مفتاح الأسرار
مرَّ على هذه الحوادث نحو عشرة أعوام كانت على آل ذلك البيت الكريم متشاكلة؛ إذ لم يحدث لهم فيها أمر يستحق الاعتبار.
وكان الأمير عاصم قد قطع الأمل من الحصول على يد الأميرة نعمت هانم زوجة؛ لأنها رفضته بتاتًا حتى بعد وعدِها أن تتزوجه حافظة لنفسها حق عصمتها؛ ولذلك تزوج، وكذلك زوَّج أخته إذ يئس من ميل الأمير نعيم إليها، ومن ثم عقد نيته على أن ينتهز كل فرصة مناسبة للانتقام الخفي من الأمير نعيم وأخته الأميرة نعمت، ولكنه كان في الظاهر يتظاهر بالغيرة على مصلحتهما وطيبة القلب لهما، بالرغم مما صادف من نفور نعمت.
أما نعمت فبقيت كل تلك المدة عزباء؛ لأنها أبت أن تتزوج إلا حافظة عصمتها، ولم تجد طالبًا يعجبها؛ لأنها كانت ذات أميال خصوصية.
وأما الأمير نعيم فبقي عازبًا أيضًا؛ لأنه أبى أن يتزوج بعد جوزفين، وندم على عدم مقابلتها بالرغم من اقتناعه بخيانتها، ولكنه اعتقد أنها تابت وأنها كانت مخدوعة أو مكرهة، وإلا لما سقطت بهذا الإثم؛ ولذلك سامحها وكان يتمنى أن يهتدي إلى مقرها، ففتش عنها كثيرًا فلم يجدها.
وكان يقضي أكثر وقته في باريس، وماري سميرته وجليسته وخليلته، وكانت تنعم وتهنأ من فضله.
وأما أحمد بك فما زال وكيلًا لأملاك الأمير عاصم، ومطاوعًا له كأنه ريشة في يد الأمير، وبقي أيضًا يلتفت لأملاك الأمير نعيم والأميرة نعمت بالرغم من نقمة هذه وغضبها عليه؛ لأنه كان معروفًا بإخلاصه لبيت صدقي باشا.
وأما سنتورلي وعاصم بك فلما علما أن الشرطة لم يجدوا جثة جوزفين في قصر الأميرة نعمت، تحيَّرا منتهى الحيرة وفكَّرا طويلًا في ذلك.
وخطرت لهما عدة أفكار كان أرجحها أن سنتورلي لم يحسن حقنها بالسم، فسَلِمَتْ، ولما علمت الأميرة نعمت خبرها سفَّرتها إلى خارج مصر؛ لكي لا تبقى عارًا على أخيها.
•••
وحدث بعد عشر سنين من تلك الحوادث أن الأمير نعيمًا اعترته حمى تيفوئيدية شديدة، حتى أضاعت صوابه وصار يهذي ولم يعد يعي شيئًا، واستدعى أهله أكثر الأطباء لمعالجته، وكان في مقدمتهم الدكتور ف. فلازمه معظم الوقت واستدعى له ممرِّضة من مستشفى أوروبي في القاهرة تُدعَى «سار ماري»، بذلت كل عنايتها في تمريضه، وكان إذا خفَّت عنه الحمى قليلًا فتح عينيه ونظر إلى الممرضة، وقال: «جوزفين! جوزفين! متى أتيت إلى هنا؟! لماذا أتيت؟! من قال لك أني مريض؟! جوزفين، هل تبتِ؟ جوزفين، ألم تزالي تحبينني كالأول؟ جوزفين، هل صفحتِ عن خشونتي السابقة؟ جوزفين، أتخدمينني؟ لماذا؟!»
إلى غير ذلك من مثل هذه العبارات، ولكن «سار ماري» لم تكن تجيبه؛ لأن الكلام لغيرها، ولا سيما لأنه يهذي، وكان الدكتور يسمعه يتكلم هذا الكلام فيحسبه يهذي، وقد سأل أخته عن سبب هذيانه باسم جوزفين فحكت له موجز قصته معها.
على أن الأمير نعيمًا وإن كان غائب الرشد هاذيًا، فإن قلبه لم يكن مختبلًا كعقله، فلم تغِبْ عليه جوزفين وإن تنكرت باسم «سار ماري» تحت ثوب الراهبة الممرضة الأسود، وغطت عينيها النجلاوين العسليتين بنظارة سوداء.
وتحرير الخبر أن جوزفين بعدما يئست من استعطاف الأمير دخلت ديرًا في باريس درست فيه فنَّ التمريض، وطلبت أن تخدم في أحد المستشفيات في مصر، فأُجِيبَ طلبها، وقد ابتغت من ذلك أن تتنسم أخبار الأمير حينًا بعد آخر.
واتفق أن الحكيم ف. الذي يعالج الأمير كان حينئذ يزور المستشفى كل يوم ساعة لمعالجة أمراض خصوصية، فذكر أمام الممرضات خبر حمى الأمير نعيم وحدَّتها، فاضطربت جوزفين ولكنها أخفت اضطرابها في الحال، واغتنمت فرصة التمست فيها من الدكتور ف. أن يقترح على أهل الأمير نعيم قبول ممرضة له، وأن ينتدبها لهذه المهمة، فأجاب الدكتور طلبها لظنه أنها تطمع بأجرة وافرة من جراء هذه الخدمة، وكان يودُّها ويجلُّها، فأحبَّ أن يخدمها هذه الخدمة.
ولما صحا الأمير نعيم من سرسام الحمى وخبالها لم يبقَ في حافظته من تذكار جوزفين إلا ظليل خيال ضعيف، فظنَّه وهمًا من تصويرات الحمى فلم يعبأ به.
ولما نقِهَ أشار الطبيب عليه بأن يتنزه كل يوم نحو ساعة في مركبته في جهة جافة الهواء نقيته، وفي ذات عصر والفصل ربيع كان الأمير في مركبته وهي تدرج ببطء كلي في الشارع الذي يصل العباسية بقصر القبة العامر، فرأى إلى يمينه فتى في أول الشباب يمشي على موازاته وهو يمسح دموعه بعينيه، ثم لا يلبثان أن يغرورقا فيمسحهما. وبعد هنيهة أصبح وراء المركبة؛ لأنه كان يتمشى أبطأ منها، فأثَّر منظر هذا الفتى على الأمير جدًّا، وأوعز إلى حوذيِّه أن يتوقف، وما هي هنيهة حتى صار الفتى محاذيًا للمركبة، فرآه الأمير لم يزل يبكي فشغل باله أمره، فناداه قائلًا: «يا سيدي الشاب!» فالتفت الفتى إلى المركبة وأحدق في الأمير، فقال هذا له: هل تشاء أن تركب إلى جانبي في هذه النزهة فنتحادث قليلًا لكي نقتل الوقت؟
وكان الفتى لا يزال يحدق بالأمير أكثر مما يصغي إليه، فقال: أشكر لطفك يا مولاي، ما أتيت لأجل النزهة، بل لأبتعد عن ضوضاء العالم وأختلي بنفسي.
فازدادت رغبة الأمير في الاطلاع على سر هذا الفتى، فقال له: إن الاختلاء يعظم حزنك يا أخي فتجنَّبه، ومهما يكن قصدك منه وتأثيره عليك فأرجو منك أن تخالف رغبتك هذه المرة؛ لأن لي شوقًا شديدًا إلى محادثة الحزانى اليوم، فإن نفسي حزينة أيضًا.
وقد شعر الفتى كأن يد العناية قد رفعته ووضعته في المركبة إلى يمين الأمير، وشعر الأمير كأن فلذة من قلبه كانت مقطوعة منه فرُدَّت إليه، وكان الفتى جميل الطلعة بشير المحيا، يكاد ينبثق الذكاء من مقلتيه والطيبة من صدره، وقد لبس ثوبًا بسيطًا جدًّا طفيف القيمة، ولكنه مهندم نظيف، فقال له الأمير: أيجوز لي أن أسألك يا عزيزي ما سبب بكائك؟
وكان الفتي يُكثر من تأمل الأمير، فأجابه مستحيًا: ليس سبب بكائي يا مولاي سرًّا معيبًا، وإنما هو موضوع يحاول كل امرئ إخفاءه.
– إذا لم يكن سرًّا معيبًا، فلماذا يخفيه الإنسان؟
فابتسم الفتى قائلًا: لأن موضوعه عميق خفي.
فضحك الأمير لأنه أدرك حالًا الموضوع، فقال: إذن السبب حبٌّ يا عزيزي.
فاستحى الفتى قليلًا وقال: نعم يا مولاي.
– أيجوز لي أن أسألك حكاية هذا الحب؟ لعل لي فيه رأيًا عن اختبار طويل؛ لأني أحببت كثيرًا في حياتي.
– أحببتَ كثيرًا؟
– من لم يحب فهو حجر. فقَوِيَ قلب الفتى على الكلام.
– إني أتوسم فيك يا مولاي غوثًا لي؛ ولذلك أشكو إليك أمري.
– إن كنتُ أقدر أن أفيدك بأمر، فتأكد أني أفعل غير معبئ بكلفته، فقل ما عندك مطمئنًّا.
– مولاي اسمح لي أن أتكلم بكل حرية.
– لا تتكلم إلا بكل حرية إن كنت عليل القلب وتتخذني طبيبك.
– رُبِّيت في دير هو مدرسة للأيتام، وكنت أتعلَّم بعض العلوم وفن الخياطة، وبقيت أكثر سني مسرور القلب من كل ما حولي إذ لم يكن من همٍّ يهمني، ولكني في السنين الثلاث الأخيرة كنت كل الوقت مكتئب القلب أنتظر يوم الأحد بفروغ صبر ذلك؛ لأني كنت أرى في الكنيسة فتاة من بنات مدرسة العازرية اليتامى ملكت قلبي، وقد حاولت مرارًا واجتمعت بها سرًّا هنيهات بثثتها فيها آيات حبي الصادق، وعلمت أنها مثلي في الهوى، وما تفاهمنا صريحًا وتعاهدنا على الحب الراسخ الأبدي حتى فقدتُها من الكنيسة، فبحثت عنها فقيل لي إنها أُخِذت إلى بيت أحد الإفرنج معلمةً لصغاره، فصممت على الخروج من المدرسة برضى الرئيسة أو بالرغم منها. وبالاختصار، خرجتُ وبحثت عن حبيبتي فعلمت أنها في منزل خياط شهير يتاجر بالأقمشة، ففرحت لهذه المصادفة وقصدت إلى ذلك الخياط والتمست منه أن أشتغل عنده فقبلني، وبعد الامتحان عيَّن لي أجرةً ريالًا كل يوم، فصرت أتودد إليه، وأقضي له بعض المهام تبرعًا، حتى صار يرسلني إلى منزله لقضاء بعض حاجات، وهناك قابلت حبيبتي، فدهشتْ إذ رأتني، وعرفت أني لأجلها تركت المدرسة وسعيت إلى لقائها، وجددنا عهد الحب، وصرت أغتنم الفرص لمقابلتها، وأخيرًا صممنا على الزواج متوقعين الفرص المناسبة لذلك، واتفقنا على أن نوفر ما استطعنا من ماهيتنا لكي نعد لنا بيتًا صغيرًا مناسبًا لحالتنا، ولكن أبى الزمان أن يبقى مغضيًا عنا، فتنبه سيدنا المسيو م. ج. الذي نشتغل عنده إلى أمرنا، وعرف ما بيننا من العهود، فشقَّ عليه أن تفترق حبيبتي عن أولاده لتتحد بي، فتأمل إلى أي حد بلغ حب النفس! فإن هذا الرجل الحيواني استسهل أن يضحي بإحساساتنا وعواطفنا على مذبح مصلحته الذاتية، فطردني من خدمته اليوم وحتَّم على حبيبتي أن تمتنع عن مقابلتي، وإذا رامت أن تتركه تهددها قائلًا: «إنك تحت إمرتي؛ لأني مسئول عنك لرئيسة مدرستك!» إلى غير ذلك من الكلام الفارغ، فهمت على وجهي اليوم أبكي من سوء الطالع ومن ظلم البشر، فقل لي يا سيدي، هل يحق للمسيو م. ج. أن يحبس حبيبتي عنده؟
– كلا البتة، ولا رئيستها تستطيع ذلك، ولا مسيطر على الفتاة إلا أبواها.
– هي مثلي لا أب لها ولا أم.
– كيف ذلك؟! ألا والدان لك؟
– كلا يا سيدي، لا أعرف والديَّ.
– إذن رُبيت كل حياتك في المدرسة.
– كلا، وإنما أذكر كالحلم أني كنت في عهد الطفولية في بيت فلاح، ثم أذكر جيدًا أني قضيت برهة لا أعرف كم هي في بيتٍ فخيم عظيم كنت فيه مدللًا جدًّا، وتلك الأيام أوضح تذكاراتي الصبوية؛ لأني كنت في نعيم.
فتنبه الأمير نعيم جيدًا، واعتدل في مكانه وقال: ألا تذكر أصحاب ذلك البيت؟
– أذكر امرأة لطيفة جدًّا كنتُ أدعوها أمي جوزفين …
– وهل تذكر مَن كنت تدعوه أبًا؟
وكان الفتى يحملق بالأمير، فقال: أذكر رجلًا يشبهك يا مولاي كل الشبه، كان الخدم يقولون له الأمير.
– ما اسمك يا بني؟
– كنت أُدعَى «يوسف»، ولما أُدخِلت المدرسة أضافت الرئيسة إليه لفظة «العفيف».
– أتسمح لي أن أسألك: أتعرف إن كان لك علامة خصوصية في ظهرك؟
– نعم، على ظهري وشم هلال.
وكان البرنس قد طوَّق عنقه بذراعه فقبَّله وقال: أنت يوسف! أنت يوسف! لقد أعادك القدر إليَّ، لن تفارقني بعد، ليس لي ابن فكن ابني، لم أكترث بفراقك في السابق، أما الآن وقد رأيتُك فتًى نجيبًا رقيق العواطف طاهر القلب فلا أطيق فراقك، فكن معي سلوة قلبي الحزين، وأما حبيبتك فتكون لك وسنتفاوض بأمرها بعد، أما الآن فأخبرني كيف وصلت إلى الدير؟
– أذكر أن سيدتي جوزفين أخذتني في زيارة إلى امرأة إيطالية، وأذكر أن تلك المرأة أكرمتنا جدًّا في منزلها، وهناك تغلَّب عليَّ النعاس فنمت، وفي صباح اليوم التالي صحوت وأنا في الدير، فبكيت وأعولت وقلت: «أين أمي جوزفين؟» فقالت لي الراهبة الرئيسة: «إن جوزفين ليست أمك.» وطيبت خاطري ولاطفتني فاقتنعت؛ لأني أعلم أن سيدتي جوزفين ليست أمي حقيقة، وفي يومين أَلِفت الدير وبقيت فيه.
– وبعد ذلك، ألم تعد تعرف شيئًا عن جوزفين؟
– كلا البتة، ولا خطر لي أن أبحث عنكم؛ لأني تيقنت أن إرسالي إلى الدير كان بأمركم لكي تتخلصوا مني.
– كلا! ليس ما ظننت، والحق أن أمر جوزفين هو الذي ألهاني عن التسآل عنك.
– وما أمرها يا مولاي؟
– دعه الآن فلسوف تعرفه، إن أمرها مؤلم جدًّا، فقد فقدتُكما معًا في يوم واحد، وأخيرًا … دعني من هذا الحديث المؤلم، وهلمَّ نَعُدْ إلى القصر، والأيام أمامنا، فنتحقق كل شيء ونفعل ما نريد، فكن يا حبيبي يوسف في طاعتي فتُسرَّ.
– كيف لا أكون يا مولاي كما تريد وأنت نعمتي؟!
– أرى أول مهمة أكلفك بها هي أن تذهب غدًا إلى الدير الذي ربيت فيه، وتتحقق حكاية إدخالك إليه بالتفصيل، وتعلم الأشخاص الذين أتوا بك إليه، وثم تخبرني، لا تدع شيئًا يفوتك، يجب أن تعرف كل ما تعرفه الرئيسة عنك، أود أن أعرف كل ذلك؛ لأن سرك مفتاح سر جوزفين، ولك عليَّ أنك لا تعود بهذا التقرير الضافي، حتى ترى حبيبتك في قصري تنتظرك، ما اسمها؟
– ماري المباركة.
– واسم سيدها الحالي المسيو «م. ج.» أليس كذلك؟
– نعم.
– أعرفه.
ثم درجت بهما المركبة إلى القصر.