السلوك الجنسي
تفسيرات تقليدية
السبب الأكثر تقليدية لتفسير القواعد الأخلاقية للسلوك الجنسي هو أنها تحول دون إنجاب أطفال على غير الإرادة. ويتعارض هذا التفسير مع عاملين؛ أولهما: أن الأخلاقيات الجنسية الصارمة تتضمن دائمًا حظرًا ضد موانع الحمل أو الإجهاض، وهذان هما أكثر وسيلتين فعالتين ضد إنجاب أطفال غير مرغوب في ولادتهم. ثانيهما أن الأخلاق الجنسية الصارمة نجدها في المجتمعات ذاتها التي تشجع وتطلب الإكثار من التناسل؛ لذلك لا يسعنا إلا أن نستنتج أن الأخلاقيات الجنسية الصارمة تُفضي إلى معدلات إنجاب عالية في المجتمع بوجه عام، وليس إلى معدلات منخفضة.
وثمة تفسير تقليدي آخر للتعاليم الأخلاقية الجنسية يفيد بأنها تمنع انتشار الأمراض التناسلية، بيد أن هذه الحجة بدورها تتناقض مع حظر استخدام وسائل منع الحمل الذكرية (الرفال) وغيرها، والتي يمكن أن تحول دون انتشار الأمراض التناسلية. حقًّا إن التشدد في تطبيق الأخلاقيات الجنسية في العصر الحديث له ما يبرره من أسباب تتمثل في أمراض الزهري المعدية، ولكن لا ننسى أن الحرب ضد الزهري من الأسباب التي دعت إلى تربية جنسية أفضل؛ ومن ثم إلى تحرير التعاليم الأخلاقية في مطلع القرن العشرين.
ولا ريب في أن حظر الزواج المختلط يمكن أن يفيد في تأكيد مشاعر اليقين بشأن نسب الأبوة؛ مما يفيد في مسألة الميراث الاقتصادي. ولكن الكثير من مظاهر التحريم والحظر في مجال الأخلاقيات الجنسية لا يمكن تفسيره بالإشارة إلى تنظيم الأسرة أو الأمراض المعدية، أو غير ذلك من اعتبارات رشيدة. والأهم من ذلك أن مثل هذه الأشكال من الممارسات الجنسية الشاذة لا تفضي إلى تناسل، وجميعها من بين المحظورات.
وكان بوسويل ذكيًّا بما فيه الكفاية ليكشف حدود نظريته، فعرف أن من اليسير على أي مؤرخ أن يفسر التحريم بالقول إن هذا أو ذاك من رجال الدين من أصحاب النفوذ رأوا أن الجنسية المثلية ضد الطبيعة. ولكن بوسويل أثبت أنه كان هناك الكثيرون من الأشخاص المتميزين الذين أعربوا عن موقف مضاد (١٩٨٠م). ولا يستطيع بوسويل بما تيسر له من مناهج نظرية أن يفسر لنا لماذا تقدم هذا الرأي دون سواه، ولم يكن باستطاعته أن يفسر لماذا كان المجتمع يعاقب المثليين عقابًا أشد قسوة من مرتكبي الزنا؛ بينما العهد الجديد (الإنجيل) يُدين الزنا بأشد كثيرًا من إدانته للجنسية المثلية. كل ما يمكن قوله هو أن تعاليم الكتاب المقدس جرى تطبيقها على نحو انتقائي.
وحدث تشدد تدريجي فيما يتعلق بالأخلاقيات الجنسية منذ بداية الحقبة الوسيطة، واستمرت مع انقطاعات محدودة حتى العصر الفيكتوري. وتلازم اضطهاد المنحرفين جنسيًّا مع اضطهاد اليهود والهراطقة والسحرة وغيرهم من المنحرفين، ولم يكن بوسع المرء دائمًا أن يمايز بين أنواع الانحراف المختلفة، حتى إنه كان يستحيل أحيانًا بيانُ ما إذا كان المنحرف متهمًا بالهرطقة أم بممارسة السحر أم بهما معًا.
تاريخ الجنسانية
أسس عصر التنوير المُثل العليا للحرية الدينية وحرية التعبير والديمقراطية، والتي كانت عوامل مهمة من عوامل الثورة الفرنسية. لم يعد الناس يرتضون الهيمنة السافرة من جانب الكنيسة والملوك، وأضحت هذه المثل العليا عن الحرية منذ ذلك التاريخ سلاحًا قويًّا ضد أهم الوسائل الريجالية. وحظيت هذه المُثل بقَبول واسع النطاق تزايد أكثر فأكثر، ومع اتساع نطاقها تضاءلت القوى الريجالية وتقصقصت أجنحتها؛ ولهذا باتت بحاجة إلى صيغ ريجالية جديدة أقلَّ شفافيةً؛ ومن ثم أكثر مناعةً إزاء الحرب الأيديولوجية.
ولا تزال الحرية الجنسية خارج نطاق أيديولوجيات حقوق الإنسان وحرية التعبير؛ لذلك فإن القهر الجنسي يستعصي على النقد الأيديولوجي أكثر من أية وسائلِ قهرٍ أخرى. ومن هنا آثرَت قوى الانتخاب التعاليم الأخلاقية الجنسية الصارمة، وكم هو عسير اختراق التجليات الاجتماعية للتعاليم الأخلاقية الجنسية! ومن ثم عسير انتقادها أيضًا. وربما حدثت هذه العملية الانتخابية دون توفر فهم بشري كامل معاصر للأسباب.
مفهوم الجنسانية
وهناك من دفع بأن مفهوم الجنسانية الحديث تحدَّد بطريقة تعسفية يصعب بيان سبب نظري لذلك. نعرف أن البشر لديهم الكثير من المشاعر المرتبطة باللذة ودوافع وثيقة الصلة بأنشطة الحياة اليومية، وكذا صداقات بين بعضهم البعض. وتحدَّد تقليديًّا أن هذه مشاعرُ لا جنسية، على الرغم من الصفات المشتركة الكثيرة جدًّا بينها وبين الجنسانية. وطبعي أن بيان حدود ومعالم الجنسانية ضروري للحفاظ على قصور الجنسانية كشيء متعالٍ — أي كنطاق خاص يعلو على الحياة اليومية — والذي يتعين تنظيمه وَفقًا لقواعد وطقوس خاصة. وحتى ندعم هذا التحديد المصطنع يغدو ضروريًّا فرضُ قيود على الخبرات اليومية اللاذة؛ حتى لا تكون مماثلة كثيرًا للأفعال الجنسية أو للمشاعر الجنسية. مثال ذلك الأصدقاء الرياضيون يمكن أن يعانق أحدهما الآخر دون أن يقبِّله.
وتحولت معالم وحدود الجنسانية في نهاية المطاف إلى لغز على أيدي فروع مختلفة للعلم؛ مثال ذلك أنْ أثبت علماء النفس أن الغرائز الجنسية تلازم المرء في مواقف كثيرة لا علاقة لها بالتناسل (فرويد، ١٩٠٥م). ويؤكد علماء الاجتماع أن مفهوم الجنسانية مفترَض ذهني تعسفي (فوكو، ١٩٧٦م). وأوضح علماء السلوك المقارن أن الحب الرومانسي ترجع أصول نشأته التطورية إلى الحب الأبوي، وأن السلوك الجنسي له وظائفُ أخرى علاوةً على التناسل، ونتيجة لذلك استخدمت كلمة الجنسانية في هذا الكتاب بأوسع معنًى ممكن لها. وإنها لمشكلة أننا لا نستطيع أن نرسم حدًّا فاصلًا بين الدوافع الجنسية وغيرها من الدوافع اللاذة، إذا ما كان لمثل هذا التحديد أيُّ معنًى أصلًا. وربما يكون عسيرًا تعريف الجنسانية، بيد أننا لا نستطيع أن نمضي دون صوغ كلمة دالة عليها طالما وأنها خضعت لتنظيم اجتماعي واسع النطاق، وهو ما نريد دراسته.
الأخلاقيات الجنسية وسائل ضبط وتحكُّم
حيث إن الكثير من المحارم الأخلاقية تبدو أمورًا غير واضحة الهدف وغير عقلانية، فإنها تهيئ لنا مثالًا ملائمًا جدًّا لدراسة كيف تتطور المعايير الاجتماعية من خلال الانتخاب الثقافي وبشكل مستقل في الغالب الأعم عن التخطيط العقلاني.
إذا كان لقواعد الأخلاق الجنسية غرض مفهوم؛ مثل خفض عدد المواليد، فإن أي نوع من أنواع النشاط الجنسي لا يفضي إلى الحمل سيكون بديلًا مقبولًا كمتنفَّس للدوافع الجنسية الضاغطة، ولكن نظرًا لأن القيود الأخلاقية تكون في الغالب موجهة تمامًا ضد هذه الأشكال من الجنسانية، يصبح واضحًا أن وظيفة هذه الأخلاقيات الجنسية هي إرغام الناس على الإكثار من النسل وليس الإقلال. وتدفع تعاليم الحظر إلى الزواج المبكر وإلى إنجاب الكثير من الأبناء نتيجة إشباع الدوافع الجنسية. وأجد من الضروري أن أفسر الوظائف الاجتماعية للجنسانية بتفصيلٍ أكبرَ لبيان أثر الجنسانية على الهيكل الاجتماعي.
(١) الآليات النفسية
آلية الإدامة الذاتية
والانتخاب البديل ليس التفسير الممكن الوحيد للتغيرات السريعة في المعايير والمواقف؛ ثمة إمكانية أخرى، وهي آليات التغذية المرتدة الإيجابية. وتوجد إمكانيات عديدة لمثل هذه الآليات، والتي سوف أناقش بعضها هنا.
والملاحظ أنه كلما زادت القيود على الإمكانيات المشروعة للنشاط الجنسي زادت معها الأنشطة غير المشروعة. ولن تقتصر الزيادة على الجرائم «البسيطة» ذات الطبيعة الأخلاقية الخالصة، بل وأيضًا جرائم العنف الجنسي التي يرتكبها يائسون عجزوا عن التحكم في الصراعات النفسية الباطنية. وإن من يوصَمون بارتكاب خطايا جنسية سوف تتطور لديهم تدريجيًّا انحرافاتٌ ثانوية لاجنسية كرد فعل إزاء القهر الاجتماعي. ويمكن أن تشتمل الانحرافات الثانوية على سلوك عنيف أو مناهض للمجتمع، وعلى إدمان الكحوليات والعزلة الاجتماعية (ليمبرت، ١٩٦٧م؛ وفوج، ١٩٩٢م). ويزيد الطين بلةً حين ترى أن الصدمة النفسية لدى ضحايا جرائم الجنس تكون أشد حدةً إذا ما كانت قيمهم الأخلاقية قيَمًا صارمة متزمتة. وجدير بالذكر أن الجرائم الجنسية، وكذا الانحرافات الثانوية المصاحبة لها، تدفع المجتمع إلى المطالبة بتشدد المجتمع في السيطرة على الجرائم الجنسية، وإلى تطبيق معايير أخلاقية جنسية أكثر صرامة. وإذا حدث، من ناحية أخرى، أنْ تراخت القيود الأخلاقية، فسوف تنعكس الدائرة الخبيثة وينخفض عدد جرائم الجنس. والملاحظ أن جرائم الجنس الخطرة انخفضت كثيرًا في الدنمارك بعد تشريعاتها الجديدة.
(٢) انتخاب الخطاب
(٣) المخطوطات الاجتماعية
ونظرًا لأن السلوك الاجتماعي يتحقق من خلال التعلم أساسًا، فإن بالإمكان وصفه بالمحاكاة. ويتعين دمج الحوافز الشخصية مع دلالات اجتماعية متاحة حتى يكون الفعل ممكنًا. ويصور لنا سيمون وجاجنون هذه العملية المركبة وكأنها تدوين مخطوطة. ونستخدم كلمة مخطوطة هنا وكأنها مجاز للدلالة على معرفة وإنتاج الفعل الاجتماعي، ويعكس أداء أيِّ دور اجتماعي، بشكل مباشر أو غير مباشر، محتويات السيناريو الثقافي الذي تعلمه المؤدي. وجدير بالذكر أن المخطوطة الاجتماعية لا تصف الأدوار والأفعال فقط، بل تصف كذلك الحوافز والمشاعر التي من المفترض أنها لدى الفاعل. ومن ثم إذا كانت حوافز ومشاعر شخصٍ ما ليست متوافقة مع ما هو متوقع اجتماعيًّا، فإن بإمكانك الحديث عن تنافر بين المخطوطة الثقافية والمخطوطة المضمرة في النفس.
ولا يوجد — من حيث المبدأ — أيُّ فارق أساسي بين الأفعال الجنسية والأفعال الأخرى إلا من حيث إن الجنسانية مقترنة بدلالة اجتماعية خاصة فقط، ويجري استدخال الدلالة الثقافية للأفعال الجنسية في ضمائر الناس إلى درجة أن أي تنافر بين الدوافع الباطنية والدلالات الثقافية يُفضي إلى ظهور صراعات نفسية باطنية خطرة تستثير آليات دفاعيةً؛ مثل الكبت والتكوين العكسي والتسامي … إلخ. وينتج عن هذا أن المخطوطة الثقافية أداة قوية للتحكم في سلوك الناس، وأن القليلين من الناس هم من يتوفر لديهم قدرٌ كافٍ من الخيال والأصالة لتنفيذ وتبرير أي فعل غير مكتوب في أي مخطوطة ثقافية، وليس لديهم علم عن أي إنسان آخر يأتي مثلَ هذا الفعل، ولا يعرفون عنه أو له أي دافع أو معنًى. وإن بالإمكان إسكاتَ أي فعل ومحوَه من أي مخطوطة ثقافية وإزالةَ أية إشارة إليه في مفردات لغة الناس، ثم يصبح بالإمكان عمليًّا الحيلولةُ دون إتيان هذا الفعل.
وتعتبر المخطوطات الاجتماعية وسائل تحكُّم قوية بخاصة في مجال السلوك الجنسي، وخير مثال على هذا تعريف مفهوم الجنسانية في الثقافة المسيحية. والمعروف أنه خلال العصور الوسطى جرى تضييق مفهوم الجنسانية تدريجيًّا وحصرُه في مفهوم يقضي بأن الوظيفة الوحيدة للأفعال الجنسية هي التكاثر؛ ومن ثم فإن أي فعل جنسي لا يخدم هذا الغرض هو فعل غير طبيعي. وعلى الرغم من أن هذه الفكرة ترجع نشأتها إلى الفلسفة الوثنية، إلا أن الكنيسة قبِلتها تدريجيًّا، وأضحت هي الداعية الرئيسية للنظرة القائلة بأن الجنسانية هي عين التناسل. ونلحظ اليوم أن هذا النهج في التفكير راسخ بعمق في الثقافة الغربية؛ حتى إن علماء الجنس على اختلاف عقائدهم أمْيُل إلى تحديد الجنسانية في ضوء فعل التناسل.
(٤) المحارم (التابو) والقداسة
غالبًا ما يجري تنظيم السلوك الجنسي للبشر عن طريق المحارم (التابو). ولحَظ علماء عديدون أن المنطقة المحرمة أو المدنسة، والتي ينظر إليها باعتبارها خطرةً وغير طاهرة، يمكن وصفها أيضًا بالمقدس؛ بمعنى أن لها دلالة متعالية خاصة. إن ثمة رابطة تربطها بعالم غير مرئي زاخر بالقوى السحرية الخفية التي تتصف بالقوة والجبروت والخطر (دوجلاس إم، ١٩٦٦م؛ وفرويد، ١٩١٣م؛ وبرجسن، ١٩٧٨م). ومن الأمور ذات الدلالة أن هذه القداسة ظلت على قيد الحياة بعد سيادة العلمنة في مجتمعاتنا، ونجد الجميع على اختلاف عقائدهم، بل ومن ينكرونها، يؤمنون بالمحارم الجنسية، على الرغم من صعوبة تقديم تبرير عقلاني لذلك. ولم يعد أحد يعرِّف المحارم باعتبارها مقدسات، ولكن لا تزال الحياة الجنسية أبعد من أن نشعر بها وكأنها جزء من حياتنا اليومية الدنسة. إنها تنتمي إلى عالم آخر؛ حتى إننا حين ننتقل إلى عالم الحياة الجنسية غالبًا ما نشعر وكأن هويتنا تغيرت:
«وينعكس فصل الهوية الشَّبَقية عن الهوية اليومية في الخبرة التي تتصف بالتعارض الشديد، والتي تحدث لدى الجميع عند مباشرة أفعال جنسية صريحة.»
وثمة وظيفة للمحارم (التابوهات) الكثيرة المقترنة بالجنسانية؛ ألا وهي الحفاظ على تأصل القداسة في الحياة الجنسية؛ ومن ثم صون التعارض والفصل بين الحياة الجنسية والحياة اليومية الدنسة. وتفيد كذلك في دعم التمايز القوي بين الحب والجنس، والذي تعتمد عليه ثقافتُنا الأخلاقية.
ويرى فرويد أن أساس أي محرم (تابو) يكمن في فعل محظور تربطه صلة قوية لاشعورية. ونجد من الخصائص المميزة للمحارم أنها ممتدة بحيث لا تشمل فقط الموضوع أو الفعل المحظور، بل وأيضًا أيَّ تمثيل رمزي دالٍّ عليه؛ وذلك لأن التمثيل الرمزي للفعل المحظور يتضمن غوايةً بارتكاب الفعل المحظور (فرويد، ١٩١٣م). معنى هذا، فيما يتعلق بالجنسانية، أن أي كلمة أو صورة تمثل موضوعًا جنسيًّا لا بد من تحريمها؛ دعمًا لقداسة الجنس. وهذا هو السبب في الحظر واسع النطاق لكل ما هو إباحي.
وتستخدم عالمة الأنثروبولوجيا ماري دوجلاس (١٩٦٦م) كلمة نجس أو غير طاهر للدلالة على كل ما من شأنه أن يُفسد النظام القائم، فالأشياء الموضوعة في غير مكانها، أو الأشياء الواقعة على الحدود بين فئتين، غالبًا ما تُعتبر غيرَ طاهرة أو دنسةً أو قوية المفعول أو خطرة أو محرمًا (تابو). والملاحظ أن الناس في العصور الوسطى اعتبروا التركيب الخنثوي رحمة؛ لأن الخنثى يقع على الحدود بين الرجل والمرأة، وهذا انتهاك لنظام الطبيعة. ويسود اعتقاد في ثقافات أخرى؛ مثل ثقافة المواطنين الأمريكيين الأصليين بأن الخِناث يتمتعون بقوًى سحرية؛ ولهذا ينظر إليهم المجتمع نظرة تقدير. واعتادت أوروبا حوالي القرن السابع عشر معاقبة أحداث الاتصال الجنسي بين البشر والحيوانات؛ وذلك بإحراق الإنسان والحيوان لأن كليهما دنس. ونظر المجتمع إلى مثل هذا الفعل الجنسي باعتباره حدثًا شديد الخطر؛ لأنه يهدد بتدمير الحد المهم الفاصل بين الإنسان والحيوان. وفرضت المجتمعات أيضًا عقوباتٍ قاسيةً على أفعال الجنسية المثلية؛ لأنها تهدد النظام الطبيعي وتمحو التمييز بين الرجل والمرأة. ونجد من ناحية أخرى أن الأفعال الجنسية بين الكبار والأطفال لم تنظر إليها المجتمعات باعتبارها مشكلةً خطرة؛ لأن الحد الفاصل بين الطفل والبالغ غيرُ ذي أهمية كبيرة؛ وأيضًا لأن الأطفال منذ سنِّهم الباكرة يتمتعون بنفس وضع الكبار. ولكن الأمر عادةً على النقيض تمامًا اليوم، ونجد مجتمعات نزعت طابع التحريم من الجنسية المثلية؛ وذلك بفضل المساواة بين الجنسين، ولم يعد المجتمع يصنف الخناث في فئة اجتماعية متمايزة، ولا تزال المجتمعات تنظر نظرة تحريم مشددة تجاه الصلات الجنسية بين الإنسان والحيوان؛ فضلًا عن أن هذه الأحداث نادرًا ما تثير الانتباه العام أو يفرض عليها المجتمع عقوباتٍ ما. ويعتبر الجنس بين الكبار والأطفال اليوم أقوى المحارم الجنسية قاطبة، ويقسو المجتمع بشدة على مرتكبي هذه الأحداث؛ وسبب ذلك أن مجتمعاتنا تهتم كثيرًا بالتمييز بين فئتَي الكبار والأطفال؛ علاوة على الرغبة في الحفاظ على صورة الطفل باعتباره كائنًا بريئًا جاهلًا ولا جنسيًّا ومستضعَفًا يستلزم الحماية.
وتركَّز الجدل بشأن الجنسانية أساسًا على ثلاثة محارم هي التي يدور النقاش مكثفًا حولها: جنسانية المرأة، جنسانية الأطفال، والمثلية الجنسية الذكرية. وإن الحرب الدائرة بين حركات الإصلاح الجنسي من ناحيةٍ والقوى الدينية الأخلاقية والمحافظة من ناحية أخرى؛ هي في الأساس خلاف حول هذه المحارم الثلاثة وتمثيلاتها الرمزية في صورة إباحية، وهذه هي الآن ساحة قتال مهمة بين القوى الكاليبتية والريجالية في المجتمع الغربي.
جنسانية الأنثى
والملاحظ في المجتمعات الريجالية والأبوية (البطريركية) أن النشاط الجنسي يرتكز على الواجب دون الرغبة؛ لذلك فإن أيديولوجيا العصر الفيكتوري التي تجعل الاتصال الجنسي واجبًا زوجيًّا على المرأة؛ تعطي الرجل أيضًا سلطة جنسية كاملة على المرأة. ولكن إذا عزونا إلى المرأة رغبة جنسية فإنها بدورها سوف تتحكم في جنسانيتها؛ ذلك لأن الرجل لا يستطيع إرغام المرأة على الشعور بالرغبة. إن المرأة بوسعها أن تنكر على زوجها حق الممارسة الجنسية أو أن ترفض الزواج من رجل اختاره والداها؛ استنادًا إلى حجة بسيطة؛ وهي أنها لا ترغب في ذلك. وإن ربط الجنسانية باللذة يعني أيضًا أن الحوافز للزواج تغيرت من العقلاني والملائم إلى الانفعالي. ولم يعُد بإمكان الوالدين الآن أن يقررا من الذي سوف يتزوج به أبناؤهما وبناتُهما؛ كما ارتفع سن الزواج.
ولكن المرأة في العصر الفيكتوري لم تكن باردةً كما يصفها الأدب المعاصر، وأثبت المؤرخ كارل ديجلر أن هذا الأدب كان منظوريًّا وليس وصفيًّا؛ ذلك أن المفهوم الفيكتوري عن جنسانية الأنثى لم يَمضِ دون تحدٍّ ومعارضة. ووجد ديجلر براهين في الأرشيف الطبي تؤكد أن نساءً أمريكياتٍ كثيرات في هذه الحقبة راودتْهن الرغبة، وكانت لديهن القدرة على الوصول بالرغبة إلى غايتها (ديجلر، ١٩٧٤م). والملاحظ أن الأدب الأخلاقي كان في الأغلب ينطوي على تناقض ذاتي وميول ثنائية التضاد، فالجنسي طبيعي ولا طبيعي. وتتمثل المفارقة الأكبر في بذل قدر مهول من الطاقة في محاربة ما زعم المجتمع أنه غير موجود؛ جنسانية المرأة والطفل (روزنبرج، سي إي، ١٩٧٣م).
جنسانية الأطفال
الشأن المحوري لتربية الأطفال هو التطابق الثقافي للسلوك الجنسي؛ نظرًا لأنه في سن الطفولة يجري استدخال وغرس المعايير الأخلاقية والمخطوطات الاجتماعية، وكذا تطوير المشاعر الجنسية؛ مثال ذلك أن المرأة الباردة جنسيًّا لا تنشأ إلا من خلال تربية للأطفال معادية للجنسانية وللبدن، والمعروف أن التأثير الثقافي في الكبر لا يمكنه أن يُحدث هذا الأثر. وسبق لي أن ذكرت أن التنشئة السلبية إزاء الجنس تستطيع أن تخلق نزعةَ تسلُّط سياسي وديني، وتخلق طاعة وتحكمًا ذاتيًّا، وسوف أستكمل هذه النظرية ببعض الملاحظات التاريخية والأنثروبولوجية والنفسية.
سلوك الكبار في مجتمعات يتوفر فيها الحنان البدني بكثرة مع الأطفال |
– انخفاض مستوى الاستعراض الفردي للثروة. |
– انخفاض حوادث السرقة. |
– ارتفاع مجمل تدليل الطفل. |
– انخفاض الألم البدني عند الأطفال. |
– ندرة أحداث قتل أو تعذيب أو تشويه بدن الخصم. |
– انخفاض النشاط الديني. |
سلوك الكبار في مجتمع يُنزل العقاب بأطفاله على أيدي الأبوين أو شخص مسئول عن رعايتهم |
– الرق موجود. |
– تعدد الزوجات. |
– تدنِّي وضع المرأة. |
– انخفاض مستوى العلاقة الوجدانية مع الأطفال. |
– انخفاض مستوى تدليل الأطفال بعامة. |
– انخفاض مستوى تطوير سلوك الرعاية في نفس الطفل. |
– الكائنات الخارقة للطبيعة عدوانية. |
سلوك الكبار في مجتمعات تفرض عقابًا قاسيًا على الجنس قبل الزواج |
– حجم المجتمع كبير. |
– الرق موجود. |
– ارتفاع معدل التعقد المجتمعي. |
– ارتفاع نسبة الجريمة الشخصية. |
– ارتفاع نسبة التقسيم الطبقي. |
– ارتفاع نسبة أحداث السرقات. |
– صغر حجم العائلات الممتدة. |
– إنزال العقاب على ممارسة الجنس خارج الزواج. |
– شراء الزوجات. |
– ارتفاع نسبة الحصر النفسي بسبب الختان. |
– طول مدة تحريم الجنس بعد الوضع. |
– التطرف في الولع بالقتال. |
– ارتفاع نسبة قتل وتعذيب وتشويه بدن الخصم. |
– ارتفاع نسبة العجز الجنسي. |
– ارتفاع نسبة النرجسية. |
– التأكيد على الرقص الاستعراضي. |
– حدود الدين في كل الأخلاقيات البشرية. |
وبلغ قمع جنسانية الأطفال ذروته في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وشاعت بين الأطفال ممارسات سرية، وأضحت ظاهرة أغفلها المجتمع وإن أصبحت الآن موضوع ذعر أخلاقي ثقيل الوطأة. وعزا المجتمع إلى هذا السلوك العديدَ من الأمراض والشرور الأخرى، ومن ثم لجأ إلى كل أنواع الإجراءات والتدابير لمكافحة هذه الرذيلة الخفية (أوسل وباركر، بنفيلد، ١٩٧٢م). والشيء المهم هنا أنه لم يكن يسيرًا التحكمُ في هذا السلوك، وأكثر من هذا أن الحملة دفعت إلى إخفاء جنسانية الأطفال؛ بحيث بات مطلوبًا البحث عن شيء خافٍ لكشفه ومعاقبته (فوكو، ١٩٧٦م).
وأدى تحريم جنسانية الأطفال إلى ظهور صراعات نفسية كثيرة، ليس فقط لدى الأطفال، بل وأيضًا لدى الكبار، وأضحى افتراض أن الأطفال لا جِنسيُّون وجهلاء بالجنس خاصيةً ضاربة بجذور عميقة في ثقافتنا؛ حتى إن كلمة «بالغ» باتت تعتبر تلطفًا في التعبير عن الإباحية. ونجد في مقابل ذلك نظرية فرويد عن جنسانية الأطفال والتي تلقى قبولًا عامًّا. وثمة تنافر معرفي شديد هنا؛ ذلك أن الأبوين سوف ينكران بشدة أن مشاعر الحب تجاه أبنائهما مماثلة تمامًا للمشاعر الجنسية. إن هذه المشاعر مناهضة بقوة لتحريم الاتصال الجنسي بالمحارم التي كبتوها بالضرورة بأي ثمن، واضطُروا إلى الاحتفاظ بالتمييز بين الحب والجنس. ويؤدي هذا الصراع النفسي الباطني إلى التكوين العكسي وإلى الإسقاط، وهو ما من شأنه، كما سبق أن ذكرنا، أن يعزز المحرَّم أو التابو. وأدى هذا الصراع منذ أواخر السبعينيات إلى تأجج نار ذعر أخلاقي واسع النطاق بشأن إباحية الأطفال والانتهاك الجنسي للأطفال في البلدان المتحدثة بالإنجليزية وفي أوروبا.
وتضخم الذعر الأخلاقي بشأن الانتهاك الجنسي للأطفال بسبب انتخاب «ميديا» وسائل إعلام الأنباء؛ ذلك أن قصص جرائم الجنس ضد الأطفال تتصف بصلاحية عالية جدًّا؛ لأنها تستثير فينا أهم ثلاثة أزرار حسَّاسة في حياتنا في وقت واحد: زرار الجنس، وزرار الخطر، وزرار حماية الأطفال.
ويمكن كذلك تفسيرُ الذعر الأخلاقي على أنه رد فعل ضد مظاهر التراخي العام إزاء الأخلاقيات الجنسية وقيم الأسرة، ونجد هنا عاملًا انتخابيًّا إضافيًّا مؤثرًا أيضًا، ونعني بذلك أن الناس من أصحاب الميول الريجالية باتوا عاجزين عن إيجاد أهداف بديلة يهاجمونها. إن الشخصيات المتسلطة قد تواجه مشكلات للبحث عن مخرج لميولهم ذات الطابع الريجالي؛ في الوقت الذي تمنع فيه المُثل العليا المقدسة للديمقراطية وحقوق الإنسان أيَّ شكل تقريبًا من الاضطهاد لكباش الفداء. ويمكن أن نرى جنسانية الأطفال في هذا الضوء باعتبارها آخرَ موقف أخلاقي للنوازع الريجالية.