القلوب الطائرة
اعتلى منبرَ الزاوية رجل غريب، وقبل أن ينال موافقة الإمام على إلقائه الخطبة هتف بصوت جهير: «أيها الناس! بسم الله الرحمن الرحيم.»
وانطلق يهدر بخطبة لم يسمع الناس مثلها من قبل، لا لأنها أبلغ الخطب، ولا لأنها أحكم الخطب، ولكنها كانت أعظم الخطب إثارةً وتهييجًا. وصمت المصلُّون ليتطلَّعوا صامتين، وملئوا قلوبهم بكلماته النارية — أو قل إنها امتلأت تلقائيًّا وبغير إرادة — وذُهل الإمام مع الذاهلين وهمس لنفسه: «أتوقَّع عواقب لم تكن في الحسبان.» ولم يتنبَّه شيخ الحارة لخطورة الحدث إلا حين ترامت إليه تعليقات الناس، فلمَّا أرسل بصره نحو المنبر ليرى الرجل الذي هيَّج تلك الزوبعة، لم يجد له أثرًا.
وسأل شيخ الحارة الإمام: أتعرف الرجل؟
– أبدًا.
– كيف سمحتَ له بالخطابة.
– كما يتفق لبعض الناس فلم أتوقَّع ما كان يخفى.
– وأين ذهب؟
– اختفى كأن الأرض ابتلعته.
على أن الحارة لم تعرف الراحة منذ خاطبها ذلك الصوت. تحمَّس له أناس، واتهمه كثيرون، وثار الجدل، وانقلب في أحيان كثيرة إلى مشاجرات وسالت فيها الدماء، كل ذلك دون أن يظهر للرجل أثر. ولم يشهد واحد ممن سمعوه أو رأوه أنه من أهل الحارة، أو سبق أن رُئي في ربوعها أو مقهاها، حتى قالت امرأة هالها الشجار والدم: إنه عفريت جاء ليعبث بنا ثم رجع إلى مخبئه.
وحاول الإمام أن يدعو الناس للكف عن الجدل والخناق، وحاول شيخ الحارة، ولكن الجدل كان يزداد والخناق يتضاعف.
وكثرت الأقاويل بلا دليل، قائل يقول: كنت راجعًا إلى بيتي عند منتصف الليل حين ظهر لي وقال لي … وآخر يقول … وهكذا، حتى دخلت الأقاويل في الأساطير والخرافات، وازداد الأمر شدة، وارتعب الإمام إذ تصوَّر نفسه يُسأل في وزارة الأوقاف.
وارتعب شيخ الحارة إذ خاف يوم يُسأل في الداخلية. ولم يبقَ من الواقعة الأصلية إلا صورة باهتة تُروى عادةً في صور مختلفة، كذلك مُحيت الخطبة المثيرة أو كادت، ولكن الخصام استمرَّ واشتدَّ وأنذر بعواقب لا تسرُّ أحدًا.
ولم تخفَّ حيرة الحائرين إلا حين وقف أحد المجاذيب على سلَّم السبيل في يوم السوق، وقال من خلال ريقه السائل: سيجيء الفرج بلا دليل، كما جاء الهرج بلا نذير.