الهتاف
ذات صباح رجع أبو عبده إلى حارته. عرفه كثيرون رغم طلاء الأُبهة، رغم العباءة والعِمامة والعصا والمركوب. يا للغرابة يا أبا عبده! ماذا أرجعك؟ عاش في الركن الذي كان يقيم فيه بين أسرته. وتلفَّت حوله في حيرة. واتجه نحو دكان شيخ الحارة الذي كان يراقبه بامتعاض، وحيَّاه وسأله عن أهله.
وسأله شيخ الحارة بخشونة: ما معنى هذه العودة؟
فقال أبو عبده الذي لم يكن يتوقَّع استقبالًا أفضل: جئت لزيارة الأهل.
فقال الرجل بغلظة: مات من مات، ورحل من رحل هربًا من كلام الناس.
ثم بعد فترة صمت مشحون باللوم: وأنت أدرى بالحكاية وأصلها.
فقال أبو عبده بلهجة لم تخلُ من تحدٍّ: ها أنا أعود يا شيخ حارتنا، وسوف تراني سيدًا يعيش بين السادة.
فقال شيخ الحارة بضيق: اختر لنفسك ما يحلو، أمَّا أنا فلا يهمُّني إلا الأمن العام.
وسرى الخبر في الحارة مثيرًا أكبر قدر من الاشمئزاز. وبأكبر سرعة ممكنة راحت خرابة تتحوَّل إلى سراي؛ لينزل به ذلك الرجل الذي غادر الحارة إلى أطراف الحي، وجمع ثروةً ضخمةً من أحط السبل وأحملها للعار، حتى صار مضغةً للأفواه، ومرَّغ اسم حارته في التراب.
وسأل إمام الزاوية شيخ الحارة: ألم يجِد في الدنيا الواسعة مكانًا لمسكنه بعيدًا عن الحارة؟!
فقال شيخ الحارة: إنه يؤمن بأن نقوده تستطيع أن تفعل المستحيل.
وتلهَّف أبو عبده مع إعداد السراي ليبدأ ممارسة سيادته. ولكن طوال مدة العمل لم يُعنَ أحد بالنظر إليه. كان يشعر بالاحتقار كظله، والكراهية مع أنفاسه.
وتساءل في توجُّس: تُرى هل أقيم لنفسي سجنًا وأنا لا أدري؟
ونصحه شيخ الحارة قائلًا: إنه مشروع فاشل.
فقال بإصرار: بل سوف تلمس نجاحه وتُنوِّه مع الآخرين بأعمالي الخيرية.
فضحك شيخ الحارة رغمًا عنه، فقال أبو عبده: وسأستعين بك في مشروعي الخيري.
فرمقه بريبة فقال: أنت تعرف متبولي الأعمى، كنت مقترضًا منه خمسة قروش حين غادرت الحارة، فانصحه بأن يذكِّرني بها.
فأدرك شيخ الحارة مقصده. لم يتحمَّس ولم يرفض. وقال لإمام الزاوية: إذا أراد أن يكفِّر عن منكره فليكفِّر.
فقال الإمام: إن الأعمال بالنيات، وهو ذو نية سوداء دائمًا.
غير أن سعي شيخ الحارة باء بالإخفاق وقال ﻟ «أبو عبده»: متبولي يرفض المطالبة بدَينه القديم.
وانزعج أبو عبده، لكنه لم ييئس. صمَّم على أن يجعل من واقعة رد الدين لمتبولي حادثًا يسيل له لعاب الفقراء في الحارة، فيكسب جبهتهم بضربة واحدة.
وانتظر صابرًا كظيمًا يوم السوق، وارتدى فاخر الثياب إيمانًا منه بولع أهل حارته بالمظاهر. وذهب بقدمَين ثابتتَين يشق طريقه في الزحام إلى حيث يقرفص عم متبولي أمام مقطفه. قال بصوت جهير: أُحيِّي صديق العهد القديم.
فرفع متبولي إليه عينَيه الضعيفتَين، وتحرَّكت شفتاه دون أن يصدر عنهما صوت. وانتبه إليه أناس فتابعوا ما سيحدث باهتمام، ودون أن يفارق الفتور وجوههم. وهمس إمام الزاوية في أذن شيخ الحارة: أدعو الله أن يمر اليوم على خير.
أمَّا أبو عبده فقال: لكَ دَين في عُنقي وجئتك الآن لأسدِّده.
وأخرج من عبِّه رزمة أوراق مالية لا تُرى في الحارة إلا كلَّ حين ومين، ووضعها بين يدَي الرجل لضيق مقطفه. وساد صمت ثقيل، وتركَّزت على الرزمة الأبصار، حتى همس شيخ الحارة في أُذن الإمام: اذكر هذه اللحظة التعسة؛ فقد تكون بدء تاريخ طويل من الفساد في حارتنا الطيبة.
وابتسم أبو عبده في إغراء. ولمَّا ترامى الزمن دون حركة، تحوَّلت الابتسامة إلى توسُّل، ولكن متبولي أزاح النقود بمقطفه نحو صاحبها، وصاح بصوت سمعه الجميع: خُذ نقودك يا قذر!
عند ذاك هتف الجميع بصوت واحد: الله أكبر! ولْيحيَ الجدعان.