حديقة الورد
حدث ذلك في زمن مضى. وممَّا يُذكر أن شيخ الحارة حكاه لي ونحن جلوس في حديقة الورد؛ فقد عُثر على حمزة قنديل بعد اختفاءٍ طويل وهو جثةٌ هامدةٌ في الخلاء.
وُجد مطعونًا في عنقه بآلة حادة، مخضَّب الجلباب والعباءة بالدم المتجمِّد، عِمامته مطروحة على مبعدة يسيرة من الجثة، أمَّا ساعته ونقوده فلم تُمس؛ ممَّا يقطع بأن الجريمة لم تُرتكب من أجل السرقة. وتولَّت الجهات الرسمية الفحص والتحقيق، وانفجر الخبر في الحارة، وذاع بسرعة النار في نشارة الخشب.
وترامى الصوت من بيته، وجاوبَته الجارات بالمشاركة الواجبة، وتبادل الناس النظرات، وساد جوٌّ من التوتُّر والرهبة، ولم تخلُ بعض السرائر من ارتياح خفي، وأيضًا ممَّا يشبه الشعور بالذنب، وأفصح عن شيء من ذلك عم دكروري بيَّاع اللبن حين همس لإمام الزاوية: القتل أكبر ممَّا يتوقَّعه أحد، رغم عناده وثقل دمه!
فقال الإمام: يفعل الله ما يشاء.
وسألَت النيابة عن أعدائه، فكشف السؤال عن جو متحفِّظ غامض. أرملته قالت: إنها لا تعرف شيئًا عن علاقاته في الخارج. ولم يشهد أحد بوجود عداوة بين القتيل وبين أحدٍ من أهل حارته، بل لم يُدلِ أحد بشهادة نافعة. ونظر المأمور إلى شيخ الحارة متسائلًا فقال: كل ما لاحظته أنه لم يكن له أصدقاء!
ولمَّا سُئل عن أسباب ذلك قال: كانوا يستثقلون دمه ولم أهتمَّ بمعرفة السبب.
ودلَّت التحريات على أن الخلاء كان طريق ذهابه إلى عمله في التربيعة وعودته منه. ولم يكن يصحبه أحد في ذهابه أو إيابه. وأمام السؤال التقليدي عمَّا إذا كانوا يشكُّون في أحد أجابوا بالنفي القاطع، ولم يكن أحد يصدِّق أحدًا، ولكن هكذا جرت الأمور. ولكن لماذا لم يكن لحمزة قنديل صديق في الحارة؟ وهو ما يرجِّح بأنها كانت تضمر له العداء؟ قال شيخ الحارة: إنه كان ممن سبقوا إلى شيء من التعليم، فكان يجلس في المقهى يحدِّث الناس عن عجائب الدنيا التي يطَّلع عليها في الصحف، فيثير الدهشة ويجذب الانتباه. هكذا صار قعر كل مجلس يكون فيه، واحتلَّ مركزًا لا يراه الناس لائقًا إلا برجال الحكومة أو الفُتوات، فحنقوا عليه وتابعوه بقلوب مليئة بالسخط والحسد. وبلغ الأمر نهايته من التوتُّر عندما تكلَّم ذات يوم عن القرافة كلامًا عُدَّ خارجًا عن حدود العقل، وذلك عندما قال في أثناء حديث له: انظروا إلى القرافة. إنها تقع في أجمل موضع في حيِّنا!
وتساءل الناس عمَّا يريد فقال: تصوَّروا شمالها حيًّا سكنيًّا، وجنوبها حديقة!
وغضب الناس غضبًا لم يغضبوه من قبل، وانهالوا عليه لومًا وتعنيفًا، وذكَّروه بكرامة الأموات وواجب الولاء لهم. وكان بيومي زلط على رأس الهائجين فحذَّره من العودة إلى حديث القرافة، وصرخ قائلًا: نحن نعيش في بيوتنا سنين معدودة، ونلبث في قبورنا إلى يوم يبعثون!
وتساءل قنديل: والناس أليس من حقِّهم أيضًا؟
ولكن زلط قاطعه هائجًا: حرمة الأموات من حرمة الدين!
بذلك أفتى زلط الذي لم يعرف كلمةً واحدةً عن الدين. ولم تكَد المعركة تهدأ بعض الشيء حتى حمل شيخ الحارة في ذلك الوقت قرارًا من المحافظة يُنذر بإزالة القرافة بعد مهلة معيَّنة، داعيًا الناس لإقامة مقابر جديدة في عمق الخلاء. لم يكن ثمة علاقة بين كلام قنديل والقرار، ولكن البعض ظن — وبعض الظن إثم — والأكثرية قالت: إن قنديل أهون من أن يؤثِّر في الحكومة، ولكنه شؤم على أي حال. ورغم ذلك حمَّله الجميع تبعة ما حدث. وهو من ناحيته لم يُخفِ سروره بالقرار. فضاعف من غيظ الناس وحنقهم، وتجمَّعوا أمام شيخ الحارة بين صياح الرجال وعويل النسوة، وطالبوه بأن يُبلغ الحكام بأن قرار الحكومة باطل وحرام وضد الدين وضد كرامة الأموات، وقال لهم شيخ الحارة إنه لا يقلُّ عنهم غَيرةً على كرامة الأموات، ولكنهم سيُنقلون من مكان إلى مكان مع المحافظة الكاملة على الحرمة والكرامة، فقالوا في إصرار: إن هذا يعني أن اللعنة ستحيق بالحارة ومن فيها. وصارحهم الرجل بأن قرار الحكومة نهائي، وأن الأَولى بهم أن يتأهَّبوا للتنفيذ. وانصرف عنهم وزلط يقول بصوت كالنهيق: ما سمعنا عن شيء مثل ذلك منذ عهد الكفار!
واختلط السخط على الحكومة بالسخط على قنديل فصار سخطًا واحدًا. ورجع بيومي زلط من سهرةٍ ذات ليلة مخترقًا طريق المقابر، وعند السبيل الصغير برز له هيكل عظمي متلفِّعًا بكفن، فتسمَّر زلط وطار ما في دماغه من دماغه.
قال الهيكل: الويل لمن ينسى موتاه أو يتهاون في أثمن ما يملك وهو القبر.
ورجع زلط إلى الحارة وقد امتلأ بهمسات الموت، والحق أنه لم يخفَ على أحد أنه قاتل قنديل. لم يبُح بسرِّه أحد خوفًا وانحيازًا. وقيل: إن تلك الحقيقة ترامت إلى مأمور القسم، ولكنه كان أيضًا ضد نقل القرافة المدفون فيها أجداده، وقُيِّدت القضية ضد مجهول، وراح دم قنديل هدرًا.
ختم شيخ الحارة حديثه معي بنغمة آسفة ونحن جلوس في حديقة الورد التي كانت ذات يوم قرافة حيِّنا العتيق.