الهدية الثمينة
– كيف رأيتِ هديتي لك يا عزيزتي جوزفين؟
– تعني بها الصبي يوسف؟
– نعم. وابتسم الأمير نعيم ابتسامة حب.
– لا أقدر أن أحكم حكمًا نهائيًّا فيها ما لم أعلم ما هي قيمتها عندك؛ لأن نظري إلى الأشياء متوقف على نظرك لها، ولا سيما هذه الهدية على الخصوص، على أني أقول لك كل ما هو منك لا أقدر أن أقدره بثمن.
فألوى الأمير نعيم على جوزفين وضمها إلى صدره، ولثم شفتها، ثم اعتدل في مجلسه.
– كيف رأيتِ الصبي؟
– رأيته جميلًا جدًّا ووديعًا …
– بل قولي: ذليلًا.
– ولطيفًا وأليفًا. واستغربت كيف أنه لم يستوحش قط، بل كان مسرورًا بالأمس، أما اليوم فشعرت أنه استوحش قليلًا، فتلافيت وحشته بأن لاطفته ومازحته.
– بارك الله فيكِ يا جوزفين يا حبيبتي، ألا تتوسمين ذكاء في عينيه؟
– بلى هذا ما لحظته وفاتني أن أذكره لك الآن، ولا تجهل يا حبيبي نعيم أن النساء أول ما يبدر إلى ذهنهن أمر الجمال ونحوه من المظاهر الخارجية، ولكن قل لي ما حكاية هذا الولد؟ فإني لم أفهم من رسالتك بشأنه سوى أنه مهمَل؛ إذ تسألني هل أشاء أن أربيه كابن لي، ثم تخبرني أن لك رغبة في ذلك، وإنما تقدم رغبتك على رغبتي في أمره.
– وجدته في عزبتنا في ق. عند الشيخ حسن النعمان وكيل العزبة، فدهشني منظره وحكمت لأول وهلة أنه لا يمكن أن يكون ابن حسن المذكور؛ لأن سحنته تختلف كل الاختلاف عن سحنة أولاده فضلًا عن بياض وجهه الناصع، ثم إني رأيت حسنًا هذا وزوجته وأولاده يعاملونه بكل قساوة كأنه غريب عنهم، فحرق قلبي عليه ورثى له، وشعرت في نفسي بحب له وحنوٍّ عليه، فسألت الوكيل حسنًا: لماذا يقسو عليه؟ فأجابني: ما استفدت منه أن الغلام ليس ابنه، فتحققت أمره وعلمت أنه لقيط، حظيت به المرحومة عائشة الداية، فدفعته لحسن لكي يربيه، فخطر لي في الحال أن أتولى تربيته على يدك لغرضين: أولًا: لكي يملأ فراغًا في قلبك؛ فإنك وقد وصلت إلى دور الأمومة ولم يُنعم الله عليك بسوى جنين قضى قبل أن تريه ويراك، لا بد تتوقين إلى ولد تربينه وتفرغين له حنوك، وقد توسمت في ملامح هذا الصبي ما يجاوب طلب فؤادك …
– عجيب! كأني بك تعبِّر عن إحساساتي وتشرح عواطفي، والحق أقول لك إني ما رأيت هذا الصبي حتى انعطفت عليه؛ لأن سيماه انطبعت في الحال على صفحة قلبي وشعرت بالميل نحوه كما توقعت.
– ثانيًا: قصدت بذلك أن أنجيه من عيشة الشقاء التي كانت أمامه، بل من الهوان الذي كان مرافقًا له كظله بين أولاد حسن النعمان، قصدت ذلك لأني توسمت فيه مخائل النجابة والذكاء والفطنة، ولاحظت أنه لم يُخلَق لمثل هذا النوع من الحياة، وأنه إذا رُبِّي تربية صالحة وتلقَّن العلم، فقد يكون فردًا عاملًا نافعًا في الهيئة الاجتماعية، وربما صلح لأن يكون ممثلًا لاسمنا في مستقبله.
– حسنًا فعلت، ولقد صدق ظنك بي، بل إني أضيف هذا الأمر إلى الدلائل العديدة التي تدلني على حبك الصادق، وسترى أني أتمم كل مقاصدك في هذا الصبي.
– في كل حرف من كلامك يا جوزفين مُضرِم جديد لنار حبي، فما أطيب قلبك وأرق شعورك! إلى متى أنتظر منك اقتراحًا فألبيه؟! بل أمرًا من أوامرك فأطيعه؟! لقد مر علينا أكثر من خمس سنين زوجَيْن فلم تسأليني سؤالًا واحدًا، ألا تريدين شيئًا؟
فابتسمت جوزفين وقد تمثَّلت فيها الدعة بأجلى صورها، وقالت: وهل غفلت يا نعيمي عن أمرٍ حتى يبقى لي سؤال منك؟! أي حاجة لي لم تلبها قبل أن أفطن لها؟! وهل يكون في حاجةٍ من هو عند النعيم؟! إن لي حاجة واحدة ولكن …
فقاطعها قائلًا: ما هي؟
– ليس في وسع أحد غير الله أن يجيبها، وهي أن تبقى لي سالمًا مسرورًا.
– يالله! ما أحلاك يا حبيبتي! لأجلك فقط أريد السلامة والسرور، ولكني أشعر معك …
– بماذا؟
– بنغصتك.
– أي نغصة؟!
– لا تنكري يا جوزفين، أشعر أنك تتنغصين وتتألمين لعدم إعلان زواجنا، ولعدم ظهورك للملأ بمظهر الزوجة الشرعية لي.
– بل إني أتألم الآن لشعورك الأليم بما تظنه من نغصتي، فهل تريد أن تريح فؤادك وفؤادي معًا بأن تعتقد أني مسرورة وراضية بهذا التخفي الذي قضت به الظروف وأوجبته عادات قومك؟
– إني لأمتنُّ لك جدًّا يا جوزفين، وأقدر قيمة تضحيتك لأجلي قدرها، وأعترف لك أنها ثمينة جدًّا.
وبعد هنيهة جاءت إحدى الخادمات بالصبي، فنادته جوزفين قائلة: هلمَّ يا يوسف إلى أبيك.
– لا، لا أريد أبي ولا أمي أريد أن أبقى معك. وكاد يغص بكلماته.
– تعالَ إلى أبيك هذا. وأشارت إلى الأمير نعيم، فدنا إليه فأمسكه بيده وأجلسه إلى جنبه وطوَّق عنقه بذراعه، وقال له: لماذا لا تريد أن تذهب إلى أبيك وأمك؟
– لأنهما يضربانني كثيرًا ولا يحبانني كهذه.
وأشار إلى جوزفين.
– إذن تحب هذه السيدة؟
– نعم، أحبها كثيرًا.
– أتريد أن تكون أمك وأنت ابنها؟
– نعم، نعم.
– وهل تحبني أنا؟
– نعم.
– إذن قم إلى أمك هذه وقبِّل يدها.
فنهض الصبي يوسف في الحال، ودنا إلى جوزفين وتناول يدها وقبَّلها، فحضنته جوزفين وقبَّلته، فقال لها الأمير نعيم: لو رأيتِهِ كما كان في العزبة لأنفتِ أن تقبِّليه؛ لأنه كان في حالة زرية جدًّا.
– أتصور ذلك.
– أكثر مما تتصورين؛ ولهذا استنكفتُ أن أرسله إليك رأسًا، بل أرسلته إلى منزل أحمد بك نظيم وكيل الدائرة، والتمست منه أن يكلِّف أهل منزله أن يغسلوه جيدًا، وأن يشتري له الملابس الفاخرة، وأن يقص المزين شعره، حتى لا يأتي إليك إلا وقد امَّحى كل أثر من آثار شقائه، وبدت ملامح بهائه.
– من لا يراه الآن ولا يقول إنه ابن الكبراء؟!
– لا ريب أن أبويه إفرنجيان لأن سحنته أوروبية أكثر مما هي شرقية، ولا بد أن يكون أحدهما نبيلًا عريقًا في الحسب إذا لم يكونا كلاهما كذلك.
– تُرى لماذا أَنكرَه؟ وكيف استطاعت أمه أن تفارقه؟
– الأرجح أنه ابن البغاء، وبقاؤه مع أمه عنوان عارٍ لها، وإذا كانت ممن لا يعبأن بالعار ولا يستحين من الشنار، فهي بلا ضمير ولا قلب، وبالتالي بلا حب ولا حنو، وبقاء ابنها معها يكون ثقلًا عليها؛ إذ لا فؤاد لها لتملأ فراغه بحنو الأمومة، فعلى كلا الحالين يكون ابن البغي منبوذًا.
– إذن هي كالتمثال المتحرك؛ لأني لا أقدر أن أتصور مرأة ذات حياة خلوًا من قلب يستوعب الحب ويعي الحنو!
– نعم هي كذلك؛ لأن سقوطها في هاوية البغي أمات فؤادها فصارت كالصنم إلا أنها تفعل أفعال الأحياء.