إضرام الغيرة أشد انتقام
ولما عادت ماري إلى جوزفين وجدتها كأنها على جمر الغضا تنتظر بشارة، فابتسمت، فقالت لها جوزفين: أرى على وجهك بشرًا، ألعله بشارة؟
– بشارة إن شاء الله، لقد صدق ظنك يا عزيزتي جوزفين، فإني أخبرته مجمل قصتك فصدقها في الحال ورثى لك جدًّا وتمنى كل خير لك، ولكنه قال إنه لا يستطيع أن يقبل أقل صلة بك بعد الآن؛ لأن أقاربه عيَّروه جدًّا بعلاقته معك، وأنكروا عليه استردادك ولو ثبتت براءتك.
– أما استأذنته أن أقابله مرة واحدة فقط؟
– ألححت عليه جدًّا بذلك، فقال إنه ليس في وسعه.
– إذن اقتنع أني بريئة؟
– بالطبع، والحق أقول لك إنه جميل الخَلق والخُلق، بل هو أكثر مما وصفتِ، فلا أستغرب ترفُّعه عليك بعد الآن؛ لأنه بالحقيقة أمير، بل أمير الأمراء.
فابتسمت جوزفين وقالت: لقد ارتاح بالي بعض الراحة والحمد لله، على أني لا أقنط من الاجتماع به ولو مرة واحدة، وبعدها أدخل إلى الدير وأمارس وظيفة ممرضة كما صممت أن أفعل إذا أصرَّ الأمير على تكذيب عذري.
وقد صدَّقت جوزفين كلام ماري جوتيه بحروفه؛ لأنها كانت تثق بإخلاصها وتنظر إليها نظرها إلى فتاة نبيلة، أما ماري فخافت أن تذهب جوزفين إلى الأمير ويُؤذَن بمقابلتها، وثم يتفاهمان ويبان كذبها هي؛ ولذلك جعلت تفكر في كيف تتلافى ذلك، وتستميل الأمير إليها وتحجبه عن جوزفين، فما كان منها إلا أنها أسرعت إليه وجعلت تتودد إليه وتتحبَّب له بغية أن يتخذها محظيته في باريس.
وقبل أن تغتنم جوزفين الفرصة المناسبة لالتماس مقابلة الأمير، تركت ماري فندق إيطاليا ونزلت في الفندق الذي ينزل فيه الأمير، بغية أن تكون قريبة منه ومستسهلة الوصول إليه.
وقد شعر الأمير بميل إليها واستحسن جمالها واستعذب لسانها؛ لأنها كانت داهية، وقد عرفت من أين تُؤكَل الكتف.
حضرة الأمير نعيم بك صدقي
إن التي تعبدك تؤمِّل أن تكون قد صفحتَ عنها الصفح التام؛ ولهذا تنتظر في قاعة الاستقبال نعمة مقابلتك إياها مرَّة واحدة فقط في بقية حياتها.
ولما وصلت هذه البطاقة إلى الأمير كانت ماري عنده، فتناولتها منه بما صار لها عليه من الدالة، وقرأتها وقالت له: أتستقبلها؟!
– ما رأيكِ؟
– لا أدري، أنت تعرف تأثير مقابلتها على مقامك وشرفك.
وكان في نية الأمير أن يستقبلها؛ لأن غضبه الحامي كان قد برد بعد سماعه كلام ماري جوتيه الآنف الذكر، وانشغاله بحبها الجديد، فلما ذكرت له الملاحظة الأخيرة استنكف أن يستدعي جوزفين ويستقبلها …
– إذن ماذا تظنين أني أجاوبها؟
– ما يمليه عليك قلبك.
– إني واجد عليها.
– فإذن اكتب لها رقعة تقصرها حتى لا تعود إليك وتخدش أذنك بتوسلاتها.
– إنها لتوسلات كاذبة؛ لأن التي خانتني يوم كنت أعبدها، لا تخلص لي بتوسلها يوم أمقتها.
إلى متى يا خائنة تخادعينني؟! عني، فما أنا ممن يغطون العار بالعار! إن جسرتِ على الدخول عليَّ أو على التعرض لي أحرجتني إلى ارتكاب جناية!
وكانت ماري واقفة وراءه ويدها على كتفه تقرأ ماذا يكتب، فقالت له: إنك قاسٍ جدًّا يا حبيبي نعيم، صرت أكره هذه المرأة لأجلك، ومع ذلك أشفق عليها من هذا الجواب المر بل المُحرق.
– ما أطيبك يا ماري! (وقبَّلها) ماذا ترين أن أكتب لها؟
– ليتك تكتب ما أملي عليك.
حسبي ما تحملتُه من تعيير أهلي لي بسببك، فلا تُحمِّلِينِيه بعد، امضي بسلام وإلا أحرجتني إلى ما لا تُحمَد مغبته.
فقال لها: ولكن ليس في هذا الجواب إشارة إلى خيانتها.
– وهل تجهل هي خيانتها؟! على أنها مفهومة ضمنًا من الفقرة الأولى وأنت لا تود أن تصرِّح بها؛ لأن التصريح يؤلمك.
– صدقتِ.
ثم طوى الورقة وغلَّفها وعنونها وأرسلها إلى جوزفين.
ولو لم تكن ماري جوتيه حينئذ عند الأمير نعيم لظفرت جوزفين بمقابلته، وربما أقنعته ببراءتها وكشفت له أكاذيب ماري، على أن هذه الفتاة الماكرة حسبت هذا الحساب؛ ولهذا انتقلت إلى فندق رويال، وجعلت تجتمع به ما استطاعت لكي تحجبه عن جوزفين، وبهذا الجواب الذي أملته ليرسله إلى جوزفين أجابت غرضين؛ الغرض الأول: أنها أبقت لكلٍّ من جوزفين والأمير نعيم اعتقاده في الآخر؛ أي إن جوزفين ظلت تعتقد أن الأمير نعيمًا عرف خبر سجنها وما جرى لها واقتنع أنها بريئة، والأمير نعيم ظل يعتقد أنها خائنة لا تستحق الرحمة. والغرض الثاني: أنها — أي ماري — برهنت للأمير نعيم أنها طيِّبة القلب سليمة النية.
وإذا شئت أن تعرف السر الذي يميز الداهية عن الجاهل، أو يفرق السياسي المحنك عن الرجل البسيط فما هو إلا إتقان الكذب، وما إتقان الكذب بصعب إذ كان الضمير يسكت ولا يحرك ساكنًا، دُلَّني على واحد من الذين اشتهروا في هذا القُطر — خصوصًا — بالدهاء وحسن السياسة في معاملة الناس والمهارة في استدرار الأموال، وأطلعني على تاريخ حياته الحقيقي، وأنا أعدِّد لك كل يوم ألف كذبة من أكاذيبه التي تؤذي الناس وتنفعه.
على أن الرجل الطيب القلب الصادق الأمين يعجز عن أن يستدرَّ من المال أكثر مما يوازي تعبه هذا إذا كان من الأذكياء، وإلا فيضيع نصف تعبه عليه بين تلاعب الدهاة، ولكن هذا الطيب يُعَد في عرف الجمهور بسيطًا أو جاهلًا أو غرًّا.
جوزفين كانت ذكية كماري وربما أذكى، ولكن ماري كانت منافقة وجوزفين طيبة القلب؛ ولهذا عُدَّت تلك سياسية محنكة وهذه بسيطة جاهلة، وتلك فازت على هذه، ولا سيما لأن الأمير نعيمًا طيب القلب تجوز عليه الأكاذيب.
وحدث في أحد تلك الأمساء أن الأمير نعيمًا اصطحب ماري إلى غاب بولونيا، وكان يتمشى معها هناك، فصادفا جوزفين قاعدة على مقعد وحدها ورأسها على يدها، فخطر للأمير نعيم أن هذه الفرصة أفضل الفرص للانتقام منها، فقال لماري: «تعالي نجلس هنا.» وجلسا على مقعد آخر مقابل جوزفين، واتكأت ماري على ذراعه وجعلا يتحدثان غير مكترثين، فلما نظرتهما جوزفين استلقت على كرسيها واهية القوى من شدة التأثر، ولكنها ما لبثت أن تجلَّدت ونهضت من مكانها ومضت لا تلوي.
وكانت ماري مضطربة جدًّا؛ لأنها خافت أن جوزفين تتهيج جدًّا من هذه النكاية القاتلة، وتهجم عليها وتضربها وتعاتب الأمير نعيمًا وتروي له حقيقة أمرها فتفضح أكاذيب الواشية بها، ولكن جوزفين أطيب جدًّا من أن تقدم على شر؛ ولذلك شكرت ماري الله على ذهاب جوزفين ساكتة، ولم تعد بعد ذلك تخاف سوءًا من الالتقاء بها في حضرة الأمير.
وقد استلذَّ الأمير هذا الانتقام فألحَّ على ماري أن تنزل في ذلك المساء في فندق إيطاليا لكي تزورها هناك، فتعرف جوزفين بوجوده مع ماري فتحترق غيظًا، فطاوعته ماري مكرهة؛ لأنها بقيت تحسب حسابًا لثورة جوزفين، ولكنها استعدت للمقاومة والمغالبة بكل قواها.
ولما كانت الساعة التاسعة مساء كانت جوزفين في قاعة الفندق بعد العشاء تستريح في الشرفة متعللة بالنسيم اللطيف، فدخل الأمير نعيم وماري إلى القاعة يضحكان ويمزحان ويهزلان كأنهما مثالا حب، فانتبهت جوزفين وإذا هما في الشرفة إلى جانبها وقد أخذ كل منهما كرسيًّا وجلس وجوزفين واقفة، فلم تعد تحملها قدماها فوقعت على الأرض مغمى عليها تمام الإغماء، فنهض الأمير نعيم واحتملها إلى غرفتها، وطلب من الفندقي بعض المنعشات، وعالجها حتى استفاقت، فنظرت إليه وروحها في عينيها وقالت بصوت خافت وقلبها بين شفتيها: أشكرك يا نعيم.
– لم أفعل إكرامًا لك، بل لأن الرجولية تقضي عليَّ بذلك، فلا تشكريني.
– لا أشكر لك عملك؛ لأنه لا شيء بالنسبة إلى محامدك، وإنما أشكر لك انتقامك؛ فإنه أعظم انتقام اخترعه البشر، ولكن على أي ذنب تعاقبني؟!
– اسكتي يا امرأة، إني لا أعرفك.
فصرخت به جوزفين قائلة: ويلاه! ألا رحمة؟! من احتمل ما احتملتُ.
وانقلبت إلى جنبها ووجهها إلى الحائط غائبة عن رشدها، فتساقط الدمع من عينَي الأمير نعيم ولم يتمالك نفسه عن البكاء، وكانت ماري واقفة تشاهد هذا المشهد المؤثر وقلبها يخفق جزعًا، فاغتنمت فرصة انقلاب جوزفين، وأمسكت بيد الأمير نعيم، وهمست قائلة: دعها الآن، فإني أرثي لها.
فتبعها الأمير إلى القاعة، وبعد برهة سأل عن سلامة جوزفين فقيل له إنها نائمة، وعند ذلك ألحَّت عليه ماري أن ينطلقا إلى فندق رويال لئلا يبقى في فندق إيطاليا متأثرًا، فذهبا. وفي صباح اليوم التالي صحا الأمير نعيم بعد نوم قليل مكتئب القلب جدًّا، شاعرًا بالإشفاق العظيم على جوزفين، فبعد أن أفطر ذهب إلى فندق إيطاليا من غير أن يخبر ماري، وسأل عن جوزفين، فقال الفندقي إنها تركت الفندق في هذا الصباح إلى حيث لا يعلم، فطاف الأمير على أكثر الفنادق فلم يجد لها أثرًا.