الإحرام
وفي يوم الخميس غرَّة الحجة سنة ٩٧ (٤ نوفمبر ١٨٨٠م) صباحًا حلقتُ ولم أحلق رأسي
لاعتيادي
ذلك، وقصَّيتُ
١ شاربي إلى أن بدت شفتي العُليا، وقلَمت أظفاري، وحلقتُ عانتي وإبطي، ثم اغتسلتُ
ناويًا للإحرام، ثم ائتزرتُ بفوطة بيضاء كبيرة من فوط الحمَّام الاسلامبوليَّة، وارتديتُ
بأخرى؛ أدخلتُ طرفها في المئزر وأدَرْتُها على جسمي بحيث سترتُ ظهري وصدري وكتفي إلى
عنقي
حتى انتهتْ، وتركتُ طرَفَها الآخر مسدولًا على كتفي من غير ربط، ورأسي مكشوف، وفي رجلي
نعلان لا تستران إلَا نصف الأصابع، دائرهما مُنْحطٌّ عن الكعبين،
٢ ثم صلَيتُ ركعتين بنيَّة الإحرام في وقت تجوز فيه صلاة النافلة، بالفاتحة وقُل
يا أيها الكافرون في الأولى، والفاتحة والإخلاص في الثانية، ثم قلتُ بلسان موافق للقلب:
نويت الحج وأحرمتُ به لله تعالى.
٣ لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنَّ الحمد والنعمة لك والملك. ثم بعد
سكتة يسيرة قلتُ: لا شريك لك. ثلاث مرات متواليات، ثم صلَّيتُ على الرسول بقولي: اللهم
صل
على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم،
وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا
إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. ثم قلت: اللهم إني أسألك رضاك والجنة، وأعوذ بك من
سخطك
والنار. وكررتُ هذه التلبية عند الركوب والنزول عن الدَّابة، وبعد كل صلاة.
وتحزَمتُ بكَمَرٍ
٤ على وسطي وإنْ كان مخيطًا لإباحته؛ لحفظ المعاملة،
٥ وتقلَّدتُ سيفي. ومن الواجب على الرجل المُحْرم التجرُّد عن المخيط إلَا لعذر،
ويلزمه حينئذ كَفَّارة، فإنْ وضع رداءً، أو برنسًا،
٦ أو عباءة بدون إدخال يديه في أكمامها فلا تجب فدْيَة، وإلَّا وجَبَتْ. ويُسنُّ
الإحرام في منسوج أبيض نظيف، كالفُوَط
٧ والقماش والحزام، ويجوز التختُم.
٨
وبعد نية الإحرام لا تجوز الحلاقة، ولا قصُّ الأظافر، ولا حكُّ الجسم بها،
٩ ولا ستر الرأس إلا بنحو شمسيَّة أو غطاء مَحَفَّة؛ بشرط أنْ لا يمسَّه شيء من
ذلك عمدًا،
١٠ ولا التدهُّن ولا التعطُّر، ولا قتل القمل وما أشبهه، ولا قتل الصيد، ولا
الإشارة إلى صيده، ولا الإشارة إلى منْ يقتله، ولا الجماع، ولا الجدال مع أحد.
١١
ويفَرَّقُ في الإحرام بين ملبوس الرجل وملبوس المرأة، فالرجل يلبس المُحِيط أي الذي
لا
خياطة فيه ويحيط بجسمه، والمرأة تلبس المَخِيْط أي ثيابها المُخَيَّطة المعتادة نظيفة؛
لكن
مع كشف وجهها وكفَّيْها وإنما لمنع الرجال إليها والافتتان بها تستر وجهها بقطعة مجدولة
من
الخوص كالمروحة المعروفة فيها خروق صغيرة للنظر منها، يربط أحد جانبيها على الجبهة، ويسدل
باقيها على الوجه، بشرط أن لا تمسَّه، ومنهن من تخيط على الطرف المسدول نحو الشاش ويسترسل
إلى الصدر كالبرقع.
١٢ ولا يجوز لهنَّ ستر أكفِّهنَّ بساتر ما. ويُستحب لهنَّ الخضاب قبل ليلة
الإحرام. وإن كان في جسم المُحْرِم أذًى كجرح أو دُمَّل يحتاج إلى ربطه فلا مانع.
وعند مشاهدة الرَّكب يوم الإحرام مُحرمين جميعًا على هيأة واحدة صار الكبير كالصغير،
والأمير كالحقير، متَجَرِّديْن عن الثياب وعن زخارف الدنيا، لابسين ثياب الإحرام كالأموات
المؤتزرين بأكفانهم، فإنَّ الله — عز وجل — استدعى عباده إلى بيته الحرام، وشَرَع الغَسْلَ
عند الإحرام؛ إشارة إلى التطهُّر ظاهرًا وباطنًا، وشَرَع خلع الثياب؛ إشعارًا بحالة الموتى،
لأجل تخلِيهم عن الدنيا، وإقبالهم على باب ربهم وعبادته، بتركهم الرفاهية وحظوظ النفس،
فإن
التجرُد عن الثياب كتجرِد الميت عن ثيابه عند المغسل، ولبس ثياب الإحرام كلبس الأكفان،
ليقدم العبد إلى باب مولاه خاضعًا ذليلًا غير مشتغل إلَّا به تعالى.