واقعة غريبة ونادرة عجيبة
ولنذكر هنا واقعة غريبة ونادرة عجيبة، وهي أنه كان في الفقراء الذين قصدوا الحج برًّا
من
السُّويس، واتبعوا المَحْمَل على الأقدام، يقتاتون بصدقة الخاص والعام، رجل من دراويش
الأعجام،١ فقير الحال مكشوف الرأس، ليس في رجليه نعال، وما عليه من اللباس ولا معه إلَا
خلقة مرقَّعة، فرقَّ لحاله أحد مستخدمي الصُّرَّة، وأحسن إليه بما يقيه البرْد ويستر
منه
العورة، وعند الوصول إلى العقبة، أنزله في البحر إلى الوجه، في مركب الشراع مع الفقراء
مجانًا على الحكومة المصرية، التي لا يحصى مالها من الإحسانات والإنعامات الخيرية؛ وذلك
لأجل عدم ازدحام الرَّكب بحمل المنقطعين منهم في البريَّة، وبوصول الرَّكب إلى قلعة المويلح
كان مركب الشراع قد وصل إليه، فتخلَّص منه الدرويش بكل حيلة، وأتى عريانًا وملتجئًا إلى
من
ابتدأه بالجميلة، وأخذ يخدعه بأحاديث متنوعة، وأكاذيب مصطنعة؛ حتى رقَّ لحاله وكساهُ،
وقرَّبهُ إليه وأحسن مثواه، وبما أن هذا الأفندي المحسن طاعن في السن، وبه رمدٌ مزمن،٢ طالما سأل عن علاجه كل كافر ومؤمن، اتفق أنه سأل هذا الدرويش عن مادة الإكحال،٣ لظنِّه أن هؤلاء الفقراء يحتوون من الصناعات على ما يغنيهم عن الأموال، وقد
بلغه عنهم ما يذهب العقول، ويثبت ما ليس بمعقول، من دعوى الكيمياء الباطلة، التي من اشتغل
بها أصبح والنعمة عنه زائلة، ففي الحال فطن الدرويش إلى مرغوب الأفندي ذي الإحسان، ومدح
له
كحلًا مركَّبًا من الميمران والذهب والكهرباء٤ والمرجان،٥ حتى خامر ذلك عقله، وتملَّك ذمامه،٦ فاتخذ هذا الدرويش قدوته وإمامه، وزاد احترامه وإكرامه، كي ينال منه بالوصول
إلى مكَّة مرامه.
ولما وصلا إليها، اشترى الأفندي له الميمران الهندي، والمرجان الغشيم،٧ والكهرباء، ودفع إليه أربعة عشر مجرا ذهبًا؛ لكون هذا الكحل يدخل في تركيبه
الذهب على ما قال، ويحتاج إلى عدة عقاقير وأوانٍ تُشترى في الحال، وتوجَّه إلى منزل
الأفندي، ومكثَ فيه يومين معزَّزًا مكرَّمًا، آكلًا شاربًا منعَّمًا، يسحَق هذه العقاقير،
ساترًا ما في الضمير، ثم في اليوم الثالث خرج من المنزل، بعلَة تكايس مجرات الذهب، فأخذ
كل
ما أحضره له الأفندي وذهب، ولما عيل صبر٨ هذا الأفندي، وكلَّ بصره من طول الانتظار؛ لهذا الدَّجال الغدَّار، يئس من
رجوعه، وألقى باقي العقاقير في النار، وصار يتحطط٩ على هذا الدرويش، وأمثاله من الأشرار المدَّعين للأسرار، فاعتبروا يا أولي
الأبصار، والحمد لله على خلاص الأفندي منه بهذا المقدار، ولو تمادى معه لباع الدار والعقار،
فكم من غنيٍّ اتبع الدجَّالين فأصبح في الذِّل والافتقار، فليت كلًّا منا اعتبر بسير
غيره
واستقام، وحمد ربه وشكره على الدوام.
وفي يوم السبت ٢٤ منه (٢٧ نوفمبر) حصل قضاء أشغال.
١
الدرويش: هو الشخص الفقير الساذج. الأعجام: الفرس. حيث إن من عادة بعض الحجاج
أنهم يرافقون المحمل المصري والشامي طلبًا للقوت والحماية.
٢
رمدٌ مزمن: الرَّمدُ من الأمراض التي تصيب العيون. مزمن: هو الذي يستمر مع
الإنسان، مثل: مرض الربو والسكَّر والضغط.
٣
الإكحال: من الكحل.
٤
الكهرباء: صمغ شجرة.
٥
المرجان: صغار اللؤلؤ.
٦
ذمامه: يريد أن يقول: زِمامه، بالزاي، وقد تقدَّم الكلام عن ذلك في بداية
الرحلة.
٧
الغشيم: الخام.
٨
عيل صبر: نفذ صبره.
٩
يتحطط: أي تغيَّرت نظرته لهؤلاء الناس، وصار يصفهم بالأوصاف التي يستحقونها. وهذه
المواقف المخزية، من قبل من لا يخاف الله ولا يستحي، هي التي تقطع المعروف بين
الناس، ولا حول ولا قوة إلَّا بالله.