ذاكرة الجيران
في ليلة وقفة رمضان لعامٍ من الأعوام البعيدة الماضية، قامت خناقة ما لها إلا النبي بين أسرتَي برغوث وعميرة. وكالمألوف في تلك الظروف اضطرب استقرار الحارة فأُغلقت الدكاكين وصوَّتت النساء وزاطت الصبية، ووقف إمام الزاوية وهو يصيح بأعلى صوته: وحِّدوا الله! ما هكذا يُستقبل الشهر الفضيل!
ولكن لم يتمكَّن أهل الخير من التخليص بين الأسرتَين قبل أن يصاب منهما رجلان مهمَّان هما: محمود برغوث والناصح عميرة. وساءت حالتهما وتدهورت؛ ففارقا الحياة في يومَين متعاقبَين. وهلَّ رمضان في جو من الوجوم والأسى، وقال الناس إن هذا لا يُرضي الله ولا خلقه، وإنه يجب وضع حدٍّ لتلك العداوة المتوارثة، خاصةً بعد أن اندفع تيارها في مجرًى جديد لم يعُد يقنع بالجرحى، ولكنه سجَّل أول ضحيتَين له من الموتى. وقالوا إنه على كل صاحب نفوذ أن يتدخَّل وأن يبذل ما يملك من قوة لإقرار الصلح بين المتخاصمَين منذ الزمن السحيق. وبناءً على بلاغة إمام الزاوية وضغوط الأهالي، قرَّر شيخ الحارة أن يتحرَّك. دعا إلى دكانه كبيرَي الأسرتَين؛ علي برغوث وخليل عميرة، وقدَّم لهما القهوة، وطلب منهما أن يقرآ الفاتحة ويصلِّيا على النبي.
– لنطرد الشيطان عن مجلسنا.
وقلَّب عينَيه بين الرجلَين، ثم قال: ما بينكما قديم، وضحاياه من الجرحى لا يحصَون على المدى الطويل، ولكن بالأمس القريب مات رجلان ولا كل الرجال، والموت يدفع إلى الموت، والمسألة لم تعد محتملة، والجميع يريدون لها أن تنتهي. فلْنحتكم إلى العقل والدين لنصفِّي الحساب القديم ونبدأ حياةً جديدة. فتوارى كلٌّ منهما وراء صمته، وعكست الأعين صلابةً وضيقًا، فقال الشيخ: لنطرح أسباب الخصام أمامنا، وإن لزمت دية دُفعت، أو كانت خطيئة كُفِّر عنها. لا داء بلا علاج، ولا بد للشر من نهاية.
ولمَّا آنس منهما رفضًا وعنادًا راح يصارحهما بأن أسرتَيهما صارتا تسلية الماجنين من أهل حارتنا، يضربون بهما المثل؛ فيقولون لبرغوث وعميرة كما يقال عن القط والفار.
يتقابل الكهلان الوقوران منكم فيتبادلان الشتائم، تتراءى المرأتان فيدور الردح والتشليق، أمَّا لقاء الشباب فالعنف والدم. ومن عجب أنني لم أعثر على شخص في حارتنا يعرف لخصومتكما سببًا، أكان زواجًا أو طلاقًا أو صفقةً خاسرة، أو جريمة؟ الظاهر أن السبب ذاب في مخزن التاريخ، وبقيت العداوة وحدها.
ولكنكما كبيرا الأسرتَين، ولا بد أنكما تعرفان السر. فلنطرح السبب بيننا، وإن لزمت دية دُفعت، أو كانت خطيئة كُفِّر عنها.
ظلَّ جدار الصمت قائمًا بينهما وبينه، فهدهد غيظه وتساءل: يا معلم علي، ماذا تريد لترضى؟ وأنت يا معلم خليل، ماذا تريد لترضى؟
وبإزاء استمرار الصمت هتف: «يا صبر أيوب!» ثم وجَّه خطابهما لهما: اكشفا لي عن سبب الخصام.
ثم بعد فترة يسيرة قال برجاء: حلَّفتكما بالحسين أن تتكلَّما.
لكنهما لم يَنبسا بكلمة، وفي الوقت نفسه قلقت نظرة حيرة في أعينهما، فاستردَّ نبرته الحازمة وقال: لا بد من الكلام، وإلا دعوت الشرطة والنيابة للتدخُّل في الشئون التي تعوَّدنا أن نعالجها بأنفسنا.
ولمَّا قرأ الإعياء في وجهَيهما فضَّ الاجتماع وهو يتمتم: لنا عودة.
ومرَّت بشيخ الحارة فترة بحث وتقص، فسأل الكثيرين من أفراد الأسرتَين عن سبب الخصام، ولكنه لم يظفر بجواب، بل وضح له أنهم يجهلون السبب تمامًا، وكما قال لإمام الزاوية فإنهم يذكرون العداوة جيدًا، ولكنهم لا يعرفون علَّةً لها. وركبه التصميم فقرَّر أن يزور الدفترخانة، ثم دعا إلى دكانه كبيرَي الأُسرتَين؛ علي برغوث وخليل عميرة، وقال لهما بثقة هذه المرة: لا أحد يعرف السبب سواكما، وإن كنتما تجهلانه كالآخرين فإني على أتم الاستعداد لكشفه لكما.
فسأله المعلم علي بحدَّة: من أين لك تلك المعرفة؟
فأجاب بهدوء الواثق: فتَّشت عن ذلك في دفاتر شيوخ الحارة المعاصرين للأجداد، وقرأت في دفتر أحدهم، ووقع نزاع فاضح بين برغوث وعميرة.
عند ذاك صرخ المعلم خليل: كفى.
فسكت شيخ الحارة قليلًا، ثم قال: لم يكن الأمر فاضحًا بهذه الدرجة في الزمن القديم، ولكن جرى الزمن وتغيَّرت القيم، فأصبح سبب النزاع ممَّا يوجب الستر، فأجمع المتخاصمون على إغفاله حتى نُسي، وبقيت الخصومة وحدها تتوارثها الأجيال. وابتسم في وجهَيهما ليخفِّف من وقع حديثه، وقال برِقة: معذرة، إن هدفي الوحيد هو الكف عن الأذى والعودة إلى حياة الجيران.