رد الكيد إلى النحر
حين كان الأمير نعيم يتقلب على سرير المرض ويتقلَّى على نار الحمى التيفوئيدية، كان الأمير عاصم وسنتورلي مختليين في قاعة بقصر الأمير عاصم في آخر السهرة، كان الجانب الأخير من حديثهما ما يأتي:
– لقد وصلت ابنة عمتي ماري جوتيه أمس، بعد أن منعتُها عن الذهاب إلى قصر الأمير نعيم إلى أن أجتمع بك ونتفق نهائيًّا.
– ماذا عملنا في الجلسة الماضية؟ أما اتفقنا؟
– لم نتفق على كل شيء.
– على أي شيء لم نتفق بعد؟
– على فائدتي من هذا المشروع الجديد.
– فائدتك أنت؟ أَمَا كفى أن لابنة عمتك فائدة عظمى إذا نجحت في مشروعنا إذ تصير زوجة الأمير نعيم وحسبها ذلك؟!
– ولكن أنا ماذا يصيبني من ذلك؟
– كفاك أن تكون ابنة عمتك المستفيدة.
– أنا لا تهمني ابنة عمتي، ولو لم أطمع بمقاسمتها ما تستلبه من الأمير نعيم يوم درَّبتها إلى معاشرته والتحبب إليه في باريس لما دربتها ومددتها بالنقود، مع أنه كان الغرض الأول من كل ذلك خدمتك وخدمة أختك في هذه المسألة، وقد نجحت ماري في خدمة مصلحتك كما ابتغيت؛ إذ نفت جوزفين من قلب الأمير وأقصتها عنه ونفَّرته منها، ولكنها قلما نجحت في خدمة مصلحتها ومصلحتي؛ إذ لم تستطع أن تستلب منه شيئًا يستحق الاعتبار، سوى بعض حُلي أهداها إياها لم يزد ثمنها على ألف جنيه، فاستفدتَ أنت أضعاف أضعاف ما استفدناه أنا وماري، وفي هذا المشروع الجديد قد لا تنجح ماري، فماذا نستفيد منه؟
– أرجِّح لك أنه ينجح، وعندي أمل ٨٠ بالمائة من نجاحه؛ لأن الأمير نعيمًا رقيق الإحساس جدًّا وطيب القلب، فمتى صحا من خبل الحمى ورأى ماري إلى جانبه تؤاسيه وتخدمه وتُعنى به، فلا بد أن يتمنى رضاها، وحينئذ إذا استعملت كل مهارتها في استعطافه، فلا بد أن ينيلها كل ما تريد.
– وإذا صحا وأبى وجودها عنده؟
– يستحيل ذلك؛ لأنه يستحي منها على الأقل، ثم إني أغرس في ذهنه حال صحوه من الحمى كما غرست في ذهن أخته الأميرة نعمت أنه هو كان يطلب ماري فأحضرناها له.
– سلَّمت بإمكان نجاح ماري بالأمر، ولكن الفائدة لك منه عظمى جدًّا؛ لأنك من جهة تكون قد انتقمت لأختك إذ جعلت الأمير يقبل في منزله كمحظية أو كزوجة امرأة سافلة وهي من سفليات المومسات — لا تؤاخذني على هذا الكلام؛ لأنه ليس أحد سواك يعرف أنها قريبتي — ومن جهة أخرى تنتقم لنفسك إذ تعير الأميرة نعمت بزوجة أو محظية أخيها، وكم يكون فوزك عظيمًا حين يشتهر الأمر ويعرفه أفراد الأسرة كلهم، ولكن ما هي فائدة ماري متى أُقصيت من منزل الأمير مخزية؟
– المهر الذي تتفق عليه مع الأمير.
– وما فائدتي أنا؟
– يالله! ما أطمعك يا سنتورلي!
– لست طماعًا يا مولاي، وإنما يجب أن تكون المنافع متكافئة.
– نعم، يجب أن تكون مناسبة لقدر الأتعاب في الأعمال، فما هو تعبك في هذا المشروع؟
– بل ما تعبك أنت فيه؟ والأفضل أن تقول إن المنافع مناسبة لقدر تأثير الساعين إليها، ولا تجهل أني أنا دولاب هذا المشروع، وبغير إذني وبدون تدريبي لا تقدر ماري أن تفعل شيئًا.
– حسبك يا سنتورلي ما انتفعته مني في الماضي، فقد أصبحت ذا ثروة من فضلي فكفاك ما حصَّلته.
– وأنت حسبك خدمي الماضية لك.
– إذن لا تخدمني إلا بأجرة وافرة؟
– من غير بد.
– ألا تخدمني في مقابل امتناعي عن أذاك؟
– تتهددني؟
– إلى الآن لم أستعمل سلاحي ضدك؛ لأنك كنت لا تقنع بإنصافي لك، أما الآن فأراك تطمع جدًّا، فلا بد من مقاومتك بسلاح قوي.
– فهمت ما هو سلاحك، سلاحك رسالة أحمد بك نظيم التي يشرح فيها لي كيف أهلكتِ الداية عائشة الحكيمة مولود جوزفين ومولود نعمت هانم، على أن هذا السلاح لا يخيفني جدًّا؛ لأنه يضر بك كما يضر بي.
– لا يضر بي قط؛ لأني أدَّعي أني لم أعثر على هذه الرسالة إلا اليوم، وأنا براء من هذه المكيدة التي اشتركتَ أنت وأحمد بك فيها.
– ومع ذلك لا يخيفني سلاحك قط؛ لأن عندي سلاحًا ضده وقد استحضرته معي لهذه الجلسة؛ لأني من محاولتك في الجلسة السابقة علمت ما في نيتك، وتوقعت أننا نصل إلى هذه النتيجة التي وصلنا إليها.
فارتعد الأمير عاصم قليلًا وضحك.
– لا تضحك! انظر، ها وصية المرحوم إبراهيم الحقيقية التي هي بخط يده ولم يعرف بها أحد سواي، وقد كتمتها إلى مثل هذه الساعة، فهي تفضح الوصية التي زورتها أنت إذ قلَّدتَ خط المرحوم فيها ودسستها بين أوراقه، لا تدنُ مني، انظر من بعيد، ها إمضاء الأمير إبراهيم باشا صدقي وكلها بخط يده، وهي تثبت أن كل التركة للأمير نعيم وأخته نعمت هانم ولم يُوصَ لك فيها إلا ببعض الأفدنة والبيوت، أما أنت فاستوليتَ على ثلث التركة زورًا وخداعًا، فإن كنت تتهددني برسالة عائشة أتهددك بهذه الوصية.
– ألا تبادلني؟ أعطيك الرسالة فتعطيني …
– أبادلك! ولكن كم تدفع علاوة؟
– لا أدفع شيئًا، مسكين! إنك مجنون، إني أجربك، فلا تظن أن لهذه الوصية قيمة وقد مضى عليها ١٥ عامًا، ومع ذلك احفظ سلاحك معك وسلاحي معي ودعنا من مشروعنا الحاضر.
– ذلك هو الأفضل؛ لأن اتفاقنا بعد الآن أصبح صعبًا ولا سيما في هذا المشروع؛ لأني أراه عقيمًا.
وعند ذلك افترقا وبرح سنتورلي إلى منزله، وما ابتعد كثيرًا عن بوابة القصر في ذلك الظلام الدامس، حتى وثب له من كمين رجلٌ ورشَّ على وجهه رملًا ناعمًا جدًّا ملأ عينيه فلم يعد يرى شيئًا، وفي الحال صرعه ومدَّ يده إلى جيبه وأخذ منها أوراقه ومن جملتها ورقة الوصية التي عرضها للأمير عاصم قبل بضع دقائق كما علم القارئ، ثم تركه ومضى، أما سنتورلي فانشغل بألم عينيه ولم يعلم مَن هذا الذي باغته هكذا، وماذا ابتغى منه.