الشمس والقمر
حيث قد تمَّ الحج بزيارة فخر الكائنات فلنبدي ما قد تصورناه من التفكرات.
اعلم، أن الشمس والقمر، لو نزلا على الأرض، متباعدان عن بعضهما، لسعى منْ في الأرض
لرؤيتهما، بدون تفكُر في المسافة التي يلزم قطعها لأجل الوصول إليهما، بعيدة كانت أو
قريبة،
سهلة أو صعبة، مأمونة أو خطرة، فأولًا يتجهون إلى الشمس ويمشون مهتدين بأشعتها، شاخصة
أبصارهم إليها، لا يرون ما حولهم ولا ما تحت أقدامهم، سهلًا كان أو وعرًا، برًّا كان
أو
بحرًا، فكل على قدر درجة قوته، يصل إليها بحسب همَّته، فمنهم من يأتي سريعًا، ومنهم من
يبطئ، ومنهم من يصيب الغرض، ومنهم من يخطئ، ثم بعد مشاهدة الشمس، على حسب تفاوت درجات
القرب
منها، واطمئنان قلوبهم بها، يتجهون إلى جهة القمر؛ ليشاهدوه بالنظر، فيسيرون على نوره
ناظرين إليه دون غيره، حتى يصلوا إليه بعد المشقة الزائدة، غير مبالين بالمسافة قريبة
كانت
أو متباعدة، وبعد المشاهدة والحصول على الفائدة، يتوجهون من حيث جاؤا،١ ملتحفين بما به باؤا،٢ تاركين النور وراءهم، وظلمة أنفسهم ممتدة أمامهم، فمن امتلأ بصره بالنور مشى
سويًا على صراط مستقيم، ومن انطمس بصره انكب على وجهه في ظلام مستديم.
فالكعبة للحجاج هي الشمس والمدينة القمر، وكل امرئ يسعى بقضاء وقدَر، فالسعيد له الهنا،
والشقي له الضرر، والمرام من الوصول الاقتباس، بحسب طهر الأنفاس، لا التفرج والافتخار
بين
الناس، والقلب المؤمن يتلألأ نوره كالجوهرة الثمينة، ولكل مؤمن جوهرة في قلبه تزهو على
حسب
القيمة، فالجواهر منثورة على العباد على حسب ما قسم من الاستعدادات، كقوله تعالى: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ (الزخرف: ٣٢). فمنهم من احتوى
الجواهر، ومنهم الذهب، ومنهم من احتوى على الفضة أو النحاس بالتعب، ومنهم من بقي مجردًا
لا
ينال القوت إلَّا بشق النفس والتعب، فدرجات الإيمان في قلوب المسلمين بهذه الكيفية بين
الناس، فكما أن الأغنياء بجواهر الدنيا يفوق بعضهم بعضًا، كذلك المؤمنون الذين قلوبهم
بجوهرة الإيمان مستنيرة، يتفاوتون بحسب السيرة والسريرة، والله بصير بعباده، ويوفق كلًّا
على حسب مراده، وكلما حسنت النيَّة حصل الفوز بالمواهب اللدنية، كما قال عليه السلام:
«إنما
الأعمال بالنيَات، وإنما لكل امرئ ما نوى».٣ صدق من لا ينطق عن الهوى، ولنبدأ أقرب مثال لهذا المقال، وهو أن الساعين للحج
كالساعين لصلاة الجمعة، فمنهم من يأتي الجامع قبل الازدحام، ويسمع الخطبة ويقرب من الإمام،
ومنهم من يسمعه تارة وتارة على حسب بعد المسافة، والتأخر لعائق أو آفة، فهؤلاء كلهم
مُصلُّون، وبحسب سعيهم للتقرب من الإمام ينالون، وعلى أعمالهم يجازون.
١
جاؤا: جاؤوا.
٢
باؤا: باؤوا.
٣
رواه البخاري، ح١. رواه مسلم، ح١٩٠٧.