أولًا: الأصل الأصيل للمنهجية العلمية الإسلامية
رأينا كيف حمل علماء الحضارة العربية الإسلامية لواء البحث
العلمي في مرحلة العصور الوسطى التي كانت شمسُها غاربةً عن الغرب
ومشرقةً في الشرق. قدَّم الرياضيون والطبائعيون والأطباء معًا نماذجَ
ماثلةً وناضجةً للمنهج العلمي وأساليب البحث العلمي الإجرائية. ولم
يعُد ثمَّة معنيٌّ بتاريخ العلم وفلسفته، أو بتفُّهم نشأة العلم الحديث،
يستطيع أن يتجاهل ما قدَّمَته الحضارة العربية الإسلامية في هذا
الصدَد. سلَّمنا بدورهم العظيم في تاريخ العلم ومناهجه، وحرَصْنا على
إثبات دورهم في التمهيد للعلم الحديث حتى كان مفضيًا إليه. على أنه
لا يكفي عرضٌ وسردٌ للمنهج العلمي وإجراءات البحث العلمي الهادف
لتفهُّم هذا العالم الذي نحيا فيه؛ فكما اتفقنا نبحثُ برؤيةٍ أعمقَ عن
المنهجية ذاتها، عن أصول المناهج، الآليات التي ينطلق منها البحث
العلمي، وركائز التفكير العلمي. وفي هذا نجد علم أصول الفقه لا
يُبارى ولا يُمارى، فيحتلُّ موقعًا استراتيجيًّا في مشروع توطين
منهجية الروح العلمية، وتأسيس نموذجٍ إرشاديٍّ إسلامي.
علم أصول الفقه أصلٌ مكينٌ لموروثنا الباذخ في مضمار المنهجية،
وباستخدام تعبيرٍ يجمع بين منجزات المعاصرة وحصائل الأصالة، بين
المشترك الإنساني والخصوصية الحضارية، نقول: إن علم أصول الفقه
ميثودولوجيا إسلامية. إنه جهازٌ منهجيٌّ ناضج، موروثٌ من ماضينا،
تخلَّق بفعل الوحي المنزَّل … الكتاب المسطور، من أجل قراءته
واستكشاف سُبل تفعيله بالوصول إلى الأحكام الشرعية. وفي بحثنا عن
التجديد والتحديث والانطلاق نحو المستقبل المرتَهَن بالتقدم
العلمي، يمكن أن نجد فيه أصولًا أصيلة غير مجلوبة لمنهجية قراءة
الكتاب المنظور أيضًا … كتاب الكون والطبيعة والعالم والإنسان،
والوصول إلى قوانين العلوم الطبيعية والإنسانية؛ أي منهجية
القراءتَين أو قراءة الكتابَين كلَيهما، لتحمل أصولُ الفقه بثقةٍ
واقتدارٍ أصلًا أصيلًا للمنهجية العلمية الإسلامية، القادرة على
الاتجاه نحو المستقبل. إن الخير لفي قديمٍ يتجدد، أصالة قادرة على
التطوُّر وموروث يستطيع الانطلاقَ مجددًا نحو تلبيةِ حاجاتِ المعاصرة،
تحقيقًا للذات الحضارية القومية ونشدانًا لهُوية أمةٍ وسط وأمةٍ قطب
تحتل مكانها الملائم تحت الشمس.
بُذلَت محاولاتٌ متناثرةٌ للإشارة إلى أوجه تماثُل وتشابُه أو أسبقية
بين قواعد الاستدلال في علم أصول الفقه، وقواعد الاستدلال في
المنهج التجريبي المقترن بالعلم الحديث، تنشغل عادةً بالنموذج
الكلاسيكي النيوتوني أو الاستقراء التقليدي والمنهجية التجريبية مع
بيكون وجون ستيوارت مِل.
١ ومهمتنا الآن تبیان — أولًا — أن آليات البحث في منهجية
أصول الفقه أقرب إلى الروح العلمية المعاصرة في تطوُّراتها التي تجلَّت
وتبلورَت بعد ثورة النسبية والكوانتم، وثانيًا أن المسألة أصلًا لا
تقتصر على قواعد الاستدلال، بل جماع المنهجية العلمية التي هي
شاملةٌ للروح العلمية … أي للأسلوب والوتيرة والطابع والشرعة
والطريق والطريقة … إنما هي مُنبثَّة في أعطاف هذا العلم
الأصيل.
علم أصول الفقه في ظاهره فلسفة
للقانون وتقنين استخلاص أحكام الحقوق والواجبات
والحدود والجزاءات والمعاملات من مصدرٍ مسلَّم به … من الشريعة، لكنه
بهذا، وفي جوهره، إنما هو علم لمناهج البحث وأصول الاستدلال
واستخلاص تطبيقٍ لقانون أو حكم، على أسس تمثِّل قواعد التفكير المُنتِج
السليم؛ أي أسس تتماهى مع قواعد المنطق. وهل جزافًا أنَّ مصطلح
القانون (law) يلعب دورًا محوريًّا
في كلا المجالَين؛ التشريعات ومنطق العلم، وأن كليهما محكومٌ بقيمة
الحق/الحقيقة/الصدق (truth)،
حيث الحق هو الصواب (right). وفي
حضارة الإسلام ولغته «الحق» هو النصيبُ المقنَّن والملكيةُ والحصةُ
المشروعة، ثم هو قبل هذا وبعده اسمٌ من أسماء الله الحسنى، التي
تمثِّل جِماع المثل العليا للإنسان المسلم.
شهد القرن الأول السابق على ميلاد المسيح تجربة شيشرون المتميزة
والرائدة في تقنينه لأصول القانون الروماني والتشريعات المأخوذة
منه عن طريق توظيفٍ جيدٍ للمنطق اليوناني؛ التعريفات المنطقية وأشكال
القياس الأرسطي الحَمْلي البرهاني والقياس الرواقي الشرطي الجدَلي.
وقد كان المنطق الرواقي مكملًا للمنطق الأرسطي. استفاد الإسلاميون
أيضًا من كلَيهما، ولكن اختلفَت التجربة الإسلامية عن التجربة
الرومانية لأنها تتعامل مع مصدرٍ له خطورتُه البالغة كمرتكَز للحضارة
الإسلامية بجملتها، هو الكتاب المنزَّل أو الوحي المسطور، فكانت
المحصلة الإسلامية بصدَد تقنين أصول التشريع، والتي حملَت اسم علم
أصول الفقه، بدورها محوريةً وتمثيلًا عينيًّا لفعاليات العقل المسلم
المنطلق بمجامعه، فيما يتشابك مع عقائده وقيَمه وأصوله وإطار
معاملاته معًا، وتكشف عن «قدرة العقل الإسلامي على تحويل الدين إلى
علم، والوحي إلى منطق، والنص إلى منهج».
٢
•••
الأصول في اللغة هي ما ينبني
عليها الشيء، وكمصطلح هي القواعدُ الكلية. الفقه لغةً هو الفهم
وإدراك المقاصد، ومصطلحًا هو الأحكامُ الشرعية. أصول الفقه هي قواعد
بناء أو توليد الأحكام الشرعية ودلائل هذه الأحكام. هكذا يتحدَّد
موضوع «علم أصول الفقه» بأنه الضوابطُ والقواعدُ العامة لاستنباط
الأحكام الفقهية من مصادرها. عرَّفه القاضي البيضاوي (ت ٦٨٥ﻫ) في
منهاج الوصول والإمام شمس
الدين الجزري (ت ٧١١ﻫ) في
معراج
المنهاج بأنه: «معرفةُ دلائلِ الفقه إجمالًا وكيفية
الاستفادة منها وحال المستفيد».
٣ وكان فخر الدين الرازي (٥٤٤–٦٠٦ﻫ) في
كتابه المحصول في علم أصول الفقه — الذي
حقَّقه طه جابر العلواني — قد عرَّفه بأنه مجموعُ طُرق الفقه على سبيل
الإجمال، وكيفية الاستدلال بها، وكيفية حال المستدل به. إنه، إذن،
دراسةُ طريقِ الاستدلال؛ أي دراسة المنهج،
٤ هو رسم الطريق المؤدي إلى معرفة الأحكام الشرعية من
الأدلة التي نصبَها الشارع.
لا يقتصر تجذُّر علم أصول الفقه في أعماق الموروث على الوعي
النخبوي والتراث المدوَّن، واللاحق من حلقاتٍ معرفية ترسَّمَت حول
المركز /الوحي المنزَّل، بل كان نابضًا في الواقع الإسلامي المعيش
منذ عهد الرسالة، ثم عطاء الصدِّيق أبي بكر، ومنذ أن كان «عمر بن
الخطاب صاحب الجرأة في التشريع طبقًا للعقل وللمصلحة».
٥ هكذا، منذ الفاتحة في عهد الرسالة كان ثمَّة تشريعٌ للنبي
من غير وحي، فضلًا عن اجتهاد الصحابة في حضرة الرسول وفي غيبته
لاستنباط أحكامٍ واردةٍ ليست بعينها في الكتاب أو في السنة، بل كان
منهم من يتبوأ موقع الفتيا صراحةً وبموافقة الرسول، ليستمر هذا في
عهد خلفائه الراشدين، ومن هؤلاء المُفتين، بخلاف أبي بكر وعمر
وعثمان وعلي، عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل
وأبو الدرداء وزيد بن ثابت وأبو موسى الأشعري
٦ …
ومثلما استقامت اللغة ثم كان تقعيدُ قواعدها، وانتظم الشعرُ ثم كان
تنضيد بحوره، تواترَت الجهود التشريعية كاستجابةٍ لحاجةٍ ملحَّة في
الواقع الإسلامي، ثم بدأ علم أصول الفقه يبرز في شكلِ قواعدَ تضبط
عملياتِ إنتاج أحكام الجزئياتِ والفروعِ التي يحتاجها المسلم في حياته
العملية، وكان بهذا منطلَق منهج بحث ومعرفة.
٧ ومن زاوية منهج العلم الحديث تحديدًا نجد هذا ساريًا
أيضا إلى حدٍّ كبير، من حيث إن المنهج العلمي الذي تصوغُه النظرية
الميثودولوجية ليس البتة قواعدَ أولية أو أوامرَ إرشادية تُفرَض على
العلماء قبلًا، وإن كان أيضًا ليس مجرد توصيفٍ لما فعله ويفعله
العلماء، بل مركَّب جدلي من الوصفية والمعيارية. ترتكز النظرية
الميثودولوجية التي تطرحُها فلسفة العلم التجريبي أساسًا على جهودٍ
علميةٍ استقامت ونضجَت بحيث أسفرَت عن معالمَ منهجية. وفرنسيس بيكون
نفسُه لم يعلن أورجانونه الجديد إلا بعد أن قطعَت منظومة العلم
الحديث خطواتٍ واسعة.
وبالعود إلى أصولنا الحضارية، نجد الأصول، أو الأصولَين … أصول
الدين وأصول الفقه — وليست الترجمات الوافدة عن الإغريق — هي منطلق
العقل النظري والعقل الفلسفي الإسلامي. الأصولان علمان تولَّدا عن
مكنونات الواقع الإسلامي ومتغيراته واحتياجاته؛ حيث النظر العقلي هو العقدة المنهجية،
مبتدأ انطلَق من موروثنا وخصوصيتنا الحضارية، صنع في الماضي عقلًا
تطوَّر حتى خلَّف لنا دعائمَ منهجية أو ميثودولوجيا متكاملة، ونريد
الآن تجديدَه لينطلق منه نموذجٌ إرشاديٌّ علمي يشُق أجواز
المستقبل.
تكشف آيات القرآن عن أن
«النظر العقلي» مؤدٍّ لماهية التوحيد،
ليكون مطلبًا أوليًّا من الإنسان. وكان الشيخ مصطفى عبد الرازق (ت
١٩٤٧م) — أستاذ الفلسفة الإسلامية بمعنى الكلمة — قد أسرف في إيضاح
أن بدايات الفلسفة الإسلامية والعقل الفلسفي الموروث جاءت بفعل
«النظر العقلي» والاجتهاد وإعمال
الرأي٨ في مسائل وقضايا فرضَها الواقع الإسلامي، قبل التأثُّر
بفعل الوافد مع حركة الترجمة وقبل أن تفعل الفلسفة اليونانية فِعلَها
في توجيه العقل الفلسفي العربي. وفي مواجهة مؤرِّخي الفلسفة الغربيين
والمستشرقين الذين ينفون عن العرب وعن الحضارة الإسلامية أيةَ قدرةٍ
على الإبداع الفلسفي، يؤكِّد مصطفى عبد الرازق إن إبداع المسلمين
الفلسفي الأصيل يتجلى في الأصولَين، في العقيدة والشريعة؛ أصول
الدين (= علم الكلام) المَعْني بالعقيدة وعلم أصول الفقه المتصل
بالشريعة. كلاهما علمٌ نما وترعرع برعاية القرآن، ولسد حاجات الأمة
الإسلامية. إن أصول الدين بمعية أصول الفقه تجسيدٌ للعقل النظري
والعقلية المنهجية. كلاهما نشأ كإبداعٍ أصيلٍ للحضارة الإسلامية بفعل
موجِّهاتها وكاستجابةٍ لظروفها واحتياجاتها.
يختص علم أصول الفقه بالاستدلال من حيث آلياته ونواميسه، ولا شأن
له بالعقائد، سواء حُججها أو مضامينها، فذلك هو موضوعُ علم الكلام.
ابتعد عن الميتافيزيقا والمطلَقيات وجعل هدفه أحكامًا منصبَّة على
أفعال الإنسان في الزمان والمكان. وأيضًا ابتعَد عن السياسة التي
كان علمُ الكلام متشربًا بها حتى نشأ نشأةً سياسيةً وظلت السياسة من
همومه ومن موجِّهاته. وبالروح التخصُّصية الملازمة للروح العلمية، يُفضِّل
علماءُ أصولِ الفقه له تعالى لقَب «الشارع»، نأيًا بعلمهم عن إشكاليات
الذاتِ والصفاتِ التي أرهقَت علم الكلام،
٩ وتكرسًا للمنهاج والمنهجية. لا غَرو، إذن، أن نجد
عندهم الأسُس المنهجية لتوطين الظاهرة العلمية والبحث العلمي،
تشييدًا لنموذجٍ إرشاديٍّ إسلامي، إذا عقَدنا العزم كما هو ماثل
الآن.
لقد اقتضى هذا منا جهدًا جهيدًا في الغربلة والتصفية، من أجل
استخلاص الجواهر المنهجية من
ركامٍ هائلٍ من الجدليات والخلافيات والتفصيليات والتكرار
والتطبيقات الجزئية والأمثلة الفرعية والانشغال بقضايا لم تعُد تشغل
عصرنا بحال إن لم يَبدُ لنا بعضُها ساذجةً أو بلهاء … وهو الركام
الذي يمثِّل علم أصول الفقه الموروث، بحيث تُحاوِل السطورُ الآتية أن
تكون «المستصفى» و«المنخول» في علم الأصول، مستخدمةً مصافيَ ومناخلَ
أضيق ثقوبًا بكثيرٍ جدًّا من تلك التي استخدَمها الإمام الغزالي في
مصنَّفَيه في أصول الفقه الحاملَين لهذَين الاسمَين هادفًا لتنقية العلم
من إفراط الأصوليين المتكلمين في مسائل الكلام، وإفراط الأصوليين
اللغويين في مسائل اللغة، وإفراط الأصوليين الفقهاء في تفاصيل
الفقه. ونحن نهدف إلى تصفية العلم من مثل هذا، وأيضًا من إفراط
الأصوليين أنفسهم في الأصوليات وفي المقدمات والأوليات والفرعيات
وفي الأمثلة الجزئية والوقائع الشاهدة أو التطبيقية، ومن الجدليات
والخلافات والمناظرات بينهم في الأصول وفي الفروع، فلا يبقى إلا المنهجيات بالمفهوم
الشامل للمنهاج والمنهجية التي تبدو لنا عند الله وعند الناس خيرًا
وأبقى.
وباستخلاص الآليات المنهجية يتخفَّف علمُ أصول الفقه من أثقاله التي
تَرين على كاهلِه في الكتب الصفراء، كيما ينطلق رشيقًا أنيقًا نحو
المستقبل … ولكن كيفَ كانت البداياتُ والنَّشأة أصلًا في الماضي
البعيد؟
ثانيًا: نشأة علم أصول الفقه ومنهجية علاقاته
بدأ النظر في أمر التشريع بداية ساذجة — بتعبير مصطفى عبد
الرازق — ثم تطوَّر بحُكمِ عواملَ عديدةٍ موروثةٍ ووافدةٍ إلى أن صار نسقًا
من أساليب البحث العلمي له أركانه وقواعده، وذلك حين استوى علمًا
منهجيًّا راسخًا هو علم أصول الفقه الذي تأسَّس على يد الإمام محمد
بن إدريس الشافعي (ت ٢٠٤ﻫ = ٨٢٠م).
ليس فينا من يُنكِر الفضلَ العظيمَ للإمامَين الجليلَين مالك بن أنس (ت ١٧٩ﻫ)
١٠ وأبي حنيفة (ت ١٥٠ﻫ)، لكن جهودهما في الأصول كانت
جزئيةً إلى حدٍّ ما وغيرَ مكتملةٍ تمامًا تنظيرًا وتدوينًا. جاء هذا
الاكتمال في عملَي الإمام الشافعي «الرسالة» و«الأم»، كخطوةٍ طبيعيةٍ
إلى الأمام؛ فما كان الشافعي ليستطيع الصعود بجهود التنظير
التشريعي إلى مرحلة العلم المنهجي أو علم المنهجية المؤسس، لولا
أنه تعلَّم من مدرسة الرأي في العراق ومن مدرسة الحديث في المدينة
كلتَيهما. ارتحل إلى العراق واجتمع بأصحاب أبي حنيفة وجادلهم واختلف
معهم في أصول وفي فروع، ثم ارتحل لينتظم في مدرسة الإمام مالك
بالمدينة المنورة، وأجاد استيعابَ الدرسِ المالكي وحَفِظ موطَّأ مالك
حفظًا، ليعمل على التطوير والإنضاج، فيُقال عنه؛ أي عن الإمام
الشافعي إنه «هو الذي أصَّل الأصول وقعَّد القواعد وأذعَن له المُوافِق والمُخالِف.»
١١ وثمَّة اتفاقٌ على أن الرسالة التي يقع مخطوطُها في ثمانٍ
وسبعين ورقة هي أوَّل كتابٍ أُلف في علم أصول الفقه.
١٢ تبعَتْها أعمالٌ أخرى للشافعي أهمها «الأم»، وقال عنها
أبو بكر بن دريد صاحب الجمهرة:
مناهجُ فيها للهُدى مُتَصَرَّفُ
مواردُ فيها للرشادِ شرائعُ
الجميل في هذا البيت أن يبدأ بالمناهج، ولعل الأجمل ما قيل في
الخطاب المعاصر الذي يستعمل مفرداتنا ويُلبي حاجاتنا من أن إنجاز
الشافعي كان: «تجديدًا في منهج التعامل مع الوحي والواقع والعقل
البشري، وهي أركانُ النموذج الإرشادي الإسلامي، وإبراز علاقة هذا
الثالوث بعضِه ببعض ومرتبة كلِّ واحدٍ إزاء الآخر، فضلًا عن أنه كان
تجديدًا على مستوى الضبط المنهجي لحركة الاجتهاد العقلي في النصوص،
ورسم المنهجية المثلى التي ينبغي على الناظرين الصدورُ عنها عند
الاجتهاد في نصوص الكتاب والسنة.»
١٣
•••
ويمكن القول إن علم أصول الفقه وُلِد من التلاقُح بين علم الفقه
وعلم الكلام. وظل دائمًا مستفيدًا منهما. استفاد من علم الفقه
أدلتَه التفصيلية من الكتاب والسنة، واستفاد من علم الكلام خصوصًا
في حدود الشرع وحدود العقل وفي الحسن والقبيح. ظل علماء أصول الفقه
بشكلٍ عامٍّ يغلبُ عليهم إما أن يكونوا أصوليين فقهاء معنيِّين أكثر
بالأدلة النقلية أو أصوليين متكلمين معنيِّين أكثر بالاستدلال العقلي
والبرهنة النظرية. وكان المتكلمون من علماء الأصول هم أصحاب الفضل
الأكبر في التطورات المنهجية التي لحقت بالعلم.
استفاد علم أصول الفقه أيضًا من العلوم اللغوية وانقسام
التعبيرات إلى حقائق ومجازات، والحديث عن الاشتقاق والترادف
والتوكيد والاشتراك والتعارض والعموم والخصوص ومعاني الحروف
ونحوها. أشار فخر الدين الرازي إلى حروفٍ بعينها تشتد حاجة أصول
الفقه لمعرفة معانيها، فمتى تكون الواو للعطف ومتى تكون للترتيب،
متى تكون الفاء للتعاقب ومتى تكون للتسبيب …
١٤ وتوقَّفوا عند الاستدلالاتِ اللفظية؛ أي الأحكام التي تأتي
من ظاهر اللغة فحسب.
وها هنا ينبغي الإشارة إلى إنه بخلاف الدور الخطير المتميِّز
والمميِّز الذي تلعبه علوم اللغة في بنية الحضارة العربية
الإسلامية خصوصًا، بسببٍ من لغوية الكيان المركزي المؤسِّس والمكرم
الذي تنتظم حوله البنية المعرفية والواقعية؛ أي الوحي القرآني، فإن
استفادةَ علمِ أصول الفقه من العلوم اللغوية واشتراطه إياها، إنما
كانت مسألةً حاسمةً تفرضُها الطبائع المنهجية للمباحث المعنية، من حيث
إن «ظاهرة التكليف الشرعي ظاهرة إبلاغٍ لغوي في جوهرها».
١٥ إن التكليف فرضُ شريعة أو قانون، هو توجيهُ خطابٍ من طرَف
المُشرِّع في اتجاه المتلقِّي، ولا بد أن يفهم المتلقي قصدَ
المُشرِّع من خطابه. فهمُ التكليف وتطبيقُه هما إعادةُ إنشاء المتلقي؛
أي الفقيه القانوني أو الشرعي، لخطاب المشرِّع والعمل بمقتضاه، إنها
ظاهرةٌ إبلاغيةٌ تواصلية. وفي الشرع الإسلامي المنزَّل تحقق التواصُل
الشرعي «بفضل الوحي والسنة اللذَين ينتميان للغة العربية، معجمًا
ودلالةً وتركيبًا»؛
١٦ فلا تأصيل لفقه الدين الإسلامي من دون الاستعانة بفقه
اللغة العربية.
هكذا كان علم أصول الفقه مستمدًّا من علوم ثلاثة هي الفقه
الإسلامي وعلم الكلام واللغة العربية. ويعني ذلك الاستمداد أن
الأسئلة الممتدة تئول إلى واحدٍ من هذه الثلاثة عند جريانها، ولكن
ماذا عن تأثير المنطق والفلسفة على تخيُّرات الأصولي؟
١٧
•••
لن نخوض في مسألةٍ كثر فيها الجدل وهي ما إذا كان الشافعي قد عرف
المنطق اليوناني أم لم يعرفه؛ فالأرجح أنه عرفه، ولكن الثابت من
رسالته — المحققة تحقيقًا جيدًا — أنها لم تعوِّل على المنطق. وفيما
بعد مرحلة التأسيس الشافعية حدثَت الاستفادةُ من هذا العلم العقلي
الوافد علم المنطق، التي مثَّلَت
تطورًا جوهريًّا. نضجَت تمامًا في القرن الخامس الهجري، بفعل
الأصوليين المتكلمين خصوصًا؛ فهم الذين اشتد تأثُّرهم بالمنطق، دونًا
عن الأصوليين الفقهاء؛ حتى جرى اعتبارُ عرض علم أصول الفقه على أساسٍ
منطقيٍّ هي طريقة المتكلمين. وكانت الآليات المنهجية التي نبحث عنها
أيسر منالًا في أعمال الأصوليين المتكلمين؛ لأنهم
المتمنطقون.
وفي المنطق يتبلورُ التقاء الأصولَيْن؛ أصول الدين وأصول الفقه،
أساسًا العقل الفلسفي العربي. كانت جهودُ أبي بكر محمد بن الطيب
الباقلاني (٣٢٨–٤٠٣ﻫ)، وهو شافعي من شيوخ البصرة الأشاعرة، لضبط
علم الأصول عن طريقِ المنطقِ هي التي جعلَت كتابه التقريب والإرشاد إلى ترتيب طرق
الاجتهاد يحتل مكانةً كبرى؛ حتى إن الإمام الزركشي
الذي يتخذ موقفًا مخالفًا أكَّد في البحر
المحيط أن هذا الكتاب للباقلاني أعظمُ ما صنف في علم
الأصول طُرًّا. وعلى الرغم من اختلاف إمام الحرمين أبي المعالي عبد
الملك الجويني (٤١٩–٤٧٨ﻫ) عن أرسطو في بعض النقاط إلا أنه بذل
محاولةً جيدةً في «البرهان» لصبغ أصول الفقه بصبغةٍ منطقية، نضجَت
وبلغَت ذروتها مع الإمام الغزالي (٤٥٠–٥٠٥ﻫ) في المستصفى والمنخول هادفًا لتنقية العلم من الإفراط في مسائل
الكلام وفي تفريعات اللغة، وفي تفاصيل الفقه، ومع هذا أفرد مقدمةً
مطولةً في المنطق الذي بدا له أكثر أهمية. استقام العلم على يد
الغزالي دائرًا حول أربعةِ أقطابٍ أو مباحثَ أساسيةٍ هي الحكم والأدلة
والاجتهاد وطُرق الاستنباط، وتبدو جميعًا غير مستغنيةٍ عن المنطق.
ومن بعد الغزالي الملقَّب بحجة الإسلام، ظل دَور المنطق ماثلًا
متطورًا في القرنَين السادس والسابع الهجريَّين. وتبدَّى جليًّا مثلًا
في مصنف الرازي (ت ٦٠٦ﻫ) المحصول في علم
الأصول، وأيضًا الإحكام في
أصول الأحكام لسيف الدين علي بن محمد الآمدي (ت ٦٣١ﻫ). أجل، ابن حزم الأندلسي (٤٦٥ﻫ) سبقَهما، وكان
من أوائل من دعَوا
إلى تطبيق المنطق على العلوم الشرعية، وأكَّد ضرورتَه في علم أصول
الفقه، كما يبيِّن عمله الذي يحمل العنوان نفسه «الإحكام في أصول الأحكام»، ولكن ابن
حزم قطع الطريق بيننا وبينه لأنه، كما سنرى لاحقًا، رفَض القياس
والاجتهاد أصلًا!!
المهم الآن أن المنطقَ الصوريَّ ساهم في أن يكتمل أصول الفقه
كمنظومةٍ ممنهَجةٍ ونسقية، يُعنى بالترتيب والتقديم والتأخير، وتحديد
الأصول والفروع، وفي أن
يبدأ بجهازٍ
مفاهيمي يتحدَّد بالتعريفات الدقيقة، اللغوية
والمنطقية معًا. وشبيهٌ بهذا ما حدَث في علم الكلام،
١٨ وعلينا أن نُسلِّم دائمًا بأواصر القربي بين العِلمَين أو
الأصولَيْن اللذَيْن تشاركا في كثيرٍ من الطرق، ومنهما معًا — وقد
التقيا على الطريق المنطقي المفضي إلى الفلسفة — تتجذَّر
آليةٌ منهجيةٌ علميةٌ هامة، ألا وهي أهمية
تحديد المصطلحات وضبط البنية
المصطلحية قبل الشروع في البحث العلمي. كان مبحث الألفاظ
والتعريفات أو المفاهيم هو الذي استفاد فعلًا من المنطق وتأثَّر به،
أكثر من مبحث القياس؛ لأن القياس الأصولي يختلف كثيرًا عن القياس
المنطقي مهما استفاد منه وسخَّره. وفي النهاية لا شك أن الصورة
العامة لعلم أصول الفقه تطوَّرَت كثيرًا بفعل المنطق الصوري.
المنطق هو علم قوانين التفكير. ورُبَّ سائل: أي نوعٍ من التفكير
نقصد؟ وبهذا يكون لكل نوعٍ من التفكير منطقه أو قوانينه، فهناك
المنطق الاستقرائي والمنطق الديالكتيكي والمنطق الترانسندنتالي …
إلخ، وأمامنا الآن المنطق الأصولي. ولكن المنطق كمفردٍ علَم، وكفرعٍ
مستقلٍّ من فروع الفلسفة هو المنطق
الصوري الذي يدرس التفكير الاستدلالي، وأنواع الحُجج
وشروط صحتها، وهذا هو المقصود الآن. إنه علمٌ صوري؛ أي يُعنى بصورة
الفكر، لا بمضمونه أو مادته. يهتم بصحة الاستدلال وسلامة الانتقال
من المقدمات إلى النتائج. أجل، الحدُّ أو تحديدُ المفاهيم شقٌّ أساسي
ومهمةٌ كبرى للمنطق، لكن الهدف الذي يتعقَّبه المنطق في النهاية هو
البرهان؛ دراسة الاستدلال، أو العلاقة بين قضايا الحُجَّة والعلاقة
بين المفاهيم، فيضع قواعدَ إذا تحراها الذهن البشري سوف تعصِمُه من
الزلَل ومن الاستنتاجات الخاطئة. رآه ابن سينا أداةً للفكر كآلةٍ
عاصمةٍ للذهن من الخطأ، وخادمٍ للعلوم جميعًا، بينما رآه الفارابي
رئيسَ العلوم لنفاذ حُكمه فيها. وهو على أية حال ليس علمًا يُوضع
بجوار بقية العلوم، بل هو من مستوًى مخالِف وأسبَق منها جميعًا؛
وبالتالي يصلُح مقدمةً جيدةً للأعمال الكبرى في علم الأصول، أو في
الأصولَيْن.
المنطق لا يدرُس قوانينَ الفكرِ الاستدلالي كسديمٍ سابحٍ في الأجواء
الميتافيزيقية، أو كما يدرُسها علم النفس مثلًا، بل يدرُسها كما
تتمثل في الانتقال من قضايا لغوية إلى أخرى، وهذه حقيقةٌ لم تتبلور
تمامًا إلا في القرن العشرين. بسببها كان المنطق يزدهر عادةً في
الأجواء التي تشهد ازدهارًا في المباحث اللغوية، كما كان الوضع في
كمبردج وأكسفورد في النصف الأول من القرن العشرين، ومن قبلُ في
الحضارة العربية الإسلامية في عصرها المتوهِّج الذي شهد نشأة الأصول.
أدرك أهلُ العربية مبكرًا الارتباط الوثيق بين المنطق واللغة،
وأرسَوها قاعدةً تقول إن المنطق هو نحوُ التفكير، والنحو هو منطقُ
اللغة. يُعرِّف التهانوي المنطق بالنطق والنفس الناطقة واللفظ، بحيث
ارتبط المنطق اشتقاقًا ومضمونًا، كاسمٍ وكمُسمًّى، بنطق اللغة. يقول
التهانوي: «النُّطْق بالضم وسكون الطاء يُطلَق على النطق الخارجي وهو
اللفظ، وعلى النطق الداخلي الذي هو إدراك الكليات، وعلى مصدر ذلك
الفعل وهو اللسان، وعلى مظهر هذا الانفعال أي الإدراك. المراد
بالنطق في قولهم الإنسانُ حيوانٌ ناطق هو القوَّة الموجودة في جَنان
الإنسان التي ينتقِش فيها المعاني، ولا خَفاء في أنها لا تُوجَد في
الببَّغاء والملائكة والجن لفقد الجَنَان في الجن والملائكة، وفقدِ
انتقاشِ المعاني في الببغاء.»
١٩
ومع مثول أهمية علوم اللغة العربية، تضاعفَت أهمية المنطق في
الثقافة العربية الإسلامية. وكان الإسلاميون قد نظروا إليه على أنه
نظريةٌ في مدارك العقل يمكن أن تنحصر في الحد والبرهان، وقسَّموه إلى
التصوُّر والتصديق. التصوُّر إدراكُ جزئيةٍ أو مفردةٍ ووضعُ حدِّها، إنه بحث
يتناول الألفاظ والتعريفات والحدود، والكليات الخمس؛ الجنس والنوع
والفصل والخاصة والعرض العام، والتي عن طريقها يتم التعريف المنطقي
للحدود. أما التصديقُ فهو إدراكُ العلاقة بين التصوُّرات بحيث يمكن
وصفُها بالنفي أو الإثبات، إنه يطابق ما يُسمَّى في المنطق المعاصر
الحكم (Judgement). ومبحث التصديق
يضم موضوعَين هما القضايا والاستدلال. ميَّز المناطقةُ العربُ بين
ثلاثة سُبل للاستدلال، وهي القياس والاستقراء والتمثيل. القياس
انتقالٌ من كلي إلى جزئي، والاستقراء من جزئي إلى كلي، والتمثيل من
جزئي إلى جزئي. وكان القياس الأصولي استدلالًا أقرب إلى التمثيل
منه إلى القياس المنطقي، ويحمل اختلافَه عنهما واستفادتَه من
كلَيهما.
وعلى هذا الأساس أصبح علم أصول الفقه عن طريق المنطق يبدأ — كعلم
أصول الدين — من انقسام اللفظ إلى المفهوم والماصدق، وتحديد التصوُّر
والتصديق ثم البرهان. وفي اقتران بين الموروث والوافد كان الوصول
إلى التصوُّر عن طريق الحد اللغوي بمعية الحد المنطقي الذي نصل إليه
عن طريق التعريف بالكليات الخمس المذكورة. وكما أشرنا، التصوُّر
إدراكٌ بلا حكم، وإذا اقترن به حكم كان تصديقًا، والتصديقُ إثباتُ أمرٍ
إلى أمرٍ نفيًا أو إيجابًا. نتوصَّل إلى التصور عن طريق الحد
والتعريف، ونتوصَّل إلى التصديق أو الحُكم عن طريق الاستدلال؛ أي
بالحُجَّة وبالبرهان، بأشكاله الثلاثة وهي القياس والتمثيل
والاستقراء.
وكشأن المنطق عادة، فإنه حين دخل علمَ أصول الفقه بات مقدمةً لهذا
العلم. في كتاب
المستصفى في علم
الأصول الذي تتبلور فيه حصائل هذا الدخول، يطرح
الغزالي مقدمةً منطقيةً للكتاب، تشغل الجزء الأول بأَسْره وتقع في أكثر
من مائة صفحة. وهي إيجازٌ لما ورَد في كتابَيه المنطقيِّين:
محك النظر ومعيار العلم. وفي هذا
الأخير يؤكِّد الغزالي أن دور المنطق/معيار العلم بالنسبة إلى
العلم أو بالنسبة إلى أدلة العقول هو دور العروض بالنسبة إلى الشعر
ودور النحو بالنسبة إلى الإعراب، وكما لا يُعرف منزحف الشعر عن
موزونه إلا بميزان العَروض، ولا يُميَّز صواب الإعراب عن خطئه إلا
بميزان النحو، كذلك لا يُمَيَّز بين فاسد الدليل وقويمه إلا بهذا
الكتاب/معيار العلم، وأن كل نظرٍ لا يتزن بهذا المعيار هو فاسدُ
العيار غيرُ مأمونِ الغوائل والأغوار.
٢٠ وعلى هذا يؤكد الغزالي على دور المقدمة المنطقية التي
وضعَها للمستصفى في علم أصول الفقه، وقال: إن من لا يُحيط بها لا
يوثَق بعلمه أصلًا.
٢١ فكأن الغزالي — كما يقول علي سامي النشار وإن تهكُّمًا —
قد جعل المنطق شرطًا من شروطِ الاجتهاد وفرض كفاية على
المسلمين.
وفي كل هذا لم يتعلم الإسلاميون المنهجية
من المنطق الإغريقي، بل إن منهجيَّتهم الخاصة بهم استفادت
منه، ليُلقي الإسلاميون درسًا في كيفية الاستفادة من
الوافد وتوظيفه وتشغيله في إطار حضارتهم. لا ضَيْر، إذن، في أن نفعل
مثل هذا في نموذجنا الإرشادي المنشود، فينطلق من أصولياتٍ متوطنةٍ في
شرائعنا وواقعنا، ليستفيد من آلياتٍ عقليةٍ ومنهجيةٍ تمثل مشتركًا
إنسانيًّا، أو تبلورَت في نماذجَ وتجاربَ حضاريةٍ أخرى.
كيف الزعم بأن المنهجية الإسلامية كانت تبعيةً للوافد الإغريقي،
وهي التي سمحَت بظهور التيار المناوئ على يد الأصوليين الفقهاء،
فظهر ابن تيمية (٦٦١–٧٢٨ﻫ) لينقُد المنطقَ الأرسطيَّ نقدًا تفصيليًّا
شهيرًا، زاعمًا أنه تكلُّف يُفسِد البداهة، الذكيُّ في غنًى عنه والبليدُ
لا يستفيد به. وجاء من بعده تلميذُه ابن قيم الجوزية (ت ٧٥١ﻫ) ثم
الصنعاني (ت ٨٤٠ﻫ) والسيوطي (ت ٩١١ﻫ) تابعوا ابن تيمية في اتجاهه
النقدي من المنطق الأرسطي، وظهر اتجاهٌ لابن الصلاح وعبد الوهاب
السبكي (ت ٧٧١ﻫ) يُحرِّم المنطق تحريمًا قاطعًا.
٢٢ ابن الصلاح صاحب أشهر الأقوال السلبية بين أوساط
العامة: «من تمنطَق فقد تزندَق»، ويبدو مفيدًا لنا أن نُورِد ردَّ الطبيب
النطاسي الدكتور أبو شادي الروبي (١٩٢٥–۱۹۹۷)، المَعْني بمنطق العلم
وفلسفته وتاريخ الطب عند العرب، إذ اشتُهر عنه قوله: «بل من تمنطَق
فقد تعمَّق … وتحقَّق … وتوثَّق … وتفوَّق». فمثل هذا ما حدث لعلم أصول
الفقه حين تمنطَق؛ أي حين تسلَّح بالمنطق الصوري، فأخرج منطقَه الخاص
يستوعب منطق اليونان والمنطق الصوري إجمالًا، ويتجاوزه إلى منطق
منهجيةٍ حيةٍ فعَّالة هي بلا مراءٍ تجريبيةٌ بشكلٍ ما.
ويظل المنطق الصوري جسرًا متينًا يربط علم أصول الفقه بالتأسيس
المنهجي لنموذج إرشادي، من حيث يربط أصول الفقه بالفلسفة. وشبيهٌ
بما ذهب إليه الغزالي، ذهب طاش كبري زاده إلى أن فروعَ علم أصول
الفقه أربعةُ علوم هي «علم النظر وهو علمُ المنطق الباحث عن أحوال
الأدلة السمعية أو حدود الأحكام الشرعية، وعلم المناظرة وهو علمٌ
باحثٌ عن أحوال المتخاصمين ليكون ترتيبُ البحث بينهما على وجه الصواب
حتى يظهر الحق بينهما؛ ثم علم الجدَل وعلم الخلاف.»
٢٣ وكان ابن خلدون قد سبق وأكَّد في مقدِّمته الشهيرة أن
الجدل والخلاف مبحثان منطقيان، الجدل يمثل آداب المناظرة بين أهل
المذاهب الفقهية وغيرهم أو مادتها، أما علم الخلاف فهو البحث عن
صورة كلٍّ من هذه المذاهب المختلفة، فقيل إن الجدل والخلاف هما
المادة والصورة،
٢٤ من علم الأصول.
يبدو طريقنا نحو التأسيس المنهجي للنموذج الإرشادي العلمي
الإسلامي ممهَّدًا معبَّدًا حين نسير مع الأصوليين المناطقة أو
المتمنطقين، وليس جُزافًا أو مصادفةً أن التيار المناوئ للمنطق مع
ابن تيمية ومن اتَّبعوه ظهَر بعد هجمة التتار وسقوط بغداد وانهيار مجد
الحضارة الإسلامية، وبداية دخولها عصور التراجُع ثم الانحطاط.
لا بد من معارضة جهود بعض المحدَثين المخلصين الذين يتمسَّكون
بالطابع التجريبي المرتبط بالواقع في علم أصول الفقه مرحِّبين أيما
ترحيب بالتيار الأصولي الرافضِ للمنطق الصوري المهاجِم إياه بضراوة،
وعلى الرغم من أنه تيارٌ مقترنٌ بتراجُع الحضارة الإسلامية، فإنهم
يُعلون من شأنه وشأن نقده للمنطق، بل ومن أجله يهاجمون التيار
الأصولي المنطقي! استنادًا إلى أن المنهج العلمي التجريبي في
أوروبا نهَض كاستدلاليةٍ بديلة للقياس الأرسطي مسبوقةٍ بهجوم على هذا
الأخير. إلى هذا ذهب علي سامي النشار، فيُشدِّد على أن ابن تيمية حارب
المنطقَ ورآه لا يصل إلى شيءٍ واقعي؛ لأنه آمن بالجزئيات وبالتجريب
ورأى التجربة وحدها (هكذا … وليس الوحي المنزل؟!) هي الأقرب إلى
الحقيقة، وتجارب الأطباء أسدُّ التجارب، وأن التجريب بشكلٍ عامٍّ كان
منهجَ الحضارة الإسلامية المخالفَ لمنطق اليونان.
٢٥ فينتهي النشار — وتبعه كثيرون — إلى أن ابن تيمية
التجريبي بهجومه على المنطق إنما سبق جون ستيوارت مل تحديدًا
وتعيينًا!
فات هؤلاء أن جون ستيوارت مل بالذات، بخلاف ما سُمي بالنفسانية
المنطقية عنده أو اهتمامه بتفسيرٍ تجريبي لمنطق تداعي الأفكار السيكولوجي،
٢٦ قد وضَع معالجتَه للمنهج التجريبي الاستقرائي في كتابٍ
أسماه
نسَق المنطق. التجريبية
العلمية في الحضارة الغربية الحديثة، كانت باحثةً عن نظريةٍ أشمل
للمعرفة، ومهما احتدَّت نبرةُ هجومها على المنطق، لم تقُم على رفضه
أو تجريمه، بل على
عدم كفايته
خصوصًا «بعد أن أهمل شُراحُه المدرسيون الجانبَ الماديَّ الموضوعيَّ فيه
وألحُّوا على جانبه الصوري»،
٢٧ مما زاد في ابتعاده عن الطبيعة التي باتت مدار
أبحاثهم، فهاجموا القياسَ الأرسطيَّ من حيث كان منهجَ البحث الوحيد
المعتمَد للإجابة عن تساؤلات العصر. وجون ستيوارت مل الذي تكثُر
الإشارة إليه، ويُعَدُّ الممثل الرسمي للاستقراء الكلاسيكي أو
نظرية المنهج التجريبي التقليدية، عمل على «سد الثغرة التي ظهرَت في
الخطاب الفلسفي التجريبي، وهي افتقارُ أدبياتِه إلى بحثٍ منطقي معمَّق وشامل»،
٢٨ ولهذا أولى اهتمامه لمسائل المنطق الصوري التقليدية من
حدود وقضايا وتعريف وتصنيف وقياس. وكان هذا موضوعَ دراسةٍ جادة
للدكتورة إنصاف حمد في جامعة دمشق، عيَّنَت بدقةٍ واستقصاءٍ دورَ
المنطق الصوري ووضعَه في المنظور التجريبي، وكيف أن نظرة جون
ستيوارت مل لمضمون القضايا استندَت إلى نظريته في الحدود وعلى تصوُّره
الخاص لقائمة المقولات، حيث الأسماء أسماءٌ لأشياء هي مشاعرُ أو
حالاتُ وعي، لينتقل في النهاية إلى السؤال الحاسم حول الإثبات
والنفي أو الصدق والكذب لمضمون القضايا أو التقريرات، بحيث كان
الاستدلال (
reasoning) عند مل
عمليةَ استنتاجٍ تشملُ الاستدلالاتِ القياسيةَ والاستقرائيةَ معًا.
٢٩ والخلاصة أن مل أراد من المنطق أن يكون علم الاستدلال
وفنه معًا، يُعنى بمادة الفكر ومضمونه معًا، فيهتَم بالصدق وبالتطابُق
مع الواقع، وفي الآن نفسِه بالاتساق الصوري ولزومِ النتيجة عن
المقدمات، ليسير الصدقُ التجريبيُّ الواقعيُّ جنبًا إلى جنب مع الصحة
الصورية، ويظل منطقُ الاتساق جانبًا أساسيًّا وهامًّا من المنهج
التجريبي، ولكنه بالطبع ليس كله.
٣٠
الميثودولوجيا العلمية لا بد أن تكون أصولها في الروح المنطقية
الصورية لتنمو وتستوعب التجريبية في إطارٍ مقنَّن. وقد كان المنطق
اليوناني الأرسطي والرواقي هو المنطق الصوري المطروح في عصر
الإسلاميين، ويظل الطابع التجريبي الحي المُعاش في علم أصول الفقه
ثابتًا مشتركًا لا خلاف عليه في كلا التيارَين، ولكن مع التيار
المنطقي نقترب من روح العلم الحديث التي هي تجريبيةٌ منطقية،
٣١ وليست تجريبيةً محضةً تتراكم فيها الخبرات الحسية كما
يحدث مع أي عاملٍ يدوي أو امرأةٍ تقضي وقتًا طويلًا في مطبخها. إن
التجريبية من دون صَورَنةٍ ومنطقٍ صوريٍّ ضامن للاتساق لا تصلُح ولا تكفي
كأساسٍ منهجي لنموذجٍ إرشادي علمي.
الميثودولوجيا العلمية المحدَثة بدورها تظل وثيقةَ الصلةِ بالمنطق،
وقد يعتبرها بعض المناطقة المتطرفين فرعًا من المنطق. على أنها
دائمًا أوسع من المنطق الصوري. وفي علم الأصول هو الآخر، كان
المنطق الأصولي أوسعَ من المنطقِ الصوري يستوعبه ويتجاوزه، بالارتكان إلى مصادره
الكبرى.
ثالثًا: مصادر المنهجية الأصولية
لكل منهجيةٍ مصادرها، والمصادر الكبرى لعلم أصول الفقه — مصادر
التشريع أو دلائل الفقه — أربعة:
- (١)
القرآن.
- (٢)
السنة النبوية.
- (٣)
الإجماع.
- (٤)
الاجتهاد والقياس.
وثمَّة ما يمكن أن يُسمَّى بمصادر فرعية للاجتهاد المرسَل (المرسَل هو
الذي يفتقر إلى دليلٍ قاطعٍ دامغ) أو الاستدلال الحر إلى حدٍّ ما وفقًا
للتفسير المقاصدي للشريعة. وهي مصادرُ تتفرَّع عن مقاصد الشارع
ويحدِّدها مقصد أو مصالح المُكَلَّف، مصادر من قبيل الاستحسان
والاستصلاح والمصالح المرسَلة وسد الذرائع وتحقيق المقاصد … فهي
الأخرى دلائلُ للفقه تصدُر على أساسها أحكامٌ شرعية. الاستحسان
والاستصلاح يعني الأخذ بالأحسن والأصلح لتحقيق المنافع، والمصالح
المرسلة هي المصلحة التي لم ينُصَّ عليها كتاب ولا سنة ولا إجماع،
ويُضرَب المثل على هذا بالفتوى بضرورة جمع القرآن وتدوينه. أما
الذريعة فهي كلُّ ما كان طريقًا أو موصلًا إلى شيء، وسد الذرائع يعني
منع وسائل وطرق الفساد. ونحن نرى أن هذه المصادر الفرعية جميعها
يمكن أن تدخل تحت بند الاجتهاد الذي يقضي بتكامُل الحجة النقلية
والحجة العقلية، ومن ناحية أخرى يمكنها أن تتكامَل مع بعضها ومع
المصادر الأربعة الكبرى. وفي الميثودولوجيا المعاصرة تُلحُّ الآن دعوى
ضرورة تكامُل المناهج العلمية.
وتحقيقًا للانضباط المنهجي سوف نتوقف عند المصادر الأربعة
الكبرى، مع التأكيد المشدَّد على المصدر الرابع وهو الاجتهاد
والقياس.
في هذه المصادر، القرآن أولها فهو المرتكَز والمدار. السنَّة
مفسِّرة وشارحة، السنة وليس الحديث الشريف فحسب، الحديث قولٌ فقط أما
السنة فهي قولٌ وفعلٌ وإقرار. القرآن والسنة هما الثَّقَلان؛
المصدران الأعظمان لعلم أصول الفقه.
وفي الثقَلَين اشتبك الأصوليون مع علوم القرآن والسنة، فكان أن
اصطنعوا المناهج النقدية التي تكفُل التحقق من وثوق الاستدلالات من
هذَين المصدرَين الأجلَّين. في القرآن عُنوا بأسباب النزول التي تمثِّل
بعدًا وضعيًّا واقعيًّا يقارب الروح العلمية، وأيضًا بقضية النسخ
وهي رفعُ الحكم بعد ثبوته، وأركانها الأربعة: النسخ والناسخ
والمنسوخ والمنسوخ منه، مع الإقرار بأنه لا نسخ بعد انقطاع الوحي،
وأن المتواتر لا يُنسخ بالأحاد. بحثوا النسخَ في القرآن بين آياته
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا
نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة:
١٠٦]، وأيضًا نسخ السنة بالسنة، ونسخ السنة بالكتاب ونسخ الكتاب
بالسنة، وهذا الأخير رفضَه الشافعي، لكن الجويني يقول إنه غيرُ ممتنع،
٣٢ وأيضًا أقره الغزالي وأشار إلى أنه لا يجوز الاستنباط
من المنسوخ،
٣٣ الجدير بالذكر أن الإجماع أيضًا يكون منسوخًا وناسخًا،
٣٤ والقياس بدوره هكذا. ألا يوازي هذا قابليةَ القضايا
العلمية للنسخ، أو بتعبير كارل بوبر للتكذيب، أو بمقتضى منطق العلم
التجريبي للتعديل والتطوير، الذي يجعل التقدُّم العلمي مستمرًّا
دائمًا. أقر البيضاوي والجزري وسواهما بأنه يجوز النسخُ بغير بدل أو
ببدلٍ أثقل منه، وإذا كان البدلُ الأثقلُ أكثر شيوعًا في منطق العلم
التجريبي، فإن الأول — أي النسخ بغير بدل — يحدث أيضًا في العلم؛ فقد
تم نسخ فرض الفلوجستون وفرض الأثير مثلًا بغير بدل.
وعرف الأصوليون كيف يستقبلون السنة النبوية استقبالًا علميًّا
حين وضعوا لها اسمًا آخر هو الإخبار؛ لأنها كانت تجربةً مرويةً شفاهةً
قبل التدوين، فعدُّوها خبرًا محل اختبار الصدق والكذب، كان «الكلام
في الإخبار» بتعبير الرازي ميزانًا عسيرًا، والباب الثاني من
المجلد الثاني في كتابه
المحصول في علم
الأصول يدور حول «الطرق الدالة على كون الخبر
صدقًا»، بخلاف التواتر طبعًا. وبما يُداني عنايةَ المنهجية العلمية
المعاصرة بالتفضيلِ بين الفروضِ المتنافسة والتجربةِ الحاسمة، اهتم
الأصوليون بسُبل الوصول إلى نتيجةٍ عند تعارض الأدلة، فاصطنَعوا
للتحقُّق من صدق الأخبار مناهج لبحث «التعارض والترجيح»، وحدَّدوا سُبل
الترجيح الذي يرفعُ التعارضَ والاختلافَ بين المرويات والأحاديث،
حصرَها البيضاوي في سبعة سبل؛ فقد يكون الترجيح بحال الراوي، أو
بوقت الراوية، أو بكيفيَّتها، أو بوقت ورود الخبر، أو باللفظ، أو
بالحكم أو بعمل أكثر السلف.
٣٥ واهتم الأصوليون بشروط المُخبِر وشروط المُخبَر عنه،
بالراوي والسند، والقراءة الشاذة وحكمها والأحوال الراجعة إلى متن
الحديث. وفرَّقوا بين المتواتر والأحاد، الأول يقيني والثاني قد يكون
يقينيًّا في العمل لكنه ظني في النظر. ويشيرُ الرازي إلى أن
الأصوليين يأخذون بحديث الآحاد إذا اشتدَّت الحاجة وتعذَّرَت منهجياتٌ
دالةٌ أخرى، بينما لا يأخُذ اللغويون أبدًا بحديث الآحاد مهما كانت
الأسباب؛ فاللغة محل اتفاقٍ جمعي، أما الأصول فمحل استدلالٍ منهجي.
وزيادةً في ضبطِ روايةِ الحديثِ الشريفِ وضَع الأصوليون «علم الجَرح
والتعديل» لتقويم الرواة، الجَرح يعني تقويمًا سلبيًّا للراوي
والتعديل يعني تقويمًا إيجابيًّا. على الإجمال تعامَل الأصوليون مع
المصدرَين الأعظمَين، القرآن والسنة بجلال قَدْرهما من حيث هما مصدران
منهجيان، وبما يُعطينا تمثيلًا عينيًّا للجانب النقدي الضروري في
المنهجية العلمية التجريبية. وقدموا — كما أشار حسن حنفي — مناهج
للنقد التاريخي لم تتبدَّ للغربيين ولم تعرفها الحضارة الغربية، أو
بتعبيراتنا لم تدخل نُموذجَها الإرشاديَّ إلا في القرنِ التاسعَ عشر.
ببساطة تعلِّمنا أصولُ الفقه أنه من باب الاعتبارِ الحقيقيِّ للمصادر
المقدَّسة علينا تفعيلُ خطوط المنهج العلمي النقدية.
•••
أما المصدر الثالث للمنهجية الأصولية فهو
الإجماع. الإجماع في اللغة هو العزم والاتفاق، وفي
المصطلح هو اتفاقُ علماء العصر على حُكم الحادثة واتفاق المجتهدين.
لا يقع الإجماع إلا في مظنونٍ وهو طريقٌ للعبور من الظني إلى القطعي،
اليقين لا إجماع فيه بل له أسُسه في النص أو في بداهة العقل وشهادة
الواقع. والمنشود إجماع أهل الحل والعقد من الأئمة والوجهاء
والعلماء المجتهدين. إجماع الخلفاء الأربعة حُجة، وإجماع الأئمة
الأربعة وحدَهم ليس بحُجة. ولا عِبْرة بإجماع الخارجين عن الملة،
وأيضًا لا عِبْرة بإجماع المقلِّدين، ولا بإجماع العوامِّ أو السوقة
والدهماء، فضلًا عن المجانين والصبية. وإذا كان لا يجوزُ الإجماعُ
على الكفر، فإن جاحدَ الحُكْم المجمَع عليه لا يُكفَّر.
٣٦
حُجية الإجماع كمصدرٍ منهجيٍّ التي يرفعُها علم أصول الفقه، إنما تُلقي
بنا في خِضمِّ ميزةٍ إجرائيةٍ يتميَّز بها العلم الرياضياتي التجريبي
المعاصر؛ أي نظريات الإجماع والتضافر في الممارسة العلمية. نظريات
الإجماع (
Theories Consensus) تعني
أن الحكم بما يُعَدُّ ذا قيمةٍ علميةٍ لا يعتمد على شيءٍ سوى الموافقة
والإجماع، والعلماء فعلًا ينشُدون الإجماع، وأن الإجماع يُعَدُّ
خاصةً مميِّزة للمجتمع العلمي من دون سواه من مجالاتِ الفاعلية
الإبداعية. غير أن العلماء يصلون إلى هذا الإجماع بتقديم حججٍ مقنعةٍ
عقليًّا لدعم فروضهم. وأيضًا ما كان الأصوليون ليجُمِعوا على شيءٍ
من دون حجج، «فلا يجوز حصول الإجماع إلا عن دلالة أو أمارة».
٣٧
أما إذا قيل إن الإجماع في المجتمع العلمي يشمل كل العلماء
والباحثين، بينما إجماع الأصوليين قاصرٌ على أهل الحل والعقد، فإنه
بشأن الممارسة العلمية المحدَثة والمعاصرة ثمَّة أيضًا نظريات التضافر
(
Conspiracy Theory)، التي قد
تُعتبَر صيغًا غيرَ ديمقراطيةٍ لنظريات الإجماع، وتذهَب إلى أنه في كل
حقلٍ علميٍّ هناك دائمًا قلةٌ من الشخصيات البارزة القوية تقوم بدور
حارس البوابة، وتتحكَّم في منافذ الدوريات والوظائف والاعتمادات
الخاصة بتمويل البحوث العلمية،
٣٨ وبالتالي تنعكس رؤاها بشدةٍ بشأنِ ما يتم إجماع المجتمع
العلمي عليه. وعلى أية حال، فإنه كما يقولُ وليم جيمس إيرل: «حين
ننظُر في الطريقة التي تقوم عليها المؤسَّسة العلمية، نُدرِك أنه ما من
فردٍ أو جماعةٍ يُمكِنه أو يُمكِنها تعزيزُ أو رعايةُ إنتاجِ علمٍ «رديء» حتى
لو شاء هذا الفردُ أو هذه الجماعةُ ذلك.»
٣٩ وفي هذا نتذكَّر الحديثَ الشريفَ والقاعدةَ الفقهيةَ
الجميلة: «لا تجتمع أمتي على ضلالة.»
•••
أما المصدر المنهجي الرابع أي
الاجتهاد
والقياس فهو صُلبُ ميدانِ الآليات المنهجية المنوط بها الفعالية
المستدامة، في القراءتَين معًا. لا مندوحة عن تفعيله
إذا تعذَّر وجودُ نصٍّ وصعُب الاهتداء إلى وجودِ إجماعٍ على حكمٍ في واقعةٍ
مماثلةٍ للحادثة المعروضة. يقول إمام الحرمين الجويني: «القياسُ مناطُ
الاجتهاد، وأصلُ الرأي، ومنه يتشعَّب الفقه، وأساليب الشريعة، وهو
المفضي إلى الاستقلال بتفاصيلِ أحكامِ الوقائع، مع انتفاء الغاية
والنهاية؛ فإن نصوصَ الكتاب والسنة محصورة ومواقعَ الإجماع معدودة …
ونحن نعلم قطعًا أن الوقائع التي يُتوقَّع وقوعُها لا نهاية لها.»
٤٠ ومن هنا تتمثَّل فاعلية القياس المنهجية في أنه المصدر
الذي ترجع إليه أحكامُ الوقائعِ من دونِ وصولٍ إلى حد، مما يجعله
فاعليةً مستمرةً ونواتجه متتابعة متجددة بدورها بلا نهاية، وتلك شيمةُ
المنهجيةِ السديدة، فضلًا عن أن القياسَ يُوافِق البداهة، كشأن
الأوليات المنهجية؛ فهو في جوهره لا يعدو أن يكونَ إعطاء المِثل حُكمَ
مثيله والشبيهِ حُكمَ شبيهِه.
يقول شمس الدين الجزري: «العمل بالقياس أشقُّ لأنه عملٌ بالاجتهاد،
وهو أشقُّ من العمل بالنص، فيكون أكثرَ ثوابًا من العمل بالنص.»
٤١ القياس في حاجة إلى بُعد نظر، وعمقٍ فكري وحساسيةٍ
للمعنى، وإدراكٍ للعلل، وحركة بين الأصل والفرع لا تَقْوى عليها العامة؛
٤٢ فهو فعلٌ للعلماء وللمنهجية، فضلًا عن أنه مبتدأ خصائص
الروح العلمية. وكان أروع ما في علم أصول الفقه هو خطورة موقع
الاجتهاد الذي يفتح الطريق على مصراعَيه أمام توليد الفعاليات
المنهجية الأصولية في تأسيسِ النموذجِ الإرشاديِّ العلميِّ بعد أن بات
العلمُ أقوى الفعاليات الإنسانية الإبداعية.
ولهذا لا بد أن نتوقف إزاء الاتجاهات التي ترفض حجية الاجتهاد
والقياس السنِّية
٤٣ كمصدرٍ منهجيٍّ لأصول الفقه. وهي أولًا الشيعة على
عمومهم، إنهم يجعلون سنة الأئمة المعصومين وعترة الرسول وذريته من
المصادر الكبرى، وذهبَت الشيعة الزيدية والشيعة الإمامية إلى أن
إجماع العترة وحدَهم، وهم علي وفاطمة وابناها، حجة،
٤٤ وفي المقابل يرفضون القياس! وإن رفضَته الشيعة الإمامية
بحسم، بينما رفضَته الشيعة الزيدية بتحفُّظ. وثانيًا، فريقٌ من معتزلة
بغداد وبعض الخوارج تابعوا الشيخ المعتزلي إبراهيم بن سيار النظام
في رفضِه للقياس الأصولي ورفضِ إعمال العقل في مسائل الشرع بالذات؛
فيؤكِّد النظام جهارًا نهارًا أن العقل مُنع منه في شرعنا — وليس
مطلقًا — وأن شرعنا مبنيٌّ على الجمع بين المختلفات والفرق بين
المتماثلات، وذلك يمنع من العمل بالقياس في مسائل الشريعة.
٤٥ وثالثًا، أهل الظاهر أو الظاهرية الذين أبطلوا القياسَ
والرأيَ والاستحسانَ والتقليدَ أيضًا مؤكِّدين ضرورةَ الاكتفاءِ بظاهر
القرآن والسنة الذي يتبدَّى لكل من يتحدث العربية.
فهل يمكن إبطال القياس؟!
٤٦ وما الذي يبقى لنا حين ننكر الاجتهاد والرأي؟ إنه
ببساطةٍ إنكارٌ لفعلٍ يفرضه الواقع فرضًا لا يبدو ثمَّة محيصٌ عنه، فيقول
حسن حنفي: إن الشيعة رفضَت القياس نظريًّا ومارسَته عمليًّا. لافتة
رفض القياس هي رفضٌ للعقل، وإنكارٌ لإمكانية قراءة أي كتابٍ سوى الوحي
المسطور، إنكارٌ للنظر في الواقع المتدفِّق وقراءة العالم المنظور.
وليس هذا هو الأمر الواقع ولا الأمر المنشود. إنكارُ الاجتهاد
والقياس يعني إطاحةً بتشغيل الإمكانيات المنهجية المتكاملة
والفاعليات الإنسانية الوَلود في علم أصول الفقه التي نراها نابعةً
بشكلٍ أساسيٍّ مما ينكرونه من حُجية القياس والاجتهاد، وإطاحة
بإمكانياتِ توليدِ نموذجٍ علمي إرشادي معاصر، وإطاحة بمنطلَق القراءتَين
أصلًا، اكتفاءً بقراءةٍ واحدةٍ ووحيدة. وفي هذا نموذجٌ للتطرف الذي
يُعمي البصر والبصيرة، ويجني على الدين وعلى الدنيا. ونحمد الله أن
رفضَ القياسِ في الخطوط الثلاثة المذكورة استثناء في التيار
الأصولي.
منذ بداية التأسيس المعتمدة، قال الإمام الشافعي «بالقياس فيما
لا كتاب فيه ولا سنة ولا إجماع»،
٤٧ ويُقصد بالقياس الأصولي رد فرع (= واقعة مستجدَّة) إلى
أصل (= حكم سابق) لعِلةٍ تجمعهما؛ فهو تقديرٌ للحالة المطروحة (=
الفرع) ومناظرتها بحالةٍ مماثلة (= الأصل) لينسحب حُكم الأصل على
الفرع بناءً على علةٍ تجمع بينهما، بتعبير أبي الحسين البصري هو
تحكيمُ حكم الأصل في الفرع؛ لاشتباههما في عِلة الحكم عند
المجتهد.
أما
الاجتهاد الملازم للقياس
فهو الواجهة البرَّاقة لعلم أصول الفقه، والقوة الفعَّالة الدافعة
للنظر العقلي والعمل والإنجاز. جعله محمد إقبال «مبدأ الحركة في
الإسلام، والذي يُناط به التجديدُ والتغييرُ والتحديثُ والتطورُ وتقدُّمُ المسلمين»،
٤٨ وطويلًا ما كان «المجتهد» صفةً عليا ينالها الإمام،
ونرنو إلى أن تنسحبَ في عصرنا هذا إلى العالِم الطبيعي والاجتماعي
أيضًا. وفي نموذجنا الإرشادي العلمي يُسهِم الاجتهادُ بشدة في إطلاق
فعاليات الجهد والإبداع العلمي.
الجهد هو الطاقة، والاجتهاد لغويًّا هو استفراغُ الوسع بمعنى بذل
غاية الجهد (= غاية الطاقة) في تحقيق أمرٍ من الأمور مستلزم للكُلفة
والمشقَّة. وهو عند الأصوليين استفراغُ الوسعِ في طلب الظن بشيءٍ من
الأحكام الشرعية. ويرى حسن حنفي أن الاجتهاد أوسعُ من القياس، بينما
ذهب مصطفى عبد الرازق إلى أن الاجتهاد مرادفٌ للقياس ومرادفٌ للرأي
أيضًا؛ لأن «الرأي الذي نتحدث عنه هو الاعتماد على الفكر في
استنباط الأحكام الشرعية، وهو مرادنا بالقياس والاجتهاد»،
٤٩ ويستند في هذا على قول الإمام الشافعي: «فما القياس؟
أهو الاجتهاد أم هما مفترقان؟ قلتُ هما اسمان لمعنًى واحد.»
٥٠ فما لا حكم فيه «علينا طلب الدلالة على سبيل الحق فيه
بالاجتهاد. والاجتهاد القياس».
٥١ لذلك قيل إن كل قائسٍ مجتهد. يتوقَّف الشافعي عند الحديث
الشريف: «إذا حكَم الحاكمُ فاجتهَد فأصابَ فله أجران، وإذا حكَم فاجتهَد
ثم أخطأ فله أجر.» ويناقِشُ المشكِّكين في إسناداته، ويؤكِّد أنه «ممن
يثبِتها»، ويستند الشافعي إلى إثبات هذا الحديث لتجويز الاجتهاد.
٥٢ ولئن كان جوهر المنهج العلمي المحاولة والخطأ وتصويب
الخطأ، فها هو ذا علم أصول الفقه يهتم بالاجتهاد؛ أي استفراغ غايةِ
الوسعِ حين المحاولة، ولا يخشى أبدًا الوقوع في الخطأ، وشهد فيما بعدُ
طائفةَ
المصوِّبة — وهي بوجهٍ عام
من الشافعية والمعتزلة دونًا عن الحنفية وعن الأشاعرة — القائلة إن
كل قائسٍ مجتهد وكل مجتهدٍ مصيب، من حيث إن فعل الاجتهاد في حد ذاته
صواب يؤجَر ويُجازَى،
٥٣ على الرغم من أنه قد يشهد اختلافًا في الرأي. يقول
الشافعي: «القياس من وجهَين؛ أحدهما أن كونَ الشيءِ في معنى الأصل،
فلا يختلف القياس فيه. وأن يكون الشيءُ له في الأصول أشباه، فذلك
يلحق بأوْلاها به وأكثرها شبهًا فيه. وقد يختلف القايسون في هذا.»
٥٤ وظهور المصوِّبة مع هذا الاختلاف ووجود الرأي والرأي
الآخر يجسِّد دافعيةً منهجيةً حقيقيةً منبثَّة في الأعطاف.
ويحمل القياسُ الصرامةَ المنطقيةَ للقوة المنهجية لعلم أصول الفقه،
«لا يقيسُ إلا من جمع الآلة التي له القياسُ بها»،
٥٥ إن لم يكن هو مكمن هذه القوة ذاتها. رأينا الشافعي
يقول بأنه هو ذاتُه الاجتهاد، وكذلك يُقِر به أساسًا للاستحسان: «يقول
الرجل: استحسَن بغير قياس؟ فقلتُ لا يجوز هذا عندي – والله أعلم – لأحد.»
٥٦
القياس كمصطلحٍ منهجي يعني بشكلٍ عام وفي كل صُوَره «قولًا يلزم عن
أقوال». والقياس في اللغة مصدر يعني تقديرَ شيءٍ على شيءٍ آخر وتسويتَه
به، فيعني
التقدير ويعني
المساواة، فيُقال قاس المساحة
بالمتر؛ أي قدَّرها به، ويُقال أيضًا فلانٌ لا يُقاس بفلان؛ أي لا
يساويه. المعنيان — كلاهما — متضمَّنان في القياسِ الأصولي، فهو تقدير
للحالة المطروحة (= الفرع) ومناظرتها بحالةٍ مماثلة (= الأصل)
لينسحبَ حُكم الأصل على الفرع. وكما أشرنا عَرفَ القياس الأصولي كيف
يستفيد من القياس المنطقي ويوظِّفه لتقنين الحكم. والقياس المنطقي
ضربٌ من الاستدلال الاستنباطي، عرَّفه أرسطو بأنه قولٌ مؤلَّف من أقوالٍ
إذا وضِعَت لزم عنها لذاتها قولٌ آخر. وهو في جوهره لزومُ نتيجةٍ عن
مقدمتَين أو عن مقدِّمات.
٥٧ وكان القياسُ هو الثمرة من المنطق الأرسطي، فسهُل أن
يستفيدَ منه علمُ أصول الفقه الذي أسَّس شكلًا أوسعَ للقياسِ له اختلافُه
عن القياس المنطقي. إن القياسَ الأصوليَّ يحتوي القياسَ المنطقيَّ
ويستوعبه ليتجاوزه؛ لأن المنطق الأصولي أوسعُ من المنطقِ الصوريِّ
وأقربُ إلى منطق الميثودولوجيا العلمية.
اختلف القياس الأصولي عن القياس الصوري الأرسطي. وإذا كان الأخيرُ
تحصيلَ حاصلٍ غير منتجٍ أو عقيمًا لا يأتي بجديد؛ لأنه مجرد إدخالِ
خصوصٍ تحت عموم، فإن القياس الأصولي منتجٌ وحكمٌ على واقعةٍ جديدة،
فإذا كان كل مُسكِر حرامًا، والنبيذ مُسكِر، عرفتَ أن النبيذَ حرام، وهذا
حكمٌ جديدٌ لموجودٍ مستجد. المقدِّمة لم تكن مجرد استقراءٍ مسبَق
للجزئيات، بل مقدِّمات شرعية وتجريبية ومثالية تنظيمية، باختصار
ربانية وإنسانية تجمع بين الوحي المسطور والوحي المنظور، تجمع بين
القراءتَين.
القياسُ المنطقي استنباطٌ صوري؛ أي شكليٌّ خالصٌ مجرد دعوى بلزوم
النتيجة عن المقدمات، أما «القياس الأصولي ففيه بيانُ هذه الملازمة»
٥٨ وعرضُ حيثياتها، و«يرتبط فعلُ الاستنباطِ بقيمةِ العملِ وروحِه».
٥٩ عرف الأصوليون الاستحسان، أي ترك قياسٍ والأخذ بآخرَ
أقوى منه؛ أي إنه استحسانُ أقوى الدليلَين والعمل به، ومن دروب
الاستحسان مراعاةُ الخلاف. وعن طريقِ ما أشرنا إليه من مصادرَ فرعيةٍ
والفقه المقاصدي، يرتبط القياسُ الأصولي بالغرض الأساسي بتحقيق
المصالح المرسلة. وزادوه بالقواعدِ الفقهية من قبيل: لا ضرر ولا
ضرار … درء المفاسد مقدَّم على جلب المنافع، لا تزرُ وازرةٌ وزر
أخرى، ما جعل عليكم في الدين من حرج، إنما الأعمال بالنيات … وقد
اعتبرها الأصوليون من الكليات من حيث إنها منصوصٌ عليها في الكتاب والسنة.
٦٠ وضعوها كقواعدَ لضبطِ القياسِ والتثبُّت من أنه مطابقٌ لما
يقضي العقل بأنه مناسبٌ ومحققٌ لمصلحة المسلمين؛ من ثم، فإن القياس
الأصولي محصَّن مما قد يحدُث في القياس الصوري الذي إذا استوفى
الشروط قد يكون صحيحًا تمامًا من الناحية المنطقية؛ أي من ناحية
الصورة، بينما هو من حيث المضمون والمعنى لغوٌ وهراء، إذا كانت
مقدِّماته هكذا. إن القياس الأصولي ليس صوريًّا فقط بل أيضًا
تجريبيٌّ يرتبط بالواقع المُعَاش؛ لذا يظل دائمًا، ومهما استوفَى
الشروط، ظنيًّا، بينما القياس الصوري قطعيٌّ يقيني. ولنتذكَّر
معًا كيف ارتحل اليقين نهائيًّا من عالم العلم التجريبي.
أركان القياس الأصولي التي لا
بد أن تتوافر فيه أربعة هي: الأصل، والفرع، والعلة، وحكم الأصل.
ذهب البعضُ إلى أن حكم الأصل هو حكم الفرع، فهل يُعَد حكم الفرع أيضًا
من الأركان؟ إن حكم الفرع هو نتيجةُ القياسِ أو الثمرة،
٦١ وثمرة الشيء أو نتيجته لا تكون ركنًا من أركانه؛ لذلك
تقتصر أركان القياس على الأربعة المذكورة، وقد وضع العلماءُ شروطًا
لكلٍّ منها، تُعَد في مجموعها شروطًا للقياس.
٦٢
شروطُ القياس التي يتفاوت مدى استيفائها، وأيضًا التراجيح
والاستحسان والاستصحاب؛ أي مصاحبة الدليل لواقعته وما يشبهها … مثل
هذا يعني أن
الأقيسة الأصولية لها أقسامٌ
ومراتب. بعضُ تقسيماتِ الأقيسة تشير إلى أوضاعٍ
متكافئة منطقيًّا، وبعضُها الآخر يشيرُ إلى مراتبَ متفاوتة. انقسم
القياس الأصولي عند الشافعي إلى قسمَين متكافِئَيْن؛ الأول من
الأدنى إلى الأعلى، كأن يكون حكم الأصل تحريم القليل من الشيء
فيكون حكم الفرع تحريم الكثير منه، والنوع الثاني هو العكس من هذا؛
أي من الأعلى إلى الأدنى. ثم اتخذ هذا التقسيم شكلًا ثلاثيًّا؛ فقد
تكون العلة في الفرع أضعفَ منها في الأصل، أو مساويةً لها أو أقوى
منها. ومن هنا ظهَر فيما بعدُ تقسيمُ الأقيسة إلى مراتبَ متفاوتةٍ قوةً
وضعفًا في تقسيمٍ ثلاثي إلى: قياس العلة، وقياس الدلالة، وقياس الشبه.
٦٣ أقواها قياس العلة. في قياس الدلالة تختفي العلةُ في
أصل القياس ويُستعاض عنها بما يدُل عليها؛ لذلك فهو استدلالٌ يقترب
من روح الاستدلال الشائع في العقلية الإسلامية بجملتها؛ أي قياس
الغائب على الشاهد. و«الدلالة قياسٌ على المعنى دون العلة المؤثِّرة،
وهو أضعفُ من سابقه. وقد يكون المعنى علةً ملائمة أو علةً مناسبة،
وكلما ابتعدَت العلة عن الفعل المادي ضعُف القياس وأصبح بالاستصحاب،
أما قياس الشَّبه فهو حكمٌ على الفرع بمجرد مشابهة الأصل. والشَّبه أقل
من العلة والمعنى معًا، وهو أقربُ إلى الاستحسان والمصالح المرسلة.»
٦٤ العلة في قياس الشَّبه غامضة، تكتنفها أشباهٌ كثيرة
ويأخذها القائس بالشبه. وثمَّة تقسيمٌ ثلاثيٌّ ثالثٌ للقياس حسب معناه
الذي يكون إما لائحًا؛ أي ظاهرًا، أو غامضًا، أو مشتبهًا. ويأتي
القياسُ ذو المعنى اللائح في صورة
قياس
العلة الذي يظل دائمًا هو الأقوى والأمتن والأصل
وسواه بدائل، أو «هو على التحقيق بحر الفقه ومجموعه، وفيه تنافس النظَّار»،
٦٥ وهو الذي أدَّى إلى اجتهاد الأصوليين في مباحث العلة
التي حملَت أخطرَ إنجازاتهم المنهجية.
رابعًا: العلَّة والعلِّية … من الأصولية إلى المنهجية
العلمية
إن الذي ينبغي أن يستوقفنا ميثودولوجيًّا لهو كيانٌ منهجيٌّ جليل،
طويلًا ما اعتلى عروشَ النماذجِ الإرشاديةِ العلمية، وممالك التفكير
العقلاني إجمالًا. وها هو ذا يتجلى الآن بوصفه الركنَ الثالثَ من
أركان القياس الأربعة: الأصل، والفرع، والعلة، وحكم الأصل؛ أي
العلة. إنها الوصف الجامع
بين الأصل المقيس عليه والفرع المقيس، وصولًا لحكم الفرع، وفقًا
لحكم الأصل، فسُمي هذا الركن الركين العلة الباعثة على التشريع،
والمؤثِّر الموجِب له، وعُدَّ أهم أركان القياس «فلا يصحُّ بدونها؛ لأنها
الجامعة بين الأصل والفرع»،
٦٦ وما لا يُعقل له علةٌ يمتنع القياس فيه. ويجمُل بنا أن
نذكُر أيضًا أن الأصوليين، من ناحيةٍ أخرى، سمَّوا الحكمةَ من التشريع
المعين: علَّة هذا التشريع، مصدِّقين على أن التعليل دائمًا
تعقُّل.
أخذ الأصوليون بالعلة العقلية التي تمثِّل التبرير والتفسير في
التفكير العقلاني وتساوت بالعلة النقلية، أو على الأقل تكاملَت
معها. ورفضوا العلل الأربع الأرسطية، وهي الصورة والمادة والفاعل
والغاية، التي رآها أرسطو قادرة على تفسيرٍ عقلانيٍّ شاملٍ للوجود
بأَسْره، رفضوها لأنها عللٌ ميتافيزيقية أو عقائدية وأهل الأصول أصحابُ
منطقٍ علميٍّ تجريبي ينأى عن العقائد المجردة، وفي هذا المنطق لعبَت
العلِّية دور العماد تمامًا، كما كانت العلية شرطًا ضروريًّا للتفكير
العلمي ومَعْلمًا مميَّزًا للاستدلال العقلي إجمالًا.
كان مبدأ العلِّية عنوان الميثودولوجيا العلمية والتفكير العلمي،
بل والتفكير العقلاني بجملته. وكان العلم الحديث في مرحلته
الكلاسيكية التي انتهت بنهاية القرنِ التاسعَ عشرَ يُسلِّم بأن الاكتشاف
العلمي هو اكتشافُ عِلة الظاهرة، وأن نفهَم الظاهرة هو أن نعرف عِلَّتها،
والعلم في جملته بحثٌ عن العلية وتقنينٌ للعلاقات العِلِّية. وصل هذا
إلى ذروته بميكانيكا نيوتن وجهازها الرياضي الجبار، حيث تتبلور
العلة والمعلول في الفعل ورد الفعل، وتجسَّد ميثودولوجيًّا بإعلان
جون ستيوارت مل أن مناهج العلم، أو مناهج الاستقراء الخمسة في
رؤيته التي تُعَد تمثيلًا لأقوى صور الاستقراء التقليدي، لا تعدو أن
تكون مناهجِ اكتشافِ العلل. وبعد الثورة التي أحدثَتها تحليلات ديفيد
هيوم (۱۷۱۱–١٧٧٦م) للعِلية وتشكيكه في حُجيتها المنطقية، والأخطر
والأكثر حسمًا بعد ثورة الكوانتم والنسبية في القرن العشرين التي
انهارت معها الحتميةُ الميكانيكيةُ فنزعَت عن العلية صَرامتَها
الأنطولوجية، لحق مبدأَ العِلية كثيرٌ من التغيُّرات وحام حولَه جدلٌ لا
ينتهي، ولكنه لم يخرج من عالم العلم والميثودولوجيا العلمية، ربما
كان أقصى وأقسى تغيُّر لحق به، أن بات جمهرةُ الميثودولوجيين
والعلماء وفلاسفة العلم يفضِّلون استعمالَ مصطلح «التفسير» بديلًا عن
مصطلح «العِلية» التي كانت دائمًا تفسيرًا عقلانيًّا صارمًا. وفي
هذا نجد الأصوليين وضَعوا أسماءً كثيرةً لمصطلح العِلة؛ فهي «السبب
والأمارة والداعي والمستدعي والباعث والحامل والمناط والدليل
والمقتضي والموجِب والمؤثِّر»،
٦٧ وقد يكون للواحد من هذه الأسماء وظائفُه وفوارقُه
الدقيقة التي لا تُرى بالعَين المجردة، ولم يتوانَ الأصوليون في
تعيينها وتحديدها. أما في عالَم الفلسفة فالمصطلحان العمدة
والشهيران هما السبب والعِلَّة.
لقد قيل الكثير في تحليل مصطلح العِلِّية والموازنة بينه وبين مصطلح
السببية، ويبدو أن «العِلة والعلِّية» أكفأ كمصطلح من السبب والسببية.
وعلى الرغم من أن السبب ورد في القرآن الكريم بينما العِلة لم ترِد،
إلا أن العِلة كانت بشكلٍ عام المصطلح الذي فضَّله الإسلاميون،
الأصوليون والفلاسفة معًا؛ لأن السبب لا يوجِب المسبَّب بالضرورة.
السبب أصلًا هو الحَبْل، وهو أيضًا الطريق، وكلاهما يعني ما يُتوصَّل به
إلى الشيء، أما العلة كما ورَد في
كشاف
اصطلاحات الفنون للتهانوي فهي «اسمٌ لعارضٍ يتغير به
وصفُ المحلول بحلوله وبالضرورة لا عن اختيار. ومنه سُمي المرضُ عِلة
لأنه بحلوله يتغيَّر حال الشخص من القوة إلى الضعف. أيضًا كلُّ أمر
يصدُر عنه أمرٌ آخر بالاستقلال أو بانضمامِ الأمر إليه، فهو عِلة لذلك
الأمر، والأمرُ معلول له. يتعقل كل واحدٍ منهما بالقياس إلى تعقل الآخر».
٦٨ وعلى الرغم من أن الأصوليين وضعوا تعريفاتٍ كثيرةً
للعلة، وتكاثَرَت تحليلاتُ فلاسفة العلم للعِلية، إلا أن هذا الذي ذكره
التهانوي هو المقصودُ والمطلوبُ عينُه في أصول الفقه وفي أصول
الميثودولوجيا العلمية على السواء.
هكذا نجد أن الأصوليين قد عملوا بمفهوم للعِلة ينطبق على المبدأ
بشكل عام، أو المبدأ على عمومه، فابن حزم الأندلسي يعرِّف العلة
بأنها «اسمٌ لكل صفةٍ تُوجِب أي أمرٍ إيجابًا»، وهي مقارنةٌ للمعلول فلا تفارقه.
٦٩ راموا أن تكون العلة مؤثِّرةً أي فاعلة، وظاهرةً أي
محسوسة، ومنضبطةً أي لا اختلاف حولها، وسالمةً أي لا ينقضها نص أو
إجماع، فلا يُعارِضها من العِلَل ما هو أقوى منها، وأن تكون مطَّردةً أي
متتابعة، كلما وجُدَت وُجِد الحكم، ومُنعكِسة أي بغيابها يغيب الحكم.
الطرد مع الانعكاس يجعل العلة جامعةً مانعة، يدورُ معها المعلول
وجودًا وعدمًا. هذه بمثابة شروطٍ اشترطوها في العِلة لكي يكونَ الحكم
بإلحاق الفرع بالأصل حكمًا صالحًا تمامًا، فهل يستطيع العلماءُ
التجريبيون المحدَثون الاستغناءَ عنها، وباستثناء التكميم واللغة
الرياضية التي بلغَت أوجًا بحساب التفاضل والتكامل، هل أضافوا شيئًا
ذا بال إلى شروط العلة الأصولية؟!
وقد تم رصدُ أكثرَ من عشرة تقسيمات وضعها الأصوليون للعِلة، اختلفَت
بين الشافعية والحنفية.
٧٠ لعل أهمها تمييزهم بين العِلة البسيطة والعِلة
المركَّبة، وبين العِلة القاصرة والعِلة المتعدية. والعِلة الشرعية قد
تكون منصوصةً وقد تكون مستنبَطة، قد تكون نقلية، ولكنها أيضًا قد
تكون عقلية كالمناسبة والمصلحة. ولا يفرِّقون كثيرًا بين العلة
النقلية والعلة العقلية، اللهم إلا في أن الأولى قَبلية وقد تتعدَّد
والثانية بَعْدية وغيرُ جائزٍ فيها التعدد؛ لأنه من الممكِن تعليلُ الحكم
بعِلتَين نقليتَين أو أكثر، لكن حكم العقل والمصلحة يكون حاسمًا
واضحًا أي واحدًا. وهكذا تبدو العِلة النقلية والعِلة العقلية وجهَين
لعملةٍ واحدة.
ثم كانت عنايةُ الأصوليين بالغةً بتحديد مناهج أو طرق الاستدلال
على العِلة والوصول إليها، أسمَوها المسالك، ولا بأس؛ فالمنهج في
اللغة وفي المصطلح كما ذكرنا هو الطريقة وهو الطريق وهو المسلَك.
اختلفوا في عدد المسالك أو الطرق أو المناهج المؤدية للعِلة، رآها
البيضاوي تسعةً والآمدي عشرةً والشوكاني أحدَ عشَر. وحدَّدها فخر الدين
الرازي بالطرق العَشْر الأساسية: النص، والإيماء، والإجماع،
والمناسبة، والتأثير، والشبه، والدوران، والسَّبر والتقسيم، والطرد،
وتنقيح المناط … ولم يُنكِر مسالكَ أخرى اعتبرَها البعض، ولكنه رآها ضعيفة.
٧١
العِلة هي مناط الحكم. المناط هو التعليق؛ أي إبداء ما نيط به
الحكم، ما تعلَّق الحكم عليه. العِلة هي مبرِّر الحكم أو مناطه،
وباعتبارها هكذا، يأتي تحديدُها الحاسم بتكامُل ثلاثة طرق أو مناهج
أو مسالك، هي التخريج والتحقيق والتنقيح: تخريج المناط بتعيين
الأوصاف أو العوامل المؤثِّرة في حكم الأصل بمسالكَ عديدةٍ سوف نتوقف
عندها في حينها، وتحقيق المناط بألا يكون فيه خلافٌ ولا ممانعةٌ ولا
طعن، أما التنقيح فهو في اللغة التشذيب ومنه تنقيحُ جذع الشجرة؛ أي
تشذيبه حتى يخلُص من الشوائب والعوالق، وهو التهذيب والتمييز، وكلامٌ
منقَّح كلامٌ لا حشو فيه، وتنقيح المناط يكونُ بحذفِ ما يقترنُ به من
أوصافٍ لا مدخل لها،
٧٢ أي حذف كل ما يمكن حذفه من أوصاف العِلية وتعيين الباقي
الذي لا يمكن حذفُه بوصفه مناطَ الحكم، مما يذكِّرنا بقاعدة نصل أوكام
وعناية برتراند رسل بإحيائها وتفعيلها. نصلُ أوكام قاعدةٌ منهجية
تعني التقليل قَدْر المستطاع من الفروضِ والكياناتِ التي لا تدعو
الحاجة إليها، وحذفها تحقيقًا لمبدأ الاقتصاد في التفكير، فيقضي
نصل أوكام بحذف كل كيانٍ أو عنصرٍ يمكن حذفُه دون التأثير على سلامة
الحُجة.
ويتبدَّى الاستدلال الأصولي العِلي كفعلٍ منهجيٍّ متكامل في الطرد والانعكاس مع السبر والتقسيم ثم
المناسبة، وتلك أهم المسالك طُرًّا.
الطرد والانعكاس يعني التلازم المنطقي بين العلة والمعلول سلبًا
وإيجابًا. الطردُ هو الجريانُ أو الدوران، فيعني جريانَ الحكم مع
العِلة ليتبعَها في كل موضعٍ وجدَت فيه، فتُصبح العِلة مدار الحكم حقًّا
ويُصبح الحكم دائرًا دورانًا. أما الانعكاس فهو انتفاء الحكم حين
انتفاء العلة؛ لذا أسماه بعضُهم الدورانَ العدمي، لتدورَ العِلة مع
معلولها وجودًا وعدمًا. «إذا كان الحكم حاصلًا مع الوصف في جميع
الصور المغايرة لمحل النزاع فهذا هو المراد من الاطِّراد والجرَيان.
ومنهم من بالَغ فقال: مهما رأينا الحكم حاصلًا مع الوصف في صورةٍ واحدة.»
٧٣ الصورةُ الواحدة مبالغةٌ كما قال الرازي نفسه، لكن
الشواهد التجريبية الأولية في أصول الفقه بشكلٍ عامٍّ من نوع
الاستقراء الناقص الذي هو أقرب إلى الاستقراء العلمي، حيث يُكتفى
برصد عدةِ حالاتٍ دالة، وليس من الضروري ولا من الممكِن رصدُ الحالات
جميعها، فضلًا عن أن الاستدلالية في القياس الأصولي هي أساسًا
التمثيل بمعنى الانتقال من حالةٍ جزئيةٍ إلى حالةٍ جزئيةٍ أخرى تبدو
مماثلةً بفعل العلة. سلَّم الرازي مع البيضاوي وسواهما من كبار الأئمة
بأن الطرد حجةٌ صالحةٌ وقاطعةٌ لثبوت الحكم، لكن الطرد ككل المقولات
الأصولية تقريبًا، يظل مجالًا لرأيٍ آخر؛ لذا فالطردُ له رافضون أو
بالأحرى متحفِّظون. رآه البعض الآخر شرطًا لصحة العِلية وليس دليلًا
عليها، واعتبَره الغزالي قائمًا في كل علة. وقد بحثوا أيضًا العلاقة
التبادُلية بين العلة ومعلولها، بمعنى أن كليهما دالٌّ على الآخر؛
فهناك قياس العلة وهو استدلالٌ بالعلة على المعلول، وهناك قياس
الدلالة — الأضعف — وهو استدلال بالمعلول على العلة.
ومهما يكن الأمر، فإن المُعوَّل الأساسي في العلية هو الطرد؛ أي
التلازم ووجود الحكم لوجود العلة دائمًا، كلما تحقَّق وجود العلة
تحقَّق وجود الحكم، بمعنًى يماثل التلازم في الثبوت بين العِلة
والمعلول الذي جعل مبدأ العِلية في الميثودولوجيا العلمية الحديثة
في مرحلتها الكلاسيكية له وجهٌ آخر هو مبدأ الاطِّراد
(
Uniformity). اطِّراد الطبيعة
وسرَيانها على وتيرةٍ واحدة؛ فالقانون العلمي يكشف عن عِلية بقَدْر ما
يكشف عن اطِّراد؛ فكلما كانت العِلة حدث معلولها، وإذا غابت غاب
المعلول، كما يحدُث في الانعكاس الأصولي حين اقترانِ الطرد بالعكس
تأكيدًا للدوران، وأنه يترتَّب على انتفاء العِلة دائمًا انتفاء
الحكم، أو المعلول. وهذه العناية بغياب العِلة وانتفائها في مسلك
الانعكاس الأصولي تستحضر أمامنا الميثودولوجيا العلمية التي لا
تكتفي أبدًا بحالات الإثبات وتحقق المعلول بحدوث العلة، بل أيضًا
غيابه بغيابها. وفي هذا لم تكن نظريات المنهج العلمي الكلاسيكية
حتى نهايات القرنِ التاسعَ عشرَ إلا تأكيدًا لدوران العلة مع المعلول
وجودًا وعدمًا، منذ بيكون الذي وضع قائمةَ الغيابِ بجوار قائمة
الحضور وقائمة التفاوت في الدرجة، حتى جون ستيوارت مل الذي وضع
منهج الاتفاق؛ أي اتفاق العلة مع معلولها بجوار منهج الاختلاف؛ أي
اختلاف وضع العلة أو غيابها بغياب معلولها، فضلًا عن المنهج الثالث
من مناهج مِل الخمسة، وهو منهجُ الجمع بين الاتفاق والاختلاف.
٧٤ وتطوَّر الأمر حتى أصبحَت الأمثلةُ النافية أو الشاذة أو
المكذِّبة تقوم بالدور الأكبر في الميثودولوجيا العلمية المعاصرة
وأصبَح منطقُ التكذيبِ البوبري من أبلغِ تمثيلاتِ منطقِ العلمِ التجريبي
بعد ثورة النسبية والكوانتم.
تبقى آية الدقة المنهجية في مسلك «السبر والتقسيم»، المقترن
بتنقيح المناط الذي هو في حدِّ ذاته مسلكٌ ذو اعتبار. التقسيم إما أن
يكون منحصرًا حاصرًا لكل الأوصافِ وتقسيمها إلى أوصافٍ إيجابية وأخرى
سلبية، وإما أن يكون منتشرًا أقلَّ حسمًا. وهو على الإجمال ذكر كل
الأوصاف التي يتصف بها الأصل وصفًا وصفًا أو قسمًا قسمًا، كل وصف
يمثل قسمًا تتم دراستُه على حدة، فهل كانت قوائمُ فرنسيس بيكون
الساذجة التي وضعَها لتسجيل نتائج التجريب هي حقًّا أوَّل محاولةٍ في
التاريخ لتصنيفِ معطياتِ البحث كما يُقال في كتب المنهجية
الغربية؟!
عن طريق السبر، أي الاختبار وقياس الغَور، يتم استبعادُ الأوصاف أو
الأقسام واحدًا تلو الآخر فلا يبقى إلا الوصف الذي هو مناطُ العلة
حقًّا. حدَّد الأصوليون طرقَ وأسانيدَ حذفِ الأوصاف المستبعَدة. هنا يلتقي
السبر مع تنقيح المناط، فيعتبرهما الرازي شيئًا واحدًا، وبعض
الأصوليين يرفضون هذا لأن السبر حذفٌ فقط، أما تنقيحُ المناط فحذفٌ
وتعيين أيضًا. المهم الآن أنه من ناحية الإجرائية المنهجية، نلاحظ
أن التقسيم يحدُث أولًا يتلوه السبر، ولكن المصطلح «السَّبر والتقسيم»
يضع السَّبر قبل التقسيم لأن السبر أهم، فهو الفاعلية المنتِجة. ويا
لها من حصافةٍ منهجية في إعلاء قيمة السَّبر أي
الاختبار. إن التجريبية العلمية في جوهرها هي
الاختبارية، هي القابلية للاختبار التجريبي والتكذيب، وروح
الاختبارية التجريبية الأصولية تنزع إلى السَّبر، وسوف نرى أنها لا
تقتصر عليه. وفوق كل هذا لا تفوتُهم قيَم البحث العلمي وهم أهل
الدين، فأكَّدوا ضرورة أن يتحلى الباحث المؤمن أو الفقيه، بالصدق مع
النفس ومع الواقع، بالموضوعية في السَّبر والتجرُّد من الهوى كمُبرِّر
لاستبعاد قسم أو أحد الأوصاف.
تعلو نبرة الاختبارية وروح العلم التجريبي النقدية مع الأصوليين
وهم يبحثون فساد العِلة، في الأصل
أو في الفرع أو في انتفاء الدليل على صحَّتها؛ فالمسألة ككل فاعليات
الإنسان والعقل البشري، يمكن أن تقع في الخطأ، وباستثناء الأنبياء
والصحابة الأولين وأئمة الشيعة الرافضين للقياس أصلًا لا معصومية
للبشر في الفقه الأصولي وفي التفكير العلمي وفي كل تفكيرٍ عقلاني
مستنير. ومثلما تبحث الميثودولوجيا العلمية المعاصرة فيما يُسمَّى
بالأمثلة الشاذة أو مكذِّبات النظرية، عُني الأصوليون عنايةً بالغة
بالبحث فيما يُبطِل الحكم العِلي أصلًا فيما أسموه بمبحث القوادح؛ أي إبطال العِلل، حيث تتجلى
الاختبارية الأصولية في أقوى صورها.
القدح في اللغة هو الطعن في النسب، وفي أصول الفقه هو الطعن في
صحة الاستدلال؛ أي الاعتراض عليه، على الدليل الدال على العِلية،
وذلك إما بالممانعة وإما بالمعارضة. الممانعة هي عدم قبول الحكم؛
لأنه لا يحمل دليلًا واضحًا على العِلة أو على الحكم ذاته في الأصل
أو على نسبته إلى الفرع، والمعارضة هي إبطال العِلة بعِلةٍ أخرى. يحمل
مبحثُ القوادحِ منهجيةَ المناظرة بين الرأي والرأي الآخر؛ فهو اعتراضُ
معترضٍ على الاستدلال بناءً على حُجة. البعض ذكر ثلاثين نوعًا من
الاعتراضات، والبعض قصَرَها على خمسة أنواع فقط. الاعتراضاتُ لها
أساليبُ منهجيةٌ مجدية، لعل أبسطها الاستفسار، وهو إن لم يؤدِّ إلى
إسقاط الحكم فسوف يؤدي إلى فهمه وتعميقه، ومنها فساد الاعتبار
بمعنى إثباتِ أنَّ ما هو مذكورٌ لا يمكن اعتبارُه في بناء الحكم
عليه.
القوادحُ منهجيةٌ اختبارية لا تني ولا تكلُّ، فتختبر ذاتها بذاتها،
وفي هذا فرَّق الأصوليون بين القوادح الفعَّالة؛ أي الاعتراضات
الصحيحة، والقوادح الباطلة؛ أي الاعتراضات الفاسدة التي لا قيمة لها.
٧٥ حدَّدوا مناهجَ للقوادحِ الفعَّالة؛ أي أهم ما يُبطِل
الاستدلال العِلي، كالنقض والكسر وعدم التأثير والقلب المبطل.
٧٦ النقض هو ردُّ العلة بناءً على لفظها، والكسر هو ردُّها
بناء على معناها؛ لذا فهو أقوى من النقض، أما القلب المبطِل فهو
إمكانيةُ الانتهاءِ بالقياس إلى عكس الحكم المطروح، وهو منتهى النقض
للعِلية لأنه بيان أن الحكم الذي تعلَّق بها ليس له تعلُّق
بها.
•••
وأخيرًا تبقى
المناسبة كواحدةٍ
من أهمِّ مسالكِ العلة. وكما أن القياس الأصولي ليس مجرد قياسٍ صوري،
بل أيضًا إنساني حي معاش، فكذلك العِلِّية الأصولية ليست مجرد منطق
قاعدةٍ منهجيةٍ جامدة، بل أيضًا إنسانية بنوعٍ خاص يتجلى في منطق
المناسبة. المناسبة تعني قبولَ العقلِ للعلة لأنها مناسبةٌ لتحقيق
الصالح العام … للمصلحة؛ لذلك كانت الجانب العقلاني الصريح
والإنساني معًا في الاستدلال العِلي الأصولي. وقد جعَلوا «المصلحة»
تُرادِف «الحكمة» والعِلة من كل تشريع؛ لأنه تعالى
حكيمٌ، ومن مقتضى حكمته ألا يضع
تشريعًا إلا لمصلحة عباده. اشترطوا أن تكون العلة ضابطةً لحكمةٍ
مقصودةٍ للشارع لا حكمةٍ مجردة، ولا حكمَ شرعيًّا إلا من أجل «تحقيق
مصلحة للعباد من جلب منفعةٍ لهم أو دفع ضررٍ عنهم، عاجلًا كان ذلك أو
آجلًا، وتلك هي الحكمة.»
٧٧ والأصل في الإباحة المنافع، وفي التحريم المضار.
٧٨
تمادَى في هذا نجم الدين
الطوفي
الحنبلي (ت ٧١٦ﻫ). انكَب على شرح الأحاديث الأربعين النووية؛ أي
التي جمعها الإمام النووي، وتوقَّف طويلًا عند الحديث الثاني
والثلاثين الذي يحمل واحدةً من القواعد الفقهية الراسخة: «لا ضَرَر
ولا ضِرَار»، أطنَب في شرحِه وتبيانِ مقاصدِ الشارع منه والتي تتلخَّص في
المصلحة. فقه العبادات حقٌّ للشارع وحده، أما فقه المعاملات فالحقُّ
فيه تحقيقُ مصالح العباد. انبثقَت عن شروح الطوفي نظريةٌ عظيمةُ
الأهمية غيرُ مسبوقة وهي اعتبارُ المصلحة وتقديمُها على جميع الأدلة،
على الإجماع وعلى النص ذاته،
٧٩ فأكَّد أن المصلحة تسبقُ النص إذا تعارضَت معه. وهذه
القاعدةُ الفقهيةُ الطوفيةُ الخطيرةُ مذكورةٌ في المصنَّفات الكبرى كمعراج
المنهاج للجزري وسواه.
المناسبة هي المسلك العقلي الإنساني الخالص نحو العِلة؛ لأن العقل
هو الذي يقبل الملائم والمناسب الذي يجلب المصالح ويدرأ المفاسد
ويسد الذرائع، ويعمل على تلبية الضروريات والحاجيات التي اختلفوا
في تحديدها. أوقعُ وأشهرُ تحديدٍ في الضرورات الخمس عند القاضي
الغرناطي المالكي الإمام الشاطبي (ت ٧٩٠ﻫ) وهي الدين والنفس والنسل
والمال والعقل، وأكَّد أن الأمة بسائر الملَل اتفقت على أن الشريعة
وُضعَت من أجل المحافظة عليها،
٨٠ على أن الرازي جعل النفسَ أُولى الضرورات؛ لأنه لولاها
لما كان ثمَّة دينٌ ولا عرضٌ؛ أي نسل، ولا مال. وفي هذا نزعةٌ إنسانيةٌ
إسلامية تحملُها قيمةُ الاستخلاف التي أكَّدنا عليها منذ البداية؛
فالله جعل الإنسان خليفتَه وأكرمَ الموجودات، وبالتالي لم يشرِّع
الشرع إلا لمصلحةِ هذا المخلوقِ الذي كرَّمه.
المناسبة والملاءمة مسلكٌ ومنهجٌ وشرطٌ للعِلة، تكامَل مع منطق
القواعد الفقهية؛ أي القواعد
التي وُضعَت لترشيد الاستدلال والاجتهاد المرسَل، لتزيدَ علمَ أصول
الفقه أنسنةً وارتباطًا بالواقع. أهم القواعد الفقهية: لا ضَرَر ولا
ضِرار، درءُ المفاسدِ مقدَّم على جلب المصالح، عدم جوازِ تكليفِ ما لا
يُطاق، الضرورات تبيح المحظورات … إلخ. وتطوَّر الأمر تطوُّرًا ملحوظًا
مع التفسير المقاصدي للشريعة للإمام الشاطبي. قد يُمكِن الاستفادة من
هذا في منهجية معالجة الموقف
(Situation) في العلوم
الإنسانية، والموقف فيها يمكن أن يناظر الأنموذج
(Model) في العلوم الطبيعية،
أو فيما تحمله القواعد الفقهية من أسسٍ للتخطيط الذي هو منهجيةٌ
وآليةٌ كبرى في الإنسانيات. على أنه؛ أي التفسير المقاصدي للشريعة
وما ينطوي عليه من أبعادٍ عقلانيةٍ وإنسانية، لا يتصل اتصالًا
مباشرًا بما نبحث عنه ها هنا؛ أي الآليات الميثودولوجية التي يُمكِن
أن تنبثقَ عنها مناهجُ علمية وإجراءاتُ البحث العلمي، ولكن على هذا
الوتر — التفسير المقاصدي للشريعة — تُعزَف جُلُّ جهود الإصلاحيين في
الفكر العربي والإسلامي المعاصر المتصلة بعلم أصول الفقه.
•••
وقد كان الهدف من كل هذا الجهاز المنهجي والآليَّات الاستدلالية
والجهود المبذولة لخدمة العِلِّية هو الوصول إلى الأحكام الشرعية للأفعال الإنسانية،
كمناظرة للقوانين التي ينتهي إليها البحث العلمي. الحكم الشرعي هو
الثمرة من جهود الأصوليين،
بتعبيرهم البليغ، والمُجتهِد هو المُستثمِر. وبالروح المنهجية التي
تُهيمِن على عالمهم، عُني الأصوليون بتقسيمات الأحكام. وفي هذا لم يكن
المنطق الأصولي مقتصرًا على ثنائية القيم، بل كان في جوهره وفي
حدود عصره منطقًا متعدِّد القيم.
المنطق الأرسطي التقليدي لا يعرف إلا قيمتَين اثنتَين؛ الصدق
والكذب، القضية إما صادقة وإما كاذبة، ويمتنع وجودُ قيمةٍ ثالثة،
وفقًا لقانون الوسط المرفوع أو الثالث الممتنع في قوانين الفكر
الأرسطية. أما المنطق الرياضي الحديث، فهو تحليليٌّ يردُّ القضية إلى
مكوِّناتها، كل مكوِّن صادق أو كاذب، أما القضية في حد ذاتها فقد لا
يُمكِن الحكم عليها بهذا أو ذاك. إذن، هناك قيمةٌ ثالثة. هكذا ظهر
منطقٌ متعدِّد القيم، يعمل بقيمٍ متعدِّدة، ثلاث قيم، وسار قُدمًا حتى وصل
إلى منطقٍ لا نهائي القيم.
كان ثمَّة منطقُ الموجِّهات البسيط؛ أي الحكم على القضية من جهة
الضرورة أو الإمكان أو الامتناع، وربما يناظره في المنطق الأصولي
ما أسماه الشاطبي «حكام العقل الثلاثة؛ الوجوب، والجواز، والاستحالة».
٨١ كان مبحَث الجهة محلَّ عنايةِ أرسطو والمناطقةِ العرب
خصوصًا الفارابي وابن رشد، ثم أُهمِل طويلًا ولم يَلتفِت إليه مؤسسو
المنطق الرياضي في القرنِ التاسعَ عشَر. وفي ذلك الأوان ظهَر مناطقةٌ
روَّادٌ يبحثون مناطق الغموض والمفارقات وعدم التحدُّد … التي تفرض
قيمًا أخرى غيرَ ثنائية الصدق والكذب. وقُطعَت خطوةٌ فعَّالة بفضل
المدرسة البولندية التي أسَّسَها في وارسو تفاردوفسكي
(
K. Twardowiski, 1866–1938)
في فترة ما بين الحربَين العالميتَين واستمرَّت حتى نهاية الحرب
العالمية الثانية لتتفكَّك بوفاة وهجرة أعضائها، بعد أن أثرَت المنطق
الرمزي الحديث بإنجازاتٍ عدة، على رأسها استواءُ معالمِ المنطقِ المتعدِّد
القيم (
many-valued
logic).
تفكَّكَت أوصالُ الحتميةِ العلميةِ الميكانيكية، وفي القرن العشرين
ظهرَت اللاحتمية ومبدأ اللاتعيُّن لهيزنبرج، وتجلَّى مفهوم الاحتمال
الموضوعي. وبات حسابُ الاحتمالات يقوم بدَورٍ عظيم في العلم، ليعمل
العلم المعاصر بدءًا من الفيزياء وصولًا إلى علم النفس بالقيم
الكثيرة المتعدِّدة لدرجة الاحتمال. هكذا لم يعُد التفكير العلمي يعمل
فقط بقيمتَي الصدق والكذب. وظهرَت في النظريات المنهجية المعاصرة
مفاهيمُ من قبيل رُجحان الصدق
verisimilitude،
٨٢ ودرجات القابلية للتكذيب أو للتأييد. هذا فضلًا عن
ظهور منطق الشواش (
chaos) الذي
يعالج التعقيد المتراكم، والمنطق الغائم (
fuzzy
logic) الذي يُعالِج الغموض والضبابية، وقد ظهر
في ستينيات القرن العشرين في كاليفورنيا، على يد العالم المسلم لطفي
زاده، ثم تطوَّر وعلا شأنُه في التطبيقات التكنولوجية، وخصوصًا في
الصناعات اليابانية. وفي كل حال، لم يعُد بإمكان الميثودولوجيا
العلمية المعاصرة أن تكتفي بقيمتَي الصدق والكذب، كما كان الوضع حتى
نهايةِ القرنِ التاسعَ عشرَ والعقودِ الأولى من القرن العشرين. وأصبحَت
المنهجيةُ المعاصرة تستدعي منطقًا متعدِّد القيم بشكلٍ أو بآخر.
وقبل هذا بقرونٍ عديدة، وبخلاف ما تحدَّث عنه الأصوليون من
«تراجيح الأقيسة» حين يكون القياس أكثر أو أقلَّ من سواه رجحانًا،
بحسب العِلة أو دليلها أو دليل الحكم أو كيفيَّته أو موافقة الأصول في العِلة،
٨٣ لم يكن تقسيم الأحكام الشرعية عند الأصوليين فقط
تقسيمًا ثنائيًّا، أو بالحلال والحرام، أو بالصحة والبطلان، أو
بالعزيمة والرخصة، أو بالحسن والقبيح … فحسب، ثمَّة أيضًا التقسيم
الأهم والعمدة والأكثر شيوعًا والذي عُدَّ تحديدُه من الأهداف أو
المهام الكبرى للأحكام الشرعية، ذلكم هو التقسيم المتعدِّد القيم، أو
بالأدق الخماسي القيم: من الواجب إلى المحظور والمباح والمندوب
والمكروه. الواجب ما يُذمُّ تاركه، والمحظور ما يُذم فاعله،
والمباح ما لا يتعلق بفعله أو تركه مدحٌ ولا ذم، والمندوب ما يُحمد
فاعله ولا يُذم تاركه، والمكروه ما يُمدَح تاركه ولا يُذَمُّ فاعله،
٨٤ وبخلافها جميعًا يتحدث الإمام الشاطبي عن مرتبة العفو
التي تُناظر مواطنَ الغموضِ وعدمِ التحدُّد.
كم نظلم أنفسنا حين نجد أقربَ تهمةٍ تُوجَّه لأي فكرٍ ديني أو له علاقة
بالدين أنه سوف يحصُرنا بين ثنائية الحلال والحرام. ومن قبلُ كان
الظلم الأكبر الذي يبدو لي أننا سوف نُدان عليه يوم الدينونة حين
تصوَّرنا أن قراءة القرآن لا تفضي إلا إلى مشاعرَ إيمانية وخلجاتٍ
تهجُّدية وشيءٍ من الإشباع النفسي والالتزام السلوكي والضبط
المجتمعي، أما توطينُ الأصولياتِ المنهجيةِ العلمية فيعني استيرادها
بقضِّها وقضيضها من النموذج الغربي، ليظل العلم غربيًّا وغريبًا عن
العالم العربي والإسلامي.
خامسًا: القراءتان … وهذا التفعيل لعلم أصول الفقه
بدا واضحًا كيف كان علم أصول الفقه قراءةً للوحي المسطور/القرآن
الكريم، تهدف إلى فهمٍ سديدٍ له، من أجل تفعيله في الواقع، سدًّا
لحاجات الأمة آنذاك، فأسفر الجهد الحادُّ ذو الدوافع المتوهِّجة عن
جهازٍ منهجيٍّ مهيبٍ يبدو ناضجًا قابلًا للتطوير ومد النطاق والتنقيح
والتزويد، فيُلقي أسسًا منهجيةً علميةً لقراءة الكتاب المنظور/الكون
والعالم، أصيلةً غيرَ مجلوبةٍ أو مستوردة. ومثَّلَت العِلِّية في أحد
وجوهها ركنًا لقياس الأصوليين، وموضعًا لاهتمامٍ وتقنينٍ شامل، كشف
عن آلياتٍ منهجيةٍ عقليةٍ وإنسانية. وكانت عنايتُهم الفائقة بالعِلة
واستقصاؤهم جوانبها وتحديد مسالكها من العوامل التي تشي بقوةٍ إلى
كفاءة علم أصول الفقه كأساسٍ لتوطين روح الميثودولوجيا العلمية،
بحيث كانت بحوث العِلة جسرًا متينًا يُتيح عبورَ علم أصول الفقه من
عالم التراث القديم والكتب الصفراء إلى النموذج الإرشادي العلمي في
واقعنا المعاصر، من حيث هو مناهجُ للبحث ترسمُ سبلًا مقنَّنة وطريقًا
مدروسًا لفاعليات العقل في العمل البحثي المثمر، تأتي من سياق
نموذجنا المعرفي الإسلامي.
وعلى أساس هذا، يؤكد الشيخ علي جمعة أن علم أصول الفقه عمليةٌ
فكريةٌ منهجية، ويستخلص من تعاريفَ مذكورةٍ لهذا العلم، وهو أنه
«معرفة دلائل الفقه إجمالًا وكيفية الاستفادة منها وحال المستفيد»
أركانًا للمنهج من حيث الحرص على تحديد مصادر البحث وطرق البحث
وشروط الباحث.
٨٥ ويؤكد جمعة أنه على أساسٍ من قراءة الكتابَين الوحي
المسطور والكون المنظور يُمكِن أن نصل إلى علم أصول الفقه الحضاري
الذي يضيف إلى أصول الفقه الموروث، الخاص بفهم الوحي المسطور، ما
يُمكِن أن يكون أداةً لمدارسة الكون المنظور، يتعلمها المفتي لفهم
الواقع، ويمكن توسيعُه ليكون منهجًا للعلوم الاجتماعية،
٨٦ فيدعو جمعة إلى الاستفادة من التأمل في مكوِّنات علم
أصول الفقه وآلياته، ليُعطي للباحثين طريقةً ماثلةً لمنهجية التفكير
العلمي الأصيل، وذلك على أساسِ أن أيَّ باحثٍ لا بد، إبَّان بحثه، أن
يقوم بعدة عملياتٍ أو خطواتٍ ماثلة بشكلٍ أو بآخر في علم أصول الفقه،
فالباحث — والحديث ما زال لعلي جمعة — يبدأ بتحديد مصادر البحث وهي
في علم أصول الفقه الدلائل الإجمالية للفقه، ثم يحدِّد مقترب البحث
أو النظرية التي يتبناها، وأدوات البحث … أدوات لكل العمليات
البحثية: يُحلل، يستنبط، يستدل، يستقرئ … إلخ، ومثل هذا عبَّر عنه
علم الأصول، ثم يحدِّد الشروط اللازمة لإجراء البحث، وهي كما يقول
جمعة: «تختلف من علم إلى آخر في جزئياتها وإن اتفقَت في كلياتها.
ويمكن النظر إلى تاريخ علم أصول الفقه على أنه عمليةُ بحث طرحَت فيه
إشكاليةٌ أولية (تساؤل رئيس)، طرحَت بدورها إشكالياتٍ فرعية كوَّنَت
دراسةً علميةً استقرائيةً واستنباطيةً شديدةَ العمق. بدأَت بتساؤل حول
قضية الحلال والحرام وتكليفات الشرع: كيف نصل إلى الحكم الشرعي في
مسألةٍ ما أو في المسائل عامة؟ كيف نحسم الخلاف بين أهل الفقه في
الأحكام الشرعية؟ قالوا بالدليل والبرهان والحجة؛
قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ [النمل: ٦٤]، وهذا هو أصل العلم؛ الدليل.»
٨٧
على أن علم أصول الفقه أكثر من مجرد منهج وعمليةٍ فكريةٍ منهجية،
إنه فكر المنهجية ذاته، المخوَّل بتوطينها تمهيدًا لانطلاقها نحو
المستقبل، كأساس بنائي للعقلية الإسلامية العلمية المتوثبة نحو
المستقبل، وكأصولٍ ينطلق منها النموذج الإرشادي الإسلامي المنشود
توطينًا ومأسسةً وتنضيدًا للظاهرة العلمية في ثقافتنا، في مرحلتنا
المعاصرة تحديدًا.
لقد انبثق علم أصول الفقه كعقليةٍ منهجيةٍ استنباطية، لكنه تميَّز
أيضًا بشكل من أشكال التعامل الحي مع الواقع، فحمل بذورًا تجريبية
تفتَّقَت عن شجيراتٍ ودوحاتٍ منهجيةٍ تلاقى في ظلالها عمادا
الميثودولوجيا العلمية؛ الاستنباط والتجريب. استفاد من المنطق
والقياس المنطقي، وظل أقرب إلى روح التجريبية العلمية التي تستفيدُ
هي الأخرى من المنطق؛ حيث نجد التجريبيةَ العلميةَ كما ذكرنا تجريبيةً
منطقية … تجريبيةً عقلانية. ولم يعُد التجريبُ في المرحلة المعاصرة
يستأثر بالمنهج العلمي كما كان في عصر الفيزياء الكلاسيكية ودعوى
المنهج الاستقرائي التقليدي، بل أصبح المنهج التجريبي فرضيًّا
استنباطيًّا، يتآزر فيه الاستنباطُ والتجريب. وكان هذا هو الوضع في
المنطق الأصولي الذي عرف استنباط علة الحكم من الأصل واستقراء عِلة
الحكم من الفرع، ليجمع القياس الأصولي خصوصًا في الأعمال الأصولية
المسلَّحة بالمنطق بين التجربة والعقل، بين الاستنباط والاستقراء،
فحَقَّ القولُ إن الحُجَّة في أصول الفقه أقرب إلى الدليل في
الميثودولوجيا التجريبية؛ لأنها لم تكن أبدًا برهانًا صوريًّا يُكتفى
فيه باتساق النتائج مع المقدمات، بل تشمل عواملَ أخرى تجعل منطقها
أكثر حيويةً وتفاعلًا … منطقًا تجريبيًّا معاشًا.
ولعل تعامُل علم أصول الفقه مع الواقع والارتباط به يذكِّرنا
بارتباط العلم الحديث بالتقانة أو التطبيقات، أصولُ الفقه هو الآخر
شديدُ الارتباط بالتطبيق، «كل مسألة لا ينبني عليها عملٌ فالخوض فيها
خوضٌ فيما لم يدلَّ على استحسانه» – لأن «ما لا ينبني عليه عملٌ غير
مطلوبٍ في الشرع» و«فضل العلم لكونه وسيلةً للعمل».
٨٨ فكان أصول الفقه لا يبحث إلا أحكام الأفعال الإنسانية
التي تحدث في الزمان والمكان، وتلك هي الثمرة، وكل ما ليس له ثمرة
لا يُعتَدُّ به. وكما ذكرنا يختلف أصول الفقه عن أصول الدين في أنه
لا يبحث في العقائد والحقائق المطلَقة، وما لا يتبعه عملٌ يمتنع
القياسُ فيه، فلا قياس مثلًا في دخول الرسول مكة حربًا أم سلمًا.
أصول الفقه لم يُوضَع أصلًا — بتعبير الشاطبي — إلا لكونه مفيدًا، وهو
معنيٌّ بتكليفات وحدود وواجبات وحقوقٍ حيةٍ معيشة في هذا الواقع
العياني الذي يقع في حلبة عالَم العلم التجريبي.
وعطفًا على هذا، يحتفظ علم أصول الفقه بمرونته وحيويته وقدرته
على التجدد والانطلاق معاصرًا، بفعل هذا الارتباط بالواقع، وبفعل
عواملَ أخرى، منها أنه تقريبًا لا تُوجَد قضية لم يختلف فيها
الأصوليون لنجد في كل موضع الرأي والرأي الآخر. وكان اختلاف الأئمة
رحمةً بالأمة وأيضًا بالمنهجية؛ أتاح لنا التوقُّف عند الآلية
المنهجية حيثما تكون مجديةً للعقلية العلمية.
زعم الإمام الغزالي أنه سيأتينا بالمستصفى والمنخول الذي يجرد
علم الأصول من الزوائد الكلامية وسواها، ولكن بدا أن الغزالي أراد
في الواقع أن يستصفي أصول الفقه من أي أثرٍ اعتزالي، حتى ترك فينا
كتاب
المنخول بالذات انطباعًا
بأن الغزالي، وهو يخطُّه، لم يكن يعنيه علم أصول الفقه بقَدْر ما كان
يعنيه دحضُ حُجج المعتزلة وسواهم أحيانًا، فكان هذا الكتاب ساحةً من
ساحات النزاع بين الأشاعرة والمعتزلة،
٨٩ الذي علا وطيسه في كثير من صفحات علم أصول الفقه،
استئنافًا لمعاركهما الضارية على أرض الوطن في علم أصول الدين،
وكانت الغلبة من نصيب الأشاعرة على الساحتَين. وفي الفكر العربي
المعاصر نجد جمهرةً من الإصلاحيين يرَون أن غلبة الأشاعرة هي السبب
في كل ما نعانيه من تخلُّف واستبداد وانخفاض معدلات التنمية، وشيوع
اللاعقلانية وكلالة البحث العلمي، وربما أيضًا ازدحام المرور
وانخفاض قيمة العملة والزلازل المتكررة في اليابان.
٩٠
الوقوف على الآليات المنهجية جعلنا في حِلٍّ من الانغماس في
الخلاف بين هذا الأصولي وذاك، ومن قبلُ في حلٍّ من الاشتباك بما يُسمَّى
بدراما المعتزلة والأشاعرة في الفكر العربي المعاصر، وهو الموقف
الذي أكَّدناه سابقًا في موضعه؛
٩١ لذلك لا يزعجنا كثيرًا أن ساد الأشاعرة في معظم مصنَّفات
أصول الفقه كما يقول حسن حنفي، وأن
المعتمد لأبي الحسين البصري (٤٣٠ﻫ) هو المؤلَّف
الوحيد الذي بقي لنا في علم أصول الفقه الاعتزالي.
٩٢ ليس لأن الأشاعرة على عمومهم أكَّدوا حجية القياس
والاجتهاد بينما رفضها فريق معتزلي بقيادة النظام، ولكن لأن الخلاف
بين الفرق لا يعنينا أصلًا. وعلى أية حال، ومع شيوع النزاع والجدال
واللجاج بين الأشعرية والاعتزال في مصنفات أصول الفقه، فإنهما
مذهبان كلاميان، أي في أصول الدين وليس في أصول الفقه، ونحن نعمل
على أساس أن لكلٍّ من الأصولَين هُويتَه الخاصة ودورَه المختلف، في
الماضي وأيضًا في نموذجنا الإرشادي المنطلق نحو المستقبل. كل الفرق
إسلامية، وكل عطاء مقبول ما دام مناسبًا للمنهجية العلمية. وكما
رأينا، الأصوليون هم الذين أرسوا المناسبة المعقولة كشرعة منهجية،
وهم الذين وضعوا علمًا منطقيًّا للمناظرة بين الخصوم حين
الاستدلال، وفيه لا يهتمون ببيان فساد مذهب الخصم، بل تعنيهم الحجة
المطروحة، أو بالتعبير الميثودولوجي المعاصر، القضية
العلمية.
ومع هذا كان لا بد من أن نُوصِد أبوابنا أمام اتجاهاتٍ بعينها، وهم
تحديدًا رافضو القياس ورافضو المنطق. والغريب أنهما ليسا تيَّارَين
متطابقَين أو حتى متلاقيَين دائمًا. أشهرُ الرافضين للمنطق ابن تيمية
دافع عن القياس، وأكَّد أنه أصلٌ أصيلٌ مارسه الصحابة وأن «من ادَّعى
إجماعَهم على ترك العمل بالرأي والقياس مطلقًا فقد غلط».
٩٣ بينما كان ابن حزم الأندلسي (٣٨٤–٤٥٦ﻫ) أول من دعا إلى
تطبيق المنطق على العلوم الشرعية، وأكد ضرورته في علم أصول الفقه،
وهو في الآن نفسه على رأسِ رافضي القياسِ ومن أئمة مذهب الظاهرية
القائل بضرورة الاكتفاء بظاهر الكتاب والسنة، من دون تأويل أو
توليد، أو حتى تقليد، فلا غرو أن نجد من عناوين مصنَّفات ابن حزم:
«التقريب لحد المنطق والمدخل إليه»، وأيضًا «ملخص إبطال القياس
والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل» و«كشف الالتباس ما بين
الظاهرية وأصحاب القياس» فهكذا يتمُّ «الإحكام في أصول الأحكام».
٩٤ كان ابن حزم جدليًّا مبرزًا ذاع صيتُه في الرد على
الفرق المخالفة والمقارَنة بينها، بذل الجهدَ الجهيدَ لنقل الظاهرية
من موطنها في المشرق حيث تأسَّسَت على يد داود بن علي بن خلف البغدادي
(٢٠٢–٢٧٠ﻫ) الذي أنكر القياس جملةً وتفصيلًا وتشدَّد في الأخذ بحرفية
النصوص، ومنع التقليد، ورأى أن كل من يفهم اللغة العربية له أن
يتكلم في الدين بظاهر الكتاب والسنة. حاول ابن حزم زرع الظاهرية في
البيئة الأندلسية التي كانت مناوئةً لها ومناصرةً لمذهب مالك، مما
ألَّب عليه الفقهاء والعامة والأمراء، ليقضي حياتَه في عنت ونفي
وسجالات ومعارك لا تنتهي. ولكن بعد وفاته بأكثر من مائة عام، في
أواخر القرن السادس الهجري قامت دولة الموحِّدين التي فرضَت الظاهرية
في الأندلس والمغرب العربي.
٩٥ وظل ابن حزم بطول تراثنا وعرضه أشهر الأسماء المرتبطة
بالمذهب الظاهري، وأيضًا بفلسفة العشق والغرام في
طوق الحمامة.
كان لا بد أن نُوصِد الأبواب أمام الظاهرية ورافضي القياس جميعًا،
وبالمثل تمامًا، وربما أكثر، أمام رافضي المنطق ورد ابن تيمية على
المنطقيين وسائر تيار الأصوليين الفقهاء الذي بلغ حدَّ تكفير وتجريم
المنطق. إن المفارقة المزعجة حقًّا فيما تُلحُّ عليه أصواتٌ معاصرة
تأتمُّ بعلي سامي النشار فترفع لواء هذا التيار بوصفه سابقًا
لفلاسفة المنهج التجريبي في الحداثة الغربية، وعلى رأسهم جون
ستيوارت مل، الذين هاجموا القياس الأرسطي، ويجعلون الأصوليين
المعادين للمنطق الذين برَزوا مع بدايات تراجع الحضارة الإسلامية هم
الأسبق في اكتشاف المنهج العلمي التجريبي. لقد أسهَبنا في الرد
عليهم، وأوضحنا الخلَل في حجة علي سامي النشار الذي لم يفطن إلى أن
ستيوارت مل وضع معالجة المنهج التجريبي في كتاب أسماه نسَق المنطق، وكانت تكفي الإشارة إلى
كتاب إنصاف حمد، المنطق الصوري في المنظور
التجريبي: جون ستيوارت مل نموذجًا، فمجرد العنوان
يحمل المقصود، وهو أن النشَّار وأتباعه لم يفطنوا إلى دور المنطق
الصوري الذي لا تكتفي الميثودولوجيا التجريبية به طبعًا، ولكنها لن
تنقُضه وتُحاربه، فأيُّ تفكيرٍ علمي هذا الذي يمكنه أن يحارب قيمة
الاتساق والصحة بالوسائل الصورية المتاحة في العصر المعني؟ وربما
كان التمسُّك بنقد هؤلاء للمنطق الصوري لأنه يفتح الباب بالحق أو
الباطل إلى تأكيد أسبقية الحضارة العربية الإسلامية على الحضارة
الأوروبية. تشغلُنا هذه الأسبقية أحيانًا إلى درجةٍ هيستيرية، فما
بالنا حين تكون الأسبقية في الوصول إلى المنهج العلمي التجريبي
بجلال شأنه؟ ولكن الصفحات السابقة — والتالية أيضًا — لا تنشغل
كثيرًا بمسألة الأسبقية لمن، في المنهج العلمي التجريبي أو في
غيره؛ لأن الأسبقية، أيًّا كان الظافر بها، مسألةٌ حدثَت في الماضي،
ونحن منشغلون بالتوجه صوبَ المستقبل.
ومع ذلك يمكن أن نتلمَّس عند ابن تيمية وأقرانه موقفًا طبيعيًّا
يعني رأيًا آخر وثراءً وتعدُّدًا، فلندَعْ كل الزهور تتفتح، وليكن
الواقع حافلًا بأشكالٍ منهجيةٍ مختلفةٍ تزيده ثراءً، فيمكن أن ينطلق
التفكير العلمي وتنطلق أيضًا أشكالٌ أخرى من التفكير، فلا تعصُّب
للعلم ولا لسواه. وفي محاولة لتدجين كل الأطراف، يمكن القول إن ذلك
الاتجاه الأصولي الفقهي الذي يناصب المنطق الصوري عداءً ضاريًا،
موقف ابن تيمية وابن الصلاح والسبكي … ليس يعني أن علم أصول الفقه
يسمح بمساحةٍ تنعدم فيها المنهجية أو إمكانية النظر العقلي المقنَّن،
بل الأدنى إلى الصواب أنها مساحةٌ تسمح بنوعٍ آخر من التقنين ومن
الفاعلية يختلف عن العلم بمفهومه المعاصر، وربما كان نوعًا أكثر
إنسانية، لا سيما إذا سلَّمنا بأن المنطق الصوري أصفى أشكال المنطق
وأكثرها حسمًا، ولكنه ليس الشكل الفلسفي الوحيد للمنطق، كما ذكَرنا؛
فثمة المنطق الجدلي والمنطق التجريبي أو المنطق الاستقرائي والمنطق
الترانسنتالي … إلخ. إنها أشكالٌ أخرى لقوانينِ الفكرِ تُحاول أن
ترشده، ولكن المنهجية العلمية تحديدًا التي تصلح للإسهام في تشييد
نموذجٍ إرشاديٍّ علمي لا بد لها من أسس المنطق الصوري، لا تكتفي به،
لكن لا تنقُضه ولا تُناصبه العداء.
ومع مثول أشكال أخرى من التفكير بخلاف التفكير العلمي المستند
إلى المنطق الصوري والصورنة، يذهب حمُّو النقاري إلى أن الغزالي
يمثِّل الموقف الصوري الذي يبحث عن التقنين الصوري للأحكام الشرعية،
بينما يمثل ابن تيمية الموقف الطبيعي الذي يبحث عن تقنينٍ طبيعي؛
لأنه ينظر إلى الخطاب الشرعي كما يتم تداوله طبيعيًّا؛ وبالتالي
يُعنى بشروط تحقُّقه طبيعيًّا، من ضرورة وجود المخاطِب والمخاطَب
ومعرفة المخاطَب لمقاصد المخاطِب. أول شروط أو دعاوى الموقف الطبيعي
لابن تيمية هو القصدية؛ أي فهم الخطاب بتحديد دلالته عن طريق تحديد
المقصود منه، الخطاب مفتوح الدلالات؛ فهو مكوَّن من ألفاظ، واللفظ
الواحد قد يكون له أكثر من دلالة، وبالقصدية يتم تحديد الدلالة
المرادة، فتكون القصديةُ وسيلةً إجرائيةً لغلق الخطاب المفتوح
بطبيعته. وهذا يعني مبدأ أولية الكتاب والسنة، المصدر الذي
يعلِّمنا الأمر مجملًا والشريعة فقط لتفصِّله وتبيِّنه. ثانية
دعاوى الموقف الطبيعي لابن تيمية هي الاستدلالية، بمعنى أن دلالة
الخطاب ليست فقط لفظيةً ظنية، بل دلالةٌ عقلية تنبئنا بطبائع
للمخاطِب والمخاطَب، وهذا يعني مبدأ ضرورة التمكُّن من فهم الكتاب
والسنة والاهتداء بهما، وذلك عن طريق اللغة العربية وعلومها وعلوم
القرآن والحديث وأقوال السلف باعتبارهم أخصَّ القوم بمعرفة الرسول.
والدعوى الثالثة هي أن التمثيل أساسُ الفهم، وبالتالي التصديقُ أسبقُ
من التصور، وهذا يعني مبدأ استحضار مجموع نصوص الكتاب والسنة. على
هذا ينتهي النقاري إلى أنه لا يصح مؤاخذةُ نظرية ابن تيمية بأنها
سلفيةٌ دينيةٌ محضة؛ لأن الشروط التي نصَّت عليها تبقى صالحة، وربما
ملزمة، في كل ميدانٍ يكون العلم فيه مؤسسًا على متنٍ محدَّد مثل
الميدان الشرعي والقانوني، من حيث إن أي حكمٍ قانوني، لا بد أن يكون
مؤسَّسًا على نصٍّ تشريعي،
٩٦ فضلًا عن انطلاق ابن تيمية أصلًا مما أسماه الموقف
الطبيعي اللاصوري.
ومهما قيل عن المنطق الطبيعي ومنطق الحياة، وسواهما من أشكالٍ
مختلفةٍ من المنطق، فهذه كلها ومعها موقف ابن تيمية وأشياعه إنما هي
إسهامات، قد لا يكون ثمَّة مبرِّر لرفضها؛ لأنه ليس من شيم البحث
المنهجي إقصاء كل طرفٍ آخر، ولا بأس من مثولها الذي يُثري الواقع، لكنها لا تجدي في مضمار المنهجية
العلمية، التي تتوافق دائمًا مع المنطلقات
المنطقية. إنها رأيٌ آخر في علم أصول الفقه يختلف عن الرأي الذي
يحمل منظورًا ومكنونًا نراه كفيلًا بتأسيس نموذجٍ إرشاديٍّ علميٍّ
إسلامي.
إن المنطق الصوري بوابةٌ عظمى لعالم الفلسفة والمدخل الفخيم
لمنهجية العقل الفلسفي، وقد صنع أيضًا مدخلًا فخيمًا للأصولَين؛
أصول الدين وأصول الفقه، وبفضل الباقلاني والغزالي وسواهما بات
القياس الأصولي يحتوي القياس الأرسطي الحَمْلي والقياس الرواقي
الشرطي. وفيما بعدُ نشأَت الميثودولوجيا المحدَثة أو نظرية المنهج
العلمي أصلًا كامتدادٍ للمنطق، وعلى الرغم من استقلالها وتنامي
وتعملُق فلسفة العلوم بأَسْرها التي تظل الميثودولوجيا عمادها، فقد
ظلت وثيقة الصلة بالمنطق. وفي الدرس الأكاديمي ما زلنا نقول
«المنطق ومناهج البحث» معًا تقريرًا لارتباطهما المسلَّم به وأيضًا
للتوازن بينهما؛ فالمنطق صوري ومناهج البحث تمثِّل جانبًا تطبيقيًّا
له، وقيل إنها المنطق المادي، وهذا عينُ ما أوضحَته التحليلات
السابقة بشأن علم أصول الفقه، فقد استند إلى المنطق الصوري المتاح
في عصره واستفاد منه في منطقٍ أصوليٍّ هو في النهاية منطقٌ واقعيٌّ ماديٌّ
تجريبيٌّ مُعاش. وأيضًا توضِّح التحليلات السابقة — من ناحية أخرى — ما
يتسم به المنطق الأصولي من ذاتيةٍ تجتمع بموضوعية، وفي التطوُّرات
المحدَثة للميثودولوجيا العلمية نجدها أقلعَت تمامًا عن وهم
الموضوعية المطلقة، ولا بد من حسبان حسابٍ للذات العارفة وأدواتها
للرصد وقدراتها المعرفية، وبديلًا عن الموضوعية المطلقة سادت
المقولة المعروفة بالبين-ذاتية (inter-subjectivism)، أو الذاتية المشتركة في ترجمةٍ
أخرى أفضل يقترحها حسن حنفي.
•••
لئن كان ديدن نموذجنا الإرشادي العلمي هو الجمع بين القراءتَين،
قراءة الوحي المسطور وقراءة الكون المنظور، أو قراءة كتاب الله
وكتاب العالَم كلَيهما، فيمكن أن تمثِّل القراءة الأولى للقرآن
أساسًا النقل، والقراءة الثانية لكتاب العالم تمثِّل أساسًا العقل،
ليظل تجادلهما وتفاعلهما معلمًا مميزًا لحضارتنا، ومنطلقًا لطريقها
الذي نرومه واعدًا. يأتي استحقاقُ واتساقُ علم أصول الفقه كمرتكزٍ
ميثودولوجي للنموذج الإرشادي الإسلامي في ترابطه مع النموذج
المعرفي الإسلامي الأشمل. إنه علم يحتل موقعه في منظومة علومنا
النقلية/العقلية؛ فليس
أصول الفقه علمًا عقليًّا خالصًا كالحساب والمنطق، ولا هو علمٌ نقلي
خالص كعلوم اللغة والقرآن والسيرة،
٩٧ بل هو علمٌ يجمع بين النقل والعقل. وكانت الحجة
الأصولية تراكيب من أدلةٍ نقلية وأدلةٍ عقلية، ساوت بين الدليلَين لم
تَنحَزْ إلى أيٍّ من الطرفين، «كل أصلٍ شرعي لم يشهد له نصٌّ معيَّن، وكان
ملائمًا لتصرفات الشرع ومأخوذًا معناه من أدلته، فهو صحيحٌ يُبنى عليه.»
٩٨ تمثَّل العقل في حُجية الاجتهاد والقياس، ثم في استعمال
المنطق الصوري، ليعلِّمنا علمُ أصول الفقه منهجيةً للجمع بين الموروث
والوافد، وتشغيل الثاني لخدمة الأول، لخدمة واقعنا وثقافتنا،
فلماذا لا يتكرر هذا بشكلٍ جديد، فنجمع على أسسه المنهجية محصلاتِ
الإيجابيات الوافدة من التطوُّرات المعاصرة في الميثودولوجيا
العلمية، وتشغيلها في إطار نموذجٍ إرشادي إسلامي ينبُع من عالمنا
ويمثِّل روح حضارتنا؟
كانت العلوم العقلية/النقلية أربعة هي علم الكلام والفلسفة
والتصوف وعلم أصول الفقه، تستند إلى الوحي الإلهي … الكتاب
المسطور، فيما يقوم العقل بدور له؛ أي يجمع بين القراءتَين بشكلٍ ما
أو بدرجةٍ ما. اهتم الكلام بموافقة العقل للدين، وعُنيَت الفلسفة
بالتوحيد بين العقل والنقل، وعُني أصول الفقه بصياغة المناهج
العقلية الاستدلالية، وحتى الفقهاء أنفسهم عُنوا بموافقة صريح
المعقول لصحيح المنقول. العقل ماثلٌ دومًا، وفي الحديث القدسي «أول
ما خلق الله خلق العقل.» وعلى هذا الأساس أشار حسن حنفي إلى عدة
مميزاتٍ يتميز بها علم أصول الفقه، وهي تُبرز ما عملنا على إيضاحه من
قدرة هذا العلم تحديدًا على تأصيل منهجيةٍ علمية إسلامية جامعة بين
القراءتَين تتحقق فيه معالم الميثودولوجيا العلمية كما عهدناها في
الخطاب الفلسفي المعاصر، أول هذه المميزات، عنايةٌ خاصةٌ بالتحليل
العقلي والقسمة العقلية؛ حيث
العقل أحد الضرورات الخمس، ومن مقاصد الشريعة عند الشاطبي.
والثانية،
التجربة، بمعنى
المشاهدة والتجريب والتعليل كما هو معروف في المنهج التجريبي،
والانتقال من الجزئيات إلى الكلية اكتفاءً بعدة أمثلةٍ على طريقة
الاستقراء العلمي التقليدي؛ حيث يستحيل حصر جميع الجزئيات، على أن
التجربة في علم أصول الفقه إنسانية وليست طبيعية؛ فهي تجريب
الشريعة على الواقع الإنساني حتى تتم صياغتها طبقًا لقدرات البشر
وإمكانيات الفعل، وكان
العقل
والتجربة في علم أصول الفقه وجهَين لعملةٍ واحدة،
٩٩ وهما دائمًا عمادا الميثودولوجيا العلمية. والثالثة،
المنهجية أو روح المنهج
بمعنى النظامية والبحث عن نقطةِ بدايةٍ يقينيةٍ تتوالى بعدها الخطوات
المرتَّبة، البداية هي الوحي والخطوات في الفهم والاستدلال للوصول
إلى الحكم. والرابعة،
المنطقية
بمعنى العقل البديهي، كل سؤالٍ له إجابة، وكل اعتراضٍ له رد، ولا
يسمح الفكر الأصولي بما يخرجُ على قواعد المنطق وأصول الفهم السليم.
إن منطقَ علمِ أصول الفقه منطقٌ عملي يقوم على الحس المشترك والخبرة
المتبادلة وليس فقط منطقًا صوريًّا مجردًا. والخامسة،
الفطرة وهي الطبيعة البشرية الثابتة
المطردة، فيظل علم الأصول ثابتًا وإن تغيَّرت مادته، وهو منطق الوحي
بعد أن اكتمل في ختم النبوة. والخاصة السادسة، في رؤية حسن حنفي هي
الذاتية كأفق التحليل
وميدانه، ميدان أصول الفقه هو العالم الإنساني، وهذا العالم بؤرته
الذاتية، وعالم الذاتية هنا ليس منغلقًا على الذات بل منفتحٌ على
اللغة وعلى الآخرين، ويتحقق في الواقع (الذاتية المشتركة).
وسابعًا،
الوضعية لتعني أن
الذاتية ليست خواءً وفراغًا من حيث إنها جوهر الوضعية؛ فالأحكام
وضعية كما يقول الشاطبي، موضوعة في الواقع وفي التاريخ والشريعة،
وفي توصيفات الشاطبي أيضًا الأحكام وضعية من حيث إنها تتحقَّق في وضعٍ
اجتماعي وتاريخي وليست معلقةً في الهواء، فيجمع علم الأصول بين
الذاتية والموضوعية في آنٍ واحد، متفاديًا الشبهات والسمعة السيئة
والإدانة التي لحقَت بالوضعية في الميثودولوجيا العلمية الغربية
الوافدة من حيث ارتباطها بالإلحاد ونبذ الميتافيزيقي والديني
والمثالي، واعتبارها ضد هذا جميعًا، فأصبح القانون الوضعي ضد
القانون الإلهي. ونتوقَّف عند هذه النقطة من تحليلات حنفي لنشير إلى
أن مثل هذا سوف يتلاشى تمامًا في النموذج الإرشادي الإسلامي الذي
يقوم على الجمع بين القراءتَين. والميزة الثامنة هي
العملية، فيتسم علم الأصول بأنه ذو
نزعةٍ عملية، الوحي فيه نداءٌ للعمل وللإنجاز في واقع الإنسان.
وتاسعًا
الإنسانية، علم الأصول
يفهم الوحي كمقصدٍ نحو الإنسان والعالم.
١٠٠
وبهذه الرؤية عمل حسن حنفي شيخ الفلاسفة الأصوليين /المعاصرين
على تجديد وتشغيل علم أصول الفقه في مشروعه الضخم: «التراث
والتجديد»، حيث التراث قبل التجديد، مما يذكِّرنا بقاعدة أمين الخولي
البحثية: أول التجديد قتل القديم بحثًا وفهمًا ودراسة. مشروع
«التراث والتجديد» مع حنفي ذو جبهاتٍ ثلاث؛
١٠١ الجبهة الأولى، هي الموقف من التراث القديم وإعادة
بنائه لتلبية حاجات العصر وحاجات الإنسان، والجبهة الثانية، هي
الموقف من الغرب بتحويله إلى موضوع للعلم وليس مصدرًا له، بإنشاء
علم الاستغراب. أما الجبهة الثالثة، فهي الموقف من الواقع أو نظرية
التفسير. وفي إطار الجبهة الأولى، التي تمثل فضاءً فكريًّا تجتمع
فيه أبعاد الوعي التاريخي والوعي النظري والوعي العملي، جاءت
محاولة حنفي لإعادة بناء علم أصول الفقه، وكانت محاولةً تستند إلى
دراسة لأكثر من مائة نصٍّ أصولي، وتمثِّل منهجيتها مستوًى جديدًا
للتحليل هو المستوى الشعوري والأسلوب الظاهراتي ومنطق التجديد
اللغوي وتغيير المحيط الثقافي للأصولية ليغدو محيطًا معاصرًا
ومستجيبًا لتحديات العصر الراهنة. وعن طريق العملِ المنصبِّ على
المتغيرات من دون الثوابت تنتهي فلسفة حنفي إلى تجديد المصطلح
الأصولي والمادة العلمية والمثال الفقهي، على أساس الانتقال من
الواقع إلى النص — وليس من النص إلى الواقع — عملًا في داخل الزمان
والمكان، وأيضًا إعلاء قيمة الاستدلال الحر طبقًا للمصلحة … وفي
النهاية يصبح علم أصول الفقه علمًا إنسانيًّا، اجتمع فيه دور الوحي
ودور العقل، معالم الدين ومعالم الواقع على أساسٍ من ربط مقاصد
الشريعة بأهداف الأمة، ويغدو متَّجهًا نحو فعاليات التحديث والتنمية والتقدم.
١٠٢
لقد تأتَّى شروع حسن حنفي في تجديد علم أصول الفقه في مرحلةٍ
باكرة من مراحل تشييد مشروع التراث والتجديد، بل وفي شرخ الشباب.
ولئن وضع تفصيلات محاولة إعادة بناء علم أصول الفقه في عمله «من
النص إلى الواقع» بجزأَيه، الذي صدر في منتصف العقد الأول من القرن
الحادي والعشرين، فقد قال عنه إنه إعادةُ كتابة بعد أربعين عامًا
لرسالته الرئيسة لدكتوراه الدولة التي كان موضوعها «مناهج التأويل
في علم أصول الفقه»، أما الرسالة الفرعية — وفقًا لقواعد جامعة
السربون — فقد كان موضوعها تأويل الظاهريات وظاهريات التأويل. في
الجزء الأول «تأويل الظاهريات» بحث حنفي الحالة الراهنة للمنهج
الظاهرياتي وتطبيقه على الظاهرة الدينية في الحضارة الأوروبية؛ حيث
كان إنكار الدين كأساسٍ أوليٍّ لتحوُّلاته في بدايات العصور الحديثة هو
فصل بين ميدانَين، الدين المتراجع من ناحية، والفلسفة والعلم
المتقدمَين من ناحيةٍ أخرى. وفيما يتقارب مع التشديد على القراءتَين
يؤكِّد حنفي في مواجهة هذا أن فلسفة الحَدْس لا تمنع من فلسفة الإلهام.
والمنطق لا يعمي الوجود ويتضمَّنهما الدين معًا.
١٠٣ أما في تراثنا وتجديده فقد هدَف حسن حنفي إلى تحويل علم
أصول الفقه إلى علمٍ فلسفيٍّ إنسانيٍّ عام، من خلال إعادة بناء العلم
فينومينولوجيًّا؛ أي باعتباره تجربةً حية في الوعي. وذلك في بنيةٍ
ثلاثيةٍ تجمع الوعي التاريخي والوعي النظري والوعي العملي، تبدأ
بالوعي التاريخي بالمصادر الأربعة لعلم الأصول (القرآن، والسنة،
والإجماع، ثم الاجتهاد والقياس) والوعي النظري بمباحث الألفاظ
والوعي العملي بالمقاصد والأحكام، جاعلًا القرآن هو التجربة
العامة، والحديث الشريف هو التجربة النموذجية، والإجماع هو التجربة
المشتركة للجماعة، غير نصية وتأمن الانفراد بالرأي، والاجتهاد هو
التجربة الفردية، وطامحًا إلى أن تكون الأولوية في المصادر الفقهية
للواقع.
النظرة العامة للخصائص التي تحقَّقَت في علم أصول الفقه كما أوضح
تحليل حسن حنفي، ثم لتشغيل هذا العلم في إطار مشروعه للتراث
والتجديد، تبين كفاءة أصول الفقه كأساسٍ ميثودولوجي من ناحية،
وكفاءته كأساسٍ من أسس الأنسنة والتنهيض والتحديث من ناحيةٍ أخرى،
فتتمثَّل حلقة وصل بين المعالجة الميثودولوجية المطروحة في هذه
الصفحات وبين معالجات أصول الفقه التي تثبت حضورها وشيوعها في خطاب
التجديد والتحديث والإصلاح المعاصر؛ حيث نجد علم أصول الفقه حاضرًا
في الوعي ويمثِّل دافعًا للإصلاح والتجديد، ويراه حنفي «قادرًا على
أن يكون جسرًا بين التيارَين المتقابلَين في وعي الأمة المعاصر؛ أي
التيار المناصر للموروث وللسلف والتيار العلماني المناصر للوافد وللوضعي.»
١٠٤
تأتي محاولة حسن حنفي في مصفوفة أئمةٍ عظامٍ عملوا على التحديث
والتنهيض والتنمية من خلال تجديد علم أصول الفقه، بدءًا من محاولات
إحياء نظرية الطوفي وجهود الطاهر بين عاشور وعلال الفاسي … وربما
تمتد القافلة وصولًا إلى أحمد الريسوني الذي اهتم بمنهجية التفكير
المقاصدي من أجل التجديد.
١٠٥ غلب على الاتجاهات الإصلاحية المعاصرة الاهتمام بعلم
أصول الفقه من حيث هو فلسفة للقانون لا بد من ربطه بالاحتياجات
التشريعية المستجدَّة، وتُعوِّل على طرح الشاطبي للتفسير
المقاصدي للشريعة؛ أي تفسيرها في ضوء
مقاصد الشارع ومقاصد المكلف،
١٠٦ وتقسيمه هذه المقاصد إلى ضرورية وحاجية وتحسينية. هكذا
علا الاهتمام بالمقاصد حتى ذهب محمد الطاهر بن عاشور (۱۸۷۹–۱۹۷۲م)
في كتابه
مقاصد الشريعة
الإسلامية إلى ضرورة بناء علمٍ للمقاصد مستقلٍّ عن علم
أصول الفقه. وفضلًا عن هذا استعانوا بنظرية نجم الدين الطوفي التي
تقدِّم المصلحة على النص. وكان أول مَن ألقى الضوءَ عليها الشيخ جمال
الدين القاسمي في الشام (١٨٦٦–١٩١٤م)، «فقد قام بطبع ونشر شروح
الطوفي للحديث «لا ضَرر ولا ضِرار» والتعليق عليها، ثم نقلَه رشيد رضا
في الجزء العاشر من المنار، وتوالَت الدراساتُ التي تُلقي الضوء عليه.»
١٠٧ هكذا ترسَّمَت الطرق للتطور والتجديد في فهم أصول الفقه
وأحكام الشريعة والتوفيق بين مقتضياتها وبين حاجات العصر الحاضر،
ووصَل الأمر إلى جهودٍ حثيثةٍ وناضجةٍ لجعل أصول الفقه فلسفةً لحقوق
الإنسان بمفهومها المعاصر.
١٠٨
•••
بعد أن كان هذا العلم البديع أمثولة على عقم المباحث التراثية
التي تلف وتدور في المتاهات المغلقة من شروح وتلخيصات وهوامش
وتعليقات، منبتَّة الصلة بالواقع الحي النابض الذي يصرخ طالبًا
التحديث والتنهيض والتنمية، حدثَت انطلاقةٌ محمودة له مع انطلاقة
التيار الإصلاحي المحدث، فلم يعُد واحدًا من علوم الدين العقلية/النقلية فحسب، بل أيضًا
أحد أسس النهضة العقلية والحضارية، واليقظة
الفلسفية في حداثتنا العربية والإسلامية، وفي مرحلةٍ باكرةٍ
نسبيًّا.
كان علم أصول الفقه قد استقطب اهتمام الرائدَيْن الإصلاحيَّيْن محمد
عبده ورشيد رضا. ولاحت بداياتُ الخطورة الفلسفية مع تلميذ محمد عبده
الشيخ مصطفى عبد الرازق، الذي أرسى دعائم الدرس الفلسفي النظامي في
الجامعة المصرية، جامعة فؤاد الأول، وهي الجامعة الأم، مؤكِّدًا أن
علم أصول الفقه المُسمَّى أيضًا علمَ أصولِ الأحكامِ علمٌ فلسفيٌّ على
الأصالة، وأن التوسع في دراسة تاريخ الفلسفة الإسلامية سينتهي إلى
ضم هذا العلم إلى شعبها.
١٠٩ مستندًا إلى تحليلات ابن خلدون التي تحدِّد دوائرَ مشتركة
بين أصول الفقه والفلسفة تتمثَّل في علم الكلام وعلمَي الجدل
والمناظرة المنطقيَّين. وقد رأينا عمق الوشائج الفلسفية لعلم أصول
الفقه بفعل ارتباطه بعلم الكلام وبالمنطق كلَيهما، فأكَّد علي جمعة
على ضرورة إدراك العلاقة بينه وبين الفلسفة وتشغيلها وتطويرها
ﻟ «صالح المجالين».
١١٠
وقد حاولنا في الصفحات السابقة تنضيدَ هذه العلاقة ليس فقط لصالح
الفلسفة أو لصالح علم الأصول، أو لصالحهما، بل لصالح البنية
الحضارية بأَسْرها عن طريق استخلاص وتقطير حصائله المنهجية لتأصيل
ميثودولوجيا علمية إسلامية معاصرة، فتكون الخطوة التالية الانطلاق
نحو تشييد نموذجٍ علميٍّ إرشادي هو حقًّا إسلاميٌّ ومنطلق صوبَ
المستقبل.