نذير من بعيد
و«حسبو» الذي أنذرنا بخطر لم يقَع لنا في حسبان. كان يبيع الروائح العطرية برزق محدود، أمَّا ثروته من قلوب الناس فلا حدود لها. وأبرز سجاياه كانت الصدق والوفاء. وعُرف أنه في أوقات فراغه يداعب الغناء، ويعشق السَّمر، ولا تحلو له الجوزة إلا فيما وراء المقابر.
وعاد يومًا من سهرته صباحًا شاحب الوجه شارد اللُّب، وفي وسط الأصدقاء بالمقهى حكى كيف نُودي وهو راجع في الظلام، وكيف وجد نفسه بين أشباح غاضبة، عرف في سياق حديثها أنها هياكل أموات أهل الحارة السابقين، وأنهم لا يوافقون على ما يرتكب في حارتهم من فِعال منكرة، وطالبوه بأن يكون نذيرهم إلى أهل حارته بأنه إذا لم ترشُد أمورهم وتستقم؛ فسوف تزحف عليهم جيوش الهياكل العظمية؛ لتطهِّر الحارة من الانحراف والمنحرفين.
وضحك البعض، وانخرط البعض في المزاح، غير أنهم وجموا حيال حزنه الشديد ونظراته الدامعة المنكسرة.
– أأنت جادٌّ يا حسبو؟!
– ما عرفناك كاذبًا قط.
– لكن ما تقول هو المستحيل بعينه.
فقال بصوت متهدِّج: جلَّت قدرته، يقول للشيء كن فيكون.
ومن عجب أن بقي أثر من حديث حسبو في نفوس كثيرة. ردَّد قوم ما يقال عن سنن الله التي لا تبديل لها، وانحاز آخرون إلى مقولة قدرته التي لا تعرف الحدود، وخاض في ذلك العقلاء والعامة والسفهاء أيضًا، حتى كادت تنشب فتنة، واضطُر شيخ الحارة أن يتدخَّل، فصاح فيهم يوم السوق: ما لكم ولهذه المسائل العويصة؟! هل فرغتم من همومكم اليومية؟!
واستعان بإمام الزاوية ولكن الجدل تواصل واستفحل، وتبودلت شتائم وحصل اشتباك بالأيدي.
وفي أثناء ذلك كانوا يُشيرون إلى نذير الأموات وكأنه حقيقة لا شك فيها. ودون أن يقلِّل ذلك من الانحرافات التي تُرتكب كل يوم وكأنه لا علاقة بين الاثنَين.
أمَّا حسبو فقد انسحب من حياة حارته، وانجذب بكل قواه نحو عالم الغيب، وتقطَّعت العلائق بينه وبين الناس والأشياء، فانتهى إلى الجلباب الأبيض والعِمامة الخضراء والكلمات المبهمة. وكان يقضي أكثر وقته عند طرف القبور متطلِّعًا إلى الخلاء منتظرًا ما يجيء به الوقت.