المفاجأة!
ظهر الشياطين بعد لحظات، ولولا أنَّ «أحمد» يعرف ملابس التنكُّر التي سيلبسونها لما تعرَّف عليهم … كان «عثمان» قد تحوَّل إلى رجل طويل الذقن، أشعث الشعر يلبس الأساور في يدَيه، ويعلِّق في رقبته سلاسل الخرز، وأصبحت «زبيدة» سيدة متوسطة العمر تلبس نظارات غامقة … وتحوَّلت «إلهام» — لدهشة «أحمد» — إلى فتًى من فتيان «نيويورك» الهيبيز … ولم يلفت وجودُهم أيَّ انتباه … وكاد «أحمد» يبتسم، وهو ينظر إليهم، خاصة وأنَّ «إلهام» كانت تحمل «جيتارًا» كبيرًا، لم يشكَّ «أحمد» لحظة أنَّه مدفع سريع الطلقات.
مضى «أحمد» يأكل على مَهَل، مفكرًا في الساعات القادمة … ولكن «موكا» صاح به في غضب: هيَّا … هذا يكفي.
أحمد: إلى أين؟
موكا: ستعرف.
قام «أحمد» بعد أن مسح يدَيه، وقال مبتسمًا: مَن الذي سيدفع الحساب؟
موكا: سيكون عشاؤك الأخير على نفقتي الخاصة.
وقام «أحمد» محاصَرًا بالرجال الثلاثة … ويبدو أنَّ المشهد كان عاديًّا في هذا المطعم السيِّئِ السُّمعة، فلم يلتفت أحد إلى ما يحدث، واتجهوا به إلى الستار الكبير، في نهاية الصالة، وانفتح الستار سريعًا، ودخلوا، ثم أُغلق الستار … وفكَّر «أحمد»: إنَّ الشياطين سيحتاجون إلى اقتحام باب الدهليز بالقوة.
فتح بابه، وهبَّت رائحة سيئة من سُلَّم قديم، بدَا مُضاءً بضوء باهت، وقال «موكا»: هيَّا!
نزل «أحمد» السُّلَّم، وخلفه «موكا» والرجال، وذُهل للقذارة الشديدة ومياه الرشح التي تنزل من السقوف … كانت هناك عشرات من المواسير الضخمة التي تحمل المياه والكهرباء إلى العمارة الكبيرة، وعشرات أخرى من المواسير الواسعة التي تحمل نفايات وبقايا السكان.
بدا صوتُ أقدامهم يرنُّ في العمق العجيب، الذي يُخيم على المكان … وبدَت فئران ضخمة تقفز هنا وهناك. قال «موكا»: هذه هي فئران «نيويورك» التي سمَّوا عصابة «بازوليني» باسمها … إنَّها فئران ضخمة، تأكل الإنسان في لحظات، إذا وقع في براثنها!
أحمد: إنني لا أفهم، لماذا كل هذا الاحتفال بقتلي!
موكا: مَن الذي قال لك إننا سنقتلك؟ … إنَّك ذاهب لمقابلة رجلٍ مهتمٍّ بك جدًّا، ولو أردنا أن نقتلك لما استغرق هذا منَّا كلَّ هذا الوقت … كان يُمكن القضاء عليك برصاصة واحدة.
فكَّر «أحمد» سريعًا: مَن هو هذا الرجل الذي يهتم بمقابلته إلى هذا الحد؟! دار في ذهنه كشفٌ طويل بأسماء رؤساء العصابات الذين تغلَّب عليهم الشياطين، ولكنَّه لم يستطع التركيز على شخص واحد.
قصدَا عبر سلسلة من الدهاليز المضاءة بلمبات باهتة … وزاد ثقل الهواء والرائحة، وعدد الفئران، التي بدأت تصطدم بهم … وخُيل ﻟ «أحمد» أنَّه شاهد بعض الوجوه العجيبة في وسط الضباب الذي يسود المكان … ثم صعدوا بضعة سلالم. ووجد «أحمد» نفسه أمام باب من الحديد السميك. ودقَّ «موكا» الباب، ففُتح على الفور، وظهر وجه رجل، كأنَّه سُلخ بسكين حاد، ما كاد يرى «موكا»، حتى صاح: مرحبًا أيُّها القرد!
أزاحه «موكا» جانبًا، ثم دفع «أحمد» إلى داخل الغرفة المستطيلة، التي تُشبه الزنزانة … وما كاد «أحمد» يرى مَن في داخلها حتى ذُهل … كان «بازوليني»، وكانت مفاجأة.
قال «بازوليني» على الفور: لا تندهش أيُّها الشاب … إنَّ في أمريكا حِيَلًا قانونية كثيرة، يُمكن أن تُخرجَك من السجن!
أحمد: هذا واضح!
بازوليني: حتى لا نُضيع وقتنا … إنني أطلب منك بعض المعلومات.
أحمد: أيَّة معلومات؟!
بازوليني: إنَّ موضوع «فرانك» ليست له كل الأهمية … إنَّما المهم هو أنت!
أحمد: أنا؟!
بازوليني: نعم … إنَّ الثمن المعروض من أجل بعض المعلومات منك يستحق أن نضغط عليك.
سكت «أحمد»، ولم يُجِب. فعاد «بازوليني» يقول: أنت تعرف طبعًا عصابة «سادة العالم»؟
لم يَكَد «بازوليني» ينطق هذه الجملة، حتى أدرك «أحمد» أنَّ المسألة في غاية الخطورة … فهذه أقوى عصابات العالم السُّفلي على الإطلاق، وهي تمتلك من القوة والوسائل ما يُمكنها من عمل أي شيء.
مضى «بازوليني» يقول: لقد عرَفَت عصابةُ «سادة العالم» أنَّك ستقع في يَدِنا، وقد طلبوا منَّا أن نستجوبك لنحصل على المعلومات اللازمة عن المنظمة التي تنتمي إليها … إنَّهم يقولون إنَّها منظمة ضخمة لا مثيل لها، وإنَّكم استطعتم هزيمة عصابة «سادة العالم» في عدة معارك وعطلتم مشروعاتها … ولا بد من القضاء عليكم.
أدرك «أحمد» أنَّه في مأزقٍ، وتمنى أن يتحرك الشياطين سريعًا، فضغط على جانب كعب الحذاء في الكعب الآخر، وهذا يُعطي إشارة إلى الشياطين باتجاه المكان.
قال «أحمد»: إنني لا أعرف عن أي شيء تتحدث!
بازوليني: دَعْنا نتكلم كرجالٍ … أنت تعرف عمَّا أتكلم، وعندنا وسائل كثيرة لإجبارك على الكلام.
لم يردَّ «أحمد» … كان يعرف أنَّ أيَّ حديث لن يُجديَ مع مثل هذا الرجل، وقال «موكا» منفعلًا: لقد أضعنا وقتًا طويلًا مع هذا الولد … دَعْنا نضغط عليه.
قام «بازوليني» واقفًا، وقال: لنبدأ بالفئران.
وبسرعة، خرج كلُّ الرجال من الغرفة، وانسحبوا إلى أحد الدهاليز الجانبية، ووجد «أحمد» نفسه وحيدًا … وسمع صوتًا كأنَّ أبوابًا بعيدة تُفتح وتُغلق. وفي لحظات، رأى آلاف العيون الصغيرة، التي تُشبه حبَّاتِ الخرز تنظر إليه … وسَمِع وَقْعَ آلاف الأقدام الصغيرة، كأنَّها حبَّات المطر، وهي تتقدَّم منه. وقد واجه «أحمد» عشرات الأخطار … واجه الموت بالمدافع والرصاص والخناجر، ولكن هذه أول مرة يواجه فيها هذا الموت الرهيب … الموت بأسنان آلاف الفئران الضخمة، التي ساقَتها العصابة إلى هذا السجن الصخري تحت الأرض … ولأول مرة في حياته، شعر «أحمد» أنَّه في مأزقٍ سخيف. وبدأت الفئران تقترب، وارتفعت أصواتها الرفيعة، التي تُشبه صَليل الصُّلب. وأخذ «أحمد» يتراجع أمام الزحف، وأخذت عيناه تنظران إلى كل الأركان … كان يبحث عن أي شيء يمكن أن ينقذه … وسمع ضحكات بعيدة، وأدرك أنَّ «بازوليني» و«موكا» ورجالهما يضحكون عليه … وأحسَّ بالدم يغلي في عروقه … ثم قفز أحد الفئران الضخمة، وتعلَّق بالسقف، وقفزَت خلفه عشرات الفئران، ثم بدأت هذه الحيوانات المخيفة والمقززة تقترب … وطار أحدها ونزل على كتف «أحمد»، وأحسَّ بجلده ذي الشعر الخشن يحكُّ رقبته … وضربه «أحمد» بكل قوته، فسقط على الأرض … ولكن عشرات غيره بدأت الهجوم، وأحسَّ بها تتراكم عليه، وأسنانها تعبث بثيابه … وكاد يصرخ، ولكنَّه تمالك نفسه … وأخذ يضرب بشدة، ويقفز هنا وهناك … ولكن هجوم الفئران استمر، وبدأ يحس بالتعب والرعب … وفي هذه اللحظات المخيفة، سمع صوت أقدام تأتي مسرعة، عبر الدهاليز الصخرية والأنابيب الضخمة … ثم سمع صوت «إلهام» تصيح: أين أنت؟!
وصاح بأعلى صوته: هنا بسرعة!
وظهر الشياطين … وانطلقت الكشافات القوية تُضيء المنظر المرعب لألوف الفئران، التي كانت تحيط ﺑ «أحمد»، وتستعد لتناول وجبة دموية من اللحم البشري.
اجتاحَت نيرانُ المدافع الرشاشة بابَ الزنزانة، ثم انطلقَت المدافع تحصد الحيوانات المخيفة، التي بدأت انسحابها فورًا، هاربة في شقوق الجدران، وفي الفتحات الكثيرة التي في جدران الزنزانة … وفي تلك اللحظة، سمع الأربعةُ صوتَ أقدام تأتي من بعيد، وأدركوا أنَّ «موكا» قادمٌ مع رجاله … وقال «أحمد»: إنَّ «بازوليني» هنا أيضًا!
وتوارَى الأربعة خلف الجدران … وفي الضوء الخفيف الذي يُضيء الدهاليز المضببة، ظهر رجال العصابة، وهم يحملون أسلحتهم. ولم يتردد «أحمد» فأطلق دفعة متصلة من مدفعِه الرشاش، الذي حملَته إليه «زبيدة»، وسقط رجلان، وانبطح الباقون على الأرض.
صاح «أحمد»: انتشروا حسب الخطة!
وسرعان ما قفز الشياطين يمينًا ويسارًا، وبدءوا هجومهم على شكل مروحة عبر الدهاليز … وقد بدَت ألوف الفئران تجري في كل اتجاه، وهي تُطلق أصواتها المعدنية المخيفة … وأخرج «عثمان» صاروخًا صغيرًا للإضاءة، ثم أطلقه في اتجاه هجوم العصابة، وعلى الضوء الساطع، ظهر خطر جديد … لقد كان أحد رجال العصابة يقذف من ماسورة ضخمة غازًا قويًّا، لم يشكَّ الشياطين في أنَّه غازٌ سامٌّ … وعلى الفور أخرجوا الأقنعة التي زوَّدهم بها عميل رقم «صفر»، وارتدوها، ثم تقدَّموا محتمين بالجدران، وهم يُطلقون نيرانهم في كل اتجاه … واختفى رجال العصابة … وسكتت المدافع.
ساد الصمت لحظات … ثم سَمِع الشياطين أصواتَ أقدام تجري مبتعدة في اتجاه الفتحة الأولى … وصاح «أحمد»: يجب أن نمنعهم من الصعود إلى السطح … وبدءوا الهجوم.