الحية الثانية
أما جوزفين فقد اهتدت على الأمير نعيم بعد وصولها إلى باريس، إذ جعلت تطوف الفنادق الكبرى وتسأل إلى أن عثرت على اسمه في فندق رويال، فقصدت إليه في الصباح وطلبت مقابلته، فأبلغها ذلك الجواب المرَّ مع الخادم، ثم رد رسالتها الأولى بعدما قرأها والثانية من غير أن يقرأها، فتأكدتْ أنه يأبى أن يتصل بأي شيء يخصها، بل ظنت أنه صار يحسبها عارًا ودنسًا له، فصارت تتحاشى أن تتعرض له إشفاقًا على إحساساته، ولما صادفته في غاب بولونيا مرتين ورأت أنه كان ينفر من رؤيتها تأكدت أنه لم يعد يريد أن يعرفها مهما يكن أمرها، ولا سيما لأن الرجل الذي أنقذها من سجنها — أحمد بك — أخبرها أن كل أسرته ناقمون عليها، وأنهم شكروا الله على ابتعادها عنه، وظنت أن الأمير لم يعد يحبها، بل إنه ندم على علاقته السابقة معها، وصار يود أن ينسى تلك العلاقة. وقد تعاظمت هذه التصورات في يقينها لما عاملها به من الجفاء الحاد، فيئست من استرضائه حتى ولو أقنعته ببراءتها؛ لظنها أن ذوي قرباه يحتمون عليه برفضها بتاتًا.
نعم؛ إن جوزفين قنطت تمام القنوط ويئست تمام اليأس واعتصمت بالصبر، ولكن بقي شيء واحد يحرق قلبها، وهو توهُّم الأمير نعيم أنها خائنة في حين أنها مظلومة بتوهمه هذا، وأنها قاست في سبيل أمانتها له ما لا يُحتمَل، فصارت تفكر في طريقة لإطلاعه على قصتها كما هي، فخطر لها أن تكتب له مرة ثالثة وتعنوِن الرسالة بخط غيرها لكي لا يردها من غير أن يقرأها، بيد أنها رأت أن هذه الطريقة غير مضمونة أيضًا؛ لأنه متى فتح الرسالة ورأى أنها منها ردها من غير أن يقرأها، أو أنه إذا قرأها فقد لا يصدقها؛ لأنه خلو من البراهين المحسوسة، ولا يكون لها التأثير الذي لكلامها هي شخصيًّا.
وقد عرف القارئ أن الأمير نعيمًا رأى جوزفين لأول مرة في غاب بولونيا مع صديقة لها، فهذه الصديقة كانت تضارع جوزفين جمالًا وتُسمَّى «المدموزال ماري جوتيه»، وقد نزلت في فندق إيطاليا بعد نزول جوزفين فيه، وبالرغم من اعتزال جوزفين في غرفتها اكتفاء بأحزانها وبكائها، كانت تتحرش بها وتتحبب إليها وتلاطفها وتؤانسها حتى استمالتها إليها وأصبحت صديقتها، وكانت المدموزال جوتيه تدَّعي أنها فتاة غنية من غرينوبل يتيمة الأب، وأنها تقضي بعض الفصول في باريس بغية النزهة وترويح النفس، فاستأنست جوزفين بها، وصارت المدموزال جوتيه تغريها على الخروج من غرفتها والتنزه حرصًا على صحتها وسلامتها، وبالتدريج امتلكت ماري قلبها ووثقت تلك بها، وصارتا صديقتين حميمتين، فجعلت كل واحدة تستطلع أسرار الأخرى، حتى أفرغت جوزفين جعبة أخبارها لماري وقصَّت عليها كل تاريخ حياتها كما هو، وكانت كلما ذكرت لها اسم الأمير نعيم تشفعه بالثناء والتحبب، ولا تغفل عن وصف حسن له حتى صوَّرته مثال الفضيلة وعنوان الرجولية، ولما صادفته في غاب بولونيا قالت لها: «هذا هو.» وهي تتوسل أن يسمح لها بكلمة تقولها له.
ولما وثقت جوزفين تمام الثقة من صديقتها ماري جوتيه قالت لها: بربك! ألا تذهبين إلى الأمير نعيم تستعطفينه أن يسمح لي بمقابلته مرة واحدة وبعدها له أن يفعل بي ما يشاء؟ له أن يقتلني، أو أن يدحرجني عن الدرج، أو أن يطردني طردًا؛ فإني مستعدة أن أقبل كل شيء منه بالسرور.
– لبيك يا عزيزتي، وحقك إني لا أعود من عنده إلا وقد استرضيته عليك.
– لم أعد أطمع برضاه بعد الذي رأيته من جفائه، بل بالأحرى أشعر أني عار له في عيني أهله وأصدقائه؛ لأنهم متعصبون جدًّا لجنسيتهم وحسبهم ودينهم، فتغيَّظوا جدًّا لما عرفوا أني حليلته، وهو الآن يشعر براحة وسرور في حَلِّه من قيوده بي، فلا آمل أنه يعود فيقيد نفسه بتلك القيود، وإنما جلُّ غرضي من الاجتماع به أن أبرهن له عن براءتي التي لم يعلم بها حتى الآن.
– ثقي يا حببتي جوزفين أني أبرهن له عن براءتك، وأقنعه بصدق حكايتك، وأستأذنه أن يستقبلك.
– بارك الله بك يا عزيزتي! إني أمتن لك كل الامتنان.
– أين أجده؟
– في فندق رويال.
في صباح اليوم التالي قصدت ماري جوتيه إلى الفندق، وأرسلت بطاقة الزيارة إلى البرنس نعيم، فاستقبلها في قاعة الفندق، فما لبثت أن جلست حتى فاتحته بالحديث قائلة: سيدي الأمير، أراك قاسيًا جدًّا في معاملة السيدات.
– عفوك سيدتي، لماذا تقولين هكذا؟
– لأني رأيت معاملتك للسيدة جوزفين فوق ما يحتمله رجل من امرأة، فكيف تستطيع أن تحتمله المرأة الضعيفة من الرجل القوي؟
فاعتدل الأمير في كرسيه، وقال: أمِن قِبل جوزفين أنت آتية يا سيدتي؟
فابتسمت ماري ابتسامة تهكم وتقريع قائلة: كلا، بل من قِبل نفسي.
– عفوك يا سيدتي، لقد أسأتُ التعبير.
– لا بأس، أتيتُ إليك لأتشفع عندك بجوزفين، فإنها مسكينة وقد ندمت كل الندم على كل ما فرط منها في الماضي، وعرفت أنها مخطئة خطأ لا يُغتفَر، ولكن إذا كان الله يقبل التائبين فعبيده الصالحون يغتفرون للمسيئين إليهم المستميحين منهم.
– إني أشفق على جوزفين يا سيدتي كل الإشفاق وأسامحها؛ لأني كنت أحبها، ولكني لا أقدر أن أقبلها؛ لأن قبولها عار عليَّ، ألا تعلمين أنها كانت زوجتي بغير رضى أهلي وأقاربي؟
– كلا، بل قالت لي إن أهلك كانوا يعبدونها عبادة.
– كاذبة، إني عبدتها بالرغم من إرادة أهلي، ومع ذلك خانتني أي خيانة حتى جلبتْ عليَّ عارًا لا يُمحى، فكيف أستردها؟! أأسترد خائنة؟! والله إني إذا قابلتها مزقتها إربًا إربًا.
وعند ذلك لم يتمالك الأمير خلقه، فاستشاط غيظًا وحرَّق الأرم، فسكنَّت المدموزال ماري جوتيه طبعه ما استطاعت قائلة: لم أكن أظنها تكذب يا مولاي؛ لأني توسمت من كل حرف من كلامها كل الصدق والإخلاص، فإذا كان الأمر كما تقول فإني أعذرك، وإن كنت أشفق عليها.
– نعم، كما قلت لك يا مدموازيل، وإن كنت أشفق فلأني طيب القلب جدًّا، ومع ذلك إلى الآن لم أعرف حقيقة فرارها، سوى أنها أرسلت لي رسالة مختصرة تقول فيها أن لا أتعب في البحث عنها؛ لأنها صارت لسواي، وذلك لأن للمرأة كل يوم هوى جديدًا.
– أكذا كتبت لك؟
– نعم.
– عجيب! قالت لي إنها كتبت لك مرة واحدة فقط أن شابًّا إيطاليًّا أغرم بها فاحتال عليها واختطفها، وثم سجنها في بيت له، والتمست منك أن تخلصها، ثم قالت لي إنها لما رأتك قد أغفلتَ أمرها فرَّت مع ذلك الشاب إلى أوروبا، وفي هذا العهد الأخير تركها ذلك الشاب بعد إذ أعطاها نقودًا، وكانت قد رأتك هنا فجعلت تبحث عنك حتى اهتدت إليك، وكان ما كان من جفائك لها.
– عجيب! متى تعلَّمت هذه المخلوقة الكذب؟! لا أعهدها تكذب قط، إذن تقرُّ أنها رافقت شابًّا إيطاليًّا؟!
– نعم.
– لقد زدتِنِي تحذُّرًا منها، كنت أشفق عليها وأود لقاءها لكي أعاتبها، أما الآن فإني أحتقرها جدًّا وأود أن أنساها؛ لأن امرأة دنيئة إلى هذا الحد لا تستحق شيئًا من اهتمامي، كنت أظنها ترافق أميرًا أفضل مني …
– كلا، ما هو إلا إيطالي محتال، وقد خدعها على ما قالت لي، والحق يا مولاي إني أعذرك كل العذر في جفائها والترفع عنها لأنها خائنة؛ إذ لم تعرف قيمة النعمة التي حصلت عليها إلا لمَّا أفلتتها من يديها، ولات حين استردادها.
والحق يقال إن حديث المدموازيل جوتيه نزل ماء باردًا على قلب الأمير نعيم؛ لأنه كان إلى ذلك العهد يجلُّ جوزفين؛ إذ لم يكن يعلم قصتها، فكان يتوهم أن يدًا أعظم من يده غالبته في اجتذابها، فلما علم الحقيقة رأى أنه يُعنَى ببغيٍّ رجسة لا تستحق شيئًا من عنايته، ولا من إشفاقه وحبه، حتى ولا من انتقامه، فانصرف وجدُهُ عنها، وانقلب قلبه عن مصافاتها.
وبعدما انتهيا من الحديث الطويل عن جوزفين، وكله بالمعنى السابق، أخذ الأمير نعيم يتعرف المدموازيل ماري جوتيه، فأخبرته أنها كانت ممثلة في بعض الملاهي الشهيرة، ولما أوشكت تنال شهرة نصح لها الطبيب أن تعدل عن هذه المهنة حرصًا على سلامتها؛ لأن التمثيل يؤذي مجموعها العصبي جدًّا.
وقد أجادت ماري في محادثة الأمير ومجاملته حتى جذبته إليها قليلًا، وصارا صديقين والتمس منها أن يلتقي بها حينًا بعد آخر فوعدته.