يَنْبُع البحر
في يوم السبت ٢٥ منه سنة ٩٧ (٣٠ أكتوبر ١٨٨٠م) في الساعة الأولى من النهار سار الركب
والمَحْمَل واكبًا ونزل بجوار بلدة يَنْبُع١ الساعة ١ على مسافة ألف متر منها، وهذه البلدة على البحر، فيها مينا٢ مشهورة، وبيوت وسوق يباع بها كل شيء يلزم للحجاج وبعض خضارات، وتُجارها من مصر
والصعيد، وعند موسم الحج تأتي إليها العرب للتجارة، وأما في غير أوان الحج فلا بوجد بها
شيء، وتصير كالخراب، وتُحمل إليه الغلال من مصر لترسل إلى المدينة، وبها شونة كبيرة،
وبرج
به مدفع من نحاس، وعشرة طوبجية من الترك، وبها محل للكرنتينة٣ مبني في غاية الانتظام، ومحافظها من أهلها، برتبة قائمقام معيَّن من طرف الدولة العلية؛٤ لأن هذه البلدة تحت حكومة الدولة، وسورها منهدم، وجميع ما بها من الأبنية الميرية،٥ كالشونة والمحافظة والبرج والسور ونحوها، قد صار بناؤه في مدة المرحوم محمد علي باشا،٦ والي مصر سابقًا، ولم يتجدد مما ذكر شيء بعد أن صارت تحت إدارة الدولة؛ بل آل
أغلبه إلى السقوط، وليس هناك آبار، وإنما تُخزَّن مياه السيل في صهاريج وتباع على الحجاج،
وثمن زِق الماء عندهم غَرْشان،٧ والزِّقُّ٨ هو قِرْبةٌ صغيرة تستعمله العرب للماء، وكل ثلاثة زِقاق أو أربعة مِلء قِرْبَة
مصرية، وبلغت الحرارة وقت الزوال ٣٠ درجة، وبعد الحج تأتي الوابورات٩ إليها لتحمل الحجاج إلى السوَيس.
١
يَنْبُع: هي ينبُع البحر وتقع في وسط غرب الجزيرة العربية على ساحل البحر الأحمر،
وتبعد عن المدينة النبوية حوالي ٢٤٠ كيلًا. وينبُع هو ميناء المدينة بعد اندثار
ميناء الجار (البريكة) التاريخي، الذي هو الآن بقرب بلدة الرايس. أما ينبع النخل
فتقع شرق ينبع البحر على بعد ٥٥ كيلًا تقريبًا. وكانت ينبع النخل من منازل الحاج
المصري والمغربي إلى أن تحولوا عنها إلى ينبع البحر. وفي عام ١٣٩٥ﻫ/١٩٧٥م أنشأت
السعودية الهيئة الملكية للجُبَيْل وينبُع، للإشراف على بناء مدينة الجُبَيْل
الصناعية ومدينة ينبُع الصناعية، كقالعدة صناعية لتخفيف الاعتماد على النفط كمصدر
شبه وحيد للدخل القومي في السعودية. وتقع ينبُع الصناعية على بعد ١٥ كيلًا جنوب
ينبع البحر، وجهزتها الدولة بالدارات (الفلل) والمدارس والمساجد والدوائر الحكومية.
وفي ينبع الصناعية تعمل الكثير من الشركات، ومنها شركة النفط السعودية «أرامكو»،
التي تقوم بضخ النفط والغاز من شرق الجزيرة العربية إلى غربها، في هذه المدينة،
ومنها إلى العالم، حيث إن الدولة السعودية أنشأت ميناء الملك فهد الصناعي في هذه
المدينة، وهو من أكبر الموانئ الصناعية في العالم، وأنشأت ميناءً تجاريًّا في ينبُع
البحر. ومنطقة ينبع تتبع إمارة المدينة المنورة.
٢
مينا: ميناء بحري. والمقصود هو أن فيها رصيف ترسو فيه السفن والبواخر.
٣
الكرنتينة: من اللغة الفرنسية وتعني: المحجر الصحي.
٤
الدولة العلية: الدولة العثمانية.
٥
الميرية: الحكومية.
٦
محمد علي باشا: ولد بمدينة قولة «كافالا» باليونان عام ١١٨٢ﻫ/١٧٦٩م، التحق
بالعسكرية وصار يترقى بها إلى أن أرسل نائبًا لقائد الكتيبة التي أرسلت إلى مصر،
فرجع القائد وأصبح محمد علي باشا قائدًا لها، ومنها بدأ في تثبيت نفسه كحاكم إداري
لولاية مصر إلى أن استقل بها، وأصبح أول حاكم لها في عام ١٢٢٠ﻫ/١٨٠٥م. ضم الإمام
عبد العزيز بن محمد آل سعود الحجاز، فندبت الدولة العثمانية محمد علي باشا لمحاربة
الدولة السعودية، فجهز الجيش، وضع ابنه إبراهيم أميرًا عليه، وقبل أن يسير الجيش
قضى على المماليك فى حفله الوداع عام ١٢٢٣ﻫ/١٨١١م فيما يسمى بمذبحة القلعه أو مذبحة
المماليك؛ خوفًا من أن يثوروا عليه إذا ذهب إلى الحجاز لمحاربة الدولة السعودية.
دخل مع السعوديين في حرب مفتوحة استمرت قرابة سبع سنوات، إلى أن أسقط الدولة
السعودية الأولى عام ١٢٣٣ﻫ/١٨١٨م. يعتبر محمد علي باشا من الذين بنوا مصرًا، حيث
أنشا المدارس النظامية في مختلف التخصصات. تنازل عن الحكم لابنه إبراهيم باشا في
عام ١٢٦٤ﻫ/١٨٤٨م، واختلف في زمن وفاته، قيل: إنها بعد ذلك بسنة، والله أعلم (انظر:
حقائق الأخبار عن دول البحار، الميرالاي إسماعيل سرهنك، تحقيق ودراسة: أ.د. عبد الوهاب
بكر، المجلد الأول/الجزء الثاني، ص٤٠٣).
٧
غَرشان: مفردها غَرْش، وهي العملة المتداولة في ذلك الوقت.
٨
الزِّق: هو السقاء، وجمع القِلة: أزقاق، والكثير زِقاق (انظر: لسان العرب،
١٠ / ١٤٣، مادة زقق). والمقصود هنا أحد الأوعية الجلدية التي تُحفظ فيها
السوائل.
٩
الوابورات: السفن البخارية.