علي لوز
شباب البنت سفرجل فترات متعاقبة من الزيجات الباهرة؛ زفة وقناديل، ورياحين، ومزامير وطبل ورقص، وكمائن للغدر تسيل عندها الدماء وترتطم النبابيت، ثم ليلة زفاف مفعمة بالعربدة، والتأوهات. تكرَّر ذلك خمس مرات استنفدت شباب سفرجل كله، انحدرت بها إلى طلائع الشيب والكرب. خمسة فتوات من عمالقة الحارة، هيئوا لها — كلٌّ على طريقته — حياة عز وجاه وسلطنة. وانتهَوا جميعًا، كل في موعده. يسقط الرجل قتيلًا أمام فتوة آخر، أو حملة من الشرطة، أو في السجن، ويُنهب بيته، وتجد سفرجل نفسها شبه عارية وعلى الحديدة، تبحث عن مأوًى حتى يهبَّ لنجدتها أحد أهل التقوى والكرم.
وعقب دفن الزوج الخامس زارت جامع الإمام ووقفت أمام ضريحه، وباحت بمكنون قلبها المكلوم: «أعاهد الله أمام ضريحك على ألَّا أتزوَّج من فتوة أبدًا بعد اليوم». وهمست لنفسها: «أعوذ بالله من الفتونة والعنطزة والدم المسفوك». ولم يكن الضيق بالحياة المضطربة وحده هو ما دفعها إلى ذلك التعهُّد، ولكنها كانت قد فقدت الشباب والنضارة، وأخذ الشيب يطل من مفرقها وذؤاباتها، فلم يبقَ لها من جمالها القديم إلا مسحة توارت في استحياء تحت قناع الكدر والهموم، ولم يعُد يعدها الغد إلا بالمزيد من الشيخوخة والفقر. فعزمت عزمةً صادقةً على مواجهة الحياة بإصرار واستسلام معًا، رافضةً أي إحسان أو صدقة. وكان من ضمن ما أتقنته صنع حلوى «علي لوز»، فعملت على إعداد صينية كبيرة منها كل يوم، تسرح بها في الحي في جولة، ثم تجلس بقية يومها عند طرف سُلَّم السبيل حيث يجلس عند الطرف الآخر شحاذ الحارة الضرير. واختارت حجرةً في بدروم بيت قديم مسكنًا لها. هكذا رضيت بحياة غاية في البساطة والقناعة أملًا في الاستقرار والطمأنينة.
وبخلاف الجميع ظلَّت أم شاور الخاطبة تؤمن بأن حظ سفرجل لم يقُل كلمته الأخيرة بعد، وتبادلت معها الحديث يومًا فشرَّقت وغرَّبت، ثم إذا بها تسألها: عندي فتوة من حارة أخرى معروف بحب العتاقي!
فهتفت سفرجل بحِدة: أعوذ بالله!
وغابت عنها مدة دون أن تقطع منها الأمل، ورجعت لتقول لها: لن أتركك للتراب، لديَّ هذه المرة شيء مناسب.
فراحت سفرجل تنادي على «علي لوز»، وهي تلحظ أم شاور بحذر، حتى أفصحت هذه عمَّا لديها فقالت: شيال الحمول!
فقالت سفرجل بعتاب: قلت لك أعوذ بالله من الفتوات وسيرتهم!
– شيال الحمول أبعد ما يكون عن الفتونة.
وكانت شهرة شيال الحمول قد ذاعت لطاقته الخارقة على تحمُّل الضرب، فاستعمله بعض الفتوات درعًا يحمي ظهره من الضربات الغادرة. وقالت أم شاور مؤكِّدةً ذلك: لا قدرة له على القتال، أو هو كما وصفوه جسم فيل وقلب عصفور، فهو عز الطلب.
فقالت سفرجل بحزم: من أجل علاقته بالفتوات والمعارك أقول حد الله بيني وبينه.
وذهبت أم شاور يائسةً تاركةً إياها في دُوامة من الانفعال، وإذا بصوت يتسلَّل إليها قائلًا: أحسنت. ابعدي عن الشرِّ وغنِّي له.
فنظرت نحو الشحاذ الضرير بدهشة وهتفت: تسترق السمع!
واقترب الرجل منها، ومدَّ لها يده بقطعة نقود قائلًا: هاتي ما قسم من علي لوز.
لم يكن ذلك بأول حوار يدور بينهما، ولكنه كان أول حوار ذي معنًى. وكان الضرير مَعلمًا ثابتًا من معالم حياتها. وهو رجل يلفت النظر بعماه وصبره وقوة جسده، وبما يُنشده من مقاطع لمدائح نبوية تقرُّبًا من المحسنين، ورمقته وهو يمضغ الحلوى باسمًا في ارتياح وتمتم: حلوة من يد جميلة.
فقالت سفرجل ساخرة: شهادة زور.
– بل إنني أرى بأذني.
فسألته دون مناسبة ظاهرة: ولماذا تشحذ وأنت رجل قوي؟
فقال محتجًّا: أشحذ! أعوذ بالله! ما أنا إلا مُطرب يسترزق بإنشاد المدائح النبوية والإلهية.
وتنحنح ثم أنشد بصوته الجهير:
فضحكت من قلبها أول ضحكة صافية منذ عهد بعيد، واهتمَّت بمراقبته في الأيام التالية، فأدهشها أن تلاحظ أن دخله يفوق دخلها أضعافًا مضاعفة، ولم تشكَّ في أنه يكنز النقود حول بطنه فيما ظنَّته كرشًا كبيرة. وأصبحا يتبادلان التحيات والكلام، ويتعلَّل بشراء «علي لوز» ليبث في الاتصال مودةً وحرارة، حتى تشجَّعت يومًا وقالت بإغراء: غيِّر عملك، هذا أفضل.
ولكنه دافع عن عمله بحماس كالعادة فقالت: فتح دكان للحلوى أفضل.
فتفكَّر قليلًا، ثم تساءل بمكر: ألَا يحتاج ذلك إلى شريك؟
فقالت ضاحكة: لديَّ شريك جاهز، فاعزم وتوكَّل على الله.