مديونة له بحياتها
أما جوزفين فلما أنهضها سنتورلي من سريرها كانت صريعة الأفيون كما انتظرت، ولكن بما أنها كانت عالمة بذلك من قبلُ شعرت جيدًا بذراعين تحضنانها وترفعانها عن سريرها في حلك الليل، على أنها استسلمت وفعلُ الأفيون ساعدها على الاستسلام، فنزل بها من غرفتها ووضعها في مركبة مقفلة وعدا بها، وكانت في المركبة نصف نائمة؛ لأن الخوف قاوم فعل الأفيون، ولكنها كانت كالمصروعة حين حملها إلى ممشى قصر الأميرة نعمت، ولما وخز سنتورلي ذراعها بإبرة الحقنة اختلجت وقلبها خفق جدًّا؛ لأنها خافت أن يكون السائل الذي حقنها به مسمومًا، ولكنها استسلمت، وقد زاد الخوف تنبهها حتى تغلَّب على فعل الأفيون، فما إن خرج سنتورلي وأوصد البوابة حتى جلست وجعلت تجسُّ نفسها كأنها لم تصدِّق أنها حية، وعند ذلك سمعت وقع أقدام ضعيفًا جدًّا، فالتفتت إلى جهة الصوت فسمعت من يقول: «جوزفين!» فقالت: «نعم، أنا هي، أنا هنا.» وعند ذلك تبيَّنَت القادم فعرفت أنه الشبح الذي خاطبها أول أمس عند الشجرة، ولكنها لم تعرف أنه أحمد بك؛ لأن معرفتها الشخصية به كانت ضعيفة جدًّا؛ إذ لم ترَهُ غير مرة حين كان يزور الأمير نعيمًا لشغل، فلم تحفظ صورته في مخيلتها، أما سنتورلي فكانت تعرفه؛ لأنه كان يراها أكثر من أحمد بك، ومع ذلك لم تعرفه حين نقلها؛ لأنها لم ترَهُ في النور، ولا سيما لأن الأفيون قد خبلها وأضاع صوابها.
ولما دنا منها أحمد بك أمسك بيدها، وقال بالإفرنسية: لقد نجوتِ …
– أكيد؟! أخاف أن تكون الحقنة سامة!
– لا تخافي، اطمئني، لم تُحقَني إلا بالماء البسيط، هاتي يدك ولا تبطئي في مماشاتي، أسرعي ما تستطيعين.
ولما وصلا إلى البوابة حلَّ أحمد بك المزلاج وفتحها وخرجا ثم أقفلها، وسار بجوزفين في ذلك الحلك وهي تستند إلى ذراعه إلى أن التقيا بمركبة للأجرة فركبا فيها، وأوعز أحمد بك إلى الحوذي، فجرى بهما إلى منزل حقير في حارة اﻟ …
ودخلا إلى المنزل ولم يكن فيه إلا عجوز شمطاء، فخرجت إلى غرفة أخرى حين دخلاه، ولما استقرَّت جوزفين في المقعد فتحت عينيها جيدًا، وقالت: أرى النور ضئيلًا … ألعل الحقنة سامة؟! إني خائفة جدًّا، ويلاه!
– النور ضئيل كما تقولين، ولكن ما تشعرين به من الخبل إنما هو فعل الأفيون، فتشدَّدي.
– أين نحن الآن؟
– نحن الآن في محلٍّ أمين بعيد عن أعدائك.
– متى أرى الأمير؟ هل يأتي إلى هنا؟
– ليس الأمير في مصر، فلا تنتظري أن تريه.
فاعتدلت في مكانها وأحدقت فيه قائلة: أين هو؟
– في أوروبا.
– أما أمر شيئًا بشأني؟
– أتظنين أن الأمير كان يعرف مقرك وأنه سعى بتخليصك؟
– من سعى غيره؟
– أتنتظرين أنه يلتفت إليك بعد رسالتك له؟
– ويلاه! أناقم عليَّ؟
– من غير بد.
فصرخت مولولة وهي تقول: ويلي! إني بريئة يا سيدي، إني مظلومة، أما عرف أني كنت سجينة، وقد أُكرهت على كتابة تلك الرسالة المشئومة له؟
– كلا، لم يعرف إلا ما كتبتِهِ له في تلك الرسالة.
– يا ويلاه! ألم تخبره أنت؟ وجعلتْ تبكي كالأطفال.
– لا تولولي يا سيدتي، خففي عنكِ.
– إني وحقك بريئة! ألم تعرف أنت حقيقة سجني وسبب الرسالة؟ فاسمع لأقص عليك ما جرى لي.
– لا أكلفك أن تحكي لي حكايتك، فإني أعرفها أكثر مما تعرفينها، بل إني أعرف كثيرًا مما لا تعرفينه.
– إذن تعرف سبب سجني وأعدائي؟
– نعم، أعرف كل شيء جيدًا.
– أفما أخبرت الأمير نعيمًا به؟
– كلا، لا أقدر أن أخبر أحدًا.
– لماذا؟ ألا تخبرني أنا؟
– أما قلتُ لك أمس إن ذلك سر وإفشاؤه يهوي بي إلى أعماق السجن؟! فأرجو منك أن تعذريني.
– بالله! قل لي من أنت؟
– وهذا سر أيضًا لا أقدر أن أبوح به لك، فإن معرفتك إياي قد تفضي إلى نفس تلك النتيجة.
– يا ويلي! ألا أدري شيئًا من هذه الأسرار التي تحفُّ بي؟
– الأفضل أن تقنعي بخلاص حياتك.
– كيف أقدر أن أشكرك وأكافئك؟
ثم ارتمت على قدميه تريد أن تقبِّلهما كأن فعل الأفيون ابتدأ أن يضمحل، فأنهضها وأجلسها قائلًا: عفوك يا حضرة الأميرة جوزفين، لم أفعل إلا ما وجب عليَّ، وما فعلته هو جزء من الكفارة عن ذنبي.
– ألا تقول لي لماذا أنقذتني؟
– أرجو منك يا مولاتي ألا تستفهمي مني عن شيء، فإني لا أقدر أن أخبرك أمرًا.
– ونعيم، أين أجده؟
– الأفضل ألا تبحثي عنه.
– ويلاه! لماذا؟
– لأنه ناقم عليك.
– أبرر نفسي أمامه.
– كيف؟
ففكرت هنيهة، وقالت: أقص له حكايتي بحروفها وهو يصدقني.
– ولكنه صدَّق رسالتك التي بخط يدك، فهل يعود فيكذِّبها الآن؟
– يصدِّقني كما صدق رسالتي.
– ولكن رسالتك شكوى نفسك على نفسك، وهذه لا تحتاج إلى بيِّنات وشهود؛ لأنها إقرار، وأما تبرئتك لنفسك فتحتاج إلى براهين.
– طبيعة قصتي مؤيدة نفسها.
– ولكنك لا تعرفين من قصتك شيئًا يستحق الاعتبار، وما تعرفينه منها غير معقول؛ لأنك لا تعرفين من خطفك، ومن سجنك، ولماذا سجنك، وأين سجنك!
ففكرت جوزفين هنيهة وقالت: ويلاه! أيحكم عليَّ وأنا بريئة؟
– كذا قضت الأقدار يا مولاتي، فكم عوقب الأبرياء وبرئ المذنبون!
– ولكنك أنت شاهدي الصادق فتقدر أن تبررني.
– أراك تنسين سريعًا، أما قلتُ لك أني لا أقدر أن أذكر لأحد شيئًا مما يخصك، فأنا منذ الآن لم أعد أعرفك ولا أعرف عنك أمرًا، وبعدما أفارقك لا تجدينني، فالأفضل أن تدعيني بعيدًا عن أمورك، إلا إذا شئتِ أن تضحي بي على مذبح مصلحتك.
– معاذ الله يا سيدي! بل إني أضحي بكل شيء لأجلك، إلا إخلاصي وأمانتي لنعيم.
– هذه محفوظة لك، بل بالأحرى إني أضحي نفسي لأجل الحرص على أمانتك.
– والآن ماذا أفعل؟
– صرتِ حرة يا مولاتي، تفعلين ما تريدين؛ لأن مهمتي قد انتهت، وإنما أنصح لك ألا تظهري في القُطر المصري؛ لأن أعداءك أقوياء جدًّا، وإذا عثروا عليك لا تسلم روحك من أيديهم.
– ألجأ إلى الأميرة نعمت هانم.
– صارت هي وكل أعضاء الأسرة ألد أعدائك، فأرجو منك ألا تتعرضي لأحد منهم.
– ويلاه! أهم أعدائي الذين قضوا بسجني وعذابي؟
– كلا، وإنما هم أصبحوا أعداءك بعد سجنك وإرسال الرسالة التي لا أشك أنكِ أُرغمت على كتابتها.
– إذن تعلم أني مظلومة، أفليس من يكشف ظلامتي؟
– نعم، إنك مظلومة بالحقيقة، ولكن الجمهور يعتقدون أنك خائنة ولا يستطيع أحد أن يبررك غير الله وحده، فاصبري لعل الله أعد لك فرجًا قريبًا أو بعيدًا.
ففكرت جوزفين بضع دقائق ثم قالت: إذن ينبذني الكل حتى نعيم!
– بكل أسف أقول لك نعم.
– يا ويلي! ماذا أفعل؟ وكيف أختبئ من وجه أعدائي؟
– أنصح لك يا مولاتي أن تسافري في هذا الصباح إلى أوروبا، وها خمسون جنيهًا نفقات سفرك والأشهر الأولى من حياتك الجديدة، وبعدئذ يدبرك الله، ولا بد أن يكون لك أهل فتلتجئين إليهم.
– كثَّر الله خيرك يا سيدي، حتى متى تغمرني بفضلك؟
– إني أوفِّي ما عليَّ، بل أكفِّر عن ذنوبي يا سيدتي فلا أستحق شكرًا، وهاكِ أيضًا جواز سفر باسم امرأة نمساوية تقاربك في السن، فسافري في أول باخرة باسم «إدما نياشت».
– إذن أنت قد قررت أمر سفري …؟
– نعم، قررته كما قررت تخليصك؛ لأني رأيته لازمًا.
– لقد أصبت، فإني أسافر من وجه أعدائي، وأسعى لأن أرى الأمير نعيمًا، فإن عداوته لي أسهل عليَّ من مصالحة أقاربه، وغضبه أهيأ لي من رضاهم، فأين تظنه الآن؟
– أظنه في باريس؛ لأنه يحب الإقامة فيها، وعساه يقتنع ببراءتك ويَقْبَلك.
– كذا أؤمل، بل أقنعُ أن يَقْبَلني كإحدى خادماته.
– إذن تنامين هنا حتى الصباح، ومتى اتضح النهار تركبين مركبة إلى المحطة وتسافرين إلى الإسكندرية، وثم تنزلين في أول باخرة تبحر إلى أوروبا، ولا تخافي؛ لأنه لا يعرفك أحد، وإنما يجب أن تذكري أن اسمك الآن «إدما نياشت».
– أشكر فضلك العميم، بماذا أكافئك؟
– لا أتوقع منك شيئًا.
– والنقود التي أقرضتنيها، كيف أردها؟
– لا أرجو أن ترديها.
– رباه! ما هذا اللطف؟! بل الفضل الذي تسبغه عليَّ، ربما عدتُ موسرة، فكيف أوفيك بعض فضلك؟
– أقنعُ منك بكتابة اسمك على هذه البطاقة.
جوزفين صدقي مديونة لصاحب هذه البطاقة بحياتها.
بقي أن أرجو منك ألا تذكري شيئًا لصاحبة هذا البيت عن أمرك، بل لا تكلميها شيئًا؛ لأنها موصاة ألا تكلمك بشيء.
– ليكن كما تقول.
ثم نهض أحمد بك يريد الانصراف، فأمسكت جوزفين يده لتقبِّلها، فاختطفها من كفَّيها وقال: ليكن الله معك. من يدري إن كنت أراك بعد؟ ليتني أقدر أن أعطيك عنواني لتكتبي لي إذا احتجت إلى مساعدتي المالية، أو سواها مما أقدر عليه.
– إني ممتنة لك كل عمري.