انتقاد إدارة المَحْمَل المصري
وكان سير الجمال بالرَّكب ضعيفًا؛ وذلك أنَّ الجمَّالة المصرية، المقاولين لحمل الرَّكْب
والصُّرَّة، الذين هم من الحَجَّارة بمصر، غدروا الميري غدْرًا كبيرًا؛ لأنهم مع صرف
علائق
جمالهم إليهم كاملًا، مدَّة الإقامة بمكَّة، التي هي عشرون يومًا، أجَّروها إلى جُدَّة،
لحمل بضائع التجَّار، واشتروا بثمن الإيجار جمالًا أخرى، وأشركوها مع جمالهم الأولى في
عليق
الميري، حتى اضْمحَلَّت من قِلَّة العلف، وصارت مهزولة، بحيث إن من ركبها عند الرجوع
ولو
ساعة، أدرك الفرق بين حالتها الأولى وحالتها عند الرجوع واضحًا، ومن اهتزاز جسمه واضطرابه
صار صائحًا، وإن اشتكى من الجمال احتجَّ له الجمَّالون بالعلل الواهية في الحال؛ لأنه
ليس
عليهم رقيب ولا حسيب، يتعللون بثقل الأحمال، مع أنهم حملوها مع الفرح والمسَرَّة في ابتداء
الحال، ولا يزالون ينغِّضون١ الرَّاكب مدَّة الطريق، ولولا خوفهم من سطوة الحكومة والعساكر التي مع الرَّكب
لفعلوا أقبح مما يفعله جمَّالة العرب، ومنشأ ذلك تعيين متوظفين مستجدَّة٢ للحاج في كل عام؛ لأن الأمير الجديد٣ إذا كان ليس له بالطريق ولا بالعادات معلومية٤ ولا إلمام، يترك المقصِّرين من المتوظفين على حالهم، ولا يجازيهم على التقصير
في أشغالهم، كمحافظي القلاع، على عدم تطهير ونزْح الآبار التي في الطريق، مجاورة للقلاع،
وتركها مردومة معطلة بدون انتفاع، ولا يسعى في إزالة بعض صعوبات للطريق، وتسهل إزالتها
بدون
تعويق، ويترك المقوِّمين يؤجرون جمال الميري٥ بمكَّة بدون التفحص عليهم ومجازاتهم؛ لتحققه أنه ليس عائدًا في هذه الوظيفة بعد
سنته؛ بل إنما يفتخر بكونه أمير الحاج، وكلما استحسنه برأيه فعله بدون معارض.
وأما الأمين، فليس عليه إلَّا خَتْم الكشوفات فقط إذ لا يعلم بحقيقة الحال، وكان
ينبغي
للروزنامجة أن تعطيه استمارة بما يخص مأموريته، والاطلاع على كلِّياتها وجزئياتها، ليكن
على
بصيرة، ولا تحيله على كاتب الصُّرَّة في هذه المعلوميات كما هو الجاري، فإنه في الطريق
يبيِّن له البعض ويخفي عنه البعض، وكذا كان ينبغي لها أن تفرز٦ المستخدمين بالصُّرَّة، نحو الفرَّاشين والسَّقائين والضوية والعكامة، من حيث
لياقتهم لهذه السَّفريَّة٧ وعدمها؛ لأن مقدمي هذه الطوائف متى تقيَّدوا بالروزنامجة قيَّدوا معهم أنفارًا
حسبما اتفق؛ ليأخذوا من مرتَّباتهم ما أرادوا، ويترتب على ذلك تعطيل أشغالهم (في) أثناء
الطريق.
وأما كاتب الصُّرَّة، فلمَّا كانت وظيفته دائمة على ممر السنين، صارت له معرفة تامة
بالطريق وسكَّانها، وسلاطة٨ على كافة الجمَّالة ونحوهم من المستخدمين، وعلى أغلب العربان ومن بالقلاع، بحيث
إن أمره عندهم مسموع ومطاع، وله في الرَّكْب اليد العليا؛ لأن توزيع الصُّرَّة والعطايا
بمعرفته، وبحسب دفتره.
وأما العساكر، فلعدم غيارهم٩ ليس أحد منهم بشاكر، فالحاج في البرِّ يكابد أعظم المشاقِّ، ولا يعرف ذلك إلا
مَنْ ذاق.
١
ينغِّضون: أي لا يجعلون الحاج يهنأ بأي شيء. والتنغيض هو التكدير. نغِّض عليه
عيشه تنغيصًا أي كدَّره، وتنغَّضتْ عيشتُه أي تكدَّرت. ونغَّض علينا: أي قطع علينا
ما كان نحبُّ الاستكثار منه. وكل من قطع شيئًا مما يُحَبُّ الازدياد منه فهو
منغِّض (انظر لسان العرب، ٧ / ٩٩، مادة نغض).
٢
مستجدة: أي جدد، لذلك لا يحسنون إدارة المحمل؛ فتحصل الأخطاء المتكررة في كل موسم
حج.
٣
الأمير الجديد: أمير الحج الجديد.
٤
معلومية: عِلمٌ.
٥
جمال الميري: الإبل الحكومية.
٦
تفرز: فرز الشيء عزله عن غيره وميَّزه (انظر: مختار الصحاح، ١ / ٢٠٨، مادة:
فرز).
٧
السَّفرَة: الرحلة.
٨
سلاطة: سلطة.
٩
غيارهم: تغييرهم.