أولًا: الأصل في الأصولَين
في بحثنا عن منهجيةٍ علميةٍ إسلامية، يجعلها المرتكز التوحيدي
تكامليةً وليست تفاضليةً أو إقصائيةً أو استبعاديةً أو حصريةً أو
اختزالية، تتكامل الأبعاد ويتم توظيفها وتفعيلها في إطار نموذجٍ
قياسي إرشادي إسلامي يتسع للقيم وموجِّهات السلوك من المنطلَق
التوحيدي … كإطارٍ لعمل العلماء الباحثين والدارسين في الأمة
الإسلامية، يشتجر مع منظومتهم الثقافية والعقائدية، ليعتمل في
أعطافه المستجد من نظريات العلم وآليات منهج العلم وأصوليات البحث
العملي، اعتمالًا متوطنًا غير ذي غربةٍ أو انقطاع. إنه بمثابة
التوطين والوقوف على أرضٍ خصيبة، فيشحَذ العزائم ويفجِّر الطاقة
البحثية، مما قد يعِد بطفرةٍ نوعيةٍ والقدرة على الإضافة والإسهام في
علوم العصر. إن هذا النموذجَ يُمكِن أن يمثِّل قاعدةً معرفيةً منهجيةً
صلبة، تُوازي المعمولَ به أو فيه في الثقافات الأخرى، الغربية أو
الشرق-آسيوية مثلًا،
١ يشتمل على مفاهيم وفرضيات وعلاقات، لتتواصل عناصر
الرؤية الكلية بالأدوات المنهاجية، فتغدو الأبنية النظرية مزودةً
بأطرٍ مفاهيمية وأدوات ووسائل تغرسها في التربة الحضارية المعنيَّة،
وتجتمع أساليبُ النظر والتناول والتعامل والمعايشة، مما يعِد
باستثمارٍ أعمق للآليات المنهجية.
لن يكون مثل هذا النموذج متوطنًا، ما لم تنبُع أصوله التاريخية
العميقة المنهجية والإبستمولوجية والرؤيوية من ثقافتنا وتراثنا،
فماذا عن أصوله؟
لئن كان الأصل في اللغة هو ما ينبني عليه الشيء، فإن الأصل الذي
ينبني عليه نموذجٌ قياسي إرشادي علمي إسلامي يضُم أبعاد الظاهرة
العلمية وروحها ومعالمها وطبائعها وقيَمها وموجِّهاتها في الحضارة
الإسلامية، كظاهرةٍ أصيلة متوطنة غير مجلوبة أو مستوردة … أصل هذا
النموذج كامن في الأصولَين؛ علم أصول الفقه وعلم أصول الدين (= علم
الكلام).
وكان الفصل السابق محاولةً لاستكشاف إمكانياتٍ منهجية كبرى طال
تجاهلُها، وليس يعني بطبيعة الحال أن علم أصول الفقه في حد ذاته هو
نموذجٌ إرشادي يصلُح للعلم وعصر العلم، بل الهدف استغلال المنهجية
الماثلة فيه كتأصيل لنموذجٍ إرشادي علمي إسلامي، وتفعيله داخل
منطلَقات الروح المنهجية لهذا النموذج. الروح المنهجية الفعَّالة
المنتجة لا يمكن استيراد أصولها. وهل تكون الأصول إلا أصيلةً نابتة
من التربة؟! قام بتأسيسها وتأصيلها في النموذج الغربي فلاسفة
المنهج في القرنِ السابعَ عشر، وعلى رأسهم بيكون وديكارت، وخصوصًا
بيكون. وفي النموذج الإسلامي بدا علماءُ أصول الفقه أقدرَ على تأصيل
روحٍ منهجية. هكذا انتهَينا إلى أن علم أصول الفقه — هذا العلم
الإسلامي الأصيل باذخ الثراء — يحمل أسسًا ميثودولوجية مكينة ليكون
مخوَّلًا بتوطينها تمهيدًا لانطلاقها نحو المستقبل، كأصول لنموذجٍ
إرشادي إسلامي يحتوي المنهجية العلمية المنشودة، المتوثِّبة نحو
المستقبل، توطينًا ومأسسة وتنضيدًا للظاهرة العلمية في ثقافتنا،
ولمرحلتنا الحضارية إجمالًا، النازعة إلى التجديد، قياسًا على
الدور الأساسي للعلم الحديث من ناحية المشترك الإنساني العام، ثم
للقراءتَين معًا من الناحية الأخرى … ناحية الهُوية الحضارية
الإسلامية.
إنها الموازنة بين علم أصول الفقه وبين الميثودولوجيا التي
انتظمَت في فلسفة العلوم وفي الفلسفة الغربية إجمالًا، تنظيرًا
وتأطيرًا ومأسسةً لمنهجية العلم الحديث، منذ بيكون وديكارت حتى وليم
ويول وكلود برنار وجون ستيوارت مل، وصولًا إلى كارل بوبر وخلفائه …
في حضارتنا كان علم الأصول من حيث هو حامل لبدايات النظر العقلي
المنهجي إنما هو منطلَق يرتد إليه العقل الفلسفي الإسلامي الذي
استفاد فيما بعدُ بمتغيرات وتطورات وترجمات ووافدٍ غزير، مثلما ترتد
إلى منهجيات بيكون وديكارت بداياتُ الفلسفة الغربية في مرحلتها
الحديثة بتطوراتها ومتغيراتها اللاحقة، وترتد إليها الحداثة
الغربية ذاتها. إنهما؛ أي علم أصول الفقه الموروث والميثودولوجيا
العلمية الوافدة، يلتقيان في أن كلَيهما تأسيس لمنهجية علم ولمنهجية
حضارة معًا. وكلاهما كان تحليلًا عقليًّا لا يستغني عن التجربة،
ويكفل نظامية البحث، محتكمًا إلى المنطق الذي أنيط به دورٌ كبير.
إنه على الإجمال التأسيس الميثودولوجي العميق الذي يبدو علم أصول
الفقه خليقًا به في العقلية الإسلامية، ليكون الأصول العميقة
للمنهجية الجامعة بين القراءتَين، المميزة لحضارة الإسلام.
يعكس هذا طابع الثقافة الإسلامية المتمركزة حول الوحي والنص
الديني، خصوصًا في مقابل انطلاق الركائز المنهجية الغربية فقط من
العقلانية والتجريبية منذ ديكارت وبيكون، فتعكس بدورها طابع
الثقافة الغربية المتمركزة حول الفرد والذات العارفة وقد ألحَّ عليها
سؤال الطبيعة وضرورة استكشافها فباتت الكتاب الأوحد. أما مع
التسليم بالوحي والنص الديني كثابت في حضارتنا، يأتي النموذج
الإرشادي الإسلامي المأمول من أجل تطوير فعاليات تلك الأصول، فيكون
قادرًا على استيعاب الوافد والمحدَث والمستقبلي في قلب إطارنا
الحضاري والمنظور الذي يمثِّل خصوصيتنا ويدفع عزائمنا.
•••
باقٍ أن يتكاتف علم أصول الفقه مع علم
أصول الدين (= علم الكلام). كلاهما منوط به توطين
الظاهرة العلمية في ثقافتنا المعاصرة، يلتقيان معًا كمبتدأ ومنطلق
للعقل العلمي، تشييدًا لنموذجٍ إرشادي مستقبلي إسلامي. أصول الدين
باشتباكه مع العقائد والتصوُّرات، يتصل بتصوُّر حدود حلبة عالَم العلم،
بأنطولوجيا العلم وإبستمولوجيته، فيشتبك بفلسفة الطبيعة، مقابل
اشتباك أصول الفقه بفلسفة المنهج أو الميثودولوجيا.
إن الطبيعة بمفهومها الواسع … والتي رآها علم الكلام: العالَم
العلامة على وجود الخالق … هي الحلبة الكبرى للعلم. وعلى الرغم من
أن الطبيعيات لم تكن من المشكلات الكلامية الأساسية أو من أصول
المعتزلة الخمسة، ولا هي من العناوين التقليدية للمصنفات الكلامية،
إلا أنها كانت منبثَّة في كل هذا، واحتلَّت موقعًا فسيحًا كواحدٍ من
موضوعاتٍ ستة اشتمل عليها علم الكلام القديم، وهي التوحيد والقدَر
والإيمان والوعيد والإمامة، ثم اللطائف؛ أي الطبيعيات، وموضوعها
الجسم والحركة والزمان والمكان … أي الكون الفيزيقي، ويُفزَع في
مثل هذا إلى العقل. من هنا كانت الطبيعيات بمصطلحاتهم هي اللطائف
أو
دقيق الكلام المقابل لجليل
الكلام، وهو الكلام في العقائد التي يُفزَع فيها إلى كتاب الله.
٢
في دراسات الظاهرة العلمية على الإجمال تدخُل فلسفة الطبيعة في
المقدمات التاريخية المفضية بشكلٍ ما إلى العلم الطبيعي والفيزيائي
الحديث؛ لذا فإن تفهُّم أصوله ومساره عَبْر التاريخ يستدعي تفهمًا
لأصول وتطوُّرات تصوُّر الطبيعة عَبْر ملحمةٍ الحضارة الإنسانية. أما تفهُّم
هذه الأصول عَبْر ملحمة الحضارة الإسلامية تحديدًا، فيُحيلنا إلى علم
أصول الدين، وذلك إذ نطرح السؤال: ماذا عن أصول تصوُّر الطبيعة وتطوُّره في التراث
الإسلامي؟
لقد أتت الأصول جميعها وتراثنا الإسلامي بجملته، ككل وكفروع،
نتيجة لمعلول محدَّد هو الثورة الثقافية العظمى التي أحدثَها نزول
الوحي في المجتمع البدوي. وكان علم الكلام (= أصول الدين) دائرةً
معرفيةً ترسَّمَت حول الوحي المسطور، كنبتةٍ أصيلةٍ نشأَت قبل عصر الترجمة
والتأثُّر بالفلسفة اليونانية، كأول محاولةٍ لتفاعُل العقل مع النص
الديني/الوحي المسطور لتفهُّمه وإثبات مضامينه، فكان علمُ الكلام
بحقٍّ أوسعَ وأهمَّ المجالات لما أسماه محمد عابد الجابري العقلانية
الإسلامية، أو كان كما رأى الشيخ مصطفى عبد الرازق، الفلسفة
الإسلامية الشاملة حتى لعلم أصول الفقه بكل تألُّقه المنهجي. وذهب
الإمام الغزالي إلى أن علم الكلام هو العلمُ الكليُّ بالنسبة إلى
العلوم الدينية عمومًا، وسائر العلوم الدينية الأخرى — وهي الفقه
وأصوله والحديث والتفسير — علوم جزئية.
٣
ومن ثَم، فعلى الرغم من أن منظورَ عصرنا قد يُبدي سلبيات في علم
الكلام القديم، تفرضها المهامُّ المنوطة به في إطار الظروف الحضارية
والقصورات المعرفية لذلك العصر البعيد، فسوف تبقَى إيجابيةُ علم أصول
الدين العظمَى في أنه تشكلٌ للعقل العربي الصميم، وتلمُّسه الخُطى
نحو إقامة الحُجة وتكوين النظرية؛ فلم يكن إلا ممارسةً للتفكير
الفلسفي في القضايا التي أثارها نزول الوحي في المجتمع العربي،
اتخذَت شكل البحث في العقائد؛ لأنه الشكل الأيديولوجي المتفاعل
والمثير للقضايا الفكرية. لقد كان علم الكلام أو أصول الدين بمثابة
الفلسفة الإسلامية الخاصة التي شقَّت الطريق ومهَّدَته للفلسفة
الإسلامية العامة
٤ أو بالتعبيرِ الأثيرِ لحسن حنفي علوم الحكمة. استفاد علم
الكلام في مراحله المتأخرة من أتُّون التفلسُف العقلاني؛ أي من
المنطق، فكان ينمو ويتطور، ينضج … ينضج، فنضج حتى احترق كما يقول الأقدمون.
٥ وانبعث من رماده فينيق الفلسفة. وكان للمعتزلة، خصوصًا، دورُهم في
توجيه الفكر الكلامي إلى طريقٍ أدَّى إلى الفكر الفلسفي الذي «عاش طور
الحضانة تحت جناحهم».
٦ وقد سبق أن أسهَب ابنُ خلدون في إيضاح هذه القضية
والمجرى الذي شقَّه المتكلمون بين الكلام والفلسفة التي ظهرَت بعد أن
استوفى علم الكلام نضجه، لتُمثِّل دائرة أو مرحلةً فكرية أعلى وأنضج،
أصبح الفكر والواقع مهيَّأين لها. وكانت الفلسفة الإسلامية أكثر
اتصالًا بصيرورة العقل البشري، وفي حلٍّ عن التمثيل الأيديولوجي
الصريح — وإن كانت بالطبع لن تتحلَّل من روابطها به، وظل التوفيق بين
الحكمة والشريعة من مهامها الكبرى ودوافعها القوية، فتميَّزت الفلسفة
عن الكلام — عن أصول الدين — في أنها انطلقَت من المفاهيم والمضمون
الفكري لا من القضايا التي يثيرها النص القرآني في العالم الإسلامي
بصورةٍ مباشرة، وثانيًا لم تتخذ من عقائد الدين مسلَّمةً أو قاعدةً
مباشرة للبحث. وفي كل هذا كانت الطبيعة دائرةً كبرى من دوائر بحوث
الفلسفة الإسلامية، التي انقسمَت بصفةٍ أساسيةٍ إلى المنطق والإلهيات
والطبيعيات، أو المنطق والميتافيزيقا والفيزيقا.
والخلاصة، أن أصول تصوُّر الطبيعة تُخلق على أيدي المتكلمين/علماء
أصول الدين المخوَّلين بالدفاع عن الأمن الفكري في الداخل، ثم واصَل
مسيرتَه على أيدي الفلاسفة أو الحكماء المخوَّلين بالدفاع عن الأمن
الفكري في الخارج أو على حدود التفاعل مع الثقافات الأخرى. كلا
العلمَين، الكلام والحكمة يطرحان نظرياتٍ في مقابل علمَي أصول الفقه
والتصوف اللذَين يطرحان مناهجَ وطرقًا. وعلى الرغم من أن العقل
والنقل في الكلام، وأيضًا المنطق في الحكمة موضوعان منهجيَّان إلا أن
الطابع النظري هو الغالب عليهما.
٧ وأنيط بهما صياغة المفاهيم والتصورات، ويعنينا منها
الآن تصوُّر الطبيعة، وقد واصل مسيرَه من الكلام والحكمة ليصل إلى
أولئك «الطبائعيين» وهم علماء الطبيعة العرب القدامى حملة لواء
المرحلة الوسيطة من تاريخ العلم الرياضي والتجريبي؛ أي من تاريخ
قراءة الإنسان للكتاب المنظور.
وتجديدًا لوضع الطبيعيات؛ أي لتصور حدود حلبة عالم العلم من أجل
نموذجٍ إرشادي إسلامي أو منظورٍ إسلامي علمي منطلق نحو المستقبل،
ينبغي إحداث قطعٍ معرفي مع علم الكلام القديم لتحويل الطبيعيات إلى
كتابٍ فعلي؛ أي إلى ميدان للقراءة وموضوع للبحث المعرفي؛ فقد كانت
الطبيعة في علم الكلام القديم مشكلةً أنطولوجية، ولا بد أن تتحول
إلى مشكلةٍ إبستمولوجية في علم الكلام الجديد لتغدو مهمته هي تنضيد
العقائد الدافعة إلى قراءة كتاب الطبيعة. وقد فصَّلتُ الحديث في هذا
تفصيلًا في أعمالٍ أخرى لي. وعلينا الآن أن نخطوَ خطوةً أبعد نحو
الأصول المنهجية لتلك الإبستمولوجيا؛ أي لقراءة الطبيعيات أو كتاب
الطبيعة … أي للبحث العلمي، وهكذا تبدو ضرورةُ مواصلة المسير من
أصول الدين إلى أصول الفقه، ليتكامل الأصولان في توطينِ الظاهرة
العلمية وتبيِئة البحث العلمي المنطلق نحو المستقبل.
•••
إن التجديد الفعَّال، الذي يحمل للهُوية الحضارية الإسلامية
صيرورتَها ونماءَها، هو في أن تنطلق أصولها من الماضي إلى المستقبل.
وأصوليات العقل الإسلامي النظري والفلسفي والمنهجي هي أصول الدين
وأصول الفقه، كما سبق أن أشار رائد الفلسفة الإسلامية المعاصرة
مصطفى عبد الرازق.
ولكن يقتضي التجديد في أصول الدين/علم الكلام إحداث قطعٍ معرفي،
لكي تنتقل الطبيعة/الكتاب المنظور من الأنطولوجيا إلى
الإبستمولوجيا؛ لتغدو المهمة المنوطة بالعقل الإسلامي المعاصر هي
قراءة كتاب الطبيعة تأكيدًا لوجود الإنسان المسلم. إنه قطعٌ جزئي
تجديدي وليس بالطبع انفصالًا بائنًا أو قطيعةً تامة عن تراثنا، على
غرار ما تدَّعيه الحضارة الغربية، بل تواصلٌ حقيقيٌّ فعالٌ يقوم
على جدلية الاستيعاب والتجاوز وجدلية الانفصال والاتصال.
٨ فلم تكن الطبيعيات في علم الكلام القديم شيئًا
إضافيًّا زائدًا أو مجرد ضميمة في اللطائف، بل إن الطبيعيات هي
العالَم. وليس بدعًا أن تصبح أكثر محوريةً في علم الكلام الجديد
المؤصِّل لنموذجٍ إرشادي علمي مستقبلي من أجل قراءة كتاب الطبيعة.
إن البحث المتعمق يبيِّن لنا كيف انصبَّت نظرية الوجود الكلامية على
الطبيعة في شكل اهتمام المتكلمين الفائق بالجوهر وأعراضه، وأن علم
الكلام القديم لا يبدأ بالذات والصفات، بقَدْر ما يبدأ بنظرية العلم
ثم نظرية الوجود.
٩ وهذه العوامل التي يمكن أن تعمل على تأسيس الموقف
العلمي لم تكن فقاعاتٍ على السطح، بل هي متجذِّرة في البنية المعرفية،
كأن التوحيد افتراضٌ نظري تُفسَّر على أساسه الظواهر الطبيعية، أو
رؤيةٌ موجِّهة للذهن نحو الطبيعة، فلا إثبات لله ولا تفكير فيه إلا
بعد التفكير في الطبيعة وعالمها. «وكأن الدين لا يتأسَّس إلا في
العلم الطبيعي. وفي هذا اتفق الكلام مع الحكمة، وأيضًا مع أصول
الفقه والتصوف.»
١٠ وفي النموذج الإرشادي إحياءٌ وتفعيلٌ لتلك العوامل، بأن
يتحول البعد الطبيعي الماثل في علم الكلام إلى فعاليةٍ وصيرورةٍ
متناميةٍ باستمرار … إلى نضالٍ معرفي وجهادٍ إبستمولوجي يتفانى فيه
أولو العزائم والشكائم حقًّا، العلماء في معاملهم … في معترك كفاحهم
الضاري والنبيل. فهل يمكن أن يُناظِر هذا انتقالًا من عمومية مسئولية
الإنسان عن أدوات العلم والمعرفة
إِنَّ
السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ
عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء: ٣٦] إلى مسئولية عن الشكل
الجديد لتآزر هذه الأدوات — الحواس والعقل — وتكامُلها في أقوى
وأنضج صورة؛ أي المنهج العلمي التجريبي.
١١
في علم أصول الفقه تبدَّى أمامنا جهازٌ منهجيٌّ مكين، كان من أجل
قراءة الوحي المسطور كما ينبغي أن يتمثل في الواقع الحي المعيش،
وأتت محاولة لتجديده — في الفصل السابق — بتنضيد هذا الجهاز
المنهجي لإبراز كيف يمكن أن تمتدَّ فعالياتُه إلى التأسيس لقراءة
الوحي المنظور أيضًا، للبحث في كتاب الكون والطبيعة والعالم
والإنسان بما يقتضيه هذا من مناهجَ علميةٍ ووسائلَ بحثيةٍ إجرائية من
آلياتٍ وأسسٍ لقراءة كتاب الطبيعة.
لقد نشأ علم الكلام/أصول الدين نشأةً سياسية وظل دائمًا
مشتبكًا بالسياسة، أما أصول الفقه فقد احتفظ بمسافةٍ ما بينه وبين
المعترك السياسي، بل إن الإمام الشافعي في رسالته التي أسَّسَت هذا
العلم عَمِل على «إعادة تأسيسٍ نظري لمفهوم الأمر، والطاعة وحدودها،
والإجماع وسلطته، وغيرها من المفاهيم و«الضوابط» الجديدة، التي
نستشف منها خوف صاحب «الرسالة» في أصول الفقه، وتحذيره من السقوط
فريسةً لمنطق رجل السياسة.»
١٢ وظل علمُ أصول الفقه أقربَ إلى التأصيل العقلي ووضع
قواعد الاستدلال لاستنباط الأحكام، معنيًّا بقضايا الأحكام الشرعية
وأدلة الحكم والاجتهاد والتعارُض والتراجيح والقوادح … وسواها من
قضايا هي أساسًا منهجية بشكلٍ أو بآخر، فلا غرو أن كثُرَت في أمهات
المصنَّفات الأصولية كتبٌ تحمل عناوينُها مصطلح المنهج مثل
معراج المنهاج للجزري،
وشرح المنهاج للأصفهاني
، ومنهاج الوصول في علم الأصول
للبيضاوي،
ومنهاج العقول في شرح منهاج
الوصول للبدخشي … وكما رأينا لم يكن أمر المنهج
مجرد لفظةٍ تَرِد في عنوان أو حتى مصطلح، بل شقَّ طريقٍ للعمل البحثي،
«المثمر» بتعبيرهم الجميل.
•••
هكذا يتبدَّى لنا أن العقلية المنهجية أو مَنْهجة العقلية من
ناحية، والبحث في الطبيعة وموجِّهات الانكباب على قراءة الكتاب
المنظور من الناحية الأخرى، وهما شرطٌ أوليٌّ أساسي للبحث العلمي لا
يعودان الآن سلعةً مستوردة، ليظل البحث العلمي غربيًّا وغريبًا
ومغتربًا عن واقعنا، نستورده مثلما نستورد أجهزةً وسلعًا أخرى جيدة
أنتجها الغرب، نحن غير منتجين، بل فقط «مستهلكين» … هذا اللفظ الذي
تربطه أواصرُ القربي اللغوية بلفظة «الهلاك». ويُمكِن أن يعمل
الأصولان، أصول الفقه وأصول الدين على نجاة الأمة الإسلامية
والعربية من الهلاك الحضاري والثقافي، حين يتشاركان في تأصيل موقفٍ
تجديدي يرومُ اللحاقَ بمسيرة التقدم العلمي والإسهامَ فيه، مدركًا أن
هذا اللحاق لن يتأتى بطريقة «الحل بالمقلوب» التي تأتي عقب الأسئلة
والفوازير في مجلات الأطفال. الحل بالمقلوب هو أن نحذُو حذوَ الحضارة
الغربية باعًا بباع وذراعًا بذراع وشبرًا بشبر، حتى إذا دخلوا جحر
ضَبٍّ دخلناه وراءهم … أو ننتظر أن تأتيَنا هي بحلولها الجاهزة (هوم
دليفري)، بل هو موقفٌ منطلق من واقع الحضارة الإسلامية، ونقض
المركزية الغربية وإدراك عقم التبعية العمياء والترديد الأصمِّ،
وتحمُّل مسئولية التعدُّدية الثقافية. إنه تبيِئة البحث العلمي والتوطين
العميق للظاهرة العلمية، عن طريق تجاوز العقبة والوقوف على أرضيةٍ
صُلبةٍ نملكُها وتملكُنا، يتواصل تنميتُها وتحديثُها لاستيعاب مستجدَّات
الآليات المنهجية والأساليب الإجرائية والوسائل التخصُّصية وما إليه
من مقتضيات البحث العلمي المتجه صوب المستقبل، لتحقيق طفرةٍ نوعيةٍ
مأمولة … ودفع المسيرة التقدُّمية التي طال انتظارها.
ثانيًا: معالم النموذج الإرشادي العلمي الإسلامي
دعائم النموذج الإرشادي الإسلامي العلمي ثلاثة هي: الوحي والعقل
والطبيعة. نشدانًا لمنهجيةٍ تنبُع من الوحي القرآني الذي هو مركز
حضارتنا، ومن أصولنا الحضارية وتاريخنا، فتتساوق مع واقعنا وتتكافأ
مع تطلُّعاتنا المستقبلية. تحتوي تلقِّي علمائنا لنظريات وتطورات
العلوم من أجل التفاعل العميق معها الذي يحفِّز إمكانات الإضافة
إليها والإسهام المأمول في مسيرة تقدُّمها. ويرسمُ الوحيُ القرآني
معالمَ منهجيةً من حيث يحمل قوةً موجِّهة للممارسة العلمية، نجدها في
الآيات القرآنية الدافعة إلى النظر العقلي في الكون وفي الحياة وفي
الأنفس. إنها دينامياتٌ دافعةٌ محرِّكة للبحث العلمي ثاوية في الآيات
البينات، تتجه أو توجِّه مباشرةً صوبَ الطبيعة والعلم الطبيعي.
وعناصر النموذج الإرشادي الفاعلة ثلاثة؛ أولًا، الرصيد العلمي
العالمي والنظريات المعمول بها في المجال المَعْني، وثانيًا، التفكير
وآلياته وإجراءات البحث وخطواته، وثالثًا، قيم الممارسة العلمية أو
السلوك العلمي، فضلًا عن دوافعه وموجهاته. يحمل العنصران الأولان —
أي النظريات العلمية وآليات التفكير وإجرائيات منهج البحث —
مشتركًا إنسانيًّا عامًّا تعرَّض له الفصل الثاني. أما العنصر
الأخير؛ أي قيم الممارسة العلمية، فإنه يجسِّد الخصوصية الحضارية،
ولا غرو أن كان أسبقَ من أي حديثٍ عن النموذج الإرشادي ذاته، فوَردَ
في الفصل الأول تحت عنوان «قيم ضابطة للمنهجية الإسلامية». يُمكِن
اعتبارُ أسبقيةِ القيم من معالم النموذج الإرشادي الإسلامي.
ورَد في ذلك الموضع قيمٌ أساسية أو محورية، الاستخلاف والعمران
والتزكية. نضيفُ إليها هنا تفعيلَ قيمٍ أخرى عديدة من تُراثنا، قيم
فرعية من قبيل قيمة العلم النافع، والعياذ بالله من علم لا ينفع،
وقيمة الصلاحية وقيمة الاستقامة وقيمة الجهاد، بمعنى بذل غاية
الجهد … إلخ. ومن المنظومة القيمية الإسلامية يسهل كثيرًا استنباط:
معايير السلوك الأخلاقي في البحث العلمي
١٣ من قبيل الأمانة وعدم اختلاق معطيات أو نتائج، وقيمة
الحذَر واليقَظة لتجنُّب الأخطاء قَدْر المستطاع وبالمثل تجنُّب خداع
الذات والتعصُّب وصراع المصالح، وقيمة الانفتاحية كمعيار يوجب تشارك
العلماء في النتائج وفي المعطيات والأفكار والتقنيات والأدوات
ومراجعة أعمال بعضهم البعض، ويكونوا منفتحين دائمًا للنقد وللأفكار
الجديدة، وقيمة الحرص الدائم على التعلم، وعلى التعليم ليتحمل
العلماء مسئوليتهم في إعداد الأجيال الجديدة من العلماء في إطار
الالتزام بأخلاقياتِ العالِم الناصح والباحث المتلقي النصح، وقيمة
الشرعية والمشروعية والقانونية، فيطيعوا القوانين والشرائع الخاصة
بمجال بحثهم، وقيمة تحمُّل المسئولية الاجتماعية ليكون العلماء
مسئولين عن تحقيق المصلحة والمنافع الاجتماعية، ومسئولين عن عواقب
بحوثهم، وعن إبلاغِ العامة بها. بالإضافة إلى معايير أو قيم
الاعتراف بفضل صاحب الفضل وبالتقدير لمن يستحقُّه، وإتاحة فرصٍ
متكافئة للباحثين، ولا يُهدِرون عن ظلمٍ أيةَ فرصةٍ في استخدام المصادر
العلمية أو في التقدُّم في المسار المهني العلمي، وتبرُز هنا قيمة
الفعالية بمعنى وجوب استخدام الإمكانيات والأجهزة بفعالية تتجنَّب أي
هدر في الموارد، والفعالية تستتبع قيمة المشاركة في الموارد
والحفاظ عليها. وثمَّة أيضًا قيمُ الاحترام المتبادل بين العلماء،
واحترام الذات الإنسانية، فلا ينتهكون كرامة الإنسان عندما يكون
موضوعًا للبحث والتجريب وأيضًا الرفق بالحيوان في هذا
الصدد.
هذه القيم أوردَها رزنيك، وهو أستاذُ فلسفةٍ متخصِّص في قيم وأخلاقيات
العلوم الطبية، كمعايير للسلوك الأخلاقي في العلم. حصَرَت الفقرة
السابقة ما أورده رزنيك، باستثناء قيمةٍ معياريةٍ واحدة هي «الحرية».
وذلك لأن النظرة العجلي والمهاجمة التي نتوقَّعها من كثيرين، قد ترى
في قيمة «الحرية»، ما لا يتوافق تمامًا مع المقدِّمة التي وضعناها
للفقرة: سهولة الاستنباط من المنظومة القيمية الإسلامية، مما قد
يُحيلها إلى مقدمةٍ إنشائيةٍ خطابية وليست شريعةً منهجية. وليس الأمر
هكذا، فقد وضع رزنيك لمعيار «الحرية» منطوقًا هو: «ينبغي أن يكون
العلماء أحرارًا في أن يقوموا بالبحث في أية مشكلة أو فرض. ينبغي
عليهم أن يتتبَّعوا الأفكار الجديدة وينتقدوا الأفكار القديمة.»
١٤ فهل تحرِّم منظومتنا القيمية بحثًا في مجالٍ ما؟ أما عن
حث القرآن على نقد الأفكار القديمة و«ما وجدنا عليه آباءنا» فهو
مذكور ومتكرِّر، ولعلنا قد مررنا على تطبيقٍ علميٍّ فعلي لهذا مع ابن
الهيثم مثلًا وهو يطيح بأسس الإقليدية البطلمية للبصريات. لا شك أن
أخلاقياتِ البحثِ العلمي الإسلامية في حاجةٍ إلى معالجاتٍ مستفيضة
ومتعدِّدة المناحي والزوايا والمداخل. فضلًا عن أن أخلاقيات البحث
العلمي أصلًا مفتوحة الآن لبحثٍ موارٍ، تخصص لها مجامع وجمعيات
ومؤتمرات ودوريات … كل الأطراف باتت تنشد «علمًا أكثر أخلاقية».
١٥ على أن هذه الأخلاقياتِ في النموذجِ الإرشاديِّ الإسلاميِّ
تنبع بطبيعة الحال من الركيزة الكبرى؛ عقيدة التوحيد.
•••
إن التوحيدَ يعني رؤيةً للحقيقة وللكون، وارتباطًا عضويًّا بين
العلم والمعرفة التوحيدية، العلم متكاملٌ معها، الوحي مصدرٌ دافعٌ
للمعرفة التوحيدية عن العالم التي تحتاج للأدوات البحثية والمناهج
العلمية الإجرائية، و«المسألة تتعلق بتوظيف الأبنية الفكرية العامة
التي يقوم عليها التكامل في فهم الظواهر أو القضايا موضوع الدراسة».
١٦ وتتآزر العلوم الطبيعية والإنسانية في تعبيرها عن
الاتصال والتداخل والتكامل ضمن الوحدة الكلية للخلق الإلهي، ويتسق
العلم مع الروح الإسلامية وهو يسعى إلى تكامل الجزئيات ضمن الكل
الواحد. ويبدو التكامل من ضرورات الاستخلاف والتمكين في الكون
والعمران البشري.
التوحيد أساس رؤيةٍ تكامليةٍ تستقطب مصادر المعرفة وأبعاد الوجود
ليغدُوَ البحث العلمي تجربةً شاملةً ينغمس فيها الباحث بمجامع قدراته
وملكاته. ويستطيع الباحث المسلم قراءة الكون الطبيعي والاجتماعي
والإنساني بعقله وحواسِّه ونفسه جميعًا، وفي إطار مشروعٍ شامل للإصلاح
والتنهيض ركيزتُه توطين العلم، سوف يسهُل توظيف هذه القراءة في بناء
أسس حضارةٍ راشدةٍ متميزةٍ عما سبقها ولحقها من حضارات، بهذا التكامل
الذي يجمع بين المادة والروح، الدنيا والآخرة، المسئولية والجزاء،
الحق والواجب، الأنا والآخر … فيصنع وسطيةً مميزةً لأمة تحول دون
التطرُّف إلى أيٍّ من الجانبَين. التوحيد مضادٌّ للتطرف الحدي، ومضادٌّ
للرؤية الواحدية الاستبعادية التي لا ترى الحق إلا في جانبٍ واحد أو
في مدرسةٍ بعينها.
على أنها جميعًا تنبعث من أصولٍ منهجيةٍ أعمقَ تمثِّل ما وراء المنهج،
تجسِّد منطلق المنهجية الإسلامية المؤهِّلة للقضاء على اغتراب العلم
وغربته، فإذا كانت دافعية الممارسة العلمية أصلًا ثاويةً في آيات
القرآن، كموجِّهات ودوافع للبحث العلمي نابعة من منظومتنا العقدية،
فليس يتناقض معها مثول الغيب كأفقٍ شعوري، وليس من الضروري إقصاؤه
تمامًا على طريقة العلم الوضعي. وإذا كان ذلك الأفق هو الغيب
الأكبر، فليس يصعُب توليده قيمًا علميةً إيجابية، وكما قيل عن حق،
ثمة أيضًا
الغيب النسبي أو
الأصغر الذي يعدُّ من أهم موجِّهات ودافعيات المعرفة والعلم
والتحصيل، ومن هنا تأتي الآيات
وَقُلْ رَبِّ
زِدْنِي عِلْمًا [طه: ١١٤]،
وَمَا
أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء
٨٥]،
وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء:
١١٣]، للتعبير عن النسق المفتوح من المعرفة والعلم في إطار إدراك
القصور واستمرار التحصيل وضرورات الاجتهاد، وإحداث التراكم، وحدوث
الحوادث وتجدُّد الوقائع والأقضية، هذا كله يعني النسق المعرفي
المفتوح وعملية إحسان القراءة،
١٧ أو بالأحرى القراءتَين.
وتبقى دائمًا وأبدًا دعوة القرآن إلى إعمال الفكر والبحث في
ظواهر الطبيعة أو آيات الكون، والتي لم تَغِب عن الخطاب الفكري
الإسلامي الحديث والمعاصر، ومنذ أكثر من مائة عامٍ خلَت عمل محمد
إقبال (١٨٧٧–١٩٣٦م) على لفت الأنظار إلى ما أسماه «الاتجاه التجريبي
العام في القرآن» الذي كوَّن في أتباعه شعورًا بتقدير الواقع، جعل منهم
حملةَ لواءِ المنهج العلمي التجريبي في عصر سؤددهم. في المستوى
المباشر للخطاب، احتوى القرآن الكريم على ما يقرب من خمسين آيةً
تدعو إلى إعمال العقل، وآيات أخرى تدعو إلى التفكير العميق المتبصر
المسئول في الظواهر والموجودات والأشياء، فضلًا عن تأكيده أسلوبَ
البرهان والحجة والجدال الحسن للوصول إلى النتيجة الصحيحة استنادًا
إلى المعطيات الخارجية المتفق عليها والقدرات العقلية أو المنطقية
لأطراف الحوار. لقد وردت مشتقات الجذر «علم» في أكثر من سبعمائة
وخمسين آية، ولئن كانت بعض الآيات تُرادِف بينه وبين الدين، أفلا
يمكن أن يعني هذا أن العلم مسئوليةٌ ثقيلة منوطة بالإنسان مثل
الدين؟! وفي المقابل أعلن القرآن نبذ التقليد ورفضه لمضادات العلم:
الهوى والظن والسحر والخرافة. ويغدو المنهج العلمي بناءً على هذا
— كما يؤكد عماد الدين خليل — ضرورةً إيمانية ملحَّة تُفضي إلى النشاط
المعرفي المنضبط بالرؤية الإيمانية؛ كدعوةٍ مؤاتية في إطار دينٍ بدأ
كتابه الكريم بكلمة
اقرأ [العلق: ١]،
وهي كلمة تعني الأمر بالانفتاح على النشاط المعرفي على مستوى الكون
والعالم والإنسان تعميقًا للوفاق بين الباحث المؤمن وبين العالَم
الذي يتحرك فيه، ولإحكام هذه الحركة وتمكينها وتمكين وجود الأمة في
العالم. فيمكن القول إن اكتشاف العالَم عملٌ من أعمال التقوى، بل
مطلبٌ رئيس من مطالبها. وفي هذا تبادل التأثُّر والتأثير بين العقيدة
والمعرفة في المنظور الإسلامي، ويتطلب الأمر تعزيز الرؤية
الإسلامية بالمزيد من القيم المعرفية.
١٨ وهذا من مهامِّ النموذج الإرشادي الإسلامي.
إن القرآن يدعو الناس إلى التبصُّر بحقيقة وجودهم وارتباطاتهم
الكونية … وأعطى الحواس مسئوليتها الأساسية عن كل خطوةٍ يخطوها
الإنسان المسلم في مجال البحث والنظر والتأمل والمعرفة والتجريب …
وناداه أن يُمعِن النظر فيما حوله: إلى طعامه … إلى خلقه … إلى
الملكوت … إلى التاريخ … إلى خلائق الله … إلى آياته المنبثَّة في
كل مكان … إلى النواميس الاجتماعية … إلى الحياة الأولى كيف بدأَت،
وكيف نمَت وارتقَت. ثم جعل السمع لكي يعرف ويميِّز فيأخذ ويرفض، وانتقل
القرآن خطوةً أخرى … فسأل الناس أن يحرِّكوا أبصارهم، ثم تتحمل
البصيرة مسئولياتها الأساسية في تنسيق هذه المدركات وتمحيصها
وموازنتها من أجل الوصول إلى الحق الذي تقوم عليه، وحُجة نواميس
الكون والخليقة …
١٩ وبهذا نجد أن القرآن يجعل عمادَي المنهج العلمي
التجريبي العقلَ والحواس، جميعها مسئولة، لا تنفرد إحداها عن
الأخريات في تحمُّل تبعة البحث والتمحيص والاختبار … وتتوالى الآيات
التي تؤكِّد أن السمع والبصر والفؤاد هي التي تعطي الحياة الإنسانية
قدرتها وتفرُّدها، وأن الإنسان بتفعيلها يتبوأ مركزه كخليفة الله
على الأرض، وأنه بتجميده هذه الطاقات قد اختار المنزلة الدنيا.
وانطوى الأمر أيضًا على «التفقُّه» الذي هو خطوةٌ عقلية أبعد مدًى من
التفكير، فهو حصيلةٌ تتمخَّض عنها عملية التفكير لتجعل الإنسان أكثر
وعيًا وأعمق إدراكًا، «كما تجعله منفتح البصيرة دومًا، مستعدًّا
للتحاور المسئول إزاء كل ما يعرض عليه من أسئلة وظواهر ومعضلات».
٢٠
في مثل هذا، نجد دلائل القرآن الكريم إلى تجذير البعد الطبيعي
العلمي وتوجيه العقل المسلم نحو الطبيعة لكي يُثبِتَ دورَه في الكون
وتحمُّله مسئولية الاستخلاف. و«بقَدْر ما يتأسَّس هذا، بقَدْر ما تتحقق
رسالة الوحي الإسلامي كخاتمة الأديان، من حيث هو وحيٌ طبيعي لا
كهنوتي. إنه التوحيد كرؤيةٍ موجهةٍ للذهن نحو الطبيعة»،
٢١ بتعبير حسن حنفي الذي يواصل مسار التوحيد ليلفت
الأنظار إلى قيمة التوظيف العلمي لمفهوم التنزيه الذي يمكن أن يصبح
أقوى موجِّهات الوحي للعلوم العقلية الخالصة كالرياضيات والطبيعيات،
من حيث يجعل الألوهية مبدأً عقليًّا شاملًا؛ لأن التنزيه يعني أن
الله ليس موضوعًا للرؤية أو العلم، إنما العلم موضوعُه كلام الله في
الكتابين — أي الوحي كقصدٍ نحو العالم وكنظامٍ له.
٢٢ هكذا يصبح التنزيه مثالًا معرفيًّا هو المثل الأعلى
كتعالٍ وتجاوزٍ ومفارقة، التنزيه هو التعالي والتقدُّم المستمر ورفض
الصيغِ الجاهزة والقطعية والمذهبية، والتوقُّف،
٢٣ إنه بناءٌ شعوري يدفع إلى البحث المستمر عن الحقيقة
القصوى وتقدُّم العلم، يُبلوِر مثلًا معرفية ضروريةً للنموذج الإرشادي
العلمي.
•••
إذا أخذنا في الاعتبار ما صادرنا عليه في الفصل الأول من أن
النظرة الفلسفية للعلم القاصرة على منطقه وآلياته المنهجية لم تعُد
تكفي، ولا بد من النظر إلى العلم أيضًا من حيث هو بنيةٌ اجتماعية
وحضارية وثقافية، بات واضحًا كيف يُناط بالنموذج العلمي الإرشادي
الإسلامي أن يعكس الثقافة الإسلامية بواقعها الإنساني المتعين،
كدالٍّ وكمدلول. وبطبيعة حال المفاهيم الفاعلة والفعَّالة يستتبع
مفهوم الثقافة بضعةَ مفاهيمَ أخرى، فاعلة وفعَّالة بدورها، من قبيل
الهوية الثقافية والتنوع الثقافي والتعدُّدية الثقافية والتثاقف
والمثاقفة والهيمنة الثقافية … وكلها مفاهيم لم تعُد الآن تنفصل
تمامًا عن فلسفة العلم كما كان الحال في عصر النظرة الوضعية التي
سادت حتى مجيء النصف الثاني من القرن العشرين.
النموذجُ الإرشادي العلمي الإسلامي في جوهره نموذجُ ممارسة أو
ممارسةُ نموذج، مفادُه إعادة قراءة لمنطلقاتنا العقدية في ضوء وعي
العصر والسقف المعرفي له، وإعادة صياغة منظومة القيم والمدركات
المعاصرة، متجاوزين مواقع الاستهلاك والاجترار والتقليد والتبعية الفكرية.
٢٤ وهو ليس دعوةً للانعزال أو الانغلاق المستحيلَيْن، فضلًا
عن أن يكونا مجديَيْن، بل هو دعوةٌ لتوطين العلم وللتمكُّن المنهجي من
أجل الرعاية المعمَّقة لفاعليات البحث العلمي ونمائها في أجواءٍ أليفة
غير مغتربة، ثم استدامة وتجويد الحصائل المعرفية. إنه مسئوليةٌ
عالمية ملقاة على عاتق الباحث العلمي المسلم في الوضع الثقافي
الراهن في القرن الحادي والعشرين، لإرساء أسس ممارسةٍ علمية منطلقة
من أصوليات ثقافته، وتقديم منظور ونموذجٍ معرفي إرشادي مختلف عن
النموذج الغربي الذي طويلًا ما اتَّشح بالأُحادية والعمومية الكونية
والمركزية المطلَقة.
ولكننا في هذا القرن الحادي والعشرين بتنا في عصرٍ ينادي بنقض
المركزية وبالتعدُّدية، ليكون الواقع الحضاري الخاص والعالم الإنساني
المشترك، كلاهما على السواء، أفضلَ وأكثرَ رحابةً وثراء.
رأينا النموذج الإرشادي الغربي القائم على التفاضلية بين
الكتابَين وليد تطوراتٍ تاريخية ومعرفية خاصة بالحضارة الأوروبية
التي هي في جوهرها — كما يقول حسن حنفي — ثقافةٌ وثنية وتقوم على
الصراع، وتحت راية العلم المجيدة شاع تصديرُ هذه الوثنية في سرابيل
المادية والوضعية المكرِّسة للتفاضلية والتنازع والصراع. وفي المقابل
يقوم النموذج الإرشادي الإسلامي على التكامُل وليس التفاضُل،
والتدافُع وليس التنازُع، والتوازُن وليس الصراع. ولعله بمثل هذا
مدخل إلى مرحلة تحوُّل، تروم ارتيادَ آفاقِ وثبةٍ حضاريةٍ مرتقبة.
وعليه أن يستوفي آليات الموقف المعاصر، والحرص على الخروج من مزالق
التعمية والتجريد؛ فمقصد المنهجية الإسلامية ونموذجها الإرشادي
«ليس مقصد الفيلسوف الحكيم، إنما هو مقصد المجاهد الرابض على ثغر
من ثغور الأمة، بعد أن تضاعفَت تلك الثغور وتحوَّلَت إلى ثغرات في
الهيئة والأساس».
٢٥
لقد أوضح توماس كُوْن كيف ينطوي النموذج الإرشادي على نظريات
العلوم البحتة والنظريات التفسيرية المعمول بها والتعريف السائد
للمصطلحات وللمفاهيم، وأيضًا على قيم البحث العلمي وموجِّهاته
ومقاصده وصولًا إلى ما أسماه كُون أيديولوجيا المجتمع العلمي. وفي
سويداء كل هذا تكمن رؤية العالم
(worldview) التي قد تتغير من
نموذجٍ إرشادي إلى آخر، فضلًا عن أن أصولها الأنطولوجية تتمايز من
حضارة لأخرى. وقد كانت أبرز وأعنف تغيُّرات النماذج الإرشادية
العلمية هو ما حدَث بفعل ثورة النسبية والكوانتم من انهيارٍ مدوٍّ
لرؤية العالم كآلةٍ ميكانيكيةٍ كبرى بما استلزمَته من واحديةٍ مادية
وعلمانية فجَّة وسائر مقتضيات النظرة الوضعية التي توالت الدوائر
الحلزونية لنواتجها الوبيلة حتى بلغَت الذروة بالمركزية الغربية
التي سادت العالمين بفعل المد الاستعماري الناجم أصلًا عن النجاح
المتوالي الخفَّاق للنموذج الإرشادي الوضعي، فبدت مسلَّمات نظرة
الغرب للعالم؛ أي تلك الرؤية الكونية الواحدية المادية الميكانيكية
فرضَ عين على كل، وأيِّ، بحثٍ علمي، إن لم تكن فرضَ عين على كل موقفٍ
حداثي. على أية حال، بفعل ثورة النسبية والكوانتم وما تلاها في عصر
ما بعد الحداثة انهارت الرؤية الميكانيكية الحتمية. لقد تراجعَت
تمامًا، وتحتل النماذج الإرشادية العلمية في عصر الثورة الرقمية
والاتصالات والعلوم المعرفية رؤًى للعالم مختلفة تمامًا.
والجدير بالذكر أن مفهوم رؤية العالم مثل مفهوم البراديم أو
النموذج الإرشادي ذاته؛ أي اتسع مجاله ومداه ولم يعُد قاصرًا على
فلسفة العلم الطبيعي، بل هو شامل لمناحٍ شتى في الحياة، حتى أمكن
القول إن «القيم والمفاهيم أدواتُ تفعيل الرؤية الكونية الحضارية
لأية أمة».
٢٦
لم تعُد الرؤية العلمية الآن منقطعة الصلة تمامًا في جذورها عن
الرؤية الحضارية. وحين يكون النموذج الإرشادي قرينًا لوثبةٍ حضارية
مأمولة تعمل على تأكيد ذاتٍ حضارية، فسوف يعلو دور النظرة للعالم
والرؤية الكونية الحضارية. وثمَّة رؤيةٌ كونية عامة هي أهم ما يميِّز
حضارة تتسم بأنها إسلامية. وحين يتفاعل في النموذج الإرشادي
العناصر الإبستمولوجية من مناهجَ وإجرائياتٍ بحثية مع العناصر
الأنطولوجية من رؤيةٍ متميزة للعالم سيكون ذلكم بوابةً رحيبة للتوطين
العميق للظاهرة العلمية وتبيِئة البحث العلمي في إطارٍ يقوم على
التكامل ووحدة المعارف، حاملًا الانسجام والتواؤم والاستدامة،
متجذرًا في ثقافتنا عقائديًّا وتاريخيًّا. إنه توافُق منطلقات وجذور
ومكوِّنات النشاط العلمي مع الإطار المحيط به، الذي ينبعث
منه.
بطبيعة الحال، مرتكَز الرؤية الكونية وعمادها التوحيد، الذي هو في
الرؤية الإسلامية قيمةٌ مركزية، ومصدرٌ للقيم الأخرى وقاعدةٌ لمضامين
هذه القيم في أنظمة الفكر والحياة، محورٌ رأسي ومعيارٌ حاكم يحدِّد
المقاصد والغايات. لقد أوضحنا آنفًا كيف أن التوحيد افتراضٌ نظري
تفسَّر على أساسه الظواهر الطبيعية، أو رؤيةٌ موجِّهة للذهن نحو
الطبيعة. وفي النموذج الإرشادي الإسلامي «يصنع التوحيد تكاملًا في
الرؤية وفي الممارسة المنهجية»،
٢٧ يقابل أحاديةَ النموذج الغربي وتفاضليَّته ومبدأه
الميتافيزيقي المنبتَّ الصلة بالقيمة، والذي كان يزعم عموميةً كونية
مطلقة. إنه التكامل الآتي من التداخُل والتآزُر بين الوحي الإلهي
المسطور وبين البحث في الكتاب المنظور، مثلما يتكامل الماضي
والمستقبل، فيُصبح النموذجُ القياسي الإرشادي الإسلامي، حين يشهد
التفعيل والحياة، تمثيلًا لوحدة المعرفة، تحقيقًا للوجود الحضاري
لأمة قطب، طالت غيبتُها عن مسرح الفعاليات الحضارية والإسهام في
المسيرة التقدُّمية، وآن للأوبة أن تئون.
ثالثًا: حوارات وتطبيقات
يقف النموذج الإرشادي الإسلامي على النقطة الحرجة أو الخط الفاصل
بين التحديث والتغريب. وهو خط لا يعترف به جمهرةٌ من حاملي لواء
التقدم والعصرنة والتنوير والعقلانية والليبرالية والحداثة وما
بعدها وما قبلها وما فوقها وما تحتها … إنهم ليسوا قلة، وقد يُسرِفون
في تقديس العلم وتنزيهه عن كل ما هو إنساني، عجزًا عن التخلُّص من
إسار المرحلة الوضعية السابقة. نتوقع منهم رفضًا ساحقًا، وربما
دهشة واستنكارًا بل تحريمًا وتجريمًا، لطرح نموذجٍ إرشادي علمي
إسلامي. ومع ذلك ليس هذا الطرح صرخة في وادٍ، وليس البتة نظرة غير
مسبوقة.
هل يمكن أن يكون حديثٌ عن النموذج العلمي الإرشادي إلا انعكاسًا
لمهمة عصر ووعي أمة ومطامح جيل. في هذا المجال الفسيح الحي المعيش
يمكن أن يمتد الحوار إلى الأطراف المترامية لمقاربات الإشكالية
الأم في فكرنا وواقعنا المعاصَرين، إشكالية الأصالة والمعاصرة،
فيتأتى في سياقٍ أعم وأشمل في الفكر العربي الحديث والفكر الإسلامي
المعاصر بما يحفِلان به من محاولاتٍ دءوبة وجادة لتجديد التراث
وتأصيل المعاصرة، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، من أستاذ الجيل
وأستاذ الروح العلمية زكي نجيب محمود وهو يعلن في ذروة مراحل تطوُّره
الفكري أن مهمَّتنا هي البحث عن طريقةٍ تلتحم بها علوم عصرنا ومُثله مع
شريعة ديننا وقيمه، إلى بديع الزمان سعيد النورسي (١٨٧٧–١٩٦٠م)
٢٨ القابض على جمر الأصالة في ذروة التحول العلماني
الهيستيري في تركيا الأتاتوركية وهو يعلن أن ضياء القلب في العلوم
الدينية ونور العقل في العلوم الحديثة وأن بامتزاجهما تتجلى
الحقيقة «فتتربى همة الطالب وتعلو بكلا الجناحَين، وبافتراقهما
يتولَّد التعصُّب في الأولى والحيل والشبهات في الثانية» … وصولًا إلى
كل محاولة تهدف إلى انبثاقة حاضرٍ واعد عن ماضٍ لا يمكن نفيُه من دون
زعزعة الهوية، ومن دون الذوبان في الغير أو العزلة عن عطائنا
الحضاري، من حيث إن الثقافة الإسلامية، تحديدًا، تصنع «ارتباطًا
مصيريًّا بين التراث وهوية الأمة، ذاكرةً وتمثلًا وتطلعًا، ذاكرة
للماضي وتمثلًا للحاضر وتطلعًا للمستقبل».
٢٩
بعبارةٍ أخرى، النموذج الإرشادي الإسلامي ليس يتحاور ويتواصل مع
تراثٍ آتٍ من الماضي ومع ثوابتِ الهُوية فحسب، بل أيضًا، وقَبلًا، مع
المحاولات الكثيرة المعاصرة التي تَكسِر دائرة الاجترار السلبي
للتراث وتُعطي مداخلَ إيجابية وحصادًا طيبًا يُسهِم في تحديث الأصالة
وتأصيل الحداثة. وربما نُلاحِظ انفصالًا بين بعض هذه التصورات
الإطارية وبين النشاط المعرفي. وتعمل مقاربتُنا للمنهجية العلمية
الإسلامية على الإسهام في رأب مثل هذا الصدع.
ويمكن أن نعود مجدَّدًا إلى واحدٍ من أهم وأبرز المشاريع في فكرنا
الحديث، وهو مشروع «
التراث
والتجديد» لحسن حنفي شيخ الفلاسفة
الأصوليين/المعاصرين وواحد من مفكرينا القلائل الذين حقَّقوا قَدْرًا
من الحضور العالمي. ويتصدَّر مشروعُه المحاولاتِ الكثيرة التي «تهتم
بقراءة وتحليل ونقد وتطوير التراث القديم للوصول إلى ثقافةٍ متطورةٍ
تنطلق من ماضي الأمة وتُعالِج مشكلاتِها في الحاضر وتهتمَ بمستقبلها»،
٣٠ حيث يُوضَع كل شيء موضع التساؤل، وتظل نقطة البداية هي
الوحي المنزل. عَمِل المشروع على اكتشاف كيفية تحوُّل الوحي إلى
علوم في تراثنا القديم، ليكون التجديد هو إعادة بناء العلوم في
حضارتنا كي يتحول الوحي مجددًا إلى علومٍ محكمةٍ مطابقة لحاجات العصر
ولآفاقه المعرفية، ويكون العلم الديني أساسًا شهد امتداداته
وانطلاقاته ومتغيِّراته في العلم الطبيعي والإنساني. لقد تكرَّرَت
الإحالة إلى حسن حنفي ومشروع «التراث والتجديد» فيما سبق، وكان
مقدمةً مفضية توًّا إلى مقاربتي لتجديد علم الكلام/أصول الدين في
كتاباتٍ أخرى لي وردَت خلاصتُها فيما سبق، فضلًا عن أنه كان أيضًا من
دعائم المقاربة المطروحة في الفصل السابق لأصول الفقه؛ حيث أشرنا
إلى الجبهات الثلاث لهذا المشروع.
في الجبهة الأولى يُعاد بناء علوم تراثنا القديم بهدف تحويلها إلى
علومٍ إنسانية بدايتُها الوحي وغايتُها الأيديولوجيا. والأيديولوجيا
عند حنفي — كما هي في النموذج الإرشادي عند توماس كون — مسألةٌ نظرية
وعملية معًا. والوحي علم المبادئ العامة التي يُمكِنها تأسيس العلم
ذاته، والتي هي في الوقت نفسه قوانين التاريخ وحركة المجتمعات.
الوحي هو منطقُ الوجود المميِّز لحضارتنا ومهمَّتنا تحويله إلى علمٍ
شامل/أيديولوجيا شاملة، فيتحول إلى حضارةٍ لها بناؤها الإنساني
المطابق لحاجات العصر. أَوَلم يتحوَّل الوحي منذ هبوطه إلى حضارة
ارتدَّت إلى علومٍ مثالية، نقلية ونقلية/عقلية وعقلية؟ هكذا يخلُص
حنفي إلى أن الحضارة الإسلامية لم تكن إلا محاولةً لمنهجة وعقلنة
الوحي، لكن في ظروفٍ تاريخيةٍ مختلفة، علينا إذن منهجته وعقلنته
مجددًا؛ أي إعادة بناء تراثنا طبقًا لظروف واقعنا ومتطلباته، وهذا
في الجبهة الأولى من المشروع حيث إعادة بناء علوم الأمة عَبْر سبعة
خطوط يتم فيها إعادةُ بناء كل علم على النحو التالي:
- (١)
علم الكلام بالانتقال من العقيدة إلى الثورة، وصياغة
لاهوت الثورة.
- (٢)
الفلسفة أو علوم الحكمة، للانتقال من النقل إلى
الإبداع.
- (٣)
التصوف للانتقال من الفناء إلى البقاء، أو تحويل قيمه
السلبية كالرضا والزهد والصبر والتوكل والقناعة إلى قيمٍ
إيجابيةٍ فعَّالة تصل إلى الرفض والثورة والتمرُّد
والاعتراض.
- (٤)
علم أصول الفقه لإعطاء الأولوية للواقع على النص
وللمصلحة على الحرف، بالانتقال من النص إلى الواقع.
- (٥)
العلوم النقلية، وهي القرآن والحديث والتفسير والسيرة،
وهي التي تتوغَّل في وجدان الجماهير، وبإعادة بنائها تنتقل
من النقل إلى العقل.
- (٦)
العلوم العقلية؛ أي الرياضية والطبيعية، مطلوب إعادة
بنائها لتبيان كيفية خروجها من الوحي، تأكيدًا على وحدة
الوحي والعقل والطبيعة.
- (٧)
العلوم الإنسانية، كالتاريخ والجغرافيا واللغة والأدب،
للوقوف على الإنسان والتاريخ.
٣١
أنجز حسن حنفي الخطوط الخمسة الأولى من هذه الجبهة في مجلداتٍ
فخيمة، تُعَد صفحاتها بالآلاف.
٣٢ ولكن من الواضح أن النموذج الإرشادي العلمي يرتبط
مباشرةً بالخط السادس تحديدًا. وحتى لحظة كتابة هذه السطور لم يُخرج
حنفي بعدُ الخطَّين الأخيرَين أي العلوم العقلية والعلوم الإنسانية
اللذين يشتبكان توًّا ومباشرةً بالأصول الفلسفية للنموذج العلمي
الإسلامي، يلتقيان معه من حيث إن الخط السادس تحديدًا، وهو إعادة
بناء العلوم العقلية الرياضية والطبيعية في حضارتنا، إنما يقوم على
تأكيد وحدة الوحي والعقل والطبيعة وذلكم مرتكَز جوهري. العلوم
الرياضية والطبيعية والإنسانية في منظور «التراث والتجديد» لم تصدُر
عن الوحي طبعًا، لكن لها بواعثها وموجِّهاتها في الوحي، أو كما نقول
في النموذج الإرشادي الإسلامي، لها منطلقاتها المنهجية في مرتكزنا
الحضاري الروحي القيمي، الذي نريده دافعًا وشاحذًا للسلوك
العلمي.
تمثِّل محاولة حسن حنفي عمقًا فلسفيًّا واقتدارًا نظريًّا في
معالجة القضية المطروحة. ويُمكِن أن نذكُر في هذا الصدد جهودَ
عبد الوهاب المسيري الباسلة
في تجسيد الأخطاء والخطورات الكامنة في التسليم بالنموذج الغربي
الذي لن ينفصل عن المنزع الاستعماري والإمبريالي. وقد توقَّف المسيري
عند المرحلة الاستعمارية ولم يتابعها إلى الفكر بعد الاستعماري
وبعد الحداثي وما ساد الفكر الغربي في العقود الأخيرة من موجات
النقد الذاتي. ولئن كان النموذج الإرشادي يؤطر عالم العلم والبحث
العلمي، فإن جهود المسيري انصبَّت على بلورة مفهومٍ مشابه له، لعله
أعم كثيرًا منه، يقف وراء مدركات العالِم والمفكِّر والإنسان العادي
على السواء، وهو ما أسماه «النموذج التفسيري» الذي يحكُم إدراكات
الإنسان وأحكامه. إنه خريطةٌ معرفية تحدِّد مجال النظر، ونُدرِك الواقع
على أساسها. وتتواصل مسيرتُه إلى رحاب البحث العلمي خصوصًا في
الإنسانيات، كأساس لرؤيةٍ معرفية ودعوة إلى الاجتهاد. كل، وأيُّ،
نموذجٍ تفسيري لا بد أن يقوم على «تحيُّز» ما. واهتم المسيري كثيرًا
بما يُسمَّى «فقه التحيز»، ولما كانت موضوعية نيوتن المطلَقة والموهومة
قد تبخَّرت تمامًا من النماذج الإرشادية العلمية المعاصرة، بدا
واضحًا أن عناية المسيري بمقولة التحيُّز لبنةٌ هامة من لبنات النموذج
الإرشادي الإسلامي. وفي النهاية أصبح نموذجُه التفسيري بتحيُّزه
أساسًا من أسسِ محاولاتٍ تطبيقية هامة سنعرِّج عليها لاحقًا، بعضها
اختار عنوانًا له هذا المصطلح: «النموذج التفسيري».
ومن زاويةٍ أخرى، ثمَّة أيضًا محاولات على درجةٍ عالية من الحرفية
والمهنية العلمية والتمكُّن من الموضوع ومن المنهج معًا، تبحث معنا
عن توطين العلم الحديث والبحث العلمي مستعينةً بالدراسة الرصينة
المتعمقة للإنتاج العلمي في التراث الإسلامي والعلم العربي، من
قبيل مقاربات العالم المتمكِّن ذي الباع الطويل والخطير في تاريخ
الرياضيات العربية الدكتور رشدي راشد. وقد مر علينا جانبٌ من جهوده
الثمينة التي أبرزَت دور العلوم العربية الإسلامية في خلقِ عقلانيةِ
العلم الحديث ومنهجيَّته بل وترييضه، وكيف تخلَّقَت هذه العلوم أصلًا
بفضل التفاعل مع الجوانب الأخرى في النموذج المعرفي الإسلامي،
التاريخية والسياسية والإدارية واللغوية والفقهية والكلامية
والفلسفية. وهي جهود لا يستطيعها إلا أمثالُه من أولي العزائم
والشكائم في البحث العلمي، وتنتظر جهودًا مماثلة لمواصلة المسير.
وطبعًا ثمَّة مقارباتٌ مُدانية مثل مقاربات عبد الحميد صبرة
وسواها.
•••
وفي الطرف الآخر المقابل تمامًا، ثمَّة سيلٌ عرمرم من محاولاتٍ شتى،
تحمل لافتة أسلمة العلوم الطبيعية ذاتها، تتَّشح غالبًا بنبرةٍ
عاطفية تجعلها مهمةً عقيمة إن لم تكن مستحيلة، وإن أسفرَت عن شيء،
فلن يكون إلا تحصيل الحاصل، كأن نجلس على أبواب العلماء نلتقط فتات
موائدهم لنبحث عن كلمةٍ هنا أو هناك يمكن أن تتشابه مع نصٍّ قرآني،
وكأن من المهم أن يصدِّق عليه علماء الغرب بعد ألف وخمسمائة عام،
وليس يهم كثيرًا أن نضيف نحن ونكتشف الجديد. قد تتسم مثل هذه
المحاولات بصدق التحمُّس للقضية، لكن تأتي المحصلة بدرجاتٍ متفاوتة،
تبلغ في بعض الأحيان حدًّا كبيرًا من التهافُت والسطحية وربما
اللامعقولية. هذا بعد أن استهلَّها من لُقب بحكيم الإسلام، المفكِّر
الإسلامي الموسوعي الشيخ طنطاوي جوهري (١٨٧٠–١٩٤٠م)، أول عربي
يرشَّح لجائزة نوبل، ثم اتسع نطاقها وانفتحَت حدودها وتكاثر
المنشغلون بها، من محترفين وهواة، ومن أعلامٍ حققوا شهرةً وصيتًا إلى
أفراد من جموع المشكِّلين للمجتمع العلمي في البلدان العربية والإسلامية.
٣٣ في مثل هذا الإطار قد يتكرر الحديث كثيرًا، وقد يغلب
عليه في أفضل الأحوال طابع دَعَوي وَعظي قيمي، وفي أسوَئِها طابعٌ
تعصُّبي انفعالي. وقد تتراجع الأصول المنهجية المثمرة حقًّا، وتبلغ
أحيانًا حدًّا من التسطيح والانفعالية يثيران الدهشة والأسف. وبشكلٍ
عام، يمكن القول إن الانشغال ببيان الإعجاز العلمي للقرآن إنما
«يحمل القرآن كفرع على العلم»،
٣٤ في حين أن المطلوب قد يكون العكس تمامًا؛ تحميل العلم
على القرآن كأصل.
•••
ومن منطلق التشارك بين التيارات التجديدية المُستنهِضة للأصوليات
العقلانية في فكرنا المعاصر، التي تجتمع على استهداف النهوض
بالأمة، نجد أواصر القربي وشيجةً بين النموذج الإرشادي العلمي
الإسلامي وبين مشروع المنهجية الإسلامية الذي أطلقه المعهد العالمي
للفكر الإسلامي منذ العام ١٩٧٧م.
في هذه الساحة نجد حصادًا طيبًا ورصيدًا هائلًا في مضمار
المنهجية الإسلامية، بلغ في بعض الأحيان حدَّ الصناعة الثقيلة، وأسفَر
عن ترسانةٍ منهجيةٍ مدجَّجة ومنجزاتٍ جديرة بالاعتبار، تمَّت برعاية
المعهد العالمي للفكر الإسلامي، في مؤتمراته الدولية ونداوته
ودورياته ومطبوعاته الأخرى. استفَدنا منها وورَد بعضُها في هوامش
الصفحات السابقة. (وعن مكنونات هذه الهوامش، تجدُر بنا الموازنة
بشكلٍ خاص بين محاولة حنفي لإعادة بناء تراثنا القديم، وبين عناية
طه العلواني ومنى أبو الفضل — وهما في الجبهة الأمامية من مشروع
المنهجية الإسلامية — بإعادة بناء علوم الأمة).
شهدَت ساحة فرع هذا المعهد بالقاهرة بعضًا من أنضر العقول في
تخصصاتٍ شتى، واتَّسَم المجاهدون فيها بخلوص النية وصدق العزيمة في
الإيمان بقضية المنهجية الإسلامية، وإزاء رصيدها الهائل المُنجَز
والماثل يمكن أن ننتقل من مجرد الحوار حول نموذجٍ إرشادي علمي
إسلامي إلى مثول
محاولات تطبيقية
عينية له شاخصة ومنتجة. خصوصًا في مضمار العلوم الإنسانية.
٣٥ ولا ضَير، فالإنسانيات هي المجال الذي يُخاطَب ويُبتغى
ويُرتجى. منطلقات المنهجية الإسلامية هي المنطلقات التي يشتجر
حولها واقعنا الحضاري، لتكونَ بالنسبة إلى العلوم الإنسانية بالذات
وسيلةً وغاية، وسبيلًا مفضيًا إلى فهمٍ أكمَل لأبنيتنا
السوسيوسيكلوجية، وأقدَر على الإحاطة بواقعنا وعلى التكافؤ مع
تطلعاتنا.
إن موضوع العلوم الإنسانية والاجتماعية، يتميز بكثرة المتغيِّرات
وتواتُر العوامل الفاعلة وتعدُّد الجوانب. ومن المفيد البحث عن مداخلَ
منهجيةٍ أقدَر على التكامل وعلى تتبُّع خصوصيات وعموميات الظاهرة،
فتتساءل منى أبو الفضل: «هل نُغفِل قوى وعقائد وتيارات وآليات حراكٍ
تاريخي قوي تموج بها منطقتنا، بدعوى تلمُّس الحداثة والامتثال
لمقولاتٍ علمية على أساس أن النموذج الإرشادي الغربي لا يحتويها؟ أم
الأدنى إلى الصواب أن يتم استيعاب هذه الآليات في إطارٍ أكثر قدرةً
ومواءمة للتعامل العلمي مع واقعنا، أقدَر على الوصف والتفسير
والتحليل؟ منطلقات المنهجية الإسلامية تقهَر هذا الفصام العقلي بين
الأصالة والمعاصَرة، بين العقل والواقع، وتطرح تواصُلًا بين عناصر
كيان الأمة التي تعيش اليوم حالةَ فصامٍ لا يدرك أبعاده مثل المتخصِّص
في العلوم الاجتماعية والباحث في أنساق القيم والسلوكيات في
الأفراد والجماعات.»
٣٦
فضلًا عن هذا، نجد أن
العلوم
الإنسانية أحوج إلى أن تستنفر الجهد من أجل دفع
طاقاتها التقدمية؛ فهي التي تعاني من أزمة التخلف النسبي عن العلوم
الطبيعية وعجزها عن اللحاق بمعدلاتها التقدمية، وإحراز ما أحرزَته
العلوم الطبيعية من نجاح في الوصف والتفسير والتنبؤ والسيطرة على
ظواهرها. إن العلوم الإنسانية في بحثها للظواهر الاجتماعية قد
أحرزَت قدرًا ملموسًا من النجاح في توصيفِ الظواهر، وليس التوصيف
العلمي أمرًا يسيرًا أو هينًا بل إنه بمثابة اكتشاف الظاهرة، وهو
معلم كينونةِ العلم أو وجوده واحتلاله مكانًا في نسَق العلوم، ولكن
الإحاطة العلمية بالظاهرة تقتضي مواصلة المسير من مرحلة الوصف
والإجابة عن السؤال: كيف تحدث الظاهرة؟ إلى مرحلة التفسير والإجابة
عن السؤال: لماذا تحدث الظاهرة؟ وها هنا يمكن القول إن مشكلة
العلوم الإنسانية تتمثَّل في عجزها عن التفسيرات المقتدرة، وهذا
العجز في التفسير يجعل مشكلة العلوم الإنسانية والبحث في منطقها
ومنهجها مسألةً شديدة الإلحاح، وفرضَ عين على المعنيِّين بالمنهجية العلمية.
٣٧ ومنذ مطالع القرن العشرين جعل إدموند هوسرل من أزمة
العلوم الإنسانية أزمة الوعي الأوروبي بجملته، وفي النصف الثاني
منه تضاعَف أمرها مع موجات النقد الذاتي في الفكر الغربي وما بعد
الحداثة التي أدت إلى سيولةٍ نظرية في مفاهيم منهجية أساسية، أضيفَت
إليها سيولةٌ اجتماعية فاضت في العقود الأخيرة من السنين، وتزعزعَت
على مستوى الفكر وعلى مستوى الواقع مقولاتٌ كانت قد ارتكزَت عليها
العلوم الإنسانية والاجتماعية.
تُعَد أزمة المنهج في العلوم الاجتماعية والإنسانية من أمهات مشاكل
فلسفة العلوم، والوعي بها لا يغيب عن الساحة أبدًا؛ وبالتالي هي
أكثر من سواها إلحاحًا على مطلبَ منهاجية تكون أكثر قدرةً على النقد
والبناء والاستعادة، فتنتظر من المنهجية الإسلامية أكثر مما تنتظره
أية علومٍ أخرى. وكما أشارت منى أبو الفضل، العلوم الإنسانية أكثر
من سواها فيما تحملُه من ثقافة منشئيها وفي تأثيرها في عقلية
حامليها وفي العوامل التي تأخذها من الهوية والمرجعية ومنظومة
القيم وأنماط السلوك؛ وبالتالي يتكثف احتياجها للنموذج الإرشادي
الخاص. والنماذج الإرشادية السائدة الوضعية وما بعد الوضعية،
بأصولها الغربية اليونانية والرومانية والقروسطية المسيحية ثم
امتداداتها أو انقلاباتها الحداثية، وأخيرًا ما بعد الحداثية، مهما
تدَّعِ العمومية والعالمية والكونية لا تستطِع أبدًا أن تلبي
الحاجات المعرفية، الوصفية والتفسيرية التي يُنتظر استيفاؤها من
التناول العلمي الممنهج للظواهر الإنسانية. النظرة العلمية السائدة
في إطار تعلُّمِنا من الغرب، وهي المرحلة التي نجد العزم لتخطيها،
تفترض وتفرض نموذجًا إرشاديًّا واحدًا يخضع له الإنسان مطلقًا
والمجتمعات جميعًا، بصرف النظر عن الفوارق والاختلافات والخصوصيات
الحضارية، كحاصل لرؤية الواقع والعالم والتاريخ والتقدم عَبْر أوروبا
وفقًا للمركزية الغربية التي سادت بفعل الاستعمار على مستوى الواقع
وعلى مستوى المثال، وبصرف النظر عما فيها من قصور فإنها قد لا
تطابق واقعَنا نحن الخاص. مما يجعل الحاجة ملحَّةً إلى نموذجٍ إرشادي
موائم ومطابق لطبيعة الظاهرة في الحضارة المعنية وحاملٍ
لخصوصياتها وما يميزها.
لكل هذا، تكتسب محاولات المنهجية الإسلامية في العلوم الإنسانية
أهمية أكثر وخصوصية، محاولين دائمًا البقاء في دائرة المنطلقات
الإسلامية للمنهجية العلمية، والبعد عن دعاوى أسلمة العلوم ذاتها.
ولأن التاريخ يُعَدُّ أبا العلوم الإنسانية جميعًا، يمكن أن نبدأ
بالإشارة إلى محاولات بُذلت لترسيم المنهجية الإسلامية للتاريخ
والدراسات التاريخية، خصوصًا التاريخ الإسلامي، من قبيل محاولة
المؤرخ العراقي عماد الدين خليل التي تبدأ بتوضيح القصورات
التأريخية للحضارة الناجمة عن اتباع النموذج الإرشادي السائد الذي
هو غربيٌّ علماني مادي، صادر عن إبيستميةٍ محكومةٍ بالمركزية الغربية
تجعلنا نتبع مناهجَ لا تقوم على أساسٍ متوازن ينظر إلى القيم الروحية
والمادية كعواملَ فعَّالة مشتركة في صنع التاريخ، بل على العكس يميل
إلى تأكيد القيم المادية وإنكار القيم الروحانية تمامًا. ومن جهة
أخرى، يقدم تاريخ العالم كله، ومن ضمنه التاريخ الإسلامي من وجهةِ
نظرٍ غربية تجعل الحضارة الغربية مركز العالم الذي تدور حوله كل
التواريخ الأخرى، منها التاريخ الإسلامي. وهذا يجعل تاريخ العالم
تاريخًا موسَّعًا للغرب؛ أي تاريخًا مشوَّهًا غير سليم؛ وبالتالي
يجعل كل مفهومٍ ثقافي أو مؤسسةٍ اجتماعية تتعارض مع النموذج الغربي
إنما ينتمي حتمًا إلى درجةٍ أدنى وأحط. درسَت المناهج الغربية
تاريخنا وتواريخَ أخرى محكومةً بتعصباتٍ شتى ورواسبَ استعمارية وأطماعٍ
اقتصادية وأهدافٍ سياسية وتحزباتٍ دينية ومذهبية وعرقية وأيديولوجية،
تعود إلى مذاهب تبلورَت في القرنِ التاسعَ عشرَ الذي كان العصر الذهبي
لتطوير المناهج التاريخية وأيضًا للمد الاستعماري؛ لذا أتى تطبيق
هذه المناهج في تأليف وتدريس التاريخ الإسلامي في مدارسنا
وجامعاتنا — بتعبير خليل — بثماره المُرَّة من مؤرخين ومثقفين
منبهرين بالحضارة الغربية باخسين قَدْر حضارتهم الذاتية.
وعن طريق المنهجية الإسلامية التي يقترحها، يمكن التسلح بمنظورٍ
نقدي إزاء محاولات التأريخ الماضية وإزاء فلاسفة التاريخ أصحاب
الرؤى التاريخية الكلانية، ويمكن إعادةُ عرضِ التاريخ الإسلامي
وتحليله وفقَ أدواتٍ وإمكانياتٍ تُساعِد المؤرِّخ على عرضه بقَدْرٍ أكبر من
الإحاطة والموضوعية. والموضوعية هنا تذكِّرنا بالموضوعية القوية التي
تحدَّثَت عنها ساندرا هاردنج، وهي تؤكِّد أنها تقتضي الإحاطة بخصوصيات
الموقف العلمي المعيَّن. وفي هذا يؤكِّد عماد الدين خليل ضرورة
الاستفادة من الوسائل والإمبيريقيات التي أتاحتها المرحلة
المعاصرة، على ألا يقع المؤرِّخ تحت وطأة الحياة المعاصرة ليحاسب
الماضي بمحكَّات الحاضر. وفي هذا الإطار عَمِل خليل على ترسيم هيكلٍ
تخطيطي للدراسات التاريخية المنتظَرة أو المبتغاة خصوصًا في التاريخ
الإسلامي، لا يبدأ طبعًا من نقطة الصفر، لكن على أساسٍ من مرجعيات
المنهجية الإسلامية ومنظورها الحضاري يواصل المسير بتفادي المثالب
المذكورة والإحاطة بالعوامل الفاعلة التي جرى إغفالها.
٣٨ ولعل أولى وأبسط فاعليات المنهجية الإسلامية أن يعيد
المسلمون كتابة تاريخهم، ليخرج بصورةٍ أوفى وأشمل وأعمق.
•••
ويمتد النموذج الإسلامي ومنظوره الحضاري إلى العلوم الاجتماعية
(السوسيولوجية) التي هي بالنسبة إلى العلوم الإنسانية جميعًا
بمثابة الفيزياء بالنسبة إلى العلوم الطبيعية جميعًا؛ أي لها موضع
الصدارة من حيث عموميتها وشموليتها وأن موضوعها يحيط بمجمل حلبة
العلوم الاجتماعية. بُذلَت محاولاتٌ تنطلقُ من أن العلوم السوسيولوجية
حلبةٌ مُثلى للمأمول من فَض النزاع والانفصام بين البحث العلمي المحدَث
وبين العلوم الإسلامية. وتوقَّف د. علي ليلة عند اهتمام النظرية
الاجتماعية المعاصرة باستكشاف العلاقة بينها وبين الدين، لينتقل
إلى الإسلام تحديدًا واحتواء مصادره وتراثه على معالمِ نظريةٍ
اجتماعيةٍ تتكامل فيها العقيدة والعمل والفطرة؛ حيث الإيمان قوةٌ
دافعة إلى عمرانِ الأرضِ والارتقاء بالمجتمع. على أنه يرى أن غاية ما
نصبو إليه ليس نموذجًا إرشاديًّا، بل فقط معالم نظريةٍ اجتماعيةٍ من
منظورٍ إسلامي، توجِّه الباحث في أدائه من حيث تسليمها بالوحي
والتزامها بالحدود المعرفية الإسلامية في تحديد المفاهيم الاجتماعية.
٣٩
ويبدو المنظور الإسلامي أكثر اتساقًا ووجوبًا في علومٍ اجتماعيةٍ
وإنسانية أخرى من قبيل علوم التربية، فلا تنفصل عن النص الديني على
طريقة النموذج الغربي، أو عن القيم الإسلامية.
٤٠ وبالمثل علم الاقتصاد
٤١ حيث نجد النموذج الإسلامي كمبحث وكعلم وكمعياريات قد
يتطرق إلى ممارسة مؤسسات، وهو ذو علاقة بالقضية الأم في الواقع
الاقتصادي الراهن للدول النامية، وهي قضية التنمية، وكيف تكون
المنظومات الإسلامية محفزة وليست البتة عائقًا. إن المداخل
والنماذج الإسلامية في ميدان الاقتصاد عالَمٌ تنامَى وعظُم حجمُه،
والحديث بما يجب التسليم به وما يستدعي التطوير أو التحجيم أو
النقاش أو الرفض قد لا ينتهي. وفي كلِّ حال، نحن معنيُّون ها هنا فقط
بمنهجية العلم والبحث العلمي لا سواهما.
رابعًا: المنظور الحضاري … نموذجٌ مطروح
قيل إن الاقتصاد علم الثروة في المجتمع، والسياسة علم القوة فيه،
ولأن الثروة والقوة وجهان لعملةٍ واحدة، فقد اقترن الاقتصاد
والسياسة معًا برباطٍ وشيج. وبالتالي، ينقلنا علم الاقتصاد إلى
قرينه، إلى علم السياسية حيث نجد
مثالًا ماثلًا للنموذج العلمي الإرشادي الإسلامي، في محاولة للبحث
عن نسَقٍ بديل ومنهجيةٍ بديلة لتلك الغربية السائدة، تنضاف إلى
منهجياتٍ يموج بها عصرٌ بات يعرف معنى وجدوى وقيمة التعدُّدية المنهجية
من ناحية، والتعدُّدية الثقافية من الناحية الأخرى.
إنها مدرسةٌ علميةٌ منتجة في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية
بجامعة القاهرة، تؤسِّس علمًا سياسيًّا وفقًا لنموذجٍ إرشاديٍّ إسلامي،
لينضم علم السياسة من المنظور الإسلامي إلى جملة منظورات علم
السياسة المتفاعلة على ساحته العالمية. يسودها طابع العلم الجمعي
التعاوني بين لفيف من الباحثين ومن الأساتذة ومن التلاميذ، فلم تكن
كمثل المحاولات السابقة جميعها في جوهرها جهدًا فرديًّا لا يلزم
غير صاحبه، بل تُفصِح عن أن الأمر يتطلب «الكثير من الجهود والموارد
والتواصل والتشبيك، ليس على صعيد جماعةٍ بحثيةٍ مصرية، لكن امتدادًا
إلى دائرةٍ عربية ثم إسلامية ثم عالمية».
٤٢ فضلًا عن التساند فيها بين البحث العلمي والإنتاج
النظري والتدريس الفعلي الحي؛ ذلك أن الخبرة التدريسية للنظم
السياسية العربية أبانت لهم عجزَ النموذج الغربي عن الإحاطة بواقعنا
الاجتماعي والسياسي، وأن الإسهام في العلم السياسي ينتظر معالجةً
تُوائِم هذا الواقعَ وتُطابِقه. إنها مدرسةٌ تخلَّقت بداياتها في فترة
سيادة وهيمنة المرحلة الوضعية — التي انقضَت — لتنبذها تمامًا، وبدأَت
في هذا النبذ قبل أن تعلوَ موجاتُ نقدها ورفضها في الغرب، وفي
النهاية تلتقي مع تيار المراجعة الذاتية ونقد المنظورات الغربية
التقليدية التي علا شأنها خلال العقدَين السابقَين، بفضل الفلسفات
بعد الحداثية بعد الاستعمارية والفلسفات الغربية التي تنطلق من نقض
المركزية الغربية.
ترفض مدرسة العلوم السياسية هذه الانحباس في النموذج الإرشادي
الغربي الواحدي، وبالقَدْر نفسه تنبذُ التقليد وهي تأخذ في اعتبارها
دَور البُعد العقائدي والقيمي والمعنوي في التنظير السياسي. من هنا
كان بحثهم عن نموذجٍ إرشادي يحمل منطلقاتٍ منهجيةً إسلامية، وصولًا
لعلمٍ سياسيٍّ أشمَل وأكمَل، أقدَر على الإحاطة المعرفية بواقعنا،
والتوجيه نحو مستقبلٍ أفضل.
رأَوه علمًا سياسيًّا ممكنًا، يملك إمكانياته في المصادر
المُنشِئة؛ الكتاب والسنة، وفي التراث الممتد، وفي الخبرة الواقعية
التاريخية والاجتماعية الماثلة، بمعيَّة المناهج المحدَثة، مع
التسليم بأن الإمبيريقيات والإحصائيات الكمية لا تكفي للإحاطة
بالإنسانيات عمومًا، وبواقع الحضارة الإسلامية خصوصًا. ومن أجل
إحداث التكامل المنهجي المنشود اتجهوا إلى تفعيل الشفرات الإسلامية
وتوظيفها في تحليل الظاهرة السياسية، وفي واقعنا وحضارتنا
وثقافتنا، وفي تكوينها وعلاقاتها أيضًا. تنبثق أصول هذه المدرسة عن
عطاء الدكتور حامد ربيع (١٩٢٥–١٩٨٩م)، الذي عمل على تأصيل وتحديث
الفكر السياسي الإسلامي، بطرح مداخلَ حضاريةٍ وقيميةٍ لقضايا الأمة
الإسلامية. انطلقَت جهوده ابتداءً من الهمِّ القومي العروبي ومناهضة
الصهيونية، وفي هذا المدار يدور جُلُّ مؤلفاته. ولا غَرو، فالعالم
العربي هو قلب العالم الإسلامي، والعالم الإسلامي امتدادٌ للعالم
العربي وآفاقه. تولَّدَت المدرسة حين أقدَم حامد ربيع في مطالع
السبعينيات على تدريس مقرَّرات في الفكر السياسي الإسلامي والنظرية
السياسية في الإسلام، فضلًا عن فتح جبهة الإشراف على رسائل ماجستير
ودكتوراه في موضوعاتٍ سياسية ذات أبعادٍ إسلامية. ثم أتت منى أبو
الفضل التي سوف نتوقف عندها لاحقًا لتُلقي الأسس والأعمدة الخرسانية
المسلَّحة لهذه المدرسة، ويُنجِز في رحابها فريقٌ من أعلامٍ مقتدرين
وباحثين جادِّين، قد تختلف رؤاهم ومشاربهم وتخصُّصاتهم الدقيقة،
لكنهم يتفقون في الهدف وفي المنطلقات المنهجية المفضية إليه. توالت
رسائلهم الجامعية وأبحاثهم وكتبهم في هذا الاتجاه، ثم تجمَّعَت روافد
هذه المدرسة إلى حدٍّ ما في برنامج حوار الحضارات الذي اصطنعَته
كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وتحوَّل فيما بعدُ، في العام ٢٠٠٢م
إلى مركز «الدراسات الحضارية وحوار الثقافات»، إثر الضربة التي
حدثَت في أمريكا في أيلول ( سبتمبر) ٢٠٠١م، والتي كشفَت توجُّهاتٍ تفيد
بأن السياسة والعلاقات الدولية لم تعُد محكومة فقط بالمصالح
الاقتصادية وتوازنات القوى العسكرية، بل تدخُل الثقافاتُ والأطرُ
الحضارية كعاملٍ فاعل.
وبالتعاون مع المعهد العالمي للفكر الإسلامي وبرعايته، لا سيما
منذ أن تولى رئاسته د. عبد الحميد أبو سليمان في العام ١٩٩٩م بعد أن
انتهت فترة عمله في رئاسة الجامعة الإسلامية في ماليزيا، يتنامى
عطاء هذه المدرسة، ويحظى بمزيد من التجلي في «مركز الحضارة
للدراسات السياسية»، الذي أنشِئ في العام ١٩٩٧م. وفي النهاية يُمكِن
اعتبارُ محصلاتِ ونواتجِ ومردوداتِ هذه المدرسة، بمعيَّة الجهات التي
أشرنا إليها، تمثيلًا في ميدان العلوم السياسية لتيار التجديد
الإسلامي الجاد، وتنهيض العقلانية في واقعه.
•••
تتبلوَر الأصول المنهجية الإسلامية للعلوم السياسية في مصطلحهم
الأثير:
المنظور الحضاري
الإسلامي، حتى يمكن نعتها بأنها «مدرسة المنظور
الحضاري الإسلامي» الذي هو بالنسبة إلى النموذج الإرشادي العلمي
الإسلامي خصوصٌ لعموم. على أية حال، يتواءم تمامًا معه فيما يخص
العلوم السياسية تحديدًا، ويمثل إضافةً ملموسةً لمسيرة العلوم
الاجتماعية والإنسانية عمومًا. لا مُشاحَّة في المصطلحات كما يُقال،
فهم يُقرُّون بأن «المنظور الحضاري الإسلامي» نموذجٌ إرشادي يُمكِن
تفعيله لقراءة الثقافات المختلفة. ووُضِع له مقابلٌ هو
Civilizational Paradigm،
وجرى تعريفُه بأنه «هيكل الخطاب السائد من حيث النسَق القيمي
والإدراكي الذي ينظِّم التفكير في حقلٍ ما، فيضع نطاقَ هذا الحقل
وحدودَه، ويحدِّد مفاهيمه ورؤاه العالمية ومعتقداته وقيمه ونظرياته».
٤٣ إن المنظور الحضاري الإسلامي يشمل الأبعادَ العقائدية
والعمرانية والمعرفية والبحثية للحياة الاجتماعية والسياسية، ينفتح
على التراث وعلى المعاصرة من حيث تأكيده الرابطةَ بين الماضي
والحاضر، بين القيم والماديات وبين الوحي والعلم؛ فيتفادى ما درجَت
عليه المناهج الوضعية الغربية من تعميماتٍ شديدة تُغفِل أوجه
الخصوصيات الحضارية التي تميِّز مجتمعًا من آخر. ومن دون الانقطاع عن
التراث العالمي، ومع الاستفادة منه، يُمكِن النظر والبحث من خلال
منظورنا نحن الحضاري. أقرُّوا أن الباحث الذي لا يأخذ هذا المنظور
في الاعتبار تغدو أبحاثه ترديدًا أعمى للفكر الغربي، من دون إخراج
علمٍ سياسي أو اجتماعي حقيقي.
وعلى أساس «المنظور الحضاري الإسلامي» أتت جهودهم مدماكًا متينًا
في النموذج الإرشادي العلمي المأمول (المدماك هو الطابق من
البناء)، يشمل فرعَي العلوم السياسية، النظرية السياسية والعلاقات
الدولية.
في
علم العلاقات الدولية تقدم
عبد الحميد أبو سليمان بالبشائر المنهجية الأولية.
٤٤ ثم كانت موضوعًا لأول مشروعٍ بحثيٍّ متكامل أنجزَتْه مدرسة
المنظور الحضاري، وهو: مشروع
العلاقات
الدولية في الإسلام، استغرق عَشْر سنوات (١٩٨٦–١٩٩٦م)
وشارك فيه لفيفٌ من الباحثين، صدَر عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي
في اثنَي عشر جزءًا العام ١٩٩٦م، بإشراف د. نادية مصطفى. ونتوقف الآن
عند إسهامها الذي نجح في تفعيلٍ حيٍّ للنموذج الإرشادي أو المنظور
الحضاري الإسلامي.
تحرصُ نادية مصطفى كثيرًا على الجمع بين الخبرة البحثية والخبرة
التدريسية، وتشير إلى إحساسِ كثيرٍ من طلبة الدراسات العليا — وليس
جميعهم — بشيء من الغربة إزاء طرحِ مداخلَ ومفاهيمَ إسلاميةٍ بعد أن
تمرَّسوا على دراسة العلوم السياسية في إطار النموذج الغربي، فضلًا
عن تشكُّكِهم في الجدوى.
٤٥ وفي تطويرها لمنظورٍ حضاريٍّ إسلامي في نظرية العلاقات
الدولية، تعمل على صياغة نسَق المصطلحات الخاصة به. وتشدِّد على أنه
منظورٌ
مقارِن من أجل تحقيق
التفاعل مع غيره، وتحقيق عالمية الإنتاج والإنجاز العلمي، فتتكامل
نظرةٌ مختلفة للعالم غير تلك الغربية السائدة، لا تنفصل عن
الإنجازات العالمية لهذا العلم، وتُصبِح جزءًا مندمجًا فيه، بعد
تخطِّي الفجوة بين منهاجية العلوم الإسلامية ومنهاجية العلوم
الحديثة، لتوليد معرفةٍ جديدةٍ وإحداث نقلةٍ نوعية وإضافةٍ معرفية.
هكذا يكون المنظور الإسلامي واحدًا من منظورات علم العلاقات
الدولية يتواءم مع تطوُّر منظوراته الكبرى على مدى خمسة وسبعين
عامًا.
وكما أشار بهجت قرني أستاذ العلاقات الدولية بكندا وآخرون،
يستدعي هذا العلم في مرحلته الراهنة منظورًا إسلاميًّا من حيث إنه
يشهد تعدُّدًا في المنظورات المتنافسة، وبات يُولِي اعتبارًا للجوانب
الثقافية للعلاقات الدولية، وباتت الدراسات الاجتماعية عمومًا تهتم
بتفاعلات الظاهرة الدينية وتأثيراتها، بخلاف العوامل المستجدة
— بعضها إيجابي وبعضها سلبي — التي تُعلي من أهمية العلاقات بمجموعة
الدول الإسلامية التي تُغطِّي خُمس سكان العالم، وتضُم بعضًا من أكثر
دول العالم ثراءً ومن أكثرها تسارعًا في معدلات التنمية، وأيضًا من
أعلاها في معدَّلات الفقر ونسب اللاجئين وأنظمة الحكم الفاسدة
والاضطرابات السياسية، بخلاف مثول الخطر الإرهابي الداهم. وأخيرًا
يُلاحظ أن الوصول إلى عالمية علم العلاقات الدولية يفترضُ مشاركة
منظوراتٍ أخرى غير الغربية فقط،
٤٦ التي باتت تتعرَّض لكثير من النقد والتحجيم الآن في عصر
بعد المركزية الغربية وما بعد الاستعمارية. وقد أسَّسَت جامعة طوكيو
في اليابان مثلًا مركزًا لدراسة العلاقات الدولية في الإسلام وما
يُمكِن توظيفُه من التراث الإسلامي في هذا الصدد.
يتأتَّى المنظور الإسلامي للعلاقات الدولية — كما توضِّح نادية مصطفى —
من التقاء ثلاثة خطوط أو مسارات هي: أولًا، الأساس الشرعي،
وثانيًا، المنظومة القيمية، وثالثًا، الخبرات المنهجية للتعامل مع
المصادر المختلفة في العلوم الاجتماعية الحديثة وفي التراث
الإسلامي معًا. إنه ذو أساسٍ قيمي ومنطلقاتٍ شرعية، «سواء أحكام
قاطعة، أو منظومة القواعد والمبادئ والأسس العامة التي أوردَتها
الأصول بشأن العلاقة بين المسلمين وغيرهم وفيما بينهم».
٤٧ العلاقات الدولية واجبٌ شرعي؛ لأن الاتصال بالغير
لتبليغ الدعوة هكذا. ومن المبادئ الحاكمة لهذه العلاقات المساواة
والعدل والوفاء بالعهود وواجب النصرة وأخيرًا مبدأ الولاء والبراء.
إن القيم إطارٌ مرجعيٌّ لدراسة العلاقات الدولية في الإسلام، هي الروح
السارية في البنية المعرفية للرؤية الإسلامية؛ ولهذا فهي مفهومٌ
حضاري، هي «مدخلٌ منهاجي، هي إطارٌ مرجعي، هي نسَقٌ قياس، هي تأسيس
لرؤيةٍ كليةٍ للعالم، هي نموذجٌ إرشادي ومعياري».
٤٨ ليست القيم تجريداتٍ مثالية أو فقط تقريرًا لما ينبغي
أو يجب أن يكون، بل هي اشتباكٌ بالواقع وعمليات تأصيل وتحريك وتفعيل
وتشغيل. ثمَّة علاقةٌ حميمة بين القيمة والممارسة، بين الفكر والعمل
والعلم. وعليه، تقدِّم د. نادية مصطفى منظومةً قيمية من سبع مفردات:
العقيدة الرافعة، الشرعة الدافعة، القيم التأسيسية الحاكمة والقيم
الوسطية والقيم المولدة، الأمة الجامعة، الحضارة الفاعلة الشاهدة،
السنن الشَّرطية، المقاصد الحافظة. وهي تُناظِر ثلاثَ مجموعاتٍ تصنيفية
في النظرة المعاصرة للعلاقات الدولية وهي عناصر: رؤية العالم،
القوى المحرِّكة ومجالاتها، وحدات الدراسة ومستواها. وكل هذا معًا
يطرح المقابلة بين المقاربة التأسيسية التأصيلية التي تجد
حُجِّيتها في المصادر الثابتة، وبين المقاربات الاجتهادية التي تجد
حُجِّيتها في الواقع والإمكانيات المتغيرة (بعبارةٍ أخرى وبشكلٍ ما، بين
الأصالة والمعاصرة). وأخيرًا يبقى التعامل مع المصادر الأصولية
والتراثية والاتجاهات الفقهية في العلاقات الدولية وسد الفجوة بين
العلوم الإسلامية والعلوم الاجتماعية.
٤٩ على هذا النحو تتأتى معالجات في علم العلاقات الدولية
قيمية وواقعية، تأصيلية ومعاصرة، تأسيسية ومنتجة، فيمكنها أن تنتقل
من بناء البديل إلى التشغيل والتفعيل.
•••
ويأتي الإنجاز المنهجي الصافي، حيث الهمُّ المعرفي الخالص
والإضافة النابضة للعلوم السياسية والاجتماعية عمومًا، مع
د. منى أبو الفضل
(١٩٤٥–٢٠٠٨م)، أم الفضل السابغ على العلم السياسي وعلى المنهجية
الإسلامية. كانت عالمةً جليلة، وأيضًا فيلسوفة ميثودولوجية متمكنة.
قدَّمَت رؤيةً منهجيةً متميزة بمنطلقاتها الإسلامية تمتد من النظرية
السياسية إلى النظم السياسية والعلاقات الدولية وأنظمة الحكم،
والتنشئة السياسية والتطور السياسي، ومناهج النقد والتحليل
السياسي، والتاريخ السياسي والدبلوماسي … ويطوِّق مداها المنهجي
العلوم الاجتماعية إجمالًا. وبمنتهى الأناقة المعرفية والرشاقة
المنطقية تنتقل معالجاتها من منهجية العلوم الاجتماعية عمومًا إلى
منهجية العلوم السياسية خصوصًا.
وكشأن نادية مصطفى، كانت منى أبو الفضل أستاذةً في كلية الاقتصاد
بجامعة القاهرة تعلَّمَت من حامد ربيع واندرجَت في مدرسة المنظور
الحضاري. وفي جامعة الدراسات الاجتماعية والإسلامية في الولايات
المتحدة التي أصبحَت فيما بعدُ جامعة قرطبة، عملَت مع إسماعيل راجي
الفاروقي الرائد الذي أمعن في إيمانه بقضية المنهجية الإسلامية،
وقبلًا أسلمة العلوم الاجتماعية. اقترنَت بالشيخ الأصولي المنهجي طه
جابر العلواني الذي رأس جامعة قرطبة،
٥٠ وقد وردَت جوانب من رؤاهما ورؤاها كثيرًا في الصفحات
الماضية. لقد قامت بالجهد الأكبر والأثمن في تنضيد المنهجية
العلمية الإسلامية لمدرسة المنظور الحضاري، «فانتقلَت بفورة الجدل
حول موضع التراث من خطابات الأصالة والمعاصرة إلى حالةٍ منهجية
علمية منظَّمة ذات ارتباطاتٍ مباشرة بواقع الأمة ومستقبلها من ناحية،
وبحالة مراجعة العلم من منظوراتٍ حضارية (أو نماذج إرشادية) من
ناحيةٍ أخرى.»
٥١ وكان مشروعها بحقٍّ مسيرةً رائدة، نطاق اجتهاد وميدان
جهاد ومعالم تجديد.
٥٢ ويحق لنا أن نُنهي الحديث بعرضه ومناقشته، كمسكِ الختام
وآيته حين البحث عن المنهجية العلمية الإسلامية والنموذج الإرشادي
العلمي الإسلامي. والحق أنه مسكُ الختام كبلورةٍ مستصفاه مما سبق،
بقَدْر ما كان من العوامل الشاحذة أصلًا. فما هي معالم هذا المشروع
اللافت؟
أعرضَت د. منى عن أسلمة العلم والتفتَت إلى ما هو عند الله وعند
الناس خيرٌ وأبقى؛ أي أسلمة المنهجية. وانكبَّت على تطوير «المنظور
الحضاري الإسلامي»، تضع النقاط على الحروف باعتماد الرؤية
التوحيدية إطارًا تنظيميًّا يجعل التزكية والعمران مقصدًا مولدًا
للمُثل العليا، والأخذ بالوحي كمصدرٍ معرفي يتفاعل ويتكامل مع
الطبيعة ومع العالم الإنساني، بمعية تراث النبوة الذي كان تأويلًا
وتطبيقًا للنص القرآني، والتراث الإسلامي الممتد على طول الحضارة
الإسلامية كحصيلة تفاعُل العقل المسلم سلبًا أو إيجابًا مع هذَين
المصدرَين. تؤكِّد أن النص القرآني لم يكن تجميعًا لنصوصٍ محفوظة؛ إنما
هو جمع آياتٍ التحمَت عَبْر لحظاتٍ متدافعةٍ في مواقعَ متجدِّدة وبأغراضٍ
توجيهيةٍ معلومة، سواء كان هذا التوجيه بالإعمال أو بالإبطال. ولا
بد من مثول مسافةٍ فاصلة وحاسمة بين القرآن وسائر النصوص التراثية
الأخرى، وبين المصادر الأصلية أي القرآن والسنة والمصادر المشتقة
وهي التراث الذي تخلَّق عن تفاعُل العقل البشري والواقع الإنساني
معهما، فضلًا عن الخبرة التاريخية المتراكمة ومعطيات الواقع
الإسلامي الماثلة. وبهذه الخطوط التي تُلخِّص ما أسلفنا تفصيلَه، تؤكِّد
د. منى أن المنهجية العلمية الإسلامية المتوائمة مع مصادرنا
التراثية خير ضمان لتأمين مسار الخطاب العربي العلمي المعاصر، وأن
هذا يعني طرحًا لمنهاجية العلوم الاجتماعية يشمل أسسها وخصائصها
ووظائفها الوصفية والتفسيرية، بل وحتى التطبيقية، من حيث يؤكِّد
التكامل عبر التفاعل بين محاور ثلاثة: (١) مصادر المعرفة وأنماطها،
(٢) إطار النظام الاجتماعي، (٣) العلاقة بين الفكر والممارسة. ويتمثل
التفاعل والتكامل في تبادل التأثير والتساند بين ثلاثة خطوط هي:
التصالح، وإعادة الاعتبار، وتحقيق التكامل فعليًّا. فثمَّة التصالح
بين العقل والوحي، حين يُعاد الاعتبار إليه كمصدرٍ أصيل لتوجيه
المعرفة، في هذا يحلُّ التكامل بين الأطراف محل المواجهة بين
الثنائيات الاستقطابية التي تُشرذِم البحث الاجتماعي. وأخيرًا، على
صعيد محور العلاقة بين الفِكر والممارسة يتم إلقاءُ الضوء على نتائج
صياغة النظرية الاجتماعية، بحيث تتكامل الأبعاد المحسوسة وغير
الملموسة، النفسية والعقلية، المادية والمعنوية، العاطفية
والإدراكية في النظر الاجتماعي العمراني بهدف الوصول إلى نظرية لها
صدًى في واقع الحال، وتأتي بمردودها في تقويم الممارسة.
٥٣
وفقًا لهذه المنهجية ينطلق الباحث في العلوم الاجتماعية من
مسلَّماتِ حقله التخصصي ومن مسلَّمات حضارته وتراثه معًا. توضِّح د. منى
أن الباحث لن يرقى إلى مستوى التنظير الإسلامي إلا إذا توافَر له
إلمامٌ بالثقافة الإسلامية ورؤيةٍ إسلاميةٍ سوية تمثِّل قاعدةً معرفية،
بالإضافة إلى منطلقات حقله التخصُّصي. بتحقيق هذَين الجانبَين معًا
تتكامل الرؤية العلمية وتمثِّل إضافةً حقيقية، فيكون الباحث «مجتهد
التخصُّص» حيث البُعد التراثي تحرُّرٌ من سلطان التخصُّص الدقيق الأعمى
والمقيد للحركة، ليتوافر قَدْر من المرونة الذهنية والحَراك العقلي،
من أجل توسيع رقعة التعقُّل والتدبُّر، ولا يعود التقويم النهائي
منوطًا أولًا وأخيرًا بمسلَّماتٍ جاهزةٍ صلبة.
وهذا يعني أن البحث العلمي في الظواهر الإنسانية، خصوصًا، ينبذ
الحياد الأعمى والموضوعية الموهومة والتي أثبت تطوُّر الفكر العلمي
أنها مستحيلة كما أسلفنا، ويصادر على قَدْر من «التحيز الحضاري» أسهب
في معالجته عبد الوهاب المسيري وآخرون. وتؤكِّد منى أبو الفضل أن
التحيز الحضاري مناط و«شرط للاستشراف العلمي، وهو الذي يمهِّد لدقة
الرصد، ويشحَذ قريحة التفاعل والتتبع في وسط المجهول الذي هو ليس
بالغريب، وهو الذي يحفزُ الخيال المبدع الذي يتجاوز التلقِّي إلى
سَبر الغَور، والقراءة لما بين السطور ووضع النقاط على الحروف عند
تحرير المعاني واستخلاص الدلالات».
٥٤ وعلى هذا النحو يتوفر للباحث المسلم النازع لتفهُّم ووصف
وتفسير ظواهر الحضارة الإسلامية مداخلُ للفهم والتحليل والنقد، لا
يلتفت إليها باحثٌ لم ينتمِ إلى الأمة ولم يلتزم بقضاياها؛ فلم
يلتفِت بالتالي إلى آثار خصائصها الذاتية؛ وعلى رأسها صلةٌ لا تنفصم
بالوحي الإلهي. وتؤكد د. منى تأكيدًا أن الباحث الذي يستحضر تلك
الخصائص الذاتية للأمة هو الأقدَر على التفسير السليم والأقرب إلى
الصواب لتاريخها ولواقعها.
•••
وعلى هذه الأسس تقوم منهاجية البحث في العلوم السياسية ومنظورها
الحضاري الإسلامي. تؤكِّد منى أبو الفضل من جانبها أن المقصد المنهجي
هو علم السياسة فقط وليس العمل السياسي، وتراه في جوهره علم
السلطة، السلطة هي القوة في المجتمع، والمرجع النهائي في أمور
الجماعة، فتحتل السياسة موقعًا رئيسًا في العلوم الاجتماعية. وفي
تحليلاتٍ مقنعة، لا يشوبها إيجازٌ مُخِلٌّ ولا إسهابٌ مُمِلٌّ، أوضحَت
د. منى أن نشأة علوم السياسة الحديثة مع المنعطف الذي شكَّله
ميكيافيلِّي في القرنِ السابعَ عشرَ لم يكن محوره الفصل بين السياسة
والأخلاق كما هو شائع، بل محوره
التحام مع
الواقع وغلبة المنهج التجريبي الذي أصبَح شعار العصر
كما بيَّنَّا في حينه … هو اختلاف العلاقة بين دائرة الفكر والخطاب
السياسي ودائرة الواقع والوقائع والأحداث السياسية. في العصور
القديمة والوسيطة حيث سيادة المقاربة الفلسفية التأملية كانت
الأولية والأسبقية للدائرة الأولى — دائرة الفكر أو الخطاب — التي
تتعامل مع الثانية، وهي دائرة الواقع والوقائع كدائرةٍ كُلانيةٍ
مُصمَتة، هي موضوع للمعياريات. مع نشأة الفكر السياسي الحديث في
العصور الحديثة تشكَّلَت «معالم منهجية جديدة تتبنى استقراء الواقع،
وبقَدْر تفاعُلها معه تأتي النصوص المعالجة بالتشخيص والمراجعة»،
٥٥ وانفتح الباب لمعالجة الظاهرة السياسية من منطلقات
المشاهدة والوصف القابل للتفسير والتعليل والتحليل والتفكيك، ثم
التشخيص والتقرير. وعلى هذا النحو الذي يجعل التجريبية روح العصر
وليس مجرد منهجٍ للعلم تشكَّلَت قيم الحداثة الأوروبية. وكما فصَّلنا في
الجزء الموسوم باسم «المنهج التجريبي والحداثة» (في الفصل الثاني)،
كانت التجريبية هي روح العصر ومناط أيديولوجيته. وتأتي محورية
الثورة الفرنسية، كما تشير د. منى في قراءة قيم الحداثة من حيث
إنها مثَّلَت «الالتحام والمجابهة بين الأطراف الاجتماعية المعنية في
لحظةِ تحوُّلٍ تاريخية اقترنَت بوعيٍ خطابيٍّ جديد في نسيج التراث الفكري
الغربي، وهو الوعي الذي دُشِّن في سجلات أصحابه باسم «الخطاب
الأيديولوجي»؛ حيث تداخلَت فيه العلاقة بين عالم الفكر وعالم
الحركة، عالم القيَم والمُثل وعالم الواقع والحدث، متخذة شكلًا
جديدًا تولَّدَت منه منظومةٌ معيارية للحكم على الأفكار كصناعة
ومزاولة، قوامها الجدوى والمنفعة ومحكُّها موقع الفكرة من الحدث
والواقع، ومدى ارتباط الفكرة بالموقف والمصلحة. وفي هذا السياق
الصاخب — بتعبير د. منى — تولَّدَت علوم الإنسان والاجتماع الحديثة
كمحصلة، وكشاهد على المفارقة النوعية بين الخطاب التأملي والخطاب
الحركي العلمي الحديث. وهي المفارقة التي تولَّدَت حولها روافدُ خطاب
التنوير الأوروبي، حيث اقتصرَت عناصر التقويم على المقاييس الواقعية
المادية البحتة، وصار هذا الخطاب يبدو وكأنه خيارٌ عالمي يفرض ذاته
على كل راغب في التحديث والتقديم. ويعنينا من أمره الآن أنه هو
ذاتُه خطابٌ يشهد على أن نقطة الافتراق الحداثية في الفكر السياسي لا
تكمن في الانفصال عن الأخلاق بل في الارتباط بالواقع
٥٦ وعلى هذا الأساس، ينبغي أن يأتي الاستيعاب والتجاوز
لتجربة الحداثة التي تخلَّقَت في أوروبا. التجاوز يرتكز أساسًا في
متابعة المستجدات العالمية وثوابتنا الحضارية؛ حيث يعني هذا وذاك
أن تناول الظواهر الاجتماعية تناولًا علميًّا والنزول إلى واقعها
تجريبيًّا فيما يسمى بالواقعية العلمية لا يشترط قبلًا تحييد
القيم، بل لا بد من تفعيلها وتوظيفها، كتفعيل وتوظيف مفهوم
التحيُّز.
•••
وعلى أساس هذه المقدمات قبل-المنهجية، تترسم معالم المنهجية
العلمية الإسلامية متألقة في صياغة منى أبو الفضل لها، مرتكزة إلى
أربع ركائز أو محددات، هي في جوهرها تنضيد وتوطيد لمعالم مدرسة
المنظور الحضاري أو للنموذج الإرشادي في العلوم السياسية: ثمَّة،
أولًا، المنظور الحضاري ذاته، وثانيًا، الإطار المرجعي، وثالثًا،
النسق القياسي، ورابعًا، بناء المفاهيم. وفي تساندها وتكاملها ثمَّة
عقدةٌ منهجيةٌ ماثلة لا بد من اقتحامها تحقيقًا للوثبة الحضارية.
العقدة المنهجية كما ذكرنا في التوطئة، هي القدرة على التمييز بين
عمليتَين أو مستويَين في مصادر التنظير لبناء أدوات التخصص ومجاله،
وهما بناء المفاهيم، ثم بناء الإطار المرجعي الذي تنتظم فيه هذه
المفاهيم، «الاختلاف ليس اختلاف درجة ولكنه اختلاف نوع».
٥٧
المنظور الحضاري يفرض
إطارًا
مرجعيًّا، مستمَدًا من التصور الإسلامي، كإطار للفعل
المعرفي وللفعل الحضاري إجمالًا، «فلكل فعلٍ حضاري منظومةٌ قيمية
تشكِّل البواعث والمنطلقات والدوافع والأبعاد المعنوية لهذا الفعل
وأهدافه، وهي عادةً ما يُطلَق عليها «الثقافة». كما أن لكل فعلٍ حضاري
قاعدتَه البشرية التي تحمل هذه المنظومة القيمية وتتفاعل من خلالها
البيئة عبر الزمان والمكان.»
٥٨ يحمل الإطار المرجعي المنظومة القيمية وتفاعلاتها،
ويمكن أن يُضاف ركن المقاصد والغايات كدعامةٍ مستقلة في المنظومة
النسَقية، وتخصيص ركن الاستخلاف.
ومن الناحية المعرفية ومناهج البحث العلمي في مجال السياسة، فإن
الإطار المرجعي يؤسس لإعادة بناء المدركات والمفاهيم والقيم بشكلٍ
واعٍ منطقي وممنهج، يردمُ الفجوةَ بين العناصر الإسلامية الكامنة في
الوعي وفي اللاوعي، وبين واقع البحث العلمي المعاصر. إن الإطار
المرجعي هو وسيطُ التعامل مع مصادر التنظير، وناظم لجملة المفاهيم
والقيم الفعَّالة في المجال المنهجي، يعمل على وضع الجزئي في إطار
الكلي، فيحفظ وحدة فروع البحث المتخصِّص ويربطها بالرؤية الكلية،
إدراكًا لأهمية التجانس والتوافق الداخلي.
وينضبط الفعل البحثي الممنهج داخل الإطار المنهجي بفعل المرتكز
الثالث وهو «
النسق القياسي» الذي
يبدو ضروريًّا لإحكام منهاجية التحليل السياقي، خصوصًا إذا تذكَّرنا
أن النموذج الإرشادي قياسي أيضًا، وربما قبلًا. «النسق القياسي»
بدوره يعني عناصرَ جوهرية ومحورية وأساسية لا مندوحة عنها، حتى تمثِّل
محكًّا قياسيًّا، يُمكِن عن طريقه أو من خلاله تحديد مدى الاقتراب أو
الابتعاد عن المنظور الحضاري الإسلامي. هذا بدلًا من محكَّات من قبيل
شرعي أو غير شرعي. منى أبو الفضل ترفض التوظيف الأيديولوجي للدين
في مجال البحث العلمي، ولكنها من قبلُ ومن بعدُ ترفض طبعًا إقصاء
الحضارة الغربية التام للوحي وللألوهية من المجال المعرفي؛ فهذا في
المنظور الحضاري الإسلامي مناقضٌ للواقع وللمثال على السواء. وعلى
أساس «النسَق القياسي» تنضم في المنظور الحضاري كل الدراسات
المتعلقة بالعالم الإسلامي بما فيها النظم السياسية العربية،
لتأتلف معًا. هكذا تُعدُّ الأنساق القياسية «بمثابة خرائطَ أساسيةٍ
لا غنى عنها للإحاطة بالملامح العامة لفضاء التعامُل المعرفي السوي
مع التراث الإنساني برافدَيه الإسلامي وغير الإسلامي، بالامتثال
لثقافة القرآن.»
٥٩
•••
ويبقى بناء
المفاهيم التي
تنتظم في الإطار المرجعي، وفقًا للنسق القياسي، تحقيقًا للمنظور
الحضاري. إن المفاهيم هي اللبنات التي تؤسس للمنهجية. العمل
المنهاجي لا بد أن يقوم على أساس من تأصيل المفاهيم، التي هي أكثر
التحامًا بالجزئي والعيني والوقائع الإمبيريقية وواقع الحقل
العلمي. ميَّزَت د. منى بين المفاهيم الكلية الإطارية التي تمثل دعائم
منهجية، والمفاهيم المحورية التي تمثِّل مجال التخصُّص، والمفاهيم
الفرعية التي تمثِّل حقل البحث المعيَّن. المفاهيم الإطارية «كلياتٌ
جامعة متراتبة حاوية لجملة من المفاهيم الفرعية، معبِّرة عن
المنظومة القيمية الاعتقادية الإسلامية، ذات قابلية لاستيعاب
وتوليد مفاهيمَ جديدةٍ مترابطة فيما بينها، ومتشابكة مع المفاهيم
الفرعية المتولدة منها».
٦٠ وثمَّة مفاهيمُ كليةٌ معيارية، على رأسها العدالة والجهاد
(وهو بذل أقصى الجهد في كل مجال وليس في الحرب فقط) اللذان يجسِّدان
الوعي الإسلامي في الواقع، ثم الاستخلاف والأمانة والشرعة والتدافع
والتعارف والنصيحة، ومفاهيم كلية مقيدة تمثِّل عموميات التخصُّص مثل
الأمر والنهي والطاعة والولاية والقضاء، ثم مفاهيم فرعية لحقلٍ بحثي
معيَّن من قبيل الشورى والإصلاح.
وبخلاف الأهمية المنهجية للمفاهيم، تجدر الإشارة إلى بحث لمحمد
صُفَّار، تناول المفاهيم في مشروع منى أبو الفضل من زاويةٍ أبعدَ من
الطرح المنهاجي للعلوم السياسية، وأشمل من منظور العلوم الاجتماعية
إجمالًا، ألا وهو النظر إلى مشروعها من حيث هو منبثقٌ عن رؤية
لإشكالية العلاقة بين الشرق والغرب التي هي من أمهات إشكالياتنا
الثقافية الحداثية، وردَت معالم هذه الرؤية في عملٍ لمنى أبو الفضل
يبحث عن نقاط التقارب بين الشرق والغرب.
٦١ يجعل صُفَّار موقف منى بديلًا ثالثًا لموقفَين يمثِّلهما
طه حسين الذي آمن بأن الشرق والغرب كليهما انبثاقان لعقليةٍ متوسطية
واحدة تدين للأصول الإغريقية، وموقف محمد حسين هيكل الذي رأى أن
احتكاك الشرق بالغرب سوف يولِّد شرارةً تجعل الشرق يبني حضارةً
جديدة. أما موقف منى فهو حدْس اللحظة أو أنطولوجيا الحاضر حيث
استلهام احتياجات الحاضر الملحَّة للأبعاد الروحانية. وتشير مقاربة
صُفَّار إلى أن منى كتبَت أعمالًا هامة باللغة الإنكليزية، ودخل في
تحليلٍ متعدد الطبقات لقدرتها على مواجهة تحدٍّ رئيس وهو استخدام
اللغة السائدة من دون الوقوع بأشراك قواعدها التي ترسِّخ هيمنة
الغرب. هنا تصبح اللغة أداةً لتحقيق غرضٍ استراتيجي للدعوة الجديدة
أو البديل الثالث الذي يمثِّله موقف منى، ألا وهو إحداث تغييراتٍ
مؤثِّرة في بنية العلاقة بين الشرق والغرب، بما يحطِّم هيمنة الغرب
ويكسر احتكاره عملية التخصيص السلطوي للقيم.
٦٢ ويسهُل تبيان كيف أن نحت وبناء وصياغة
المفاهيم الموائمة يسهم في تحقيق هذا
الهدف الاستراتيجي، مثلما يسهم في تحقيق الأهداف المنهجية.
يصدِّق على هذا، ويؤكِّد قدرة المفاهيم على القيام بالوظيفتَين
الثقافية والمنهجية، ذلك المفهوم الرئيس والمحوري الذي أسرفَت منى
في خدمته وصياغاته، ألا وهو مفهوم «الأمة».
•••
وإذا كانت المفاهيم هي لبنات المنهجية، فإن مفهوم «الأمة» بالذات أكثر من لبنة؛ فهو
مدماك، ولعله في الأساس؛ لذا يحمل أكثر من سواه إيجابيات معالجة
منى أبو الفضل من حيث النسَقية القياسية، مثلما يحمل سلبياتها التي
تجعل من الضروري البحث عن موضع الدولة القومية، التي نراها نحن
دائمًا في سويداء القلب من حيث إنها الوطن.
الأمة، كما تقول منى، هي أم الكيانات الجماعية التي عرفَتها هذه
المنطقة الحضارية، والأمة قبل الإمام وقبل الإمامة؛ فلو لم تكن
الأمة لما وجب مَنْ يؤمها، أو لما بحثوا عن إمام لها. وهي تقدِّم
تعريفًا للأمة الإسلامية خصوصًا بأن الرابطة الدينية العقائدية هي
الأصل في منشأ ومفهوم الأمة. وكما أشرنا، لعل مدرسة المنظور
الحضاري قد لا ترحِّب بالدولة القومية كوحدةٍ أولية، كما هو شائع بين
التوجُّه الإسلامي بشكلٍ عام، على الرغم من أن حامد ربيع كان قوميًّا
عروبيًّا أصيلًا، والأهم، على الرغم مما يمثِّله مفهوم القومية
«العربية» بالذات من قوةٍ ضامة ورابطةٍ لمجموعة الدول العربية التي
هي أحوجُ ما تكون للترابط والتكامل فتغدو قلبًا وهَّاجًا للأمة
الإسلامية التي هي بدورها أفقٌ حضاريٌّ ماثل للقومية العربية. منى أبو
الفضل من جانبها تُهاجِم القومية بضراوةٍ متطرفةٍ في بعض الأحيان، وغير
مقبولة أبدًا، حتى تزعُم أنها إبادة للتعددية! وأنها في تدريسها
لمادة «النظم السياسية العربية» وجدَت «القومية» محاطة بالتباسات
واستحالات لا مخرج منها إلا بالتعويل على مفهوم «الأمة الإسلامية»
بدلًا من القومية العربية. أليس في هذا إقصاء، بينما نبحث منذ
البداية عن تكامل بدلًا من الإقصاء والاستبعاد؟!
على أية حال، فإنه جريًا على التمييز بين العام والخاص أو
المشترك والمتفرد، توضِّح أبو الفضل كيف تجمع الأمة الإسلامية بين
عناصر تشترك فيها مع غيرها من الأمم والجماعات السياسية، وبين
عناصر تميِّزها أو تنفرد بها «بحكم تمايز النشأة أو قاعدة التأسيس
والتكوين، أو بحكم ثوابتَ كامنةٍ أو وظيفةٍ حضاريةٍ مستبطنة»؛
٦٣ لتكون دراستها في ضوء النسبي والمطلق، أو الثابت
والمتحوِّل. الأمة الإسلامية لا تقوم على عرقية أو إثنية أو
إقليميةٍ جغرافية، بل على دعوى ورسالةٍ توحيدية تجمع التعدُّدية وتنفتح
على الاختلافات النوعية لتكون غير إقصائية (فلماذا إقصاء القومية
العربية؟). وكحقيقةٍ تاريخية أو كواقعٍ تاريخي، وجدَت منى أن الأمة
نظامٌ إسلامي اجتماعي وسياسي متكامل تمثَّل في شريعةٍ سماوية طُبقَت على
حيز جغرافي ممتد شكَّل دار الإسلام وسكنَتْه شعوبٌ وقبائلُ متباينة
الأصول يحوطها سياج العقيدة. تعترف بأن مفهوم الأمة الإسلامية قد
تماهى في الواقع السياسي المعاصر وكاد يسقط في الوعي الباطن ويقتصر
على وضع رباطٍ عاطفي لا يقدِّم ولا يؤخِّر، لكنها توضِّح أن طرحه وبعثه
ليس حنينًا لماضٍ تاريخي، بل هو دعوة إلى الواقعية والالتزام في
المنهاجية، من حيث إنه ينطلق من الكيفية التي ينبغي أن نُعالِج بها
الموضوعات الإسلامية، وعلم السياسة لا يسعه أن ينعزل عن واقع
مجتمعه أو يهرب من تحدياته. وفي المجتمع الإسلامي مفهوم الأمة له
أبعادٌ وجودية كيانية تجعل من الضروري أن نُعيد النظر فيه تمحيصًا
لحقيقة هويتنا كهويةٍ حضارية وثقافية متميِّزة بين الهويات أو
الكيانات الأخرى، ذات أبعادٍ حضارية ممتدة تكفل لها المعاصرة الآنية
مع الاستمرارية التاريخية.
٦٤
هكذا يمكن القول إن المنظور الحضاري الإسلامي بات تمثيلًا للأمة
الإسلامية. على أن منى أبو الفضل تبحث أمرها أساسًا بوصفها
«
الأمة القطب»، وهذا مصطلحٌ
أثير لديها وضعَت له مقابلًا
The Charismatic
Community٦٥ ربما كان مصطلح «القطب» الذي تُصرُّ على إضافته
مصطلحًا صوفيًّا يعني مركزًا للاستقطاب والتأثير. وهذا معنًى
مُستحضَر وماثِل، ولكنه هنا علمي، أمكن تحويله من مفهومٍ عقائدي
تراثي إلى مفهومٍ منهجي إجرائي في البحث السياسي، حيث بات يعني أن
الأمة الإسلامية، ليست مجرد أمة بين الأمم، بل «أمة قطب» ذات قدرةٍ
استقطابية، تؤدي إلى وحدةٍ جدلية من تماسكٍ داخلي ثم انفتاح للغير
على المستوى الخارجي. تجمع بين الفاعلية والشرعية، فلا تفقد
إحداهما أو كلتَيهما.
الأمة القطب في رؤية منى أبو الفضل، هي الكيان الجماعي المميز
الذي أحرزَته العقيدة التوحيدية، هي وعاء الاستخلاف وأداته. قلبُها
عقيدة التوحيد وسياجُها شريعةٌ جامعة تقوم على الحق والعدل. وتلتقي
عناصر المفهوم حول خصائصَ مشتركة. الصفة أو الخاصة المركزية هي ما
أقرَّه القرآن الكريم من أنها «أمة وسط». المجال الإسلامي الممتد من
جمهوريات آسيا الوسطى إلى المغرب يمثل جغرافيًّا المنطقة الوسطى في
العالم أو هو بتعبير د. منى القارة الوسيطة. على أن الوسطية ليست
حيثيةً مكانية، أو وضعًا بين طرفَين كما هي منذ أرسطو، بل هي مشروعٌ
حضاري لأمةٍ ذات رسالة. أمة تَعلم وتُعلم أن التعدُّد على أشكاله سنة
وآية، وأن العبرةَ في أي نظام هي بانفتاحه على الاختلافات النوعية.
فلا تحمل الأمة الإسلامية … الأمة القطب أي طابعٍ إقصائي، لقد اتسعَت
وتتسع للملل والأعراق والأجناس جميعًا، ثم هي مصدر للتوازن
والاعتدال بين القيم الفردية والقيم الجماعية. وكانت الأمة القطب
في عناصرها وخصائصها — بتعبير د. منى البليغ — ضاربة الجذور باسطة
الفروع على مدى الأبعاد الذاتية والموضوعية، المعنوية والمادية،
مرتكزة في تماسُكها على عقيدةٍ إيمانية شاملة، مصدرها رباني، ومجالها
أوجه الحياة الدنيا كافة، فتصل بين الدنيا والآخرة، وتتمثَّل في وحدة
القيم والمشاعر والمدارك والآمال التي تولَّدَت عن العقيدة، وفي خبرة
تجد لها ضابطًا في تأطير السلوكيات الناجمة عنها حتى تنتظم العلاقة
بين الماديات والمعنويات، والظاهر والباطن، والأفعال والاتجاهات.
وتبرز العقائد والعبادات على المحور الرأسي لتصير ركائزَ لعملية
الاستقطاب داخل الجماعة، وتُمارِس العقيدة وظيفتها في تنشيط خصائص
«الأمة القطب» وكمصدرٍ لتماسُك الكيان الذاتي للفرد، وتحضُّ على التآلف
والاعتصام بحبل الله. إنه التوحيد الخليق بأن ينتهي إلى الوحدة.
٦٦
هكذا تتكامل المعالم المنهجية حتى تكاد تمثِّل خطةً استراتيجية تُرشِد
العمل البحثي، فتنتهي أبو الفضل إلى خطواتٍ مقترحةٍ للبحث العلمي،
تبدأ بتحديد جملة من مصطلحات التخصُّص، والكشف عن مواضعها في المصدر
المنشئ؛ أي القرآن الكريم، ثم عملية فرز وتصنيف لهذه المفردات
المفهومية وفقًا لمعايير يمكن استقراؤها من الموضعي ومن واقع
الممارسات ذاتها، وليس افتراضها مسبقًا. هدف هذه الخطوة الإقدام
على تخريج الأنماط واستنباط النماذج والأنساق التي يمكن أن تتألف
لتشكِّل قاعدة الانطلاق في مجال التنظير. وتأتي المرحلة التالية في
التعامل مع الفروض المطروحة والمفاهيم والنماذج المقدَّمة … وهي
مرحلة الاختبار … أو التنزيل على الواقع التاريخي
٦٧ … للأمة القطب.
«الأمة القطب» مفهوم لا يُوجَد ما يعادله في الغرب، لا في الخبرة
التاريخية ولا في العلم السياسي. أما في الحضارة الإسلامية فهو
مفهومٌ يجمع بين التجربة والتصوُّر، بين المثالية والواقعية. فيجسِّد
حرص منى أبو الفضل على تفعيل فكرة الأنساق
المتقابلة في علم السياسة، ليكون النسَق المعرفي
الإسلامي نسقًا بديلًا، لا هو وضعي أو مادي أو ماركسي أو
فينومينولوجي … بل إسلامي مقابلًا للنسَق المعرفي الغربي.
يرى البعض أن أبرز إسهامات منى أبو الفضل هي فكرة الأنساق
المعرفية المتقابلة، المقترنة بالمنظورات والنماذج الإرشادية
المتعدِّدة، والتي تنطلق من إمكانية ودواعي البديل للنموذج الغربي
المهيمن. ولكن منذ الجزء الأول في الفصل الأول اتضح أن الأنساق
المتقابلة ترفَع لواءها الآن في الفكر الغربي ذاته تعدُّدية منهجيَّة
وتعدُّدية ثقافية اقترنَت بنقض مركزية المركز الغربي. وكما أوضحنا،
كان هذا نتاجًا للفكر بعد الحداثي بعد الاستعماري، هو تيارٌ نقدي
للإمبريالية والمركزية والوضعية.
ربما استبَقت د. منى هذه التيارات القوية الجزلة العطاء، وربما
تفاعلَت مع إرهاصاتها وبوادرها، وربما استوعبَت معالمها. قضت منى في
أوروبا وأمريكا أكثر مما قضته في مصر، ولم تكن أبدًا من دعاة
الانغلاق. بل حملَت لواء المثاقفة، وبحثَت في سبل التداخل والتحاور بين
الحضارات، بمنأًى عن الاستعلاء وطمس الخصوصيات الحضارية، والمركزية
التي تسعى إلى إذابة الثقافة التابعة في إطار الثقافة المتبوعة.
بدلًا من الإذابة والإلغاء والاحتواء، ثمَّة التثاقُف والتفاعُل
والتداخُل، المعبِّر عن الحوار الخلَّاق بين الحضارات. وعُنيَت د. منى
بالتمهيد للتثاقف من خلال تفعيل مداخل التقويم والترشيد. وقدَّمَت
نموذجًا حيًّا لهذا في تفاعلها مع النسوية والفكر النسوي.
•••
النسوية من أبرز تيارات الفكر
بعد الحداثي الناقد وأعلاها صوتًا. وقد طُرحَت فلسفةٌ نسوية ظهرَت منذ
سبعينيات القرن العشرين، وأصبحَت من أبرز تيارات الفلسفة في القرن
الحادي والعشرين، وكانت فلسفتُها للعلوم والميثودولوجيا العلمية
إضافةً متميزةً حقًّا.
٦٨
قامت الفلسفة النسوية من أجل رفض مطابقة الخبرة الإنسانية
بالخبرة الذكورية ورفض اعتبار الرجل الصانع الوحيد للعقل والعلم
والفلسفة والتاريخ والحضارة جميعًا، وتجدُّ لإبراز الجانب الآخر
للوجود البشري الذي طال قمعُه وكبتُه؛ فتعمل على خلخلة تصنيفات البشر
إلى ذكورية وأنثوية بما تنطوي عليه من بنيةٍ تراتبية سادت لتعني
الأعلى والأدنى، المركز والأطراف، السيد والخاضع، امتدَّت في الحضارة
الغربية من الأسرة إلى الدولة إلى الإنسانية جمعاء، فكانت أعلى
صورها في الاستعمارية والإمبريالية. وكما تقول لورين كود الظلم
الذي نراه في معالجة أرسطو للنساء والعبيد هو عينُه الظلم في معالجة
شعوب العالم النامي، إنه تصنيف البشر والكَيل بمكيالَين.
وكما أوضحتُ في أكثر من بحث وكتاب لي، تعمل الفلسفة النسوية على
فضح ومقاومة كل هياكل الهيمنة وأشكال الظلم والقهر والقمع، وتفكيك
النماذج والممارسات الاستبدادية، وإعادة الاعتبار للآخر المهمَّش
والمقهور، والعمل على صياغة الهوية وجوهرية الاختلاف، والبحث عن
عملية من التطور والارتقاء المتناغم الذي يقلب ما هو مألوفٌ ويؤدي
إلى الأكثر توازنًا وعدلًا. إن الفلسفة النسوية أعمقُ من مجرد
المطالبة بالمساواة مع الرجال. فلا بد من إعادة اكتشاف النساء
لأنفسهن كنساء، لذاتهِن المقموعة، وإثبات جدوى إظهارها وإيجابياتها
وفعالياتها، وصياغة نظرية عن الهوية النسوية.
وقدَّمَت الفلسفة النسوية في هذا ما تفاعلَت معه منى أبو الفضل، وما
يتلاقى أصلًا مع المنظور الحضاري (= البراديم الإسلامي) تلاقيًا لا
يمكن إغفاله؛ ذلك أن فلسفة العلم النسوية كانت أكثر من سواها
استجابةً للثورة التي أحدثَها توماس كُون، وعملَت على تفعيل وتشغيل
مقولة البراديم من أجل إبراز الوجود النسَوي والقيم
الأنثوية.
لقد انفردَت الذكورية بالميدان. وحمَل هذا الانفراد انحيازًا في
الرؤية وسلبياتٍ أبرزها انطلاق العلم الحديث بروح الهيمنة الذكورية
والسيطرة على الطبيعة وتسخيرها، مما تمخَّض عن الكارثة البيئية،
واستغلال قوى العلم المعرفية والتكنولوجية في قهر الثقافات والشعوب
الأخرى … ترفُض فلسفة العلم النسوية التفسير الذكوري الوحيد المطروح
للعلم، وهو أساسًا التفسير الوضعي المادي، وتحاول تقديم
ميثودولوجيا نسوية تعمل على إبراز وتفعيل جوانب ومجالات وقيم
مختلفة خاصة بالأنثى، كالعاطفة والخيال وعمق الارتباط بالآخر
والرعاية الطويلة المدى، كلها جرى تهميشُها وإنكارها والحط من شأنها
في عالم العلم، بحكم السيطرة الذكورية، ويجب أن يُفسح لها المجال
لإحداث توازنٍ مأمول يجعل العلم أكثر إنسانيةً ومطابقةً للاحتياجات
الحضارية الراهنة.
تنزع فلسفة العلم النسوية إلى أن تكون تحريرية، تمُد علاقة بين
المعرفة والوجود والقيمة. وارتكزَت على ثلاثِ دعائم هي: المنظور
(Perspective)، والموقف
الاستشرافي النسوي (Feminist
Standpoint)، والتجريبية النسوية
(Feminist Empiricism) التي هي
تجريبية بعد-كونية تؤكِّد دور الذات ودور المهمَّشين. وعن طريق هذه
الأسس الثلاثة يعمل المنظور النسوي على استحضار القيم الأنثوية
لإحداث تكاملٍ منشود بين الجانبَين الذكوري والأنثوي، مثلما يعمل
«المنظور الحضاري» في مدرسة العلوم السياسية على التكامل بين
الثوابت والمتغيِّرات، بين خصائصِ التجربة الحضارية الإسلامية
ومنطلقات البحث المنهجي العلمي. وهذه أولًا وقبل كل شيء، قضية منهجٍ
علمي وأسلوب للمقاربة، فلا يزعجنا أن النسوية في تمثيلها للفكر
الغربي قد تجسِّد أحيانًا، معالمَ غربيةً صارخة في مناقضتها للقيم
الإسلامية؛ فالغرب على أية حال هو الآخر الثقافي. والأجدى أن نتوقف
عند منزع النسوية النقدي بعد الحداثي وبعد الاستعماري، أو حتى
منطلقها الأوَّلي وهو إثباتُ الذات وتأكيدُ النسوية على مستوى الطرح
المنهاجي، وما يمكن تقديمه من إضافة في هذا الصدد، الذي استوقف،
بلا شك، منى أبو الفضل.
اهتمَّت د. منى كثيرًا بالنسوية، وتحديدًا بدراسات المرأة من
المنظور الحضاري الإسلامي، خصوصًا في العقدَين الأخيرَين من حياتها،
فكان من أهدافها تشييد نموذجٍ مقابل يمثِّل
نسوية إسلامية وبحث الجنوسة الإسلامية (الجنوسة أو
النوع أو الجندر (
gender) هي المقولة
الشاملة لمجمل اختلافات الرجل والمرأة وليس فقط الاختلافات
البيولوجية أو العضوية). وبخلاف مقارباتٍ في جامعة قرطبة بالولايات
المتحدة، أسَّسَت أبو الفضل في آذار (مارس) ١٩٩٦م جمعية «دراسات المرأة
والحضارة» بالقاهرة التي تهدف إلى التوعية الفكرية من خلال البحوث
والندوات والأنشطة التدريبية، في إطار فلسفةٍ عامة ترتكز على
المنظور الحضاري الإسلامي. وقد أصدرَت مجلة
المرأة والحضارة، تفتتحُها منى بعبارة تقول: «الأم
أمة، وما بينهما وثاقٌ يشد الأصل إلى الفرع، على منواله تنسج
العِمارة التي هي أساس الحضارة».
٦٩
وفي محاولتها لتشييد نسويةٍ إسلامية وفحص الجنوسة من منظوراتها
تدفَّقَت أفكارها ورؤاها كما هو معهود منها. وقدَّمَت فكرتَين ثاقبتَين
حقًّا، الأولى في توقفها عند تعدُّد مستويات الخطاب القرآني للمرأة:
يخاطبها كأنثى … كفتاة … كزوجة … كأم … كعابدة … كقانتة … كمارقة …
إلخ. أما الفكرة الثانية فتعطي مثالًا منهجيًّا لدراسة أوضاع
الجنوسة من منطلقات تحفَظ الخصوصية الإسلامية بقيمها وأبعادها
وتشابكاتها في المنظومة الاجتماعية؛ فتقدِّم فهمًا أو تفسيرًا أشمل.
إنه طرحها لمدخل دراسة أوقاف النساء. وفي هذا نذكُر الأصولي المجدد
الطاهر بن عاشور الذي اهتم بدراسة «الوقف وآثاره في الإسلام» ككاشف
عن المثال وعن الواقع الإسلاميَّين.
وعن طريق المنهجية المقارنة البينية المنفتحة التي تميَّزَت بها
مداخلات منى أبو الفضل، عملت على تحديد الإيجابيات والسلبيات في
تيار النسوية الغربية، وأبرزَت نقاط تلاقٍ معه. وبخلاف ما أشرنا
إليه من منظورٍ نسوي وموقفٍ استشرافي نسوي نجد الدعامة الثالثة
للفلسفة النسوية الغربية التي تقوم عليها إبستمولوجيتها
وميثودولوجيتها هي: التجريبية النسوية (Feminist
Empiricism) الرافضة للتجريبية الوضعية بنبذها
للقيم والأبعاد السيوسيولوجية للأبنية المعرفية. بل تُصِر الفلسفة
النسوية للعلم على أنها انطلقَت أصلًا من وصول التجريبية الوضعية
والنزعة الأسسية إلى طريقٍ مسدود، أفصح عنه كتاب کواین عقيدتان جازمتان للتجريبية وجهود
أخرين، كما أوضحنا في الفصل الأول.
تبيِّن تلك المرتكزات الثلاثة لفلسفة العلم النسوية — أي المنظور
النسوي والموقف الاستشرافي النسوي والتجريبية النسوية — نقاط التقاءٍ
حميم مع المشروع المنهجي لمنى أبو الفضل، ليس فقط في أن كلَيهما
استبصاراتٌ ثاقبة متكاملة للمرأة المفكِّرة الفيلسوفة المُمنهِجة التي
توارت طويلًا في الظلال، في الحضارتَين الغربية والشرقية على
السواء، وإنما في أن كلَيهما نابع من نموذجٍ إرشادي أو براديم، ويصُب
في رفض المركزية الغربية أو الذكورية، وقهرها للآخر أو تهميشه،
دفاعًا عن الخصوصية الحضارية والتعدُّدية الثقافية والرؤى التكاملية
الأكثر توازنًا وعدلًا، والأقدَر الأشمَل من الزاوية المنهجية، والتي
تجعلنا نظفر بمقارباتٍ علميةٍ أفضل، إذا ما نظرنا إلى العلم وفلسفته
ومنهجه من المنظور الحضاري، أو في الإطار الحضاري والثقافي … وهكذا
عدنا إلى حيث بدأنا في الفصل الأول.
وتلك شيمة من شيَم البحث الفلسفي المُمَنهج.