فكرة وخاتمة١
وإذ قد أنهينا الكلام على الحاج المصري، من مبدأ خروجه حتى عاد إلى الأوطان، فنذكر
نبذة
تخطر على الأذهان، وهي أن الحجاج برًّا يكابدون المشاقَّ، التي لا مزيد عليها في النفوس
والأجسام، أما في النفوس، فلحرمانهم لذَّة الطعام، إمَّا لعدم وجوده في الطريق، أو لأنه
لقصر الإقامة بالمحطَّات، لا يتمكن من إنضاجه كما يليق، أو لتناولهم على الدوام من الطعام
ما ليس بعادتهم، كالبقصماط والجبن والزيتون، بسبب حاجتهم، وكالعدس على حدَّته، أو مع
الأرز،
إن وجد الماء العذب، الذي سواه لإنضاج طبيخ العدس غير صالح، فإنه لا ينضح مطبوخه بالماء
المالح، ولحرمانهم — أيضًا — من لذَّة الشراب، لتنوع المياه مع قلَّتها في أغلب الأحيان،
فتارة مُرَّة، وتارة قيسونية، وتارة لزجة، أو نتنة من الاختزان، فإنها متى مكثت في القِرَب
٢ أكثر من يومين، عرض لها النَّتن والتغيُّر بلا مين. وأما المشاقُّ التي
يكابدونها في الأجسام، فهي تغيُّر أوقات منامهم، وانتباههم من النوم وقيامهم، ومقاساتهم
مشاقَّ السفر من ركوب الجمال، ولو في المحفَّات، مع إدامة القُرفُصى،
٣ والنوم بها مع أضغاث الأحلام، والفزع عند القيام، بحيث تعرض لرءوسهم وأعناقهم
وأوساطهم في أقرب وقت الآلام، من الاهتزاز ليلًا ونهارًا على الدوام، ويستمرون على هذه
الحالة ثلاثة أشهر بالتمام، فضلًا عن الإقامة شهرًا بمكَّة وبمدينة خير الأنام.
وإن عَرَض لأحدهم (في) أثناء سيره البول، لم يمكنه النزول عن دابته إلا بالمشقَّة
لقضاء
حاجته؛ خوفًا من التأخر عن متاعه ورفقته، ومن كان منهم على ظهر حصانه لم يستطع دوام الركوب
مع عدم النوم، ومن كان ماشيًا على قدميه عرض له الحفاء، وصار من شدَّة التعب على شفا،
٤ ما لم يكن سائسًا،
٥ أو محترفًا بحرفة الحمَّارة،
٦ ومع هذا فمن هؤلاء من يكلُّ ويتأخر، لطول مشيه ليله ونهاره، ومنهم من يمشي وهو
في حالة منامه، جارًّا الجمل بما حمل من زمامه، كما شاهدنا ذلك مرارًا في هاتيك المسالك،
وما يكابدون من شدَّة البرد، ولا سيَّما إذا كان ذلك في مدَّة الليل، وما يلحقهم ودوابهم
من
المتاعب عند نزول السيل،
٧ وهذا كله يسير بالنسبة للخوف من الأعراب المتعرِّضين لنهب الحجاج وقتلهم، إلَّا
أن جميع هذا الضرر البيِّن ليس له تأثير عند المسلم المتديِّن؛ بل يحتسبه عند ربه طامعًا
أن
يجازيه — تعالى — في مقابلة ذلك بقبول غفران ذنبه؛ لأنه متى خرج من بيته مهاجرًا إلى
بيت
الله الحرام، ثم إلى زيارة قبر نبيه
٨ عليه أفضل الصلاة والسلام، واستولى هذا المقصد على لبِّه، وتسلطن
٩ عليه آخذًا بمجامع قلبه، تعلَّقت آماله بالوصول إليه، وأنفق في مرضاة الله
تعالى ورسوله كل ما لديه، وتحمَّل جميع المشاقِّ مع الصبر والحزم، محصيًا الأيام والساعات
وما مضى منها وما هو آت، لا يخطر غير هذا بفكره، ولا يشتغل عنه بشيء غيره، مؤملًا بلوغ
مأربه، مرتقبًا الحصول على مطلبه، فلولا أن للحاج أيَّامًا معدودات، يقرِّبها مرور الأوقات،
ويدنيها تتابع الساعات، لنحل جسمه من شدَّة الشوق أو مات. وأمَّا يوم الوصول فيا له من
يوم تكلُّ
١٠ عن وصفه الألسنة، وتندهش بمشاهدته العقول.
ومتى أديت هذا الفريضة الشرعيَّة، بمناسكها المرعيَّة، واكتسب كل من الأجر على حسب
أفعاله
المرضيَّة، وما وفق إليه من خلوص النيَّة، ثنيت الأعنَّة إلى الأوطان، واشتدَّ الشوق
إلى
لقاء الأهل والخلَّان، فعند ذلك يلتهب القلب ويشتعل، وبالقرب من الأحبة على الدوام يشتغل،
وتحسب الأوقات بالثواني والثوالث، ويزداد القلق والأرق بانتظار المكاتيب، وخوف الحوادث،
حتى
يصلوا إلى المواطن، ويلتقي المسافر والقاطن، فعند ذلك يفتخرون بمشاهدة هاتيك الآثار
الشريفة، ويتفاوضون في كيفيَّة أداء تلك المناسك المنيفة، ويتمثَّل من يحرِّكه الشوق
بما
يُعزى إلى حضرة الإمام أبي حنيفة
١١ وهو:
كيف الوصول إلى سعادة ودونها
قلل الجبال ودونهن
حتوف
والرِّجلُ حافيةٌ وما لي مَرْكَبٌ
والدَّرب وَعِرٌ
والطريق مخوف
هذا وبعض من العوام الشيارة،
١٢ من عكامة وضوية وحَمَّارة،
١٣ من يتوجه إلى مكَّة المكرمة ولا يحج ولا يسعى، وكما خرج من بلده عاد، لكن وعلى
وجهه قناطير من السواد، ومع هذا لا يتركون الفشر
١٤ واللقلقة،
١٥ ولا يَدَعون الكذب والمشدقة؛ بل يسمُّون أنفسهم بالحاج بدوي عجورة، والحاج على
أبو قورة، وجميعهم من الدَّفة إلى الشابورة، وقد كان للحجاج في الأزمنة الأولى شأن عظيم،
وفخر زائد جسيم، يسافرون في البرِّ جمًّا غفيرًا، ويرغبون في البحر لكونه عسيرًا، إذ
لم تكن
لهم معرفة بغير مراكب الشراع، وخطر السفر في بحر السُّويس بين الناس مشاع.
١٦
ثم لما وقع بين الولاة النزاع، واشتهر هذا الأمر في سائر الأقطار وذاع، واستمر بينهم
اللجاج، واشتغلوا بالمحاربة عن مصالح الحجاج، استشعر بذلك أعراب الحجاز، فارتفعت منهم
للنهب
الرءوس، وقطع الطريق على المارَّة، المرءوسون منهم والرءوس، فكثر الخطر وعظم الضرر، واضطر
ولاة مصر إذ ذاك إلى أن رتبوا مرتَّبات وعطايا للأعراب الذين تمرُّ الحجاج من أوعارهم،
طمعًا في أن تكفَّهم تلك المرتَّبات عن فضائحهم أو عارهم، فيسهل للحاج المرور عليهم مع
الاطمئنان، ومن النهب في أمان، وبنوا هنالك للعساكر قلاعًا، وشحنوها بالذخائر، وأحدثوا
فيها
سواقي وآبارًا وحفائر، رغبة في راحة الحجاج، وتسهيلًا لمرورهم في تلك الفجاج، إلا أن
أغلب
هذه الآبار والسواقي تعطَّل عنها المنافع، وصار أكثر تلك القلاع بتطاول الأزمان بلاقع،
فلا
يسافر من طريق البرِّ الآن غير المَحْمَل، والصُّرَّة المقررة لعوائد الحرمين والعربان،
مع
العساكر الذين هم عليهما مستحفظان، لما أسلفناه من أوعار الطريق وعدم الأمان.
وأما سائر الحجاج فيسافرون في البحر، حيث الوابورات
١٧ صيَّرت المدة أقصر بكثير من مدة السفر في البرِّ، فضلًا عن الراحة من مشاقِّ
السير في القفار، والأمن من الخوف والفزع بمهول هاتيك الأخطار.
وقد سبق سفر الصُّرَّة والمَحْمَل مرتين في البحر، وحصل بذلك للميري كثير من الوفر،
١٨ ثم أعيد لأسباب لا تُدرى إلى السفر في البرِّ. وحيث إن الحجاج يسافرون الآن في
البحر أجمعهم، فإن وافق أن كلًّا من الصُّرَّة والمَحْمَل يتبعهم بأن يقوم المَحْمَل
من مصر
إلى السُّويس بعد موكبه المعتاد، ثم من السُّويس إلى جُدَّة متقدمًا بسبعة أيام عن الميعاد،
ويكون الأمير قد تقدَّم إلى هنالك بعشرة أيام، ليستأجر بمعرفة والي جُدَّة الجمال، ويأخذ
على الجمَّالة الضمانات، فيأمن بذلك من المتاعب في السفر ومن المشقَّات، ويجتمع المَحْمَل
في جُدَّة بالحاج المصري، فنحصل زيادة الأمنية، ويتمُّ للحاج بهذا الاجتماع كمال السرور
وبلوغ الأمنية، ويكون مصحوبًا بمائتي عسكري فقط، فيتوفر للميري كثير من المصروفات، ويوكبون
به عند قدومه إلى جُدَّة ومكَّة، وعند طلوع عرفات، وبعد أداء الفريضة، يتوجهون إلى زيارة
خير الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام، من الطريق التي يحصل الاتفاق عليه بمجلس شريف مكَّة
على التوجه منه إلى المدينة، ثم الرجوع إلى ينبع أو رابغ، ليعودوا من طريق البحر إلى
أوطانهم في أسرع الأوقات، فرحين مستريحين من مكابدة المتاعب ومقاساة المشقَّات، ومن طول
صعوبة الطريق، وتبدد أمتعتهم في كل محجر ومضيق، فيتوفر للميري كثير من المرتَّبات والعلائق،
ويزداد كل من جدَّة ومكَّة وينبع ثروة بالبيع والشراء، وتتسع فيهن دائرة التجارة بالأخذ
والإعطاء، ولا يزيد القادر على مصروفات الحج في البرِّ شيئًا في طريق البحر؛ بل لا يصرف
إلا
القليل بالنسبة إلى ما كان يصرفه في طريق البرِّ، فضلًا على ما كان يلحقه فيها من المشاقِّ،
والصعوبات والشدائد التي لا تطاق.
وأما الفقراء غير المستطيعين فليسوا بالحج مكلَّفين، بل إذا سافروا تألموا من السفر،
وسخطوا وتشاجروا مع البدو والحضر، وعاد البعض منهم صفر اليدين مفلسًا، قليل الدِّين كثير
الدَّين.
وعلى كل حال لا بد أن تُصرف للعربان مرتَّباتهم كالجاري في كل عام، ويأخذ عوائده الخاص
منهم والعام، كما هو جار في كل سنة، من دفع مرتَّبات عربان الطريق السلطاني إليهم، مع
عدم
مرور الحاج من سنين عديدة عليهم، وبدلًا من الذهاب إليهم في كل سنة بهذه المرتَّبات،
يرسلون
عند خروج الحاج من ينوب عنهم في استلامها من الروزنامجة، أو ما يصير الاتفاق عليه من
الجهات. فإن قيل: ما فائدة توجه الحج في البحر مع صرف مرتَّبات العربان إليهم في كل عام
على
ما هو مقرر؟!
فالجواب: أن لذلك من الفوائد الكثيرة ما لا يُنكر، منها: وفر العلائق ومرتَّبات أغلب
المستخدمين، واطمئنان الحاج بالاجتماع مع المَحْمَل وعساكره المستحفظين. فإن للعساكر
عند
العربان هيبة ترد مساعيهم السيئة مقترنة بالخيبة، وراحة الإنسان هي المعوَّل عليها في
كل
آن، والله سبحانه وتعالى هو المستعان، وعليه في كل حال التُّكلان، والحمد لله على التمام
وإليه الالتجاء في المبدأ والختام.