أبيتَ الصعود منه.
– قلت لك إنك تهينينني يا نعمت!
– لا تكلم مولاتك هكذا!
– نعم، أنت مولاتي بمعنى، وربما أكون مولاك بمعنى آخر.
فاستشاطت الأميرة قائلة: لقد تجاوزت قحتك الحد! فالأفضل أن تنصرف.
– لم آتِ إليك إلا إشفاقًا عليك وغيرة على سمعتك يا حضرة الأميرة، فلا تطرديني طردًا.
– أراك تهذي، فهل جننت؟
– بل أنا عاقل، وستبرهن لك الأيام عقلي وارتفاع منزلتي وشرف نفسي.
– أفٍّ … لم أعد أطيق هذا الغرور الباطل الثقيل.
ثم نهضت وقالت: إذا شئت مقابلتي في حين آخر لشغل، فانتظرني في غرفة المفاوضة.
ثم تركته وانصرفت إلى مخدعها متغيظة متشفية بعض التشفي، فإنها كانت تنتهز كل فرصة لإغاظته وإهانته واحتقاره انتقامًا منه.
وكانت قد تجاوزت الساعة العاشرة، وأكثر خدم القصر نيام إلا وصيفة الأميرة، فخرج أحمد بك من القاعة ومشى في رواق القصر والأميرة تسمع وقع أقدامه إلى أن نزل من الطبقة العليا، ولما صار في الطبقة الوسطى حيث يقيم الخدم دخل إلى خزانة منحرفة قرب رأس الدرج الذي ينزل منه إلى بوابة القصر ومكث هناك.
وما بلغت الساعة الحادية عشرة ونصف حتى سمع قرعًا على بوابة القصر، فأصغى فسمع بربريًّا يقول للبوَّاب: اقفل بوابتك واتبعني إلى قصر الأمير عاصم؛ لأن ابنك يتقيأ والأمير يُعنَى به، لا تزعج أهل القصر هنا بعويلك، ليس الأمر خطيرًا. وما هي هنيهة حتى أُقفِلت البوابة وأُوصِدت، ونسي البواب أن زائرًا لم يزل في القصر؛ لأن قلقه على ابنه أنساه كل شيء، وما انتصف الليل حتى كان الأمير عاصم لدى البوابة يفتحها وسنتورلي يُنزل جوزفين من المركبة، وكان الليل دامسًا وما حول القصر خاليًا، وفي أقل من لحظة كان يحمل جوزفين إلى الممشى الأسفل حتى وصل بها إلى آخره، فألقاها هناك، وفي الحال وخز جلدها بالحقنة المعلومة وانصرفا، وأقفل الأمير عاصم البوابة وعاد فردَّ المفاتيح إلى البواب كما أخذها منه من غير أن يشعر؛ لأن البوَّاب لما وصل إلى ابنه وجده صريعًا من شدة ما أزعجه التقيؤ، فخلع رداءه الخارجي وجعل يعالج ابنه، وكانت المفاتيح في الرداء، فأخذها الأمير عاصم منه وردها من غير أن يلاحظه أحد من الخدم المنهمكين في معالجة الغلام.