جزاء سنمار
ما ارتفعت الشمس فوق الأفق قامتين حتى كان الشرطة يحيطون بقصر الأميرة نعمت هانم، وبعض رجال القنصلية النمساوية يراقبون عملهم، ثم دخل المأمور وبعض الشرطة إلى القصر وقبضوا في الحال على الخدم وحجروا عليهم جميعًا في غرفة واحدة، وعند ذلك شعرت الأميرة نعمت بضوضاء وجلبة وأصوات، فنادت فلم تسمع صوت مجيب، فخرجت من غرفتها لترى ما الخبر، فالتقت بالمأمور فسألت: ما الخبر؟
– بأمر الحكومة أفتش قصرك يا مولاتي.
– عمَّ تفتش؟
– عن جثة امرأة مسمَّمة.
فارتعدت الأميرة لهذا الكلام، وقالت: يالله! ماذا تقول؟
– أقول إن رسالة مجهولة الإمضاء وردت إلى القنصلية النمساوية تبلغها أن امرأة نمساوية تُدعَى جوزفين محظية الأمير نعيم مسممة في قصر الأميرة نعمت هانم، فأبلغت القنصلية المحافظة فأرسلت عددًا من الشرطة للتفتيش.
– لا أكاد أفهم ما تقول؛ لأن جوزفين التي تذكرها ليست في القطر المصري، بل هي مع عشيقها في أوروبا كما كتبت لنا بخط يدها، ولا علم لي بشيء مما ذكرت.
– على أني أفتش على كل حال؛ لأني مأمور بالتفتيش.
– ولكن يشق عليَّ جدًّا أن أرى شرطة تفتش قصري كأني متهمة بجناية.
– ولكن التفتيش يؤيد براءتك يا مولاتي، فاسمحي به عن طيب خاطر؛ إذ لا مناص منه.
– فتِّش فتِّش، لا بأس، فقد نفذ المقدر بإلباسي هذا العار.
وكانت ترتجف من شدة الغيظ كأن مجرًى كهربائيًّا قويًّا جدًّا يجري في أسلاك أعصابها، فجعل المأمور يفتح غرفة بعد الأخرى ويبحث في كل جهة فيها، وبقي نحو ساعة يطوف غرف القصر كلها، حتى إنه لم يدع مقاس قدم إلا وفتَّشه فلم يجد شيئًا، ثم نزل وفتش خزانات القصر السفلى واحدة واحدة، وقلب الأمتعة والأوعية ونظر السقوف، ثم طاف في الحديقة فلم يجد أثرًا لدفن البتة، فعاد مقتنعًا تمام الاقتناع أن القصر خالٍ من جثة ميت، وما كان الظهر حتى عاد الشرطة بخفي حنين.
أما الأميرة نعمت فكانت تتلظى غيظًا من جراء ذلك، وبعد أوبة الشرطة جلست في غرفتها، وجعلت تفتكر في سبب هذه الوشاية الكاذبة، وفي من هو الواشي، فحارت ولم يترجَّح لها إلا أن أحمد بك نظيم هو الواشي نكاية فيها؛ لإهانتها له في المساء السابق، وكان هذا الفكر ينمو ويقوى عندها إذ لم يخطر لها سواه، وأخيرًا أقنعت نفسها بأنه هو الحقيقة بعينها، فأرسلت رسولًا واستدعت أحمد بك فحضر في الحال، وكان قد حزر من نفسه سبب هذه الدعوة؛ لأنه كان عالمًا بأمر دسيسة سنتورلي والأمير عاصم كما هي، فظن أن الأميرة قد استدعته لتكلفه أن يبحث لها عن الواشي وسبب الوشاية، فلم يخطر له أنها تتهمه بها.
فلما وصل وجد الأميرة نعمت منقلبة الشكل من شدة الغضب والغيظ، حتى إنه لا يكاد يعرفها من يراها من معارفها، فابتسم أحمد بك قائلًا: ما بال مولاتي غضبى؟
– أظنك تعرف السبب.
– أأنا هو؟
– كما تقول.
فاكفهر وجهه، وقال: كيف ذلك يا سيدتي؟
– أَلِأجل هذه الدناءة الفظيعة كنت تحدثني أمس عن براءة جوزفين الخائنة؟
– أي دناءة يا مولاتي؟ إلى الآن لا أفهم ما تقولين!
– لا أنتظر منك الإقرار بجريمتك.
– أي جريمة؟! إنك تسيئين إليَّ جدًّا يا سيدتي.
– بلاغك الكاذب الذي تستحق العقاب عليه.
– أي بلاغ هذا يا سيدتي؟! أفصحي، فإني لا أطيق الألغاز.
– من سواك أبلغ قنصلية النمسا أن جوزفين مسمومة عندي حتى أتى الشرطة اليوم وفتشوا منزلي؟ هل سمعت بإهانة لحقت بأحد أفراد الأسرة كهذه الإهانة؟
– كلا، لم أسمع! ويعز عليَّ أن أسمع يا مولاتي، وإنما كيف عرفتِ أني أنا أتيت هذه الدناءة، ووشيت هذه الوشاية الكاذبة؟
– لا أحد سواكَ اهتمَّ بأمر تلك الخائنة، فخطر لي أن ما جرى لي اليوم إنما هو نتيجة ما جرى لك أمس عندي وما صادفتَه من الإهانة، وقد افتكرت طويلًا فلم يبدُ لي تعليل غير هذا التعليل.
– إن ما يخطر لك ليس وحيًا يا مولاتي، وبالتالي لا يعدُّ برهانًا.
– بل هو برهان؛ إذ لا أنتظر هذا الانتقام من سواك.
– إذن تشعرين بأنك اسأتِ إليَّ جدًّا حتى إنك تنتظرين مني انتقامًا؟
– نعم؛ أسأتُ لك، ولكنك تستحق إساءتي؛ ولهذا لا أشك أنك تبتغي أن تنتقم مني.
– نعم، يجب عليَّ الانتقام، ولكني لم أنتقم، ولا أنتقم، ولن أنتقم، إلا بالفعل الحسن.
– لم يبقَ عندي شك بأن سبب هذه الوشاية أنت، وحسبي أن تقرَّ بوجوب انتقامك.
– لا تعلمين ما في الخفاء يا سيدتي؛ ولهذا لا تحكمي بحسب ما يتراءى لكِ …
– لا تتفلسف كثيرًا، ما أتيت لأعاتبك، بل لأستنطقك. ثم نهضت تريد الخروج.
– إذن تعتقدين تمام الاعتقاد أني أنا الواشي؟
– لا شك عندي بذلك، ولسوف تُعاقَب على بلاغك الكاذب.
فضحك أحمد بك ضحكة الهازئ، وقال: حققي يا مولاتي، حققي، لعلك إذا عرفتِ الحقيقة تثيبينني لا تعاقبيني.
– اخسأ يا وقح، علامَ أثيبك؟ أعلى خبثك؟ سترى.
ثم خرجتْ وهي تنتفض من الغيظ، وخرج أحمد بك بعدها، وفي الحال لبست ملابسها وركبت مركبتها وقصدت توًّا إلى القنصلية النمساوية، وسألت هناك عن الرسالة التي تضمَّنت الوشاية بها فقيل إنها في المحافظة، فانطلقت إلى المحافظة وطلبت أن ترى الرسالة، فرأتها وأنعمت النظر فيها جيدًا فاشتبهت بخطها؛ لأنها توهَّمته يقارب خط أحمد بك بعض المقاربة، فعادت إلى البيت ورفعت قضية ضده تتهمه بتهمة البلاغ الكاذب.
ولكي لا نطيل على القارئ الكلام، نقول إن النيابة حققت القضية جيدًا وقابلت خط الرسالة بخط أحمد بك فلم تثبت عليه التهمة فبُرِّئ.
وكان بعد ذلك أن الأميرة نعمت عزلت أحمد بك من وكالة أملاكها وأملاك أخيها، وإنما بقي وكيلًا لأملاك الأمير عاصم، وهو لم يبقَ لذلك العهد وكيلًا على أملاك الأسرة كلها، إلا لأنه كان غيورًا جدًّا على ذلك البيت، ولم يوجد أصلح منه لهذه الوكالة، ولأنه كان الخبير الوحيد بجميع أملاك الدائرة؛ ولهذا اضطروا أن يستبقوه بالرغم عن استعفائه مرارًا؛ لأنه كان غنيًّا عن هذه الخدمة.