مستودع الأسرار
بينما كان الأمير نعيم وجوزفين يتناقشان بهذا الموضوع الاجتماعي، كان أحمد بك نظيم رئيس الدائرة زائرًا في قصر الأميرة نعمت هانم شقيقة الأمير نعيم، وقد ساقتهما الأحاديث إلى ما يأتي: إني لأعجب من صبرك يا أحمد بك، لقد مر أكثر من خمسة أعوام على توددك هذا فلم تنقص ولم تزد، فإلى متى تلعب في فؤادي؟! أبثُّك الآن حبي الشديد الخالص، فإن كنت تخاف أن تبسط لي حبك فأنا أشجعك الآن.
– لا تجهلين مقدار غرامي يا مولاتي، تعلمين تمام العلم من غير أن أصرح به بلساني، فإن في كل جارحة من جوارحي آية بينة على هذا الحب، ولكن أين أنا منكِ يا نعمت؟!
– تعني الفرق بيني وبينك في النسب؟ إنه فرق بسيط جدًّا يا أحمد، وإن لي من المقام الذي أحرزتَهُ أنت في الهيئة الاجتماعية والمكانة التي اتصلتَ إليها في نظر الكبراء والعظماء ما يرفعك إلى مقام أسرة الأمراء، ثم إن لي من ذكائك وفطانتك وظرفك ما أفخر به، فلا فرق بيننا، وما أنا أول من تجاوز دائرة الأسرة من أميراتها، ولو شئت لعددتُ لك كثيرات من الأميرات اللواتي تزوجن من غير الأمراء، ونرد على ذلك أني كأخي نعيم لا نعبأ كثيرًا بهذه التقاليد الباطلة السخيفة، وعندنا أن شرف النفس أفضل من شرف الأصل. إني يا عزيزي أحمد أكلمك بكل حرية؛ أولًا لأني أعتقد أنك تقدِّر معنى حريتي هذه قدرها فلا تعدها تبذلًا، وثانيًا لأن لي بك ملء الثقة بأن لا تتخذ إعلان ودادي لك سلاحًا تشهره عليَّ في حين من الأحيان …
– معاذ الله يا أميرتي أن أحط من مقامك مهما رفعني الحب إلى الغرور! فإني أحبك جدًّا وأعلم بعظم محبتك لي، ولكن الحب لا يعميني عن محامدك وفضائلك وعلو مقامك.
– إذن دعنا نتكلم صريحًا بكل حرية.
فاضطرب أحمد بك كأنه يخاف نتيجة الحديث، بيد أنه لم يستطع حسم المحادثة فقال: مري ما تشائين يا سيدتي.
– تؤلمني إذ تقول «سيدتي»، نحن وحدنا الآن والحب يجعلنا متساويين، والحقيقة أننا متساويان، ألا تذكر كم كنتَ تتودد إليَّ قبل وفاة زوجي؟! (فاحمر وجه أحمد بك).
لا تضطرب، كنت ألاحظ كل حركة من حركاتك، بل كنت أسمع كل نبضة من نبضات قلبك.
– ولكني كنت أجتهد أن أغالطك؛ لكي لا تفهمي أن هذا التودد عن حب مبرِّح؛ لأنه حب محظور.
– ولكن دلائل الحب إن اختفت عن الناس فلا تختفي عن المحبوب، فقد قرأت صفحات فؤادك حينئذ وتجاهلتُ؛ لأني كنت في عصمة رجل لا يجوز لي أن ألتفت إلى سواه، ثم بعد وفاة زوجي تفاهمنا كفاية وأدركتُ مطامح نفسك، أفلا تذكر أنك كدت تصرِّح لي مرة بأمنيتك؟
– نعم أذكر، وليتني …
وتوقف أحمد بك كأنه لا يود أن يقول ما يعني.
– ليتك ماذا؟ أفصح.
– ليتني لم أفصح حينئذ عن غرامي يا سيدتي؛ لأنه غرام عقيم.
– كذا كنتَ تظن حينئذ؟
– نعم.
– تُعذر، والآن هل اقتنعت أنه غير عقيم؟
– لم يزل عقيمًا يا حضرة الأميرة.
فاتضحت أمائر الانذهال في وجه الأميرة نعمت، وقالت: عجيب! ماذا تراه حائلًا دون أمنيتك؟!
– آه! لست لي يا سيدتي.
– لماذا؟
– لأني لا أستحقك.
– تكاد تجنني يا أحمد؛ لأني ما كنت أظنك ترفض.
– لست أرفض يا أميرتي، وإنما أقول لك إنك لست لي؛ لأني لست كفؤًا لك، بل أنا أدنى جدًّا من أن أكون لك.
– ألا تصدق أن النسب لا يفرق بيننا؟
– لو كان النسب وحده فارقًا لما حسبته حائلًا بيننا.
– إذن الغنى؟
– إذا لم يكن النسب حائلًا، فهل يمكن أن يكون الغنى كذلك مع أنه شيء ثانوي بالنسبة إلى النسب؟ ومع ذلك فإني أصبحت من فضل بيتكم الكريم ذا ثروة طائلة.
– نعم؛ هذا ما أراه مجرئًا لك على طلب يدي … فإذن ماذا؟
فتنهد أحمد بك وقال: آه! اعذريني يا مولاتي، إنك قد تنازلتِ كثيرًا لمن لا يستحق إلا الخزي منك، رحماك! سامحيني؛ إني لست مستحقًّا لكِ.
– حيَّرتني يا أحمد! أفصح، ماذا تعني؟
فاضطرب أحمد جدًّا وتلعثم لسانه وهو يقول: إنك لمن هو أعظم مني.
– هاها! أنت تتخوَّف من الأمير عاصم؟! فتأكد أنه لا ينال قلامة ظفر مني لأني لا أحبه، وقد أوشكت أن أكرهه؛ لأنه ضايقني جدًّا بالتماس يدي، وإن كان عندي شيء من الحب له فما هو إلا حبٌّ أخوي فقط، كاد يطفئ نوره بشدة مضاجرته لي، فإن كنتَ تحسب له حسابًا فاعلم أن إرادتي فوق كل إرادة.
– ليس هذا هو الحائل الوحيد مع أنه كافٍ.
– قلت لك إنه ليس حائلًا البتة؛ لأن إرادتي في ما يخصني فوق كل إرادة.
– ولكن …
– ماذا؟ قل، لقد نفد صبري.
وكادت نعمت هانم تستشيط غيظًا؛ لأنها حادة المزاج، وقد شقَّ عليها جدًّا أن يقابل أحمد بك عرضها نفسها بهذا الخذلان.
– مولاتي، رحماك! اعذريني وسامحيني، أكون لك ما شئتِ غير بعل، أكون خادمك أو خادم خادمك.
– خسئت يا جبان، أأعرض يدي على خادم؟! ما عرفتك بهذه النذالة!
ثم نهضت على قدميها وهي تقشعر من الغيظ وقالت: اسمع، إنك بعد الآن عدوي الألد، إن عرف أحد حرفًا مما دار بيننا لا تدري من أين تنصبُّ عليك البلايا!
فركع أحمد بك عند قدميها وأمسك بحاشية ثوبها متضرعًا.
– رحماك يا أميرة! رحماك! لست نذلًا ولا جبانًا إلا لديك؛ لأني أعدُّ نفسي أثيمًا لك فلا أستحقك، فارحميني واستخدميني لأي مأرب تريدينه.
– لا تصلح لشيء؛ لأنك نذل.
– كلَّا يا مولاتي، أفصحت لك السبب.
– أي سبب؟!
– قلت لك إن فيِّ عارًا لا يُمحى فأدنِّسك لو كانت لي صلة بك.
فتنبهت الأميرة لكلامه قائلة: ماذا؟! أي عار هذا؟! لا أفهم.
– لا أقدر أن أقول لك أكثر مما قلت.
– بل تقول، فإما أن أمحي عارك أو أن أعذرك.
– عاري لا يُمحى، فاعذريني.
فعادت الأميرة إلى مكانها وقعدت مفكرة وقد أخذ اضطرابها أن يسكن، وبعد سكوت هنيهة قالت: أما تقول لي سرك هذا؟!
– رحماك رحماك! ليس في وسعي، فأرجوك أن تَمُنِّي عليَّ بالمعذرة …
– يالله! لم أكن أظن أنك ذو أسرار.
فأطرق أحمد بك هنيهة، وهو يصلي في قلبه أن يخرج من هذا المضيق كما دخل، ثم قالت: إذن تستحيل إزالة هذا الحائل السري بيننا!
– نعم! نعم!
– ليتني أعرفه لعل لي حيلة فيه.
– ليتني أقدر أن أبوح به حتى لنفسي.
– أخفتني يا أحمد بسرِّك هذا.
– لا تخافي.
– هل له مساس بي؟
– كلا.
ولكن قشعريرة عبرت في بدن أحمد من رأسه إلى أخمص قدميه حتى لمحتها نعمت لمح الوميض.
– لقد هجتني إلى معرفة هذا السر.
– لا تهتمي به يا مولاتي، فإنه من خصائصي.
ففكرت نعمت برهة وقالت: هل يهم الأمير عاصم؟
– كلا، ولكن …
– لكن ماذا؟ قل: حالًا. فإني لا أطيق هذا الكتمان بعد الآن، إنك تضطرني إلى فعلٍ سيئ المغبة.
فنظر أحمد بك إلى عينيها، فذعره التهابهما بنار السخط.
– مولاتي، إن الأمير عاصم نهاني نهي الآمر المطلق عن أن أتعرض لك بأمر.
فقهقهت قائلة: أهذا كل سرك؟
– شيء منه.
– ولكنك قلت إنه لا يمس الأمير عاصم.
– نعم؛ لا يمسه سري الحقيقي.
– لم أزل غير فاهمة.
– بربك يا مولاتي، لا تجتهدي أن تفهمي شيئًا؛ لأن فهم الأمر لا يفيدك وإنما يضرني.
– ألا تثق بي؟!
– كل الثقة.
– فلماذا لا تقول إذن؟!
– لأن لا فائدة من القول.
– من العبث أن أستدرجك إلى التصريح على ما أرى. (ثم سكتت برهة وهي تفكر وأحمد بك لا يجسر أن يفوه ببنت شفة ويخاف أن يستأذن للانصراف.) إن كان كل خوفك من تهديد عاصم فبكلمة واحدة أقصره …
– كلا يا مولاتي، لا يخيفني أحد إلا نفسي، فاقتنعي أن الأفضل لكِ أن لا أتصل بكِ.
– كفى! كفى! امضِ وانسَ كل ما كان، بل اصبر، لماذا إذن كنت تتحبَّب إليَّ في ما مضى؟
– لأني في بدء الأمر كنت بلا سر، ولما تمكن فيَّ حبك لم أعد أقدر أن أكتمه، فاعلمي يا مولاتي أن الحب مقوِّدي في يدك، على أني أحبك وأبقى عازبًا لأجلك.
عند ذلك استلقت الأميرة نعمت في مقعدها واهية، وقالت: اذهب عني الآن؛ فإني محتاجة إلى الراحة، لم يعد لي عصب يحتمل المزيد من التأثر.
فانصرف أحمد بك وهو لا يدري أين يهلك نفسه.
•••
أما أحمد بك فكان شابًّا ظريفًا لبقًا جميل الطلعة خفيف الدم، وقد تخرَّج في المدارس العليا جيدًا، ثم تولى إدارة دائرة الأمير إبراهيم وأظهر حذاقة في ضبط أعمالها ودقة حساباتها، وأبدى غيرة فائقة على ذلك البيت الكريم حتى كان محبوبًا من كل أفراده، ونال عندهم مكانة سامية، وقد كان بينه وبين نعمت هانم من الود، بل من الحب الشريف، ما أفضى إلى هذا الحديث الذي سلف ذكره.