مدخل
في مطالع ثمانينيات القرن العشرين ظهرت الإبستمولوجيا وفلسفة العلم النسوية في الفكر
الغربي، وسارت قُدُمًا على مدار العقدين الأخيرين منه، حتى أقبل القرن الحادي والعشرون،
وقد
باتت من ملامح المشهد الفكري كتيارٍ ذي معالم مُميزة، يُمثِّل إضافة حقيقية لميدان فلسفة
العلوم، ونظريات المعرفة العلمية (الإبستمولوجيا)، والمنهج العلمي (الميثودولوجيا). إنَّ
هذا الميدان يشهد قضايا مُستجِدَّة، من قَبيل قضايا فلسفة البيئة، وأخلاقيات العلم، وقيم
الممارسة العلميَّة، وعلاقة العلم بالأبنية الحضارية والمؤسسات الاجتماعية الأخرى، فضلًا
عن
علاقة العلم بالأشكال الثقافية المختلفة، واتخاذه أداة لقهر الثقافات والشُّعوب الأخرى،
(ويُوضع تحت هذه القضيَّة الأخيرة خط) … وفلسفة العلم النسوية بمنطلقاتها المستجدة ورؤاها
المغايرة، وموقفها النَّقدي الرَّافض التَّسليم بالوضع القائم، النَّازع إلى إلقاء الضَّوء
على مثالبه وتصوراته وحيوداته والهادف إلى تعديله وتطويره … هي التَّيار الأكثر توشجًا
بتلك
القضايا والأنضر عطاءً لها.
لقد كان العلم الحديث أكثر من سواه تجسيدًا للقيم الذكورية، أحادي الجانب باقتصاره
عليها
واستبعاده لكلِّ ما هو أنثوي، فانطلق بروح الهيمنة والسَّيطرة على الطَّبيعة وتسخيرها
واستغلالها ممَّا تمخَّض عن الكارثة البيئية، واستغلال قوى العلم المعرفيَّة والتكنولوجيَّة
في قهر الثقافات والشعوب الأخرى، وجاءت العولمة لتنذر بعالم يفقد تعدديته وثراءه وخصوبته
…
وتأتي فلسفة العلم النسوية لترفض التفسير الذكوري الوحيد المطروح للعلم بنواتجه السلبية،
و«تحاول إبراز وتفعيل جوانب ومجالات وقيم مختلفة خاصة بالأنثى، جرى تهميشها وإنكارها
والحط
من شأنها بحُكم السيطرة الذكورية، في حين أنَّها يجب أن يُفسَح لها المجال وتقوم بدور
أكبر
لإحداث توازن منشود في مسار الحضارة والفكر».
١
وكبديل عن الإبستمولوجيا التي تقطع علاقتها بالميتافيزيقا وبالقيم التي تكون علمية
على
الأصالة، تريد الإبستمولوجيا العلمية النسوية أن تكون تحريرية، تمد علاقة بين المعرفة
والوجود والقيمة، بين الإبستمولوجيا والميتافيزيقا؛ لتكشف عن الشكل العادل لوجودنا في
العالم،
٢ وترى العلم علمًا بقدر ما هو مُحمَّل بالقيم والأهداف الاجتماعية، ولا بدَّ أن
يكون ديمقراطيًّا يقبل التعددية الثقافية والاعتراف بالآخر. إنَّه الانفتاح على الطبيعة
والعالم بتصورات أنثوية تداوي أحادية الجانب، لا تنفي الميثودولوجيا العلمية السائدة
أو
تريد أن تحل محلها، بل فقط أن تتكامل معها من أجل التوازن المنشود؛ فالنسوية ضد الاستقطابية
والمركزية. هكذا تحاول الفلسفة النسوية أن تضيف إلى العلم قيمًا أنكرها، فتجعله أكثر
إبداعيةً وإنتاجًا، أكثر دفئًا ومواءمة إنسانية، مستجيبًا لمتطلبات واقعه الثقافي ودوره
الحضاري، وتجعل فلسفة العلم ذاتها تطبيقية مرتبطة بالواقع الحي النابض، بحيث يمكن القول
إنَّ فلسفات العلم التقليدية المنحصرة في منطقه ومنهجه جميعها تُبلور إيجابيات العلم
وتستفيد منها، تأخذ منها العلم، أمَّا الفلسفة النسوية فهي تحاول أن تضيفَ إلى العلم
ما
ينقصه ويجعله أفضل.
لقد كان ظهور الإبستمولوجيا وفلسفة العلم النسوية تطوُّرًا ملحوظًا للفلسفة النسوية
عمومًا التي ظهرت في العقود الأخيرة، وتقوم بشكل أساسي من أجل رفض المركزية الذكورية Androcentrism ورفض مطابقة الخبرة الإنسانية
بالخبرة الذكورية، واعتبار الرَّجل الصَّانع الوحيد للعقل والعلم والفلسفة والتاريخ
والحضارة جميعًا، وتُجِد لإبراز الجانب الآخر للوجود البشري وللتجربة الإنسانية الذي
طال
قمعه وكبته. وفي هذا تعمل الفلسفة النسوية بسائر فروعها على خلخلة التصنيفات القاطعة
للبشر
إلى ذكورية وأنثوية، بما تنطوي عليه من بنية تراتبية هرمية (هيراركية) سادت لتعني وجود
الأعلى والأدنى، المركز والأطراف، السيد والخاضع. امتدَّت في الحضارة الغربية من الأسرة
إلى
الدولة إلى الإنسانية جمعاء، فكانت أعلى صورها في الأشكال الاستعمارية والإمبريالية،
الظلم
الذي سنراه في معالجة أرسطو للنساء والعبيد هو عينه الظلم في معالجة شعوب العالم النامي،
إنَّه تصنيف البشر والكيل بمكيالين. وتعمل الفلسفة النسوية على فضح كل هياكل الهيمنة
وأشكال
الظلم والقهر والقمع، وتفكيك النماذج والممارسات الاستبدادية، وإعادة الاعتبار للآخر
المهمش
والمقهور، والعمل على صياغة الهوية وجوهرية الاختلاف، والبحث عن عملية من التطور والارتقاء
المتناغم الذي يقلب ما هو مألوف ويؤدي إلى الأكثر توازُنًا وعدلًا، أمعنَت الفلسفة النسوية
في تحليلاتها النقدية للبنية الذكورية التراتبية، وتوغلت في استجواب قسمتها غير العادلة،
وراحت تكسر الصمت وتخترق أجواء المسكوت عنه، حتى قيل إنَّها تولَّدت عن عملية إعطاء أسماء
لمشكلات لا اسم لها وعنونة مقولات لا عناوين لها.
لئن كان ظهور الفلسفة النسوية إنجازًا لافتًا للحركة النسوية، فإن امتدادها إلى مجال
الإبستمولوجيا وفلسفة العلم ضربة استراتيجية حقًّا، أحرزت أكثر من سواها أهدافًا للحركة
وللفكر النسوي، وجعلت الفلسفة النسوية استجابة واعية أكثر عمقًا للموقف الحضاري
الراهن.
وبهذه النَّزعة النَّقدية المتقدة للوضع القائم في الحضارة الغربية ولمنطلقات التنوير
والحداثة، تندرج الفلسفة النسوية في إطار ما بعد
الحداثة post-modernism وما
بعد الاستعمارية post-colonialism اللذين يستقطبان أقوى التيارات النقدية للحضارة الغربية.
سنرى أنَّ هذين المفهومين شهدا أقوى تشغيل وأعمق تآزر وتحاور بينهما في الفلسفة النسوية
عمومًا وفلسفة العلم النسوية خصوصًا.
بادئ ذي بدء، لا بدَّ من إلقاء الضوء على النسوية في الفكر الغربي، ما هي؟ كيف بدأت؟
ما
أصولها وجذورها؟ كيف اتجهت وسارت؟ كيف نضجت وتطوَّرت وبلغت المرحلة التي تطرح فيها فلسفتها
الخاصة، بالمفهوم الأكاديمي لمصطلح الفلسفة، وتتوغل حتى تقتحم ميدان فلسفة العلوم، وهي
من
أعقد فروع الفلسفة وأصعبها مراسًا، وأيضًا أكثرها راهنيةً ومستقبلية، والأقدر على تجسيد
وتجريد روح العصر وتطلعاته.
فما هي النسوية أصلًا؟