فهد في الظلام

جلس «تختخ» في منزله مع الضيوف، ولكنه لم يكن مُلتفتًا إلى ما يدور حوله، كان يُفكِّر في «محب» … أين ذهب في هذه الأثناء؟ هل عاد إلى منزله؟ هل لحقَت به «نوسة»؟ هل ذهب للاشتباك مع الفهود السبعة وحيدًا؟ إن ذلك يُعرِّضه لمخاطر شديدة؛ فمن الواضح أن هؤلاء الأولاد على درجةٍ كبيرةٍ من الشراسة والعُنف … وهكذا استأذن «تختخ» من الضيوف وانفرد بالتليفون، واتصل بمنزل «محب»، فردَّت عليه «نوسة» وكان صوتها مُرتعشًا … قالَت: لقد رفض أن يعود معي إلى المنزل، وقال إنه سينتقم من هؤلاء الفهود وحده، وأسرع بدرَّاجته، ولم أستطِع اللحاق به مُطلقًا … ماذا نفعل يا «تختخ»؟

قال «تختخ» وذهنه يعمل بسرعة: لا تقلقي سوف ألحق به!

نوسة: أين؟

تختخ: حيث يجتمع الفهود السبعة في الحديقة الكبيرة التي تُشبه الغابة كما يقول «عاطف».

وأغلق «تختخ» التليفون … واتصل ﺑ «عاطف» وسأله: هل تستطيع أن تصف لي القناع الذي يضعه الفهود على وجوههم؟

عاطف: إنه كيس من القماش الملوَّن بالأصفر والأسود، بلون الفهد على حسب ما سمعت.

تختخ: والحديقة التي يجتمعون فيها؟

عاطف: كما وصفتُ لكم … حديقة كبيرة مُلحقة بقصرٍ في أطراف المعادي قُرب الإستاد … إنها مجاورة تقريبًا للفيلا التي وقعَت فيها أحداث لغز «الرجل الذي طار».

تختخ: هل تعتقد أنهم سيجتمعون الليلة؟

عاطف: فهمتُ من كلامهم أنهم يجتمعون كل ليلةٍ بعد هبوط الظلام.

تختخ: وهل سألكَ «محب» عن معلومات عنهم؟

عاطف: ليس أكثر من المعلومات التي قُلتُها لكم في أثناء مقابلتنا.

تختخ: إلى اللقاء غدًا صباحًا في موعدنا.

عاطف: ماذا تنوي أن تفعل؟

تختخ: لقد اختفى «محب» … وأعتقد أنه يبحث عن القصر والحديقة الواسعة … وأنه سيُحاول الاشتباك مع هؤلاء الأولاد، وسأُحاول الوصول قبله؛ فسوف يقضي وقتًا في البحث.

عاطف: سآتي معك.

تختخ: ليس هناك وقت … ولا تخشَ شيئًا.

أسرع «تختخ» إلى غرفة العمليات … كان يُحسُّ بدماء المغامرة تندفع في كل جسده، فأخرج قطعةً من القماش الأبيض، وأخرج مجموعة الألوان التي يحتفظ بها للتنكُّر، ثم أخذ يُلوِّن القماش ببقعٍ من اللونَين الأصفر والأسود، ثم خاط قطعة القماش على شكل كيسٍ يمكن أن يضعه على رأسه ووجهه بعد أن فتح أربع فتحات للعينَين والأنف والفم. وعندما وضع القناع على رأسه، ونظر في المرآة، تأكَّد أن الفهود السبعة لن يعرفوه في الظلام، وبعد لحظات كان قد ارتدى سروالًا وقميصًا أسود اللون، وحذاءً من المطَّاط الخفيف، وأخذ بطَّاريته الصغيرة ونظر في ساعته … كانت قد أشرفَت على التاسعة، فاتجه إلى النافذة التي تُغطيها الشجرة الكبيرة، ثم تَسلَّل عبر النافذة، ونزل على أغصان الشجرة وتدلَّى إلى الأرض، ثم سحب درَّاجته من الجراج، ووضع «زنجر» في السلة خلفه، وبعد لحظات كان يشق قلب المعادي مُسرعًا نحو منطقة الإستاد.

كان القناع في جيبه وأفكاره في رأسه … وعضلاته القوية قد توتَّرَت استعدادًا للمغامرة القادمة … وبعد نحو ربع ساعة أشرف على منطقة الإستاد … ثم اتجه إلى حيث تقع الفيلا التي وقع فيها لغز «الرجل الذي طار». وبرغم الظلام الذي كان يعُم المنطقة، استطاع أن يتعرَّف على القصر الذي وصفه «عاطف» … رأى الحديقة الكبيرة ذات الأشجار الملتفَّة التي تُشبه الغابة. اقترب في هدوء، ثم وضع درَّاجته في مكانٍ مظلم … وأشار إلى «زنجر» … فقفز إلى الأرض، فقال له: بهدوء يا «زنجر» … لا أُريدك أن تُحدِث صوتًا … فاهم؟

وهزَّ الكلب الأسود ذيله في الظلام … لم يرَه «تختخ» طبعًا، ولكنه كان يعرف أن كلبه الذكي قد فهم، فانحنى وربت على رأسه، ثم أخذ يسير بجوار السور الحجري الكبير الذي كان يُحيط بالحديقة … كان السور عاليًا لا يمكن تسلُّقه … فظلَّ يسير حتى وجده يتصل بسورٍ منخفضٍ لمنزل مجاور، فتسلَّق السور … ثم انحنى ومدَّ يده إلى «زنجر» الذي استخدم مخالبه في تسلُّق السور، ثم تعلَّق بصاحبه وأصبحا معًا فوق السور المنخفض، فسار «تختخ» … بضع خطوات إلى حيث يلتصق السوران، وقفز إلى السور المرتفع وخلفه «زنجر».

ألقى «تختخ» نظرةً على الحديقة الواسعة … كانت الأشجار فيها عالية … قديمةً كثيفةً متقاربة … وكأنها رءوس كبيرة قد تقاربَت لتحكي قصة … وكان القمر الوليد يُلقي ضوءه البعيد عليها؛ فتُلقي على الأرض ظلالًا طويلةً مُتعانقة. كان المنظر موحشًا … كأنه قلب غابة أفريقية، تمامًا كما وصفه «عاطف» … وليس في المعادي!

سار «تختخ» … محاذرًا، وقد انحنى بقدر ما يستطيع حتى لا يراه أحد … كان يبحث عن مكانٍ منخفض في السور أو شجرةٍ قريبة يقفز عليها، ثم ينزل منها إلى الأرض، وظلَّ يدور على السور … وفجأةً سمع أصواتًا تتحدَّث، فتوقَّف وأخذ يتسمَّع … كان مصدر الصوت بعض الأشجار القريبة، فأخذ «تختخ» يقترب بهدوء وقد كتم أنفاسه حتى أصبح قريبًا … كانت الأصوات المتداخلة لا يستطيع أن يتبيَّنها، ولكن من المؤكَّد أنها لم تكُن أصوات رجال كبار … بل مجموعة من الأولاد؛ فلم يشكَّ «تختخ» أنهم الفهود السبعة، وبخاصةٍ عندما رأى قبعةً بيضاء تتحرَّك تحت الشجرة. لقد كان الكلب يقوم بمهمَّة الحراسة من مكانه على السور، فلم يتمكَّن «تختخ» من سماع ما يدور بينهم، وكل ما استطاع أن يسمعه بعض الضحكات … وقرَّر أن يخوض المغامرة … همس في أذن «زنجر» أن ينتظر مكانه، ثم تقدَّم بهدوء، واختار غصنًا قويًّا قريبًا منه وتعلَّق به … ناء الغُصن بحمله الثقيل، وأصدر طرقعةً عالية، فسكتَت الأصوات، وسكن «تختخ» مكانه! ومضَت لحظات حرجة، ثم عادت الأصوات تتحدَّث … وأخذ «تختخ» يقترب في حذرٍ شديد محاولًا إحداث أقل أصوات ممكنة … ولم يتوقَّف عن التقدُّم إلا عندما أصبح قريبًا منهم جدًّا … ولم يكن في إمكانهم أن يتبيَّنوه … بسبب ملابسه السوداء والقناع … وورق الشجر والظلام … كان مطمئنًّا تمامًا … لولا زمجرة الكلب التي كانت ترتفع من أسفل. سمع «تختخ» صوت أحدهم ولعله «مدحت» يقول: وماذا سنفعل بعد ذلك؟

ردَّ صوت آخر: سنُبقيه مُقيَّدًا في مخزن الأخشاب القديم … إن هذا المخزن لا يقترب منه أحد … حتى يبحث عنه أصدقاؤه ونستطيع — بعد أن نسخر منهم — أن نشترط عليهم أن يعملوا معنا!

قال ثالث: ولماذا يعملون معنا؟! … إننا أقوى منهم … لقد ضربنا أحدهم اليوم وأسرنا الثاني!

وأدرك «تختخ» فورًا أنهم يتحدَّثون عن «عاطف» الذي ضربوه وعن «محب» … الذي أسروه … وأحسَّ بالدماء تغلي في عروقه … وقرَّر أن يبحث فورًا عن مخزن الأخشاب ليُخلي سراح صديقه … ولكن قبل أن يتحرَّك سمع ما جعله يتسمَّر في مكانه … كان أحد الفهود يقول: لقد انشغلنا بهؤلاء الأولاد ونسينا اللغز الذي نحله … والذي سيُحدث دويًّا كبيرًا … ونُصبح نحن أشهر من المغامرين الخمسة.

ردَّ آخر: إننا وحدنا الذين نعلم السر … وهو سرٌّ خطير لا يعرفه رجال الشرطة، ويجب أن نتصرَّف بحكمة.

قال آخر: هل تظنون أن المغامرين الخمسة يعرفون شيئًا عن هذا السر؟

سمع «تختخ» … ضحكات متفرِّقة، وقال أحدهم: إنهم لا يعرفون شيئًا على الإطلاق … وسوف تكون مُهمَّتهم صعبةً في العثور على صديقهم المغامر الذي حاول اقتحام الحديقة ووقع في أيدينا!

استمرَّ الحديث بين الفهود عن المغامرين الخمسة … وكان حافلًا بالسخرية والاستخفاف.

وأدرك «تختخ» من الأصوات التي سمعها أن المجتمعين ستة لا سبعة … فهناك واحد لم يحضر الاجتماع.

وقرَّر «تختخ» تنفيذ خطة سريعة … انسحب بهدوءٍ حتى السور … ثم نزل إلى السور المنخفض، ثم إلى الأرض، وأسرع في اتجاه القصر … كانت الحديقة واسعة … بل أوسع حديقة رآها في حياته حول منزل. واقترب من القصر الذي كان مُضاءً من الداخل … ثم دار حوله … كانت هناك عدة مخازن لا يعرف سببًا لوجودها … فأخذ يدور حول كلٍّ منها ومعه «زنجر»، وكان يتحدَّث إليه في صوت هامس: «زنجر» … إننا نبحث عن «محب»، حاول أن تعرف أين هو.

كان الكلب الذكي عند حُسن ظن صاحبه … فأخذ يتشمَّم الهواء ويجري هنا وهناك، ثم وقف أمام مخزن مُعيَّن.

استطاع «تختخ» على أضواء القصر البعيدة أن يعرف مكان بابه … فأخرج بطاريةً وأرسل خيطًا من الضوء على الباب … وكم كان ارتياحه عظيمًا عندما وجد أنه ليس مُغلقًا بقفل! … وهكذا تقدَّم بهدوء، ثم فتح الباب ببطء شديد حتى لا يُحدث صوتًا … ودخل وخلفه «زنجر»، ومرةً أخرى كشف المكان بضوء بطارية … كان المخزن ممتلئًا بالأخشاب القديمة ممَّا يستعمله المقاولون في بناء العمارات … وقد تكوَّمت الأخشاب في مجموعات كالأهرام، وأسرع «زنجر» دون أن ينتظر صاحبه إلى بعض الأكوام، وأخذ يزوم بحزن … وألقى «تختخ» ضوء بطاريته، وكم كان ابتهاجه شديدًا عندما شاهد قدمَي صديقه العزيز «محب» تُطل بين الأخشاب! … أسرع إليه قائلًا: «محب»! ولكن «محب» لم يرد؛ فقد كان مُكمَّمًا … فتقدَّم «تختخ» مُسرعًا نحوه، ورفع «محب» رأسه وشاهد القناع، وظنَّ أنه أحد الفهود، فارتعش وظنَّ أن الفهود السبعة قد قرَّروا عمل شيء ضده … ودُهش «محب» عندما وجد الفهد يضع البطارية في فمه، ويمد يدَيه ليفك وثاقه … ثم أدرك كلَّ شيء عندما أحسَّ بلسان «زنجر» الرطب يُبلِّل وجهه … أدركَ أن صديقه العظيم قد حضر … وأحسَّ بالخجل حتى إنه أرخى عينَيه.

فكَّ «تختخ» وثاق صديقه مُسرعًا، ثم مدَّ يدَيه يُساعده على النهوض … وظلَّ «محب» صامتًا في انتظار أن يتحدَّث «تختخ» … كان يتوقَّع أن يلومه «تختخ» ويُؤنِّبه على تسرُّعه، ولكن «تختخ» لم يقل كلمةً واحدة، بل أحاط صديقه بذراعه … وأحسَّ الصديقان معًا أن المغامرين الخمسة لا يمكن أن يفترقوا.

قال «تختخ» بصوتٍ خطير: لقد آن الأوان لنُؤكِّد لهؤلاء الفهود أننا لا نخافهم … لقد كنتُ أُحب ألَّا أصطدم بهم؛ فهم مجموعة من الأولاد الحمقى … ولكن إذا أهملنا أمرهم فقد يتمادَون في عملهم … وفي الوقت نفسه هناك سِرٌّ خطيرٌ يعرفونه ولا بد أن نعرفه.

قال «محب» متحفِّزًا: وماذا نفعل؟

تختخ: لقد وضعتُ خطةً سنُنفِّذها الآن؛ إنهم مجتمعون على مجموعة من الأشجار في طرف الحديقة … وسوف أصعد إليهم … إنهم لن يتبيَّنوني في الظلام … وحتى إذا رأَوني فسوف يظنون أنني واحد منهم … فهم ستة وينقصهم واحد … وسوف أُفاجئهم مفاجأةً لن ينسوها أبدًا!

محب: وما هو دوري؟

تختخ: ستأخذ «زنجر» وتقف بعيدًا عن الأشجار حتى لا يُتاح للكلب الأبيض أن يُحسَّ بوجود «زنجر» … وعندما تسمع صوت البومة مني، أطلق «زنجر» على الكلب الأبيض … إن «زنجر» أسود وسوف تكون هذه ميزة معركته مع الكلب الأبيض … وعندما يشتبك الكلبان اقترب أنت وقف تحت شجرة الاجتماع … وسوف ألقي لكَ بهم واحدًا واحدًا، وعليك أن تستخدم قبضتَيك … إنني لا أُريدك أن تجرحهم أو تفتك بهم … كل ما أُريد أن نُلقي في قلوبهم الرعب حتى لا يعودوا إلى ألاعيبهم، وعندما أُطلق صوت البومة مرةً أخرى، أسرِع إلى السور المنخفض واستدعِ «زنجر»، ثم اقفز إلى الخارج وانتظرني.

محب: إنني آسف جدًّا يا «تختخ» لتسرُّعي.

تختخ: ليس هذا وقت الأسف … إنه وقت العمل … هيا بنا!

وانطلق الصديقان وخلفهما «زنجر» في الظلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤