أمامنا عقبتان: الصبي وجوزفين
في اليوم الثالث عاد المسيو سنتورلي من ق، واختلى مع الأمير عاصم ليخبره نتيجة بحثه عن الصبي.
– أعرفت كل شيء؟
– تقريبًا كل شيء.
– ماذا؟
– أرجِّح أن الصبي ابن الأمير نعيم من جوزفين.
– هذا ما لاح لي، فقد صدق ظني، أخبرني تفصيل المسألة.
– توجهت إلى الشيخ حسن النعمان في ق. بحجة مباحثته في أشغال زراعية، ومن حديث إلى حديث توصلت إلى حديث عائلته، فقلت له: «كم ولد عندك؟» قال: «أربعة صبيان وابنتان.» قلت: «أعهد أن عندك ثلاثة صبيان.» قال: «الثالث لم يكن ابني حقيقة، وقد رآه عندي الأمير نعيم فاستحسنه وأخذه لكي يربيه.» قلت: «أهو الصبي الذي عند الأمير الآن إذن؟» قال: «نعم؛ هو.» قلت: «أما هو ابنك حقيقة؟» قال: «كلا.» قلت: «ابن من إذن؟» قال: «لا أدري سوى أن المرحومة عائشة الداية دفعته إليَّ يومًا وهو في الحول الثاني من عمره، وقالت: هل لك أن تربي هذا الغلام؟ فقلت لها: إني أربيه لعله ينفعني ولو خادمًا.» قلت: «أما سألتها عن أبويه؟» قال: «سألتها فحاولت أن تهرب من الجواب، ولكني ألححت عليها، فأفهمتني تلميحًا أنه لقيط ابن بغي وفسق.» فقلت: «أما لاحظت ما إذا كانت تعرف أبويه أو تجهلهما؟» ففكر هنيهة وقال: «أظنها كانت تعرف أمه؛ لأني سألتها عنها لظني أنها هي التي ولَّدتها، فراوغت في الجواب، فاستدللت أنها تعرفها ولكن لا تريد أن تقول.» فقلت له: «ألا تعلم أين كان قبل أن أتت به إليك؟» فقال: «لم أسألها ذلك؛ لأنه أين يكون إلا عند أمه؟!» فقلت له: «ولكن أتظن أن أمه تربيه سنتين ثم تهمله؟» فافتكر هنيهة ثم قال: «لم يخطر لي هذا الخاطر؛ ولهذا لم أدقق في تسآلها، ولو دققت لما أجابتني شيئًا؛ لأني لاحظت حينئذ أنها كانت شديدة الكتمان.» فقلت: «أما سألك الأمير نعيم عن أصل هذا الصبي؟» فقال: «سأل أقل مما سألت، وعرف كما عرفت ولم يبدُ منه اهتمام بأن يعرف أكثر؛ لأنه على ما لاح لي اقتنع بأن الغلام ابن بغي.» فقلت له: «بالطبع ما هو إلا ابن مومس أو ابن زنا، أبت أمه أن تحتضنه لئلا يكون عنوان عار لها أو ثقلًا على حياتها.» وإذ اكتفيت بما تقدم واقتنعت أنه لا يدري سوى ما قاله انتقلنا إلى حديث آخر وأنا أُظهر له أني لم أهتم بالتسآل عن أمر الصبي إلا من قبيل ميل الإنسان إلى الاطلاع على الأسرار.
وكان الأمير عاصم يسمع حديث سنتورلي وفمه مشقوق وقلبه قوي الخفوق، فلما استوعب كل كلامه قال: أتظن أن هذا الغلام هو ابن جوزفين الذي عهدنا إلى عائشة الداية أمر خنقه أو إهدائه للراهبات في ملجأ اللقطاء، وأن تدَّعي أمام أمه أنه وُلِد مائتًا؟
– كذا أظن.
– ولكن الدلائل غير واضحة ولا مؤكدة؛ لأنه يُحتمل أن يكون صبيًّا آخر غير ابن جوزفين، ولدته إحدى البغيات أو الزواني على يد عائشة، وأوعزت إليها أن تعطيه لأحد الناس لكي يربيه.
– لا أظن ذلك يا مولاي، لأنه لو كان ابنًا لغير جوزفين كما تظن، لما كانت أمه تسلمه لأحد بعد أن تربيه عامين، إذا كانت قد استبقته عندها عامين، ولا كانت الداية عائشة تعطيه للشيخ حسن النعمان، بل بالأحرى كانت ترميه أمام باب الدير كما يُرمى سائر اللقطاء، فإعطاء عائشة إياه للشيخ حسن يدل على أن لها قصدًا بذلك.
– ماذا ترى قصدها؟
– أظن قصدها أن يقع الصبي بين أيدي أهله كما جرى.
– لقد أخفتني يا سنتورلي بهذا التعليل القريب من الصحة، وسواء صدق ظننا أو لم يصدق يجب أن نفترضه صادقًا ونعمل عملنا مراعين هذا الافتراض.
– ماذا تعني يا مولاي؟
ففكر الأمير عاصم برهة، وقال: ألا تظن أنه إن صدق ظننا كان هذا الغلام خطرًا علينا وإفسادًا لمشروعنا؟ لأنه إن عرف بعدئذ تاريخ ولادته أو حياته الأولى انفضح جرمنا، أقول جرمنا؛ لأنك أنت شريك فيه.
فضحك سنتورلي ضحكة الوجل، واستمر الأمير في خطابه.
– ثم إن ثبوت بنويته للأمير نعيم يفسد مشروعي ويهدم كل آمالي.
– إذن ماذا تريد؟
– أما هو عقبة عظمى في سبيلنا؟
– تريد إذن أن نزيل هذه العقبة؟
– ألا ترى وجوب ذلك؟
– نعم نعم.
– ولكن يجب عليك قبلًا أن تتحقق ماذا يعتقد الأمير نعيم وجوزفين بأمر الصبي، وماذا يظنانه.
– أستطيع ذلك بسهولة؛ لأن مربية الصبي إيطالية وقد تعرَّفت بها وصرت صديقها، فأقدر أن أتحقق منها ذلك من غير أن تلاحظ أن لي قصدًا مهمًّا.
– تفعل حسنًا، يبقى عليك أن تفحص عن تاريخ حياة الصبي الأولى من زوج عائشة وغيره من ذويها وأصدقائها إن استطعت.
– سأفعل، وإذا صدقت ظنونًا؟
– إذا ثبت أن الصبي ليس ابن نعيم فقد زالت مخاوفنا، وإنما يبقى الصبي إفسادًا لمشروعنا؛ لأن وجوده بين نعيم وجوزفين كابن لهما يؤيد ارتباطهما ويتعذر بعده أن يطلقها؛ لأن حبهما للصبي يكون صلة حب قوية بينهما، ثم يُخشى أن يتمكن حب نعيم للصبي إذا رباه وصار رجلًا ذا شأن وأن يهبه ثروته بعد ذلك، وأما إذا ثبت أن الصبي ابن نعيم وجوزفين حقيقة فإن كانا قد عرفا حقيقة أمره وسكتا فلا نستطيع أن نطمئن لسكوتهما، وإن كانا لا يزالان يجهلانها فلا بد أن يعرفاها ولو بعد حين، فإذن نحن تحت خطر على كل حال ومشروعنا مهدد على الدوام.
– نعم مهدد ما دام الصبي موجودًا في قصر الأمير نعيم.
– كذا كذا.
– إذن لا بد من إبعاد الصبي على كل حال، سواء ثبت أنه ابن الأمير أو كان ابن سواه.
– كذا أرى، ولكن لا تغفل عن تحقق أمره لكي نطمئن ولا نشغل القارئ الكريم بتفاصيل تحقيقات المسيو سنتورلي، فإنه استفهم من مربية الصبي فتأكد له أن الأمير نعيمًا وجوزفين يعتقدان أن الصبي ابن زنا، واستقصى كثيرًا عن حقيقة أمره من ذوي عائشة الداية، فوجد أنهم لا يعرفون شيئًا، وأن عائشة لم تترك أثر خبر عن الصبي.
فاطمأن الأمير عاصم بعض الاطمئنان؛ لأنه رأى أن اعتقاد الأمير نعيم وجوزفين بنغولة الصبي يمد أمامه أجل السعي والعمل لمشروعه، ولكنه بقي متخوفًا أن يصدق ظنه بأن الصبي ابن نعيم الحقيقي، وأن يهتدي الأمير إلى هذه الحقيقة قبل أن يبلغ عاصم إلى وطره؛ ولذلك قال لسنتورلي: إذن يجب أن نبتدئ بمهمتنا منذ الآن بكل سرعة وهمة ونشاط، أمامنا عقبتان كما أفهمتك.
– نعم، الصبي وجوزفين.
– والواجب؟
– إزالتهما.
– متى يتسنى لك ذلك؟
– ليس في العهد القريب.
– متى تظن؟
– حين يفترق الأمير نعيم عنهما افتراقًا طويلًا بعيدًا.
– أتتوقع افتراقه؟
– كلا؛ لأنه لا يسافر سفرًا بعيدًا إلا وجوزفين إلى جانبه، وفي كل صيف يبرحان معًا إلى أوروبا.
ففكر الأمير عاصم برهة ثم قال: عليَّ تدبير طريقة لحمله على أن يسبقها إلى أوروبا في هذا الصيف، فإني أخلق له مهمة في الآستانة أو غيرها تضطره إلى السفر على حين فجاءة، فيسافر على أمل أن تتبعه جوزفين إلى أوروبا.
– وأنا عليَّ الباقي.
– ماذا تفعل؟
– لا أدري الآن، ولكن كن على ثقة بنجاحي.
– ولكن يجب أن تبعدها عنه وتترك له منها أثرًا سيئًا له لكي يكرهها ولا يسأل عنها في ما بعد.
– سأضع خطة وأشرحها لك مسهبة وأرى رأيك فيها.
– ثم يجب أن تظهر دائمًا بمظهر الموافقين لكل رغائب نعيم والشاعرين معه بسروره وترحه.
– طبعًا، وإلا أخفق مسعانا.
– إذن نفترق على أن نفتكر مليًّا بالأمر.
– من غير بد.
– ولا ريب عندي أنك مقتنع بأن مآل المشروع للخير الأعظم نحو هذا البيت الكريم الذي خلَّفه سيدك المرحوم صدقي باشا …
– بالطبع.
– لأن كل قصدي أن لا يمتزج بالأسرة نسب وضيع.
– نعم، ذلك واجب.
وهمَّ سنتورلي أن يخرج، فأمسك الأمير عاصم بيده، ونهض ومشى معه إلى الباب هامسًا: أما جزاؤك فلا تجهله.
– لا شك عندي بذلك، وحسبي أني شريكك بخدمة الأسرة الكريمة في مشروع جليل الغاية.
– بارك الله فيك.
وخرج سنتورلي وهو يقول في نفسه: ما أجنَّه! يظنُّ نفسه أنه يطلي عليَّ بهذه البراهين والتعاليل التي يجتهد أن يبرر عمله الشرير بها! حاول أن يقنعني بأن الأمير نعيمًا لا يساكن جوزفين لأنه يحبها، بل لأنه يأبى أن ينكث عهده معها وأنه يحب بهجت هانم، مع أني أعرف مثله أن الأمير نعيمًا يعبد جوزفين ولا يطيق بهجت، وإنما يكرمها إكرام الأخ للأخت. وما لي وله؟! أخدمه بأجرتي وقد جمعت ثروة طائلة من جراء خدمي لهذا الشرير، وما دام في يدي سلاح ضده لا أخاف شره، فإن لم يجزِنِي على خدمه بما أريد أعلنت له وصية الأمير صدقي الحقيقية التي تفسد وصيته المزورة.