صدى النسيان
كانوا يحلفون باليوم الذي شهد مولده الجديد، والساعة التي وقع فيها تغيُّره وانقلابه الحاسمان، غادر عنبر بيته عند الأصيل، وصار مزهوًّا في عباءته السوداء، مرسلًا من خطاه الثقيلة نُذُر الرهبة والخوف. وفيما هو يمر أمام كشك الحنفية العمومية، توقَّف كأن مجهولًا اعترضه أو صدَّه. أحنى رأسه دقيقتَين، ثم رفعها فطالع الناس بوجه جديد. انحلَّت عُقد وجهه، ولانت عضلات صدغَيه، وتلاشى بريق العزم من عينَيه فحلَّ محلَّه هدوء حائر، وراح يُقلِّب ناظرَيه في الناس والأشياء كأنه يبحث عن شيء أو لا يدري شيئًا. وتحرَّك في الحارة تحرُّكًا عشوائيًّا في هدوء وذهول لم يُرَ معهما من قبل.
وكان الناس يحيُّونه فلا يرد، ويُلقون إليه أهازيج الملَق فلا يتأثَّر. حدث شيء خطير ولا شك، ولكن ما هو؟ وتجمَّع الناس بعيدًا عنه وهم على أشد حال من القلق والتوقُّع. وجاء فيمن جاء إمام الزاوية وشيخ الحارة. وتساءل شيخ الحارة: ماذا يجري في حارتنا؟
فأجاب الإمام: أمر الله ولكل أمر حكمة.
فقالت امرأة أحد أعوان عنبر: إنه عفريت النسيان، إن مسَّ أحدًا نسي الناس ونسي نفسه. تمنَّى الناس أن تصدق، وأن يذوب عنبر في النسيان إلى الأبد. وراقبوه بحذر وهو يَهيم هادئًا ذاهلًا حتى صار هدوءه مألوفًا. وانخفضت حرارة الخوف عامة، واطمأن من كان يتوقَّع أذًى. وتجوَّل عنبر في أنحاء الحي كلما حلا له ذلك، وكثيرًا ما ضلَّ سبيله فيُرجعه أحد أعوانه وهو لا يعرفه. وذاع في كل مكان أن عنبر مسَّه عِفريت النسيان، وأن شخصًا جديدًا طيبًا حلَّ فيه مكان الآخر. واعتُبر ذلك من عجائب النوادر، كما عُدَّ مِنةً من الملك الوهاب. وعاد إلى الحارة بعض الذين طردهم سخطه منها في عهد بطشه وقوته، وحتى المظية التي هربت من شغبه وسوء خلقه رجعت إلى حارتها، فرجع معها السرور والطرب. وتردَّدت من جديد الأنغام العذبة التي طال حنين الناس إليها. ورأى عنبر خصومه السابقين فلم يعرف أحدًا منهم، وحتى المظية لم توقظ وعيه أو تحرِّك ساكنه. ارتاحت الحارة جميعًا إلا أعوانه الذين تنكَّر لهم الزمان، وجعل شيخ الحارة يحذِّرهم قائلًا: الزمان تغيَّر ولن أسمح بأي انحراف.
وكانوا أضعف من أن يتحدَّوا أهل الحارة، فتعلَّقت آمالهم بأن يعود صاحبهم إلى وعيه فجأةً كما فقده فجأة، أو يقع ما ليس في الحسبان.
وعقب صلاة الفجر قال إمام الزاوية لشيخ الحارة: لأول مرة يتردَّد عنبر على الزاوية.
فتساءل شيخ الحارة بدهشة: أهو ميل مفاجئ للهداية؟
– لعله.
فقال الشيخ مُشجِّعًا: املأ قلبه بالدين كي لا يجد فراغًا للشرِّ إذا استردَّ وعيه يومًا.
وعرف أن المرأة التي اكتشفت داءه تسعى لدى أهل العلم بالنجوم والسحر والعفاريت ليشفوه من المس. وأقلق ذلك الناس وطالبوها بأن تكفَّ عن سعيها، وأنذروها بالشر إذا لم ترجع، وبدا أنهم يرفضون العودة للهوان مرةً أخرى. وعاد الإمام يقول لشيخ الحارة: أتباع الرجل السابقون يتبعونه في الهداية.
فقال الشيخ راضيًا: أخبار طيبة حقًّا!
– لم يُسمع عن شيء مثل هذا منذ زمن السلف الصالح.
وبشَّر شيخ الحارة الناس بذلك، فرحَّب بالأخبار من رحَّب، وأعلن الناس بأنهم على تمام الاستعداد للدفاع عن أنفسهم ضد أي تسلُّط.
ولم يتغيَّر مظهر عنبر في جملته، وذهب وجاء كرجل من عباد الله الطيبين. لم يُؤذِ أحدًا بفعل أو قول، حتى بنظرة. وآمن كثيرون بأنه لن يعود إلى أصله أبدًا. وظلَّ أناس على حذر يتشاورون، ثم توارى عن أعين الناس هو وأعوانه فترةً غير قصيرة، حتى تضاربت الأقوال وثارت الخواطر.
وفي يوم السوق وقف الإمام يؤذِّن لصلاة الظهر، فمضى الناس في هدوء نحو الزاوية، وإذا برجل يصيح: انظروا.
فاتجهت الأبصار إلى حيث يشير، فرأوا عنبر ورجاله قادمين. تغيَّر المنظر جملةً وتفصيلًا. تقدَّمهم عنبر وتبعوه كالزمان الأول في الجلابيب والعمائم قابضين على نبابيتهم. وارتدَّ وجه عنبر إلى الصورة القديمة بالنظرة الصارمة، والعُقَد البارزة، والعضلات المشدودة. هل رجعنا إلى أيام الطغيان والإتاوات والسيطرة؟
وساد الصمت حتى لم يعُد يُسمع إلا وقع أقدامهم الثقيلة. وعند الزاوية وقفوا، وضرب عنبر الأرض بنبوته، وصاح بصوت كالرعد: «الله أكبر.» فردَّد الرجال وراءه في هتاف يزلزل القلوب: «الله أكبر»!