الفصل الأول

مدخل

يصنف هذا الكتاب نظرية جديدة متداخلة المباحث لتفسير التغير الثقافي. وتختلف النظرية الراهنة عن النظريات التطورية التقليدية؛ من حيث إنها تؤكد على حقيقةِ أن الثقافة يمكن أن تتطور في اتجاهات مختلفة؛ تأسيسًا على ظروفها الحياتية.

وتفسر نظرية الانتخاب الثقافي لماذا ثقافات أو عناصر ثقافية بعينها تنتشر وتَذيع، ربما على حساب ثقافات أو عناصر ثقافية أخرى، والتي يكون مآلها الاندثار. وتشتمل العناصر الثقافية على الهيكل الاجتماعي والتقاليد والدين والطقوس والفن والمعايير والأخلاقيات والأيديولوجيات والأفكار والابتكارات والمعارف والتِّقانة … إلخ. واستلهمت هذه النظرية فكرة شارلس داروين عن الانتخاب الطبيعي؛ ذلك لأنها تنظر إلى العناصر الثقافية باعتبار أنها تماثل الجينات؛ بمعنى إمكانية تكاثرها من جيل إلى جيل وأن تتغير خلال هذه العملية. ويمكن لثقافة ما أن تتطور لأن عناصر ثقافية بذاتها مهيأة أكثرَ من غيرها للانتشار والتكاثر؛ الأمر الذي يماثل الأنواع التي تتطور؛ لأن أفراد النوع تتوفر لديهم سمات معينة تجعلها أكثر ملاءمة من غيرها للتكاثر، ومن ثَم نقل هذه السمات إلى ذرياتهم.

والملاحظ أن المنافسة في مجتمع اقتصاد السوق الحرة تؤدي دورًا رئيسيًّا في تحديد مسار التطور الاجتماعي والاقتصادي. وتعتبر نظرية الانتخاب هنا أمرًا لا غنَى عنه لتحليل هذه العملية؛ ذلك لأن حاصل كل منافسة يمثل انتخابًا. ويصدُق الشيء نفسه على الانتخابات الديمقراطية؛ ذلك أن كل انتخاب يمثل حدثًا انتخابيًّا، أي عملية انتقاء بين عناصر متباينة؛ ومن ثم يغدو ضروريًّا تحليل معايير الانتخاب بُغيةَ الوصول إلى تحليل علمي لعملية تطور مجتمع ديمقراطي. ولكن الملاحظ في المجتمعات البدائية التي لا تعرف النظام النقدي ولا الديمقراطية أن مسار تطورها تحدده منظومات سياسية أخرى أو تحدده نتائج النزاعات والحروب … وهي أيضًا أنواع مغايرة من الانتخاب. ويبدو واضحًا أن التطبيق النسقي لنظرية الانتخاب في العلوم الاجتماعية جاء متأخرًا وقتًا طويلًا.

ويمكن النظر إلى عملية الانتخاب الثقافي من زاويتين متقابلتين، ولنفترض على سبيل المثال أننا نسأل شخصين مختلفين: لماذا أغنية بذاتها من أغاني البوب أصبحت صرعة السوق الآن؟ ربما يقول الشخص (أ): لأن الناس يحبون هذا النوع من الموسيقى، بينما يقول الشخص (ب): لأن هذه الأغنية تتمتع بلحن آسِرٍ للوجدان. وواقع الحال أن الاثنين يقولان الشيء نفسه؛ ذلك لأن اللحن الآسر للوجدان يتحدد معناه بأنه لحن يستهوي الناس. ولكن (أ) يرى انتخاب هذه الأغنية مرده إلى خاصية تميُّز الأشخاص؛ إذ إنهم يتذوقون هذا اللحن، بينما يرى (ب) أن الانتخاب يرجع إلى خاصية تميُّز الأغنية؛ إذ تتمتع بلحن يستهوي أذواق الناس. ويمكن أن نصف التفسير الذي قدمه (أ) بأنه تفسير محوري إنساني anthropocentric، بينما وجهة نظر (ب) تمثل النقيض. ولنا أن نمضي مع النظرة غير المحورية الإنسانية إلى أبعد من ذلك، ونقارن أغاني البوب أو موضات الأزياء أو غير ذلك من ظواهر ثقافية بالكائنات الطفيلية التي تتنافس بُغية النَّفاذ إلى عقول البشر. وطبعي أن أغنيةً ما أو موضة أزياء ما ليس لها ما يشبه الروح الساحرة أو الإرادة لكي تحقق رواجًا شعبيًّا، وإنما هذا مجرد وصف مجازي قد يفيد كثيرًا لوصف ظواهر اجتماعية معينة لاعقلانية أو عفوية.

والمعروف أن البشر لديهم قدرة خاصة على عقلنة حوافز لا شعورية؛ مثال ذلك اختلاق أسباب عقلانية تبرر سلوكهم اللاعقلاني؛ لذلك تبدو غالبية تصرفاتهم سلوكًا عقلانيًّا مخططًا وهادفًا، حتى وإن لم تكن كذلك. ولا ريب في أن التغيرات الاجتماعية لا تحدث كلها بناءً على تخطيط وحسم بأسلوب ديمقراطي لصالح الجميع؛ ذلك أن ثمة حوافزَ لا شعورية لدى المشاركين الاجتماعيين، ونتائج غير مستهدفة عمدًا للخيارات العقلانية، ونتائج كلية النطاق لم تكن في الحسبان، ونتائج مترتبة على جماع تصرفات أفراد كثيرين، ونتائج لنزاعات يصعب التحكم فيها، وعوامل إيكولوجية ومنافسة اقتصادية وآليات أخرى كثيرة تؤثر جميعُها في تطور المجتمعات والسير في اتجاهات لم يكن بالإمكان التنبؤ بها مستقبلًا، وليس بالإمكان أن تفيد كل امرئ من أبناء المجتمع. ولهذا فإن الإطار الفكري الحاكم لنظرية الانتخاب الثقافي يتحدى علم الاجتماع التقليدي بفضل ما يتحلى به من قدرة فائقة على تفسير مثل هذه العوامل اللاعقلانية في التطور الاجتماعي.

ولا ريب في أن ظواهر مثل الدين والأيديولوجيا والسياسة والأخلاق ومعايير السلوك لها دور أساسي في أي ثقافة من الثقافات؛ لذلك تستحيل علينا دراسة التغير الثقافي بدون دراسة التغيرات التي تطرأ على قواعد السلوك هذه وعلى فلسفات الحياة. إننا لا نستطيع وصف عقيدة أو أيديولوجيةٍ ما تأسيسًا على مصطلحاتها هي وحدها دون أن نفقد الموضوعية العلمية. ومن ثم يتعين الحفاظ على مسافة علمية — زاوية نظر خارجية — حتى يتسنى لنا دراسة أسباب تطور منظومة عقيدية وَفق اتجاه بذاته، وحتى يتسنى لنا مقارنة منظومات عقائدية مختلفة على أسس موحَّدة ومتكافئة. وحريٌّ بالعالم أن يتبرأ من كل أسباب الانحياز الذاتي للعقيدة موضوع الدراسة، وأن يكون أشبه بعالم البيولوجيا يدرس أكثر الكائنات الحية تفردًا على سطح الأرض، وقد احتفظ بدرجة كافية من الموضوعية تجاه الأيديولوجيات والفلسفات المختلفة. وقد تفيد هنا كثيرًا زاوية النظر البعيدة عن المحورية الإنسانية. بيد أننا للأسف غالبًا ما نواجه مشكلة تحول دون قَبول هذا النهج في التفكير؛ بسبب تعارضه مع نظرتنا إلى العالم القائمة على أساس من المحورية الإنسانية. ويلزمنا هنا قدرٌ كبير من التفكير المجرد.

ولكن كم هو عسير تحقيق الموضوعية الكاملة عند دراسة الظواهر الاجتماعية، ولكن لسوء الحظ أفضى الإقرار بهذه الحقيقة إلى أن أسقط باحثون عديدون شرط الموضوعية، وخلطوا عن وعيٍ العلمَ بالأيديولوجيا. وتمثل الحركة النسائية والماركسية أشهر مثالين على ذلك، وهذا في رأيي يمثل نزعة ذاتية خطرة على العلم؛ ولذلك سأحاول جاهدًا الالتزام من جانبي بأعلى درجة ممكنة من الموضوعية؛ خاصةً عند دراسة ظواهر أيديولوجية أو دينية خلافية.

وسوف يلحظ القارئ أنني أجمع نظريات من مباحث علمية عديدة ومتباينة دون أي اعتبار للنزاعات الأيديولوجية السائدة بين بعض هذه الدراسات، ودون أي اعتبار أيضًا لحقيقة أن بعض المباحث والدراسات تقع «داخل» أو «خارج» لأسباب أيديولوجية.

إن ثمة هوَّةً كبيرة بين العلوم الطبيعية التي يفترض تراثها التزام الدقة والضبط فيما تقدمه من نماذج وتعريفات، وبين العلوم الاجتماعية والإنسانية التي يمكن أن يرفض فيها باحثون نماذج تتسم بالدقة والضبط لا لسبب سوى أنها اختزالية reductionistic، ولأنها تُغفل التنوع والتفرد البشري. لذلك فإن محاولتي الجمع بين نظريات من علوم جد مختلفة تمثل تحديًا حقيقيًّا. وإن المسافة بين العلوم المضبوطة واللينة مهولة جدًّا؛ بحيث إن أي محاولة للتوفيق بين هاتين النظريتين سيرفضها الطرفان. وطبيعي أن القارئ، أيًّا كان المعسكر الذي ينتمي إليه، سيواجه يقينًا مشكلات إزاء ما أقدمه من مفاهيم ونماذج؛ إذ قد يراها شديدة الدقة والصرامة واختزالية أو أنها فضفاضة للغاية وغير دقيقة. وهذا هو الثمن الذي يتعين دفعه مقابل مثل هذا البحث المعتمد على منهج متعدد المباحث interdisciplinary. وإنها لسذاجة على الرغم من المثل الأعلى للموضوعية العلمية أن يقبع عالم الاجتماع في برجه العاجي ويُسقط من حسابه أية نتائج سياسية تترتب على بحثه. وغني عن البيان أن النظرية المعروضة في هذا الكتاب لها نتائج سياسية مهمة تلزم مناقشتها، ولكن من الضروري أن نلتزم بعقل مبرَّأ عن الهوى، وأن نمايز بين النظرية البحتة والمناقشات السياسية التي تثيرها هذه النظرية. ولهذا حصرنا المناقشات السياسية المشار إليها في إطار الباب الرابع عشر.

والمعروف أن الفكرة القائلة بأن الوراثة الثقافية تشكل الأساس لعملية الانتخاب هي فكرة قديمة، ترجع إلى زمن نظرية داروين عن الانتخاب الطبيعي في مجال التطور البيولوجي. وثمة مفكرون عديدون لهم نظرياتهم التي وصفوا فيها، كلٌّ على حِدَة في استقلال عن الآخرين، التماثلَ بين التطور الجيني والثقافي، ولكن حيلَ دون إحكام صياغة هذه النظرية بسبب النزاع الأبدي بين وجهات نظر مختلفة. وظلت لهذا السبب التطبيقاتُ العملية حتى الآن قليلة وغير ذات بال. ونصِف في الباب الثاني التاريخ المتقلب لنظرية الانتخاب الثقافي. ويمكن للقارئ إذا لم يكن معنيًّا بتاريخ العلم أن يتجاوز الباب الثاني أو أن يقرأه إذا شاء، ولكن البابين الثالث والرابع لا يمكن تجاوزهما؛ ذلك أن الباب الثالث يفسر المفاهيم الأساسية لنظرية الانتخاب الثقافي، ويقدم الباب الرابع صيغة محكمة للنظرية في صورة نموذج جديد يفسر لماذا تتطور الثقافات المختلفة في اتجاهات شديدة التباين. وتمثل الأبواب التالية تطبيقات للنظرية على ظواهر ثقافية تاريخية ومعاصرة على السواء. ويجد القارئ مناقشة ختامية في الباب ١٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤