الصعود إلى القمر
تمَّ الهدم وبقيت الأنقاض. تجلَّت أرض البيت القديم مساحةً شبه مربعة في الفضاء، خاليةً من أي معنًى وبلا رموز. وقلت للمهندس وهو أيضًا صديقي: انظر كم هي صغيرة!
فقال وهو يتأمَّلها متفكِّرًا: كان فيها الكفاية لإيواء أسرة ما شاء الله كبيرة.
واستغرق في تأمُّلاته، ثم استطرد: لا جدوى اقتصادية من بناء مسكن أو عمارة صغيرة.
– قلت لك إنني لا أفكِّر في ذلك.
– لكن ما تفكِّر فيه خيال خارق. إليك مشروعًا طريفًا ومفيدًا؛ أن نبني مشربًا لبيع العصائر والحلوى، وسوف يكون تحته في هذا المكان الأثري، وألف من يتقدَّم لاستئجاره إذا عُرض للإيجار في الوقت القريب.
فابتسمت قائلًا: فكرة طيبة، ولكني لم أقصدك إلا لتنفيذ ما في رأسي.
– إنه خيال أشبه باللعب.
فقلت بإصرار: أُريد أن أُعيد البيت القديم كما كان أول مرة دون أدنى تغيير حاذفًا الزمن من الوجود.
وخلوت إليه في مكتبه. وأصغى إليَّ بعناية ويده لا تكف عن الرسم والتخطيط. ودار نقاش مرات، فعندما وصفت له المدخل والسلَّم قال: أسلوب فج، ويصدم القادم بوجوده دون أي تمهيد، دعني.
فقاطعته بإصرار: ما أُريد إلا أن يرجع البيت إلى أصله.
وفي لحظة أخرى قال: المسكن لن يزيد عن حجرتَين أكبرهما صغيرة.
– أنا عارف.
– وتضيع نصف المساحة لبناء حمَّام يتسع لخزَّانٍ لتطهير الزهر والورد، وبناء فرن بلدي؛ أي زهر وورد وخبز؟!
– هذا ما أريد. ولا تنسَ السطح، فيه حجرة صغيرة صيفية، وحجرات لتربية الكتاكيت والأرانب.
وضحك صديقي طويلًا ولكن يده لم تكفَّ عن التخطيط. إنه يعلم جيدًا أنني لا أفكِّر في الاستثمار. وكان مرجوِّي أن أقيم استراحةً شعبيةً لبناتها الذكريات والأحلام، وتنفع مهربًا من هموم الحياة وضغوطها، وعندما يتم تأثيثه وتزيينه من مَحالِّ خان الخليلي سيكون تحفة، ولكن بمعنًى آخر غير ما قصده صديقي المهندس من بناء المشرب وإعداده للسياح والأهالي. ولعله أساء الظن، حذَّرني قائلًا: ستكون في قلب حي عريق؛ فحذارِ من تجاوز التقاليد.
فضحكت وقلت له: لو فكَّرت في شيء ممَّا تعني لوجدت سبيلي دون حاجة إلى هدم وبناء!
وذهبت معه لإلقاء نظرة أخيرة والتسلُّم. وعندما أقبلت من أقصى الطريق تراءت المشربيَّتان كما كانتا تتراءيان في الزمن القديم. وكعينَين ترمقان دعتاني للدخول، قام البيت بين البيوت القديمة على ناحيتَيه التي بقيت على حالها دون أي تغيير خارجي، أمَّا سكانها القدامى — جيران الزمان الأول — فقد تلاشَوا في غياهب المدينة، ولم يتردَّد لأحدٍ منهم ذكر إلا في صفحة الوفَيَات. وجعل قلبي يخفق. ورأيت المطرقة معلَّقةً بالباب، فرأيت الأيدي العزيزة تقبض عليها. وقال المهندس كالمعتذر: كان عليَّ أن أتخذ الاستعدادات لإدخال المياه والكهرباء.
فقلت له: في نيتي أن أستعمل المصباح الغازي.
– ستكون جاهزةً إذا احتجت إليها عندما تفيق من الخيال.
ولكني أمعنت في الخيال وأنا أرتقي في السلَّم العالي. وحال بلوغي الطابق المعد جُذبت إلى الوراء البعيد بشدة. غاب عني صوت المهندس، كدت أنساه تمامًا. ها هو الفرن، لكن أين حرارة الدفء واللهب والمجلس السعيد؟ وتقت إلى عبق الخبيز. وها هو الحمَّام بمَنوره المزركش وخزَّانه العريض، والحوض المفعم بالزهر والورد. وها هي أنابيب التقطير تكاد تسيل بالرائحة الذكية. وجلست أراقب اليدَين في نشاطهما العذب وأستمع إلى التلاوة. واندفعت أجري في الدهليز بين الحجرتَين تُطوِّقني الأصوات المحذِّرة. واختلط التهديد بالضحكات العالية. واعترضني الذي يضع على وجهه قناعًا من الكرتون رُسمت عليه صورة الشيطان. وجاء صوت معاتبًا: «لا ترعبه فالرعب لا يزول.» وصعدت إلى السطح فهالني أن أجد الحجرة الصيفية خاليةً من غطاء اللبلاب والياسمين، وأن أرض السطح خالية من السلَّم الخشبي وحبال الغسيل. وجذبني صياح الديك إلى حجرة الدجاج فهُرعت إليها، وفردت جلبابي وأمسكت بطرفه لأجمع فيه البيض.
وصِحت فيمن يرافقني: «انظر.» وأشرت إلى لون المساء الهابط على الحي من خلف القِباب والمآذن. وطلع البدر في خُيَلاء من وراء البيوت العتيقة، فتطلَّعت إليه بشغف. عند ذاك رُفعت فوق الكتف، وهمس لي الصوت الحنون: «خذه إن قدرت.» فمددت يدي بمنتهى الحب والأمل إلى البدر الساطع.