مهمة … في برايتون!
كان الظلام متكاثفًا، في تلك الليلة من شهر ديسمبر، على الطريق من لندن إلى «برايتون» … هذه الضاحية الجميلة الساحلية، التي يلجأ إليها الناس صيفًا؛ هربًا من زحام لندن الخانق، وجوها المُتجهم …
ولكن في شهور الشتاء، يقلُّ الإقبال على «برايتون»، ولا يبقى فيها إلا سكانها الأصليون … وكانت عند «عثمان» مهمة محدَّدة في «برايتون» تلك الليلة … أن يتوجه إلى فندق «القرصان»، ويسأل عن رجلٍ يُدعى «مايكل راف»، ويتسلَّم منه شريط «فيديو»، مُسجَّلًا عليه لقاء بين الزعيم الجديد لعصابة سادة العالَم، والذي يرمز إليه باسمِ مستر «إكس»، أي غير المعروف، أو غير المرئي … وبين «مايكل راف» نفسه …
كان هذا الشريط هامًّا جدًّا … فهو الشريط الوحيد الذي عليه صورة للمستر «إكس» وهو يتحرَّك ويتكلم … مُحددًا ملامحه … ولم يكن هناك في العالَم كله صورة أخرى للمستر «إكس»، لسببٍ بسيط … إن «إكس» قد أجرى عملية تجميل في وجهه، غيرت ملامحه تمامًا … وبعض الصور القديمة التي التقِطت له في مناسباتٍ مختلفة لم تعُد تُمثله إطلاقًا …
وقد سُجِّل هذا الشريط بطريقة خفية، أثناء لقاء أخير، تمَّ بين «إكس» وبين «مايكل راف» بكاميرا كانت مُخبَّأة بعنايةٍ في مكان اللقاء.
كان «مايكل راف» قد اتصل عن طريق عميل رقم «صفر» في «لندن»، وعرض بيع الشريط مقابل مبلغٍ ضخم من المال، يأخذه ثم يغادر إنجلترا كلها، بل وأوربا كلها إلى أمريكا اللاتينية، ليعيش تحت اسمٍ مُستعار، وجواز سفرٍ مُستعار … ليبدأ حياة جديدة، بعيدة عن عالَم المُجرمين السُّفلي، والذي قضى فيه الشطر الأكبر من حياته.
كان في دُرج السيارة جواز السفر، وكل الأوراق التي طلبها «مايكل راف»، وبجواره مُسدس ضخم … استعدادًا للمفاجآت … وعلى المقعد المجاور ﻟ «عثمان»، حقيبة صغيرة بها المبلغ الضخم، الذي اشترط «مايكل راف» أن يتسلَّمه نقدًا.
بدأت السُّحب تزيد من عتمة الليل السوداء … وبدأ رذاذ خفيف يتساقط، وضوء السيارة القوي يفرش الطريق إلى «برايتون» … و«عثمان» يستمع إلى شريطِ موسيقى، اشتراه منذ ساعاتٍ من لندن، ليُؤنس وحدته في الطريق إلى «برايتون» …
كان «أحمد» و«زبيدة» و«بو عمير» و«إلهام» في المقر السرِّي للشياطين في لندن … وقد وقع الاختيار على «عثمان» للقيام بالمُهمة وحده … فقد كان «عثمان» يعرف الطريق جيدًا إلى «برايتون» … ففي طفولته، قضى فترةً من الوقت في هذه الضاحية الجميلة، مع خاله الأستاذ «بشير الطيب»، الذي كان يدرس في إنجلترا …
بدأ الرذاذ يتحوَّل إلى مطرٍ كثيف … أخذ يضرب السيارة بشدة، وينهمر بوحشية على الزجاج الأمامي، فيكاد يحطمه … بينما مَسَّاحَات المطر تحاول إبعاد المياه المتدفِّقة … واضطر «عثمان» إلى تخفيض سرعة السيارة، فقد أصبحت الأرض زلقة، وتحتاج إلى قدْرٍ أكبر من المهارة والإتقان في القيادة.
مضت نصف ساعة والمطر يتدفق. والطريق خالٍ إلا من بعض السيارات، تمرُق بين الحين والحين، عندما شاهد «عثمان» على جانب الطريق سيارةً مُعطلة … وسيدة عجوزًا تقف بجوارها تُشير بيدِها، وقد حملت مظلَّة تتقي بها المطر …
نظر «عثمان» سريعًا في ساعة السيارة … كانت تُشير إلى التاسعة وخمس دقائق … وموعده في «برايتون» الحادية عشرة … إذن ما زال هناك وقتٌ طويلٌ أمامه.
وهكذا أخذ يُهدِّئ من سرعة سيارته تدريجيًّا، حتى توقف تمامًا عند سيارة السيدة العجوز، وجمع ثيابه حول جسده، ثم نزل ودار حول السيارة، ووقف أمام السيدة العجوز يسأل: ماذا حدث؟
ردَّت السيدة بلهفة: لقد تعطَّلت السيارة!
عثمان: أفهم ذلك … ولكن إلى أين أنتِ ذاهبة؟!
السيدة: إلى مزرعة «روز» … إنها قريبة من هنا!
عثمان: كم المسافة؟
السيدة: نحو عشرة كيلومترات.
فكَّر «عثمان» لحظات … ثم نظر إلى ساعته على ضوء السيارة … كان لا يزال أمامه مُتسعٌ من الوقت … فالمسافة بين «لندن» و«برايتون» لا تستغرق أكثر من ساعةٍ بالسيارة … وقد قطع أكثر المسافة ولم يبقَ إلا القليل … وهذه السيدة العجوز تحتاج إلى مساعدة … لا بدَّ من القيام بها.
قال عثمان: اركبي بجواري.
ردَّت السيدة: لكن زوجي المريض بالسيارة … لقد كنا عند الطبيب في لندن … وكانت حالته طيبة … ولكنه فجأة أحسَّ بتعبٍ شديدٍ … و…
قاطعها «عثمان»: لا داعِيَ لإضاعة الوقت في الشرح. هيا بنا.
اتجه معها إلى سيارتها … فوجد الرجل العجوز يجلس في السيارة، وقد ضمَّ معطفه إلى جسده النحيل، وهو يرتعِد من البرد … فتح «عثمان» باب السيارة، ثم انحنى على الرجل، وحمله بين ذراعيه كما يحمل طفلًا صغيرًا …
أسرع «عثمان» إلى سيارته، وأجلس الرجل في المقعد الخلفي … وطلب من السيدة العجوز أن تجلس بجواره، ثم قفز إلى عجلة القيادة، وطلب من السيدة إرشاده إلى الطريق …
بعد مسافة قصيرة قالت السيدة: انظر يمينك … هناك طريق جانبي عليه لافته باسم المزرعة ادخل فيه.
ولم تكد السيدة تُكمل جملتها، حتى شاهد «عثمان» اللافتة … فأبطأ قليلًا ثم انحرف يمينًا، ودخل إلى طريقٍ جانبي ضَيق تُظلله الأشجار العالية.
مضتِ السيارة تشُقُّ طريقها في بطءٍ، تحت قطرات المطر المتساقطة، و«عثمان» ينظر إلى الساعة بين لحظةٍ وأخرى … كان لا يزال أمامه نحو نصف ساعة … وما بقي من الطريق إلى «برايتون» لا يزيد عن عشرين كيلومترًا … وأحسَّ بالاطمئنان، ونظر إلى المرآة الداخلية، وشاهد العجوز وهي تنحني على زوجها المريض، وتُحدِّثه همسًا.
طالت المسافة إلى نحو ثمانية كيلومترات … وشاهد «عثمان» فيلَّا مُظلمة تمامًا، في نهاية الطريق، مُحاطة بأشجارٍ عالية، وأدرك أنها فيلَّا الزوجَين العجوزَين … وسرعان ما وقفت السيارة أمام الفيلَّا الغارقة في الظلام … وأسرعت السيدة العجوز تنزل …
قالت ﻟ «عثمان»: سأفتح الباب … هل تتفضل بحمله إلى داخل المنزل … إننا لن ننسى لك هذا الصنيع …
أسرع «عثمان» بفتح باب السيارة وحمل الرجل العجوز بين يديه … وصعد دَرج الفيلَّا … وكان الباب قد فُتح، وأضاءت السيدة العجوز الأنوار.