أما سألت عني؟
لا بد أن يدرك القارئ من نفسه كيف كانت حالة الأمير نعيم حين غادر القطر المصري هائمًا على وجهه من شدة الحزن والغم والغيظ. لم يقتنع في أول الأمر أن جوزفين قد خانته لما كان بينه وبينها من الحب العجيب والولاء الثابت والإخلاص النقي، ولكنه لم يستطع أن يئوِّل رسالتها وغيابها تأويلًا يقبله العقل. وكان أقاربه يقنعونه أنها خانته، وأن مثل هؤلاء الفتيات خادعات ماكرات، وذكروا له شواهد عديدة عن مكرهن، وقصُّوا عليه حكايات مختلفة جرت لأشخاص معروفين مع أمثال جوزفين، وأقنعوه أنه لطيبة قلبه جازت عليه حِيَل جوزفين في حبها له واستيلائها على قلبه وثم على قصره وماله.
ولما تواترت أقوالهم بأنها خائنة لم يعد في وسع نعيم إلا أن يسلِّم بأنها خائنة، وبالتدريج انقلب كل غرامه بها إلى انتقام حادٍّ، حتى إنه لم يعد يستطيع البقاء في القطر المصري ملتحفًا بعار خيانتها، فبرح إلى أوروبا أولًا لكي يروِّح نفسه من عناء هذه الأزمة، وثانيًا لكي يعد نقمة لجوزفين تليق بصفاته وأخلاقه الطيبة.
فيرى القارئ الكريم أن مشروع الأمير عاصم نجح نصفه الأول؛ أي تفريق جوزفين عن الأمير نعيم، وأخفق نصفه الثاني؛ أي تقريب أخته الأميرة بهجت إلى الأمير نعيم، بل بالحري ازداد تنائيًا؛ لأن الأمير نعيمًا التهى عن كل الناس بأحزانه وغمومه التي لم يكن الأمير عاصم لينظر بلوغها هذا المبلغ، وقد علم القارئ أنه أخفق أيضًا في امتلاك فؤاد الأميرة نعمت وقطع الأمل من الحصول على يدها؛ ولذلك صمَّم على إفراغ جعبة نقمائه الخفية من نعيم ونعمت. وقد عرف القارئ كيف أن أحمد بك ردَّ سيف نقمته عن الأميرة نعمت وجوزفين في وقت واحد.
وقد تنقَّل الأمير نعيم بين مدن أوروبا بغية أن يُسرَّى عنه، فلم يكن إلا ليزداد غمًّا ولوعة؛ لأن غيظه كان مقرونًا بالحزن، ووجده على جوزفين مشفوعًا بالغيرة، ولأنه ما زال لذلك العهد يحبها بعض الحب، ولكن نفسه الأبية تنكر عليه أن يُصفح عنها.
وفي ذات يوم وهو في باريس وردت إليه بطاقة زيارة باسم جوزفين؛ إذ كان نازلًا في فندق رويال، فلما وقع نظره على البطاقة جعل بدنه يرتعش وقلبه يختبط في صدره وصعد الدم إلى رأسه حتى اعتراه صداع شديد، فحار ماذا يعمل، فخاف أن ينزل إليها ويبتدرها بضربة قاضية، وافتكر أن يستقبلها في غرفته لكي يؤنبها ويهينها، فخاف أيضًا أن لا يتمالك نفسه ويضربها.
فقال لخادم الفندق: قل للسيدة صاحبة هذه البطاقة أن تختفي من أمام وجهي لئلا تضطرني إلى ارتكاب جناية، وما خلصها من نقمتي الهائلة إلا وجودي في بلاد غريبة لا نفوذ لي فيها.
والذي يسمع هذا الكلام يتوهم أن الأمير نعيمًا رجل سفَّاك دماء وعدة شر، ولكن الذي حنَّكته الأيام يعلم أن كثيرين من الناس يقولون ولكنهم عند الجد لا يفعلون، ولا سيما طيبو القلب؛ فإنهم في عزلتهم وخلوتهم يستشيطون متغيظين ويحرقون الأرم غاضبين، ولكنهم متى قابلوا خصومهم بشُّوا لهم؛ لأن قلوبهم توحي إليهم أن المسألة أفضل.
وقد كان الأمير نعيم من هذه الفئة، ومع ذلك كان غضبه — بل وجده وغيرته — أشد من أن يقبل التسامح، فلما بلغ إلى جوزفين كلامه وهي في بوابة الفندق ارتجَّ فؤادها، وشعرت كأنه سقط من بين جنبيها ووقعت في مكانها، فأنهضها الخادم وأجلسها على كرسي، وقال: خففي عنك يا سيدتي، لعل هذه الساعة ساعة بؤس عند الأمير، فالتمسيه في ساعة رضًى.
وقد توسم الخادم من ملامح جوزفين أنها مظلومة، فرثى لها وطيَّب خاطرها، ولما انتعشت ركبت مركبة ويممت فندق إيطاليا حيث كانت نازلة.
عن فندق إيطاليا نمرة ٦
مولاي
أنت الحاكم وأنت الحكم، فأذن لعبدتك أن تمثُلَ لديك لتسمع دفاعها عن نفسها، وثم لك أن تحاكمها كما تشاء وتحكم عليها بما تشاء.
فتأمل الأمير نعيم هذه الرسالة، واستوقفته هذه العبارة: «لتسمع دفاعها عن نفسها.» وقال في نفسه: إن التي قدرت أن تخدعني بضع سنين لا تعجز عن إتقان الدفاع وتمويه الحقيقة عليَّ، ثم طوى الرسالة ووضعها في ظرف عنونه باسم جوزفين ورماه في صندوق البريد.
وكان في اليوم التالي أشد تغيظًا من كل الأيام؛ لأن الغيرة «كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله.» فكانت غيرته تتقاوى وتتعاظم حتى صارت لهيبًا جهنميًّا، فقضى ذلك النهار طائفًا بين الحانات، ولما عاد عند المساء إلى الفندق كان يتوقع خبرًا من جوزفين، فصدق ظنه إذ وجد رسالة منها عرفها من خط عنوانها، فلم يفضَّها، بل شطب عنوانه الذي عليها وعنونها باسم جوزفين ورماها في صندوق البريد، وهو يحسب أن هذه الطريقة تغيظ جوزفين وتنكيها وتروي غلَّه.
وكانت هذه الرسالة تشتمل على تفصيل حكاية جوزفين وما جرى لها، منذ قبلت دعوة مدام ببيني إلى أن وصلت إلى باريس، فلما عادت الرسالة إليها غير مفضوضة اقتنعت أن الأمير نعيمًا يرفض أقل صلة بها رفضًا باتًّا، ويئست من الوصول إليه لكي تبسط ظلامتها له، وانزوت في غرفتها تنحب وتطلب الفرج من الله وحده.
أما الأمير نعيم فقضى اليوم التالي كاليوم الغابر بين الحانات، وهو قلق القلب والجسم والضمير، وكان ينتظر أنه متى عاد إلى الفندق في المساء يرى جوزفين عند الباب فتتواقع على قدميه، وجعل يفكر في كيف يتصرف معها متى رآها على هذه الحال، وصمم على أن يخطف قدمه من بين يديها ويمضي تافلًا عليها ويختلي في غرفته ولا يفتح لها الباب مهما قرعت، وكان يتطوَّح في مثل هذه التصورات فينشرح صدره لها.
ولما كان المساء جاء إلى الفندق وشغل نفسه بالكلام الفارغ مع البواب آملًا أن تشعر جوزفين بقدومه فتخرج إليه من القاعة التي إلى جنب الباب، فلم يخرج أحد كما انتظر، فسأل البواب: أما أتت سيدة سألت عني اليوم؟
– أتت سيدات كثيرات، فلا أدري إن كانت إحداهن قد سألت عنكم.
فدخل الأمير نعيم إلى الفندق واجتاز في مماشيه إلى أن وصل إلى القاعة الكبرى، وأطل إليها بدعوى أنه يبحث عن صديق، فلم يجد جوزفين بين الجلوس، فتقدم إلى غرفته وفحص بريده رسالة رسالة فلم يجد فيه واحدة من جوزفين، فاشتعل قلبه غيرة فعاد من غرفته وقصد إلى الخدم يسألهم واحدًا واحدًا: «أما سألت عني سيدة اليوم؟» فكان جواب الكل: «لا».
قضى الأمير نعيم ذلك المساء حائرًا متلهبًا بنار الغيرة والوجد، وفكر طويلًا في الطرق الموافقة لاجتماعه بجوزفين وإحراق قلبها بنار احتقاره، فافتكر أن يقصد إليها في فندق إيطاليا، ولكن عاد ورأى أن هذه الفكرة من أسخف الفِكَر؛ لأنه إذا كان قد رفض مقابلتها في فندقه، أفيسعى إلى مقابلتها في فندقها؟ فآثر أخيرًا أن يطوف الحانات والملاهي في ذلك الليل لعله يعثر عليها اتفاقًا، ولكن فأله هذا خاب أيضًا؛ لأن جوزفين أبت أن تبرح غرفتها حزينة يائسة، وفي آخر هزيع من الليل عاد إلى غرفته كئيبًا حزينًا، وما نام ساعتين أو ثلاثًا حتى شق الفجر حجاب الظلام، وأيقظته ضوضاء حركة العمران، فنهض من سريره وطلب فطورًا وأَكَلَ، وبقي ينتظر تارة قدوم جوزفين إليه وأخرى البريد، إلى أن وافى بريد الصباح فلم يجد فيه حرفًا منها، فهاج خلقه، ولكنه بقي آملًا أن تقدم إليه قبل الظهر، فجعل يلاهي نفسه حتى الساعة الحادية عشرة فخاب فأله.
وكان يفكر في قدومها إليه أول مرة، وفي جوابه لها، فشعر أن الكلام الذي أرسله إليها سمٌّ زعاف، ولكنه غالط نفسه في ما قال ولم يعد يذكر صيغة ذلك الكلام، فاستدعى الخادم الذي لقَّنه إياه واستعاده إياه، فأعاده عليه كما ذكر، فأكل أصابعه ندمًا على رميها بتلك النبال الصوائب، ثم أَسِف كل الأسف على رد رسالتها الأخيرة قبل أن يقرأها؛ لشعوره بأنه ظلمها بعدم قراءتها؛ إذ لربما تشتمل على معذرة صادقة لها، أو على ما يحرجه إلى إرسال جواب لها يروي غليله من تقريعها وازدرائها. وأخيرًا اشتدَّ وجده واضطرمت غيرته، فصمم على أن يقصد إليها في فندق إيطاليا، فلبس ملابسه وركب مركبة وأمر الحوذي أن يعجل إلى فندق إيطاليا، وبينما المركبة تدرج إذ خطر له أن ينثني عن عزمه، فأمر الحوذي أن ينثني ففعل، ثم عاد فغيَّر فكره فأمر الحوذي أن يعود إلى فندق إيطاليا، فأدار مركبه إلى الطريق المؤدي إليها، وكان وجه الأمير نعيم يتلهب حينذاك وقلبه يخفق، وما كادت المركبة تصل إلى الفندق حتى رأى بعض السيدات والرجال يخرجون ويدخلون من البوابة، فظن أن جوزفين بينهم فأمر الحوذي أن يعود في الحال، فعاد إلى إحدى الحانات، وهناك عدل عدولًا تامًّا عن أن يقصد إلى جوزفين في فندقها، وصمَّم على أن يتجلَّد في جفائها ويصبر على هجرها، إلى أن تُبيح له التقادير أن يلتقي بها وينال أمنيته من احتقارها وخزيها.
وبقي كل يوم يتوقع خبرًا أو رسالة أو زيارة منها فلم ينَلْ، وأمل أن يصادفها في بعض الأحيان في أحد الملاهي أو إحدى الحانات أو المتنزهات، فلم يتحقَّق أمله إلا بعد بضعة أيام؛ إذ كان في مركبته في غاب بولونيا فصادفها تتمشى مع صديقة لها، ولكنها لم ترَهُ فأوشك أن يناديها، وقد تحركت شفتاه بالحرفين الأولين من اسمها، ولكن إباء النفس أصمته في الحال، وبعد أن بعدت المركبة عدة أمتار أسِفَ لعدم رؤيتها إياه، فأمر الحوذي أن يدور من طريق أقرب لكي يلتقي بها، فأجاب الحوذي طلبه، وبعد بضع دقائق كانت المركبة تستقبلها، ولكنها ما انتبهت إليه إلا وقد صارت المركبة إلى جانبها، وهي ناظرة إليه نظر الضراعة، فلم تمهلها المركبة أن تفوه بحرف. أما هو فكان يصوِّب نظره إليها من بعيد إلى أن رآها رفعت نظرها فيه وشعر أنها انتبهت إليه، فخطف نظره عنها، ولكن أمائر الاضطراب كانت واضحة في ملامح وجهه.
وما بعدت المركبة قليلًا حتى خطر له أن يعود؛ لأنه لم يروِ غليله، فأمر الحوذي أن ينثني، وما انثنى الحوذي حتى عدل عن هذا الفِكْر؛ لأنه رآه سخيفًا، فأمره أن يعود إلى سبيله الأول، ثم استأنف مسيره إلى إحدى الحانات العظمى، وهناك جعل يفكر في خطة يختطها لنكاية جوزفين وقتلها غيظًا.
ولو استفسرتَ قلبه عن معنى حنقه هذا، لقال لك: أود أن يميتها وجدي عليها وثم يحييها حبي لها.
وأخيرًا خطر له أن يتخذ صديقة يركب معها كل مساء إلى غاب بولونيا، آملًا أن تراهما جوزفين معًا فتذوب غيرة.
وفي مساء اليوم التالي قصد إلى غاب بولونيا ليرى إن كان يصادف جوزفين فيه في ذلك الموعد، فيعلم أنها تختلف إلى هناك فيكون الغاب موعد التقائهما المتفق عليه ضمنًا.
ولا ريب أن القارئ يتوقع أن يصح حساب الأمير نعيم لظنه أن جوزفين تحسب مثل هذا الحساب، وتؤمل أن تصادف الأمير في الغاب في ذلك الموعد، ولكنها لم تمضِ إلى الغاب. لماذا؟ لأن المرأة أجمل صبرًا وأعظم تجلدًا من الرجل، فهي وإن كانت قد يئست من رضاه نظرًا لرفضه البات مقابلتها ورسالتها، ما زالت تحبه كل الحب وتتمنى لقاءه ولو في إبان غضبه، ولكنها اعتقدت أنه صار يستنكف رؤيتها ويتجنب أقل صلة بها تجنب السليم الأجرب، فصارت تتحاشى التعرض له مخافة أن يستاء منها.
وما فتئ الأمير نعيم يذهب كل مساء إلى غاب بولونيا أملًا أن يصادف جوزفين، وقد صمم أن يتحرش بها إذا صادفها؛ ولهذا كان يصل إلى الغاب ويترك مركبته ويتمشى برهة طويلة، وأحيانًا كان يبكِّر إلى هناك حتى يكاد يكون أسبق الناس إلى الغاب.
وحدث بعد بضعة أيام أن صادف جوزفين عن بُعد قبل أن تراه؛ لأنها اعتادت أن تمشي مُطرِقة، فعزم أن يستوقفها إذا لم تستوقفه ويكلمها إذا لم تكلمه، فكان يتمشى على نفس الجانب الذي تتمشى هي عليه بغية أن يلتقيا، ولكنه ما أصبح على بُعد بضعة أمتار منها حتى صار على الجانب الآخر، فلمحته مبغوتة، ووقفت كأنها تلتمس مقابلته، فشمخ وأعرض عنها ذاهبًا، فقالت: «مولاي نعيم! كلمة واحدة فقط! ارحمني وائذن لي بكلمة.» فهزَّ رأسه هزة رحوبة وأسرع خطاه كأنه يهرب من عدو، فتوهمت أنه يهرب من عار يلحق به إذا قابلها، وما ابتعد مسافة حتى جعل يلكم رأسه لعدم التفاته إليها، وأكل أصابعه ندمًا وعزم على أن يتعرض لها في مرَّة تالية ويشفي غليله من لعنها وتقبيحها.
ولما عاد إلى غرفته في المساء خطر له أن يكتب إليها ويستدعيها إليه لكي يسمع عذرها، فجلس إلى المكتب وجعل يكتب تارة ويمحو أخرى، وينسخ حينًا ويُمزِّق آخر، إلى أن وُفِّق إلى كتاب فعَنوَنَهُ وألصقه وخرج ليرميه في صندوق البريد، فلما وصل إلى الصندوق عدل فعاد إلى غرفته والرسالة بيده، وجلس برهة يفكر ثم قرر أن يرسل الرسالة فخرج ورماها، ثم عاد يفكر في نتيجة إرسالها، فرجح في يقينه أن إرسال رسالة لها يُعَد تنازلًا عظيمًا منه يُعاب به، فندم ونهض حالًا إلى الفندقاني وترجَّاه أن يفتح الصندوق ويرد له الرسالة قبل أن يرمي الرسائل في صندوق البريد خارجًا، وهكذا استرد الرسالة.