من الملوم؟ الرجل أم المرأة؟
ففكرت جوزفين هنيهة، وقالت: إني لأعجب كيف أن المرأة التي هي أحرص من الرجل على العِرض والشرف تسقط سقوطًا هائلًا حتى تموت هذا الموت الأدبي؟
– لا تظني أنها تسقط من نفسها، بل إن الرجل يخدعها ويُسقطها، وكلما اعتصمت بحصن قلبها هاجمه الرجل بشدة حتى يفتحه ويحتله، ومتى احتله يفعل ما يشاء؛ لأن المرأة تستسلم له حينئذ.
– نعم، هذا هو غلط المرأة؛ أنها تستسلم.
– لا تقولي «غلط» يا عزيزتي جوزفين؛ لأن الحب يقضي بهذا الاستسلام، ولا مناص للحب منه، ولكن قولي ذلك هو ظلم الرجل، بل غدره؛ أي إنه يستوهب قلب المرأة ثم ينكره عليها.
– ولكن غلط المرأة أنها تستسلم قلبها بلا حجة أو «وصل» أو صك بيدها لتطالب به عند اللزوم.
– الحب يا جوزفين متحد بالثقة، وحينما تكون الثقة لا يُسأَل عن صك وإلا كان الحب كاذبًا، فالمرأة غير ملومة في أن تسلم قلبها المفعم من الحب بلا صك، وإنما يُلام الرجل الذي يُؤمَن فيخون، وإن كنتِ تعتقدين أن المرأة تخطئ باستسلامها حتى بعد وثوقها بعهد من تستسلم له، فإنكِ أخطأتِ نفس الخطأ معي، ولو لم أفِ بعهدي لك وأقترن بك اقترانًا شرعيًّا لسقطتِ باستسلامك لي.
فبُهِتت جوزفين هنيهة مفكرة وقالت: صدقتَ في ما تتهم به الرجل من الغدر والخيانة، ولكني لا أبرئ المرأة في سقوطها، فمهما كانت مُحبَّة وواثقة لا يجوز أن تستسلم ولو صدَّقت العهد ووثقت بالوعد.
– إذا لم تستسلم لا تكون واثقة، وإذا لم تثق لا تكون مُحبَّة.
– هذا وجه الخلاف بيننا. أنت تقول إنها إذا أحبَّت كل الحب ووثقت ملء الثقة وجب أن تستسلم، كأن الاستسلام دليل على حبها وثقتها، وأنا أقول لا يجوز لها أن تستسلم مهما أحبَّت ووثقت، وليس عليها أن تثبت حبها وثقتها باستسلامها، بل بشيء آخر؛ لأن في الاستسلام تضحية، فماذا يضحي الرجل لها ليثبت حبه لها وثقته بها؟
فبُهِت نعيم هنيهة، ثم قال خافت الصوت: بماذا تثبت حبها وثقتها إذن؟
– بماذا يثبت الرجل حبه وثقته؟ أجبني أجبك.
ففكر الأمير دقيقة وهو يفتل شاربيه، ثم نظر إلى جوزفين وبين شفتيه غدير ابتسام دافق، وقال: أفحمتِنِي يا جوزفين، فإني أنظر الآن في المسألة من غير الوجه الذي كنت أنظر إليه قبلًا.
ثم استرسلت جوزفين قائلة: أسلِّم معك أن الرجل ملوم كل اللوم في خداع المرأة كما يُلام كل خائن، ولكن ليس ملومًا في سقوط المرأة كل اللوم وحده، وإنما هي تُلام أيضًا؛ لأنها تسلم نفسها بلا مقابل، فإذا تكافأ الرجل والمرأة في الحب وجب أن يتكافآ في كل شيء، فإن استسلمت له وجب أن يكافئها على ذلك الاستسلام مكافأة مساوية له على الأقل، فهي لا تسلمه نفسها إلا على مطمع أن يسلمها نفسه أيضًا، فلماذا تسلمه قبل أن تعقد العهد الشرعي معه؟ فحسبه أنها تُظهر له من الحب كما يُظهر لها. ولماذا يطالبها بأكثر وهو لم يُملِّكها ما يساوي مطلوبه؟ وإذا شكت في حبها وثقتها لعدم استسلامها له، أفليس لها أن تشك في حبه وثقته لعدم تعهده «الشرعي» العلني لها، فإن استسلمت عن ثقة تامة، ثم خُدعت لا تكون براء من الخطأ، وإن استسلمت غير معبئة بوعد أو عهد فتكون قد أسقطت نفسها عمدًا، وذنبها على رأسها وحدها، وحاصل القول أن للمرأة أن تحب وتثق وتسلم ما شاءت، إلا مقامها وعرضها، فيجب أن تحتفظ عليهما، وإذا سلَّمتْهما بلا صك أو حجة كانت ملومة بلا محالة. ولا ريب أني غلطت نفس الغلطة، ولكن لم يشأ الله أن يعاقبني على غلطتي؛ لأني سعيدة البخت إذ اتفق أني سلَّمت نفسي لأمين كله طيبة وإخلاص، ولكن ذلك لا يتفق لكل أنثى.
– أفحمتِنِي يا جوزفين، ولكنك لم تقنعيني. أسلِّم معك أن المرأة غير براء في أمر سقوطها الأدبي، ولكني ألقي تبعة الأمر أولًا على الرجل ثم عليها؛ لأن الرجل مغوٍ وهي مغواة، وهو مهاجم وهي مدافعة، وهو قوي وهي ضعيفة، تكون المرأة مطمئنة على نفسها صائنة لعرضها حريصة على عفافها، فيأتي الرجل ويحاول أن يختلس طهارتها، وقلما ظفر الرجل بعفاف المرأة إلا بناء على وعد منه لها، فإذا سلَّمته نفسها ثم خانها، أفلا يكون الذنب كل الذنب عليه؟!
– ليس كل الذنب بل معظمه؛ لأنها أذنبت قبله باستسلامها من غير عقد شرعي.
– نعم، ولكن مسكينة المرأة ضعيفة، ومع أن الواجب على الرجل أن ينصرها ويقويها، تراه يغتنم ضعفها لانتهاب عفافها وإسقاطها، وأخيرًا لا يرحمها …
فقاطعته جوزفين مباغتة: نعم، بهذه أصبت؛ «لا يرحمها»، بل يزيد شقاءها شقاء بأن ينبذها كالزهرة الذاوية، يفعل الذنوب السبعة ويظل يقال له «الفاضل العاقل الشريف النبيل الأريب …» إلى غير ذلك من الصفات الحسنة، وأما المرأة فإذا سقطت مرة سقطت إلى الأبد، وأصبحت قذارة يتحاشى الرجل أن يتصل بها علنًا لئلا يلتطخ بعارها. هل رأيت بغيًّا ناهضة من وهدة بغيها يمد إليها أحد الناس يده لينتشلها من وهدتها؟ وإذا انتشلها فهل ترى أحدًا يغض نظره عن ماضيها ويحاسبها على حاضرها؟ بل أي بغية شقية إذا حاولت النهوض عن حضيض بغيها وشقائها لا ترتفع ألف قدم لكي تدوسها وتسحقها في ذلك الحضيض.
ولكني رأيت كثيرين من الرجال، بل معظم الرجال ينغمسون في حمأة الدنس كل يوم، بل يتمرغون سرًّا عند قدمَي المرأة البغي التي يحتقرونها ويدوسونها ويتحاشون في العلن أن يعرفوها، بل يتجنبونها تجنب السليمِ الأجربَ، بل يأتون كل المنكرات ويبذلون كل شرف ويدنسون كل طهارة، ومع ذلك كله يصفون بعضهم بعضًا بأشرف الأوصاف ويُنعَتون بأطهر النعوت، وأنكى من كل ذلك أنه إذا طلب الواحد منهم زوجة، قال: أريد فتاة لم يمسها النسيم بعد!
وما انتهت جوزفين عند هذا الكلام حتى ظهرت الحدَّة في لهجتها كأنها تخاصِم، فابتسم لها الأمير نعيم ثم قال مقهقهًا: هدئي روعك، إني أوافقك على كل ما تتهمين به الرجل من ظلمه وغبنه للمرأة، وأعتقد أن في طاقة الرجل أن يقلل الفحش والفجور، بأن يعاون المرأة على حفظ طهارتها لا أن يحاربها ليبتز عفافها، يعاونها ليس بأن يحبسها عنه ويحتبس عنها، بل بأن يجري معها على السنن الطبيعية والاجتماعية؛ أي أن يتخذ المرأة حليلة لا خليلة.