الزفة الميري
حارتنا في شبه عزلة، ويندر أن يمر بها غريب، وأهلها يعرف بعضهم البعض كأنهم أسرة واحدة، فإذا وفد عليهم غريب بسبب طارئ، كان وفوده علامةً من علامات الزمن تؤرَّخ بها الأحداث، من أولئك شيخ معمَّم اخترق الحارة حال عودته من زيارة المقابر عادلًا عن الطريق العام، وفسَّر ذلك بما تلاه من حوادث عندما أصهر إلى أسرة «شلبية»، ومنهم آخر أفندي طرق الحارة كالغائب، وجلس في المقهى ليشرب العديد من فناجين القهوة. وقيل إنه ضل سبيله. والثالث خواجا جاء ليلتقط بعض الصور الفوتوغرافية محاولًا التقرُّب منا بلغة ركيكة مفككة، فلم يتم أي تفهُّم مفيد.
وددنا أن تسير بنا الأمور بعيدًا عن أي كدر أو قلق، ولكن في يوم من الأيام التي تضاربت الأقوال في تحديده، أقبلت علينا جماعة من الأغراب تتقدَّم في خطوات ثابتة، ثم توقَّفت في منتصف الحارة لتتبادل كلمات خافتة. وكانوا تشكيلةً غريبةً متنافرة؛ منهم نفر من الأفندية، وشيخان مُعمَّمان، وفيهم أيضًا خواجا يغطِّي رأسه بقبعة عالية. توقَّف كل إنسان عن عمله لينظر، وامتلأت النوافذ بالضفائر، وخرج شيخ الحارة من مكتبه، ومدَّ إليهم بصره في توجُّس وحذر، وتحرَّكت الجماعة ذهابًا وإيابًا ما بين مدخل الحارة المفتوح على الميدان، ومخرجها المفضي إلى طريق المقابر. وجعلنا نتابعهم ونتوقَّع ما ليس في الحسبان. واتجهت الأبصار إلى شيخ الحارة، فأشار إلينا بالصمت والصبر. أمَّا الجماعة فواصلت مهمتها بفحص الجدران، والسبيل والكتاب وحوض مياه الدواب وكشك الحنفية والقبو، واهتمُّوا بالأرض المبلَّطة بالأحجار اهتمامًا خاصًّا، ثم رجعوا إلى وِقفتهم في الوسط يتناجَون. وارتفعت الهمهمة حتى شعر شيخ الحارة بالحرج، فاقترب منهم في حذر رافعًا يده بالتحية، غير أن أحدهم قال له بلهجة آمرة قبل أن يفتح فاه: انتظر في مكتبك.
فرجع الرجل إلى موقفه الأول منطوي القسمات من الخجل والإحراج، واستمرَّت الجماعة في المناجاة، وكانوا يُشيرون إلى جهات مختلفة أحيانًا، كما ندَّت عن أحدهم ضحكة، ثم يتحرَّكون نحو مخرج الحارة، وعبروه إلى الممر الموصل للقرافة واختفَوا عن الأنظار، وضجَّت الحارة بالأصوات، وعبَّر كلٌّ عمَّا جال بخاطره: من يكونون؟
– الله أعلم، ولكنهم من الحكومة على أي حال.
– ولماذا صبَّحونا بوجوههم العكرة؟
– ستخبرنا الأيام فلا تتعجَّل.
– رئيسهم الأفندي الذي يتقدَّمهم.
– وربما كان الخواجا رغم أنه يسير في الذيل.
وتراوحت التوقُّعات بين التفاؤل والتشاؤم، وأطلقنا على الجماعة في أحاديثنا اسم «الزفة الميري». وقبل أن يفتر الحديث عنا أخبرنا شيخ الحارة أن وزارة الأوقاف قرَّرت تجديد السبيل وإعادة تشغيله، وفسَّرنا ذلك بأنه أول ثمرة لزيارة الزفة الميري. وسرعان ما جاء العُمَّال والمهندس ومندوب الوزارة وبدأ العمل، وارتفعت موجة التفاؤل، قلنا: إنه ليس من المعقول أن تزورنا زفة طويلة عريضة من أجل تحديد السبيل وحده، وسوف تكشف الأيام عن أعمال أجل. وإذا بشيخ الحارة يبشِّرنا بأن الحكومة ستقيم سقفًا جديدًا للكُتَّاب، مكان السقف الذي أودت به العاصفة في الشتاء الأسبق. وقلنا: يا لها من زفة ميري مباركة! وإن زمن الخيرات هلَّ مُلوِّحًا بألويته، وبنفس الهمة رُمِّم حوض مياه الدواب. كما قيل إن مفاوضات تجري لتحويل بيت إلى مستوصف. عظيم، عظيم، أيتها الزفة. حقًّا لقد فقدَت الحارة هدوءها؛ فعمَّها الضجيج، وكثرت المشاجرات، وامتلأت الأركان بالنفايات، وجاء أهل المزاج فأعدوا تحت القبو غرزة، وبوظة للعُمَّال والشباب. وتسلَّلت إليها رموز الدعارة وفاحت الرائحة، فانزعج الناس ودعَوا شيخ الحارة لتطهير الحارة ممَّا دهمها على غير توقُّع، وبسبب ما، لم ينجح الشيخ في مُهمَّته وقال كالمعتذر: الضرورات تبيح المحظورات.
وقال إمام الزاوية: الخير والشر متلازمان كالنهار والليل، ولا خوف على مؤمن.
وانتشر قول بلا أي دليل؛ وهو أن أحد أعضاء الزفة وراء مجمع الفساد تحت القبو.
وثارت اتهامات كثيرة، وأرجعوا كل شيء إلى الزفة الميري، وغشي الحزن القلوب.
واشتد الشتاء وقسا أكثر من أي عام مضى، وتهكَّم كثيرون فقالوا: إنه شتاء الزفة الميري، وإنه يجب أن يحمل طابعها المشئوم. وتوارت الشمس وراء ركام السحب، وهبَّ هواء مزمجر فعصف بكل شيء؛ فانقلبت عربة اليد وطار ما عليها من الفاكهة والخَضروات، وانهمرت الأمطار كالفيضان، واستمرَّت بلا هوادة؛ فأغلقت الدكاكين وهرب الناس من بيوتهم، وانفضت تلك الغضبة الكونية ففتكت بما فوق الأسطح من طير وحيوان وكراكيب، وانهار السبيل، وتهدَّم كشك الحنفية، وسقط سقف الكتَّاب، وصاح إمام الزاوية من وراء بابها المغلق: «قامت القيامة ولله الأمر!»
ويقول الرواة: إن العاصفة والأمطار استمرَّت النهار والليل، ولم تسكن ثورة الكون، إلا صباح اليوم التالي.
وراح شيخ الحارة يتفقَّد الأحوال متوقِّعًا في كل خطوة شيئًا، وعندما اطلع على الممر المفضي إلى المقابر وجده غارقًا في الماء، ورأى فوق سطحه بعض الجثث والهياكل العظمية تنحدر بها المياه نحو الحارة.
ورجع الرجل وهو يصرخ بأعلى صوته: كفاكم حديثًا عن الحظ والقدر والزفة الميري، وهبُّوا إلى العمل، وإلا اجتاحت الأموات بيوتكم!