ليس في الدنيا مستحيل!
أخذت الطلقات تُدوِّي في الدهاليز الضخمة، فيُسمَع لها رنينٌ مفزعٌ، ويتجاوب رجْعُ الصدى في كل مكان، كأنَّه أصوات قادمة من عالم آخر، عالية ومفزعة … وانهمرت من مئات الشقوق آلاف وآلاف من الفئران الضخمة تجري في كل اتجاه.
كانت خطة «بازوليني» و«موكا» هي دفع الشياطين إلى الخلف، وإغلاق البوابات الضخمة، التي تفصل بين دهليز وآخر عليهم … وهكذا أخذ رجال العصابة يكثفون نيرانهم ويتقدَّمون … وأسرع «عثمان» بوضع قاعدة صغيرة لمدفع رشاش في وسط أحد الدهاليز، ثم ضغط على الزناد، فانطلق المدفع يرش مئات الطلقات، وإلى هذا الاتجاه سار رجال العصابة، وهم يُطلقون النار، دون أن يرَوا شيئًا؛ فقد امتلأت الدهاليز بدخان البارود، وضباب مياه المجاري، التي أخذت تتسرب من المواسير الضخمة …
وشاهدت «زبيدة» بابًا ضخمًا من الحديد، ورجلان من العصابة يدفعانه ببطء لإغلاقه، قفزت هي و«عثمان»، وانطلقَا، حتى وصلَا إلى الباب، الذي كاد يُغلَق. وقفز «عثمان» عبر المسافة الباقية بين الباب والجدار، وأمسك بأحد الرَّجُلين، وأداره بسرعة، كأنَّه بريمة، ثم ضربه ضربة واحدة سقط على إثرها … بينما كان الآخر يشتبك مع «زبيدة» محاولًا ضربها بخنجر، بعد أن فرغ رصاص مسدسه … ولكن «زبيدة» استطاعت القبض على مِعْصمه، ثم لوَت ذراعه، فصرخ صرخة عالية، ثم ضربَته بقدمها، فسقط على الأرض سقطةً داوية … وأخذ «عثمان» و«زبيدة» يدفعان الباب مرة أخرى. ووصل «أحمد» و«إلهام»، وقد غطاهما دخان البارود.
وفجأة، حدث ما لم يكن في الحسبان … لقد لجأت العصابة إلى حيلة مخيفة ودنيئة، هي إغراق الشياطين في مياه المجاري؛ فقد سمع الشياطين الأربعة صوتَ هديرٍ مكتوم يأتي من بعيد … وفي البداية، ظنَّوا أنَّه صوت أقدام الفئران، التي انطلقت في كل مكان … ولكن الدوي كان منتظمًا، تسبقه رائحة عفنة، كأنَّها عاصفة …
وتنبَّه «أحمد» إلى ما يحدث، وصاح: لقد أطلقوا النار على مواسير المجاري … إنَّ آلاف الأطنان من القاذورات تجتاز الدهاليز وتُحاصرنا.
عثمان: هيَّا نصعد إلى السطح!
أحمد: نعم … هيَّا بنا!
وانطلقوا حسب الخرائط، التي حفظوها تمامًا، في اتجاه شمالي … إنَّها الفتحة التي يقف عندها فرانك، هكذا صاح «أحمد»، وهم يجرون … ولكن «بازوليني» ظهر في تلك اللحظة، ومعه رجلان … كان التنفس قد أصبح صعبًا تحت ضغط الهواء القادم … وكان «بازوليني» الضخم الجثة يلهث وقد تلوث وجهه، وأخذ يُطلق النار من مسدس، بطريقة عشوائية …
ارتكز «عثمان» على ركبته، وأمسك مسدسه بكلتا يديه، ثم حبس أنفاسه تمامًا، وأطلق طلقة واحدة أصابت «بازوليني» في ركبته بالضبط، وسقط الرجل كالثور على الأرض … وأسرع الرجلان يحاولان حَمْله، ولكن المياه الرهيبة المتدفقة، بدأت تقترب بقوة، وتكتسح أمامها كل شيء …
ترك الرجلان «بازوليني»، وهو ملقًى على الأرض، وأسرعَا بالفرار … كان المهم الآن إنقاذ حياتهما … وتقدم الشياطين …
كان «بازوليني» ملقًى على الأرض، يئنُّ كأنَّه ثور … وصاح بهم: أنقذوني … إنني لم أفعل شيئًا … إنني …
وتقدَّم الشياطين منه … كانوا رغم هذا الصراع المميت، عندهم قيمٌ ومبادئ، فيجب إنقاذ «بازوليني» وتقديمه للعدالة … ولكن «بازوليني» النذل، ما كاد يرى الشياطين يتقدَّمون منه، حتى أمسك بمسدسه، وارتكز على كوعه الأيسر، وأطلق عليهم الرصاص.
ارتمى الشياطين على الأرض. وفي تلك اللحظة ظهر خطر آخر … لقد بدَا في الظلام المضاء شبحُ «موكا برازي»، كأنَّه إنسان آلي يتقدم، وقد رفع بمسدسَيه الكبيرين إلى الأمام، وأخذ يُطلق النار كأنَّه دبابة.
في هذه اللحظة رفع «أحمد» مسدسه، وأطلق النار على المصباح الوحيد الصغير، الذي يُضيء المكان. وساد الظلام … ومن بعيد، كانت الأصوات تهدر … أصوات الفئران المذعورة، وأصوات المياه المتدفقة … وقال «أحمد» للشياطين: نشقُّ طريقنا دون إطلاق النار … سنسير بمحاذاة الجدران … الاتجاه إلى الأمام لمسافة مائة متر تقريبًا، ثم الانحراف يسارًا، سأُطلق نور البطارية بين لحظة وأخرى …
وهكذا سار الشياطين … كان «موكا» يُطلق النار في كل اتجاه، وسط الدهليز، حيث كان المدفع الرشاش الذي ثبَّته «عثمان» على الأرض، ما زال يُطلق في خط مستقيم … وتوقَّف «موكا» عن الضرب، وصاح كحيوان في الغابة: اظْهَروا إن كنتُم رجالًا.
وفي اتجاه الصوت، أطلقت «إلهام» طلقة واحدة، وقفزت مبتعدة … وسمعوا صيحة ألم، ثم صيحات سباب متصلة، صدرت من «موكا» الجريح، الذي أخذ ينادي رجاله: أين أنتم أيها الجبناء؟ … أين أنت يا «بازوليني»؟ … لقد غرَّرت بي وخُنتَني …
كان واضحًا أنَّ «موكا» يهذي … وكان «بازوليني» يرد: أنقذني يا «موكا» … لا تتركني هنا … لقد هرب كلُّ رجالنا … مدَّ يدك لي.
ازداد هدير الماء قُربًا. وأخذ الشياطين يجرون بأقصى سرعتهم … وبعد مائة متر كما قال «أحمد»، انحرفوا يسارًا، وعاد الضوء مرة أخرى … كان دهليزًا ضيقًا، ينتهي بسُلَّم … ولدهشة الشياطين الشديدة، وجدوا أربعة من رجال العصابة، يحاولون صعود السُّلم للخروج إلى الشارع … ولكن طَرْقاتهم على الفُتحة التي يقف عندها «فرانك»، لم تكن الطَّرقات المتفق عليها؛ لهذا لم يفتح لهم «فرانك» الغطاء الحديدي.
كانت معركةً متكافئة، أربعة ضد أربعة … وسرعان ما كان الشياطين يقفزون كالبهلوانات في اتجاهات مختلفة … وطارت الأذرع والأقدام في كل اتجاه، ومع كل ضربة يسقط رجل من رجال العصابة … وفجأةً، تدفَّقت المياه في الدهليز الضيق … تدفَّقت بسرعة مخيفة، كأنَّ انفجارًا ذريًّا قد وقع بالمكان، ولم يَعُد هناك وقتٌ يضيع، وقفز الشياطين إلى السُّلم … كان أولهم «أحمد»، الذي دقَّ على الفتحة ستَّ دقات، كلُّ دقَّتَين متتاليتان، وكانت المياه قد بدأ صعودها السريع إلى السُّلم … وبدأت تَصِل إلى أقدام الشياطين، ثم إلى وسطهم، ثم إلى رءوسهم …
ولكن «فرانك» رفع الغطاء في الوقت المناسب، وصعد الشياطين إلى الشارع المضاء … وأعاد «فرانك» إغلاق الفتحة، ثم قفزوا جميعًا إلى السيارة، اتجهوا بها ناحية الفتحة الأخرى، حيث كان «جوك» في الانتظار، فحملوه معهم، واتجهوا إلى الفيلَّا … وعندما وصلوا إلى هناك بعد نحو ساعة، كان جرس التليفون يدقُّ بإلحاحٍ … وجرى «أحمد» إلى السماعة ورفعها، وعلى الجانب الآخر، سمع صوت عميل رقم «صفر» يقول في اضطراب: ماذا حدث؟!
أحمد: عن أي شيء تسأل؟
العميل: إنَّ الدنيا مقلوبة … فقد انفجرت مواسير المجاري تحت عمارة «الامباير ستيت»، وصعدت المياه إلى الشارع … والشرطة وأجهزة الأمن كلها هناك … وقد كنت أعرف أنَّك طلبت خرائطَ لهذه المنطقة!
أحمد: إذن، كل شيء على ما يرام الآن!
العميل: لا أفهم!
أحمد: لقد انتهينا من معركتنا مع «بازوليني» و«موكا برازي»، وأعتقد أنَّهما ورجالهما قد غرقوا في المياه … وانتهت بذلك أسطورة «موكا» القاطرة البشرية!
العميل: إنَّ هذا شيء لا يُصدَّق!
أحمد: كان هناك توفيق من الله … وإنَّ الشر مهما كان قويًّا، لا بد أن يُهزَم.
العميل: شكرًا … لقد قضيتم على أخطر رجل عاش في «نيويورك».
وانتهت المكالمة … والتفت «أحمد»، فوجد «فرانك» يبتسم، رغم أنَّ عينَيه مغرورقتان بالدموع … وتقدم «فرانك»، وأخذ يحتضن «أحمد»، ويقول: لم أكن أظن أنَّ هذا ممكن!
قال «أحمد»، وهو يحتضنه: ليس في الدنيا مستحيل.