وصف العُربان
اعلم أن العربان إذا اجتمعوا في مجلس لا يتميز بينهم الأمير من الحقير، ولسوء أدبهم
لا
يوقِّر صغيرهم الكبير، لا أمان لهم، شيمتهم الغدر، ولولا الخوف من سطوة الحكام لذبحوا
كل من
مرَّ بهم وسلبوه، ومع هذا فإنهم يفعلون هذا بمن انفردوا به. حصونهم الجبال، لا يبالون
بحرام
ولا حلال، حُفاة جُفاة، شيخهم بلا نِعال، لا يعرف لبس السروال، وشرفه في كوفيَّته١ وعقاله، وقلَّما يصغون إلى مقالة. وقد شاهدتُ منهم عدم التوقير، وكثرة الجراءة
أمام شريف مكة المكرمة مع ما له من الجلالة والعظمة.٢
١
الكوفيَّة: قطعة مربعة من القماش طولها متر × متر، تُثنى على شكل مثلث، ويٌغطِّي
العربي رأسه بها ويضع فوقها العقال، وما كان منها باللون الأبيض فيُسمى: غُتْرَة في
لهجة أهل الجزيرة العربية، وقِضاضة في لهجة أهل الشام، وما كان منها مطرَّزًا
باللون الأحمر فيُسمى: شِماغ. وهو مأخوذ من التركية.
٢
وصف العربان هنا من قبل المؤلف لا ينطبق على أبناء القبائل بشكل عام حتى وإن كان
بعض ما قاله صحيحًا. وهي نظرة متبادلة بين الطرفين العرب والأتراك ومن يسير في
ركابهم في ذلك الوقت، ومن الذين فطنوا لذلك بوركهارت، ومع تحفظي على بعض ما قال إلا
أنه في الجملة لم يجانب الصواب، حيث إنه من أكثر الرحالة إنصافًا. يقول بوركهارت
متحدِّثًا عن عرب شبه الجزيرة العربية في عام ١٢٢٩ﻫ/١٨١٤م: إن عرب شبه الجزيرة
العربية أمَّة أبيَّة شجاعة، وهذا ينطبق حتى على سكان المدن. وهم يحتقرون كل أمة لا
تتكلم اللغة العربية أو تختلف عنهم في أسلوب عيشها. إلى جانب ذلك، فقد اعتادوا
لسنوات عديدة أن ينظروا إلى الأتراك كشعب أدنى مرتبة. كلما دخل إلى الحجاز كان يرهب
بسلطة الشريف. إن الطقوس والشعائر الصارمة في البلاط التركي لم تكن تناسب الرعايا
الجدد لمحمد علي ولا مفاهيمهم الراسخة، فالشريف، في أعلى سلطته، كان يشبه شيخًا
بدويًّا كبيرًا يرضى بأن يُخاطب بطريقة وقحة واحيانًا قاسية، أما الباشا التركي
فكان يخاطب بأكثر أشكال العبودية إذلالًا. وقد روى لي أحد كبار تجَّار الحجاز: «أن
الشريف غالب، كان كلما أراد قرضًا ماليًّا يرسل في طلب ثلاثة أو أربعة منَّا، وكنا
نبدأ محادثات مغلقة معه لبضع ساعات، وكنا أحيانًا نتشاجر عاليًا حين كنا دائمًا
نخفض المبلغ إلى أقل بكثير مما طُلب في البداية. وحين كنا نذهب في أعمال اعتيادية
إليه كنا نكلمه كما أكلمك الآن، إلا أن الباشا كان يبقينا واقفين أمامه بشكل مذل
كالكثير من العبيد الحبشيين، وكان ينظر إلينا بنظرة متعالية كما لو كنا كائنات
وضيعة حقيرة». ثم ختم قائلًا: «إنه يفضِّل أن يدفع غرامة للشريف على أن يحصل على
معروف من الباشا». إن المعرفة القليلة البسيطة التي يملكها الأتراك للغة العربية
ولفظهم السيئ لها حتى وهم يتلون آيات من القرآن، وجهلهم لشبه الجزيرة العربية
وخصوصياتها التي ينتهكونها في كل فعل يقومون به، كلها أسباب عديدة إضافية لجعلهم
مكروهين ومحتقرين في نظر العرب، ويبادلهم الأتراك ذلك الشعور بنسبة الازدراء
والكُره نفسها، فإن كل من لا يتكلم لغة الجندي التركي أو لا يرتدي زيه، يعتبرونه
فلاحًا أو ريفيًّا ساذجًا، وهي عبارة اعتادوا أن يطلقوها على الفلاحين المصريين
كونهم كائنات يعيشون تحت أدنى حالة من العبودية والقمع. أما كرههم للعِرْق العربي
فأكبر بكثير؛ لأن هذا العِرق لا يمكنه أن يتساهل مع تصرفاتهم الاستبدادية وتمريرها
بلا عقوبة، كما اعتادوا في مصر، فهم مقتنعون بأن العربي إذا ما ضُرب فإنه سيَضْرِب
مرة أخرى. ويتهم العرب الأتراك خاصة بالغدر والخيانة حين قبضوا على الشريف (غالب بن
مساعد) وأرسلوه إلى تركيا بعد أن أعلن موالاته للباشا، وسمحوا للجيوش التركية
باحتلال جدة ومكة، وهم — كما يؤكدون — ما كانوا ليُحرزوا تقدمًا أبدًا في شبه
الجزيرة دون مساعدة الشريف، أو أن يحصلوا حتى على موطئ قدم هنا (رحلات في شبه
الجزيرة العربية، بوركهارت، ص٥٠، بتصرف). هذا ولننظر إلى كلام محمد لبيب البتنوني —
وهو من مصر أيضًا — عن العرب عام ١٣٢٧ﻫ/١٩٠٩، حين يضاف إلى كلام بوركهارت، وينقض
كلام محمد صادق باشا رحمهم الله جميعًا، قال البتنوني عن أخلاق العرب: العرب
أخلاقهم في البادية واحدة — في الغالب — من قديم الزمان، فهم أهل صدق ووفاء وشهامة
وشجاعة وكرم، شديدو الغيرة على نسائهم، ولا قيمة للحياة في نظرهم إلا مع العزة،
يأنفون العار، ويحفظون الجوار، ويدافعون عمن دخل في وجههم (حمايتهم)، وإذا بغى
بعضهم على شخص فقال لهم: أنا في وجه فلان، يعني رجلًا من قبيلته، ولو في غيبته،
رجعوا عنه، واحترموا حماية صاحبهم. يعرفون المعروف لصاحبه، ولا تأخذهم في الحق لومة
لائم، وهم أبعد الناس عن الرياء والنفاق، وكلامهم كله صراحة، وليست فيه ألفاظ
التفخيم وجمل التعظيم ماتضيع معه الحقيقة، فهم ينادون أمير مكة — وهو في منزلة
الملك منهم — بقولهم: يا شريف، كما كانوا ينادون الرسول
ﷺ بقولهم:
يا محمد. ضمائرهم تسيل على ألسنتهم، وسلاحهم أقرب الأشياء إلى يدهم. الربيع عندهم
خير الأيام، واللحم سيد الطعام، وهم أبعد الناس عن التأنق في المأكل والملبس
(الرحلة الحجازية، محمد لبيب البتنوني، ص٥٦).