الفصل العاشر

السلوك الجنسي

جميع المجتمعات لديها قواعد أخلاقية تنظم السلوك الجنسي، وتختلف هذه القواعد اختلافًا بيِّنًا من مجتمع إلى آخر. وعلى الرغم من أن القواعد المفروضة بحكم الأمر الواقع ليست دائمًا متفقةً مع القواعد المكتوبة، إلا أنها عادةً لها خصائصها النوعية بدرجة كافية تسمح بدراستها ومقارنتها بدقة معقولة. وتكشف المقارنة بين الأخلاقيات الجنسية للمجتمعات المختلفة عن رابطة مميزة بين الأخلاق والهيكل الاجتماعي. ووجد جويثالز Goethals (١٩٧٨م) أن أقوى الجزاءات ضد الجنس في مرحلة ما قبل الزواج موجودة في المجتمعات الأبوية المعقدة. ويمكن القول بشكل عام جدًّا إن المجتمعات ذات الثقافة الريجالية تسودها أخلاقيات جنسية صارمة؛ بينما المجتمعات الكاليبتية أكثر تحررًا. وتناظر هذه الرابطة ما ينطبق على مجالات أخرى من الأخلاق، بيد أنها لا تزال تثير الحيرة؛ نظرًا لافتقارنا إلى تفسير عقلاني أو وظيفي واضح يفسر الأخلاق الجنسية.

تفسيرات تقليدية

السبب الأكثر تقليدية لتفسير القواعد الأخلاقية للسلوك الجنسي هو أنها تحول دون إنجاب أطفال على غير الإرادة. ويتعارض هذا التفسير مع عاملين؛ أولهما: أن الأخلاقيات الجنسية الصارمة تتضمن دائمًا حظرًا ضد موانع الحمل أو الإجهاض، وهذان هما أكثر وسيلتين فعالتين ضد إنجاب أطفال غير مرغوب في ولادتهم. ثانيهما أن الأخلاق الجنسية الصارمة نجدها في المجتمعات ذاتها التي تشجع وتطلب الإكثار من التناسل؛ لذلك لا يسعنا إلا أن نستنتج أن الأخلاقيات الجنسية الصارمة تُفضي إلى معدلات إنجاب عالية في المجتمع بوجه عام، وليس إلى معدلات منخفضة.

وثمة تفسير تقليدي آخر للتعاليم الأخلاقية الجنسية يفيد بأنها تمنع انتشار الأمراض التناسلية، بيد أن هذه الحجة بدورها تتناقض مع حظر استخدام وسائل منع الحمل الذكرية (الرفال) وغيرها، والتي يمكن أن تحول دون انتشار الأمراض التناسلية. حقًّا إن التشدد في تطبيق الأخلاقيات الجنسية في العصر الحديث له ما يبرره من أسباب تتمثل في أمراض الزهري المعدية، ولكن لا ننسى أن الحرب ضد الزهري من الأسباب التي دعت إلى تربية جنسية أفضل؛ ومن ثم إلى تحرير التعاليم الأخلاقية في مطلع القرن العشرين.

وإن الزعم بأن أوبئة الأمراض المنقولة جنسيًّا سبب رئيسي لفرض أخلاقيات جنسية صارمة، يمكن تفنيده بالنظر إلى وباء مرض نقص المناعة (الإيدز). إذ عند التعرف على هذا المرض لأول مرة ظن الباحثون أنه وثيق الصلة بالمثلية الجنسية بين الذكور، ولا غرابة في أن هناك من استغل مرض الإيدز حجةً لقمع الممارسات الجنسية المثلية، ولكن الملاحظ أن من دعوا إلى ذلك هم أنفسهم يؤمنون مسبَّقًا بهذا الرأي. ولكن من يتخذون مسبقًا موقفًا ليبراليًّا من الجنسية المثلية استخدموا الحجة المقابلة: تلزم موافقة واسعة النطاق لمكافحة الوباء. وبدأت حملة واسعة نظمها هؤلاء للدعوة إلى التوسع في استخدام موانع الحمل الذكورية. وانتهت الحملات بشأن وباء الإيدز إلى قَبول الجنسية المثلية في بلدان مثل الدنمارك وألمانيا، وهي بلدان تؤمن مسبقًا بمواقف ليبرالية إزاء أساليب الحياة تلك (شميدت Schmidt، ١٩٨٩م).

ولا ريب في أن حظر الزواج المختلط يمكن أن يفيد في تأكيد مشاعر اليقين بشأن نسب الأبوة؛ مما يفيد في مسألة الميراث الاقتصادي. ولكن الكثير من مظاهر التحريم والحظر في مجال الأخلاقيات الجنسية لا يمكن تفسيره بالإشارة إلى تنظيم الأسرة أو الأمراض المعدية، أو غير ذلك من اعتبارات رشيدة. والأهم من ذلك أن مثل هذه الأشكال من الممارسات الجنسية الشاذة لا تفضي إلى تناسل، وجميعها من بين المحظورات.

ودرس مؤرخون كثيرون الحظر على الجنسية المثلية، والملاحظ أن دراسة من أهم الدراسات وأكثرها شمولًا (بوسويل Boswell، ١٩٨٠م) تفنِّد الاعتقاد الشائع بأن هذا التحريم مصدره الكتاب المقدس. إذ على النقيض من ذلك كانت الكنيسة متسامحة تمامًا مع هذا الوضع في مطلع العصور الوسطى، وكانت الجنسية المثلية منتشرة بين الكهنة، وكشفت الفلسفة العلمانية عن الحجج المناهضة لذلك أولَ الأمر. ومضى وقت طويل حتى وافقت الكنيسة على الحظر لأسباب دينية، وأكثر من هذا أنه في أواخر العصر الوسيط ومع احتدام الحرب ضد الهراطقة، لوحظ أن الحظر دعمته أسباب وثنية، وبدت الحجج غير منطقية ومتناقضة.

وكان بوسويل ذكيًّا بما فيه الكفاية ليكشف حدود نظريته، فعرف أن من اليسير على أي مؤرخ أن يفسر التحريم بالقول إن هذا أو ذاك من رجال الدين من أصحاب النفوذ رأوا أن الجنسية المثلية ضد الطبيعة. ولكن بوسويل أثبت أنه كان هناك الكثيرون من الأشخاص المتميزين الذين أعربوا عن موقف مضاد (١٩٨٠م). ولا يستطيع بوسويل بما تيسر له من مناهج نظرية أن يفسر لنا لماذا تقدم هذا الرأي دون سواه، ولم يكن باستطاعته أن يفسر لماذا كان المجتمع يعاقب المثليين عقابًا أشد قسوة من مرتكبي الزنا؛ بينما العهد الجديد (الإنجيل) يُدين الزنا بأشد كثيرًا من إدانته للجنسية المثلية. كل ما يمكن قوله هو أن تعاليم الكتاب المقدس جرى تطبيقها على نحو انتقائي.

وحدث تشدد تدريجي فيما يتعلق بالأخلاقيات الجنسية منذ بداية الحقبة الوسيطة، واستمرت مع انقطاعات محدودة حتى العصر الفيكتوري. وتلازم اضطهاد المنحرفين جنسيًّا مع اضطهاد اليهود والهراطقة والسحرة وغيرهم من المنحرفين، ولم يكن بوسع المرء دائمًا أن يمايز بين أنواع الانحراف المختلفة، حتى إنه كان يستحيل أحيانًا بيانُ ما إذا كان المنحرف متهمًا بالهرطقة أم بممارسة السحر أم بهما معًا.

وثمة فكرة تقر بوجود رابطة وثيقة بين القهر السياسي والقهر الجنسي، وأول من قال ذلك هو ويلهلم رايخ Wilhelm Reich الذي اخترع مصطلح السياسات الجنسية sexual politics. وفريضته الرئيسية هي أن القمع الجنسي، وبخاصة التربية الجنسية السلبية للأطفال، تفضي إلى نزعة تسلطية، وإلى نزعة محافظة، وإلى الخوف من الحرية (رايخ، ١٩٣٣م). وكانت نظريات رايخ أحيانًا منحازة سياسيًّا ومتكلفة، ولكن ملاحظاته عن العلاقة بين الكبت الجنسي وهياكل السلطة السياسية والدينية لا تزال لها أهميتها.

تاريخ الجنسانية

أسس عصر التنوير المُثل العليا للحرية الدينية وحرية التعبير والديمقراطية، والتي كانت عوامل مهمة من عوامل الثورة الفرنسية. لم يعد الناس يرتضون الهيمنة السافرة من جانب الكنيسة والملوك، وأضحت هذه المثل العليا عن الحرية منذ ذلك التاريخ سلاحًا قويًّا ضد أهم الوسائل الريجالية. وحظيت هذه المُثل بقَبول واسع النطاق تزايد أكثر فأكثر، ومع اتساع نطاقها تضاءلت القوى الريجالية وتقصقصت أجنحتها؛ ولهذا باتت بحاجة إلى صيغ ريجالية جديدة أقلَّ شفافيةً؛ ومن ثم أكثر مناعةً إزاء الحرب الأيديولوجية.

ولا تزال الحرية الجنسية خارج نطاق أيديولوجيات حقوق الإنسان وحرية التعبير؛ لذلك فإن القهر الجنسي يستعصي على النقد الأيديولوجي أكثر من أية وسائلِ قهرٍ أخرى. ومن هنا آثرَت قوى الانتخاب التعاليم الأخلاقية الجنسية الصارمة، وكم هو عسير اختراق التجليات الاجتماعية للتعاليم الأخلاقية الجنسية! ومن ثم عسير انتقادها أيضًا. وربما حدثت هذه العملية الانتخابية دون توفر فهم بشري كامل معاصر للأسباب.

يعود تاريخ بناء الأسرة النواة والحياة الخاصة إلى القرن الثامن عشر، وشكلت الأساس لتمجيد السعادة الزوجية والحب الصادق في إطار الرومانسية والنزعة الفيكتورية (أرييس Ariès، ١٩٦٠م). وربط المجتمع التناسل بالزواج، والحياة الأسرية بعملية التحكم البدني والروحي. وأبقى المجتمع على المرأة بوجه عام جاهلةً بكل ما يتعلق بالتناسل، وساد تصور بأن الدافع الجنسي لدى المرأة أمر مَرَضي وخطر. وساد كذلك الاعتقاد بأن الطبيعة الحقة للمرأة تقضي بأن تحب أطفالها والولاء والإخلاص لزوجها، ولكن الجنس والتناسل ليس حقًّا بل واجبٌ على الزوج والدولة، وهو تنفيذ لإرادة الرب. وعمد الآباء إلى دفع الأبناء إلى سوق العمل في فترة باكرة جدًّا. وشكل هذا حافزًا اقتصاديًّا لإنجاب أبناء كثيرين، وكانت الزيادة الكبيرة في إنجاب الأبناء شرطًا مسبقًا لكي يستطيع الأوروبيون استعمار نصف المعمورة (هاينسون وآخرون Heinson، ١٩٧٩م).

مفهوم الجنسانية

صِيغَ مفهوم الجنسانية sexuality بمعناه الحديث خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وسادت قبل ذلك التاريخ كلماتٌ دالة على الاتصال الجنسي وعن الحب، ولا تدل على ما نسميه نحن الآن بالجنسانية (أوسيل Ussel، ١٩٧٥م). وجرت مناقشة الجنسانية وصياغتها صياغةً نسقية منهجية وضبطها وجعْلُها موضوعًا لدراسة علمية وخطاب علمي. واكتسبت الجنسانية خطابًا علميًّا عن الطبيعة البشرية، وأخذت ثوب علم موضوعي؛ مما جعل من الصعوبة انتقادَ معايير القمع الجنسي (فوكو، ١٩٧٦م).

وهناك من دفع بأن مفهوم الجنسانية الحديث تحدَّد بطريقة تعسفية يصعب بيان سبب نظري لذلك. نعرف أن البشر لديهم الكثير من المشاعر المرتبطة باللذة ودوافع وثيقة الصلة بأنشطة الحياة اليومية، وكذا صداقات بين بعضهم البعض. وتحدَّد تقليديًّا أن هذه مشاعرُ لا جنسية، على الرغم من الصفات المشتركة الكثيرة جدًّا بينها وبين الجنسانية. وطبعي أن بيان حدود ومعالم الجنسانية ضروري للحفاظ على قصور الجنسانية كشيء متعالٍ — أي كنطاق خاص يعلو على الحياة اليومية — والذي يتعين تنظيمه وَفقًا لقواعد وطقوس خاصة. وحتى ندعم هذا التحديد المصطنع يغدو ضروريًّا فرضُ قيود على الخبرات اليومية اللاذة؛ حتى لا تكون مماثلة كثيرًا للأفعال الجنسية أو للمشاعر الجنسية. مثال ذلك الأصدقاء الرياضيون يمكن أن يعانق أحدهما الآخر دون أن يقبِّله.

وتحولت معالم وحدود الجنسانية في نهاية المطاف إلى لغز على أيدي فروع مختلفة للعلم؛ مثال ذلك أنْ أثبت علماء النفس أن الغرائز الجنسية تلازم المرء في مواقف كثيرة لا علاقة لها بالتناسل (فرويد، ١٩٠٥م). ويؤكد علماء الاجتماع أن مفهوم الجنسانية مفترَض ذهني تعسفي (فوكو، ١٩٧٦م). وأوضح علماء السلوك المقارن أن الحب الرومانسي ترجع أصول نشأته التطورية إلى الحب الأبوي، وأن السلوك الجنسي له وظائفُ أخرى علاوةً على التناسل، ونتيجة لذلك استخدمت كلمة الجنسانية في هذا الكتاب بأوسع معنًى ممكن لها. وإنها لمشكلة أننا لا نستطيع أن نرسم حدًّا فاصلًا بين الدوافع الجنسية وغيرها من الدوافع اللاذة، إذا ما كان لمثل هذا التحديد أيُّ معنًى أصلًا. وربما يكون عسيرًا تعريف الجنسانية، بيد أننا لا نستطيع أن نمضي دون صوغ كلمة دالة عليها طالما وأنها خضعت لتنظيم اجتماعي واسع النطاق، وهو ما نريد دراسته.

الأخلاقيات الجنسية وسائل ضبط وتحكُّم

حيث إن الكثير من المحارم الأخلاقية تبدو أمورًا غير واضحة الهدف وغير عقلانية، فإنها تهيئ لنا مثالًا ملائمًا جدًّا لدراسة كيف تتطور المعايير الاجتماعية من خلال الانتخاب الثقافي وبشكل مستقل في الغالب الأعم عن التخطيط العقلاني.

إذا كان لقواعد الأخلاق الجنسية غرض مفهوم؛ مثل خفض عدد المواليد، فإن أي نوع من أنواع النشاط الجنسي لا يفضي إلى الحمل سيكون بديلًا مقبولًا كمتنفَّس للدوافع الجنسية الضاغطة، ولكن نظرًا لأن القيود الأخلاقية تكون في الغالب موجهة تمامًا ضد هذه الأشكال من الجنسانية، يصبح واضحًا أن وظيفة هذه الأخلاقيات الجنسية هي إرغام الناس على الإكثار من النسل وليس الإقلال. وتدفع تعاليم الحظر إلى الزواج المبكر وإلى إنجاب الكثير من الأبناء نتيجة إشباع الدوافع الجنسية. وأجد من الضروري أن أفسر الوظائف الاجتماعية للجنسانية بتفصيلٍ أكبرَ لبيان أثر الجنسانية على الهيكل الاجتماعي.

(١) الآليات النفسية

تحدثت في الباب السابع عن آلية لدى قردة البابون تجعلها تغير سلوكها الجنسي والاجتماعي إذا ما تغيرت الظروف الإيكولوجية الخارجية. وتختفي ظاهرة الجماع المختلط promiscuity في ظروف هيمنة المنافسة الخارجية للجماعة على المنافسة داخل الجماعة، ويصبح السلوك الجنسي خاضعًا لسيطرة هيكل ثابت لنظام الحريم harem structure، ويصبح للذكور وضْعُ الهيمنة الواضحة على الإناث. وأشرت إلى أن رد الفعل هذا يمكن تفسيره على أنه آلية انتخاب بديلة، وإذا كانت مثل هذه الآلية ممكنة الحدوث بالنسبة لقردة البابون، إذن فإنها ممكنة أيضًا بالنسبة للبشر. وسبق أن رأينا أن النزاعات خارج الجماعة وكذا عوامل أخرى تهدد أمن المجتمع كجماعة واحدة من شأنها أن تفضي إلى نزعة هيمنة شمولية. ومن الممكن أيضًا أن هذه الآلية نفسها، أو آلية مماثلة، أن تجعل البشر ينظمون حياتهم الجنسية وَفق أنماط ثابتة عندما تتعرض الجماعة البشرية للخطر، وأن يأتي التنظيم بالطريقة نفسها التي حدثت بين قردة البابون. معنى هذا أن الناس في ظل ظروف الهيمنة الريجالية سوف يجعلون الهيكل الاجتماعي أكثر إمعانًا في الوضع التراتُبي الهرمي والأبوي، ويجعلون المعايير الأخلاقية الجنسية وغيرها أكثر صرامة، ويَزيدون من إنجاب الأطفال. وهذه هي الاستراتيجيات التي تجعل الجماعة أكثر صلاحيةً للانتخاب الريجالي. وتصبح نظرية آليات الانتخاب النفسي البديل تفسيرًا محتملًا يفسر لماذا تفضي الهيمنة الريجالية إلى مزيد من المعايير الأخلاقية الجنسية الصارمة.
وتؤدي آليات الانتخاب البديل إلى حدوث رد فعل أسرع كثيرًا إزاء الظروف الخارجية المتغيرة من أي انتخاب طبيعي أو ثقافي قائم على المحاولة والخطأ. ونذكر كمثال عن التغير السريع في المعايير الأخلاقية الجنسية إصدار تشريع يقنِّن الإباحية الجنسية في الدنمارك عام ١٩٦٩م، وحدث التحول في الموقف السياسي الداعم لهذا التحرر خلال عشر سنوات تقريبًا، وتبين أن هذا التغير لم يكن مبنيًّا على معارف علمية جديدة بشأن الآثار الناجمة عن الإباحية الجنسية، ولا على تقييم جديد لحق الدولة في التدخل في الحياة الشخصية والخاصة للناس (كوتشنسكي Kutchinsky)، وتغير الموقف الرسمي في الولايات المتحدة من الإباحية الجنسية من التسامح إلى الإدانة، وربما بالسرعة نفسها (قارن على سبيل المثال لوكهارت Lockhart، ١٩٧٠م؛ وميز Messe، ١٩٨٦م). وارتبط هذا التشدد الأخلاقي بالخوف المتزايد بحدَّةٍ من الجرائم الجنسية والعنف الجنسي، والذي انعكس في الخطاب السياسي وكذا في الخطاب المهني والعلمي.

آلية الإدامة الذاتية

والانتخاب البديل ليس التفسير الممكن الوحيد للتغيرات السريعة في المعايير والمواقف؛ ثمة إمكانية أخرى، وهي آليات التغذية المرتدة الإيجابية. وتوجد إمكانيات عديدة لمثل هذه الآليات، والتي سوف أناقش بعضها هنا.

المجتمع الذي تقيِّد الحياة الجنسية فيه محارم كثيرة ينزِع الناس فيه إلى استدخال هذه المحارم كمبادئ ذاتية دينية؛ ومن ثم يدخلون في صراع مع أنفسهم نظرًا لوجود رغبة غير شعورية لديهم لعمل ما هو ممنوع. ويتمثل رد فعل النفس إزاء هذه الصراعات الباطنية intrapsychic في صورة آليات دفاعية من مثل التكوين العكسي١ والإسقاط projection. ويتجلى التكوين العكسي في صورة مبالغة وَسْواسية obsession في التماثل الاجتماعي، ويتجلى الإسقاط في الظاهرة التي يحاول فيها المرء مكافحة دوافعه المكبوتة عن طريق مهاجمة الآخرين ممن يعزو إليهم الدوافع ذاتها؛ ولهذا فإن الشخص المبتلى بكمٍّ هائل من الرغبات المحظورة سيكون أول من يُدين الآخرين ممن يتهمهم بأن لديهم الرغباتِ نفسَها. والنتيجة المترتبة على هذه الآليات النفسية، وهي نتيجة ظاهرة التناقض، هي أن الشخص الذي يعاني من أكبر قدر من المشكلات نتيجة امتثاله للمحارم سيكون أول من يقر ويساند المحارم ذاتها التي هي علة إحباطاته. ويسود رأي بين علماء النفس مفادُه أن هذه الآلية نشطة لدى من يكشفون عن خوفهم من الجنسية المثلية (آدمز وآخرون، ١٩٩٦م؛ هيريك، ١٩٨٤م؛ شيكرز وهاريمان، ١٩٨٤م). وأجد مبررًا للاعتقاد بأن آلياتٍ مماثلةً مسئولةٌ فيما يتعلق بمحارم جنسية أخرى. إن الصراع الواعي يشي بالتمرد؛ بينما الصراع المكبوت يفضي إلى المبالغة في التماثل.

والملاحظ أنه كلما زادت القيود على الإمكانيات المشروعة للنشاط الجنسي زادت معها الأنشطة غير المشروعة. ولن تقتصر الزيادة على الجرائم «البسيطة» ذات الطبيعة الأخلاقية الخالصة، بل وأيضًا جرائم العنف الجنسي التي يرتكبها يائسون عجزوا عن التحكم في الصراعات النفسية الباطنية. وإن من يوصَمون بارتكاب خطايا جنسية سوف تتطور لديهم تدريجيًّا انحرافاتٌ ثانوية لاجنسية كرد فعل إزاء القهر الاجتماعي. ويمكن أن تشتمل الانحرافات الثانوية على سلوك عنيف أو مناهض للمجتمع، وعلى إدمان الكحوليات والعزلة الاجتماعية (ليمبرت، ١٩٦٧م؛ وفوج، ١٩٩٢م). ويزيد الطين بلةً حين ترى أن الصدمة النفسية لدى ضحايا جرائم الجنس تكون أشد حدةً إذا ما كانت قيمهم الأخلاقية قيَمًا صارمة متزمتة. وجدير بالذكر أن الجرائم الجنسية، وكذا الانحرافات الثانوية المصاحبة لها، تدفع المجتمع إلى المطالبة بتشدد المجتمع في السيطرة على الجرائم الجنسية، وإلى تطبيق معايير أخلاقية جنسية أكثر صرامة. وإذا حدث، من ناحية أخرى، أنْ تراخت القيود الأخلاقية، فسوف تنعكس الدائرة الخبيثة وينخفض عدد جرائم الجنس. والملاحظ أن جرائم الجنس الخطرة انخفضت كثيرًا في الدنمارك بعد تشريعاتها الجديدة.

(٢) انتخاب الخطاب

لدى أغلب الناس نزوع لمناقشة الجنس أو الاستماع إليه؛ لأنه الزرار الذي يثير الضغط عليه كوامن النفس، وربما تكون للخطاب الجنسي في ذاته قيمة إباحية، وربما يأمُل المرء في أن المزيد من المعرفة في هذا تجعله أسعد حالًا، أو ربما يكون الحافز إلى الخطاب حاجةً إلى أن يُحدث أثرًا من خلال الصراعات والإحباطات النفسية الباطنية. وتتباين القيود والحدود لدى المجتمعات المختلفة تباينًا حادًّا لما هو ممكن من الخطابات؛ إذ يستحيل في مجتمع قائم على الكبت الجنسي أن يجري حديث عن الجنس بعبارات محايدة، ناهيك عن تمجيد اللذة الجنسية. وهنا يكون الحديث الممكن فقط عن الجنس خطابًا يحذر ويُدين، ومثل هذا الخطاب أفضل من لاشيءٍ بالنسبة لشخص يريد الحديث عن الجنس أو الاستماع إليه. لذلك فإن من الأمور ظاهرة التناقض جدًّا أن الخطاب الجنسي السلبي يتولاه في الأساس من كانوا أحقَّ بالإدلاء بخطاب إيجابي؛ بينما أولئك الذين يريدون صادقين أخلاقيات صارمة يؤثِرون اتباع أساليب الصمت، وتجري هنا عملية قوية للانتخاب بين الخطابات. وسوف يستغل الشخص المِهْذار الثرثار أيَّ استثناء من الحظر ضد الكلام. ويزخر الأدب المهني بعبارات اللوم والتحذير (فوكو، ١٩٧٦م). ونلحظ أن الأعمال الروائية تكون مكتوبة مع الالتزام بخط قصصي جريء، ولكن حيث تنتصر الأخلاق في النهاية، ويلقى الخطَّاءون القُساة الغِلاظ حتفهم، ثم تتوب وتندم الضحية التي غُرِّر بها لسذاجتها، ويجري إنقاذها. وازدهر مثل هذا النوع من الأدب مع مطلع القرن العشرين، ونجد في حالات كثيرة كيف أن المؤلف أراد على الأرجح توصيل رسالة إيجابية، ولكنه ضمَّنها تحذيرات سلبية لتجنب الرقابة والعقاب. ويبدو هذا واضحًا بوجه خاص في الأعمال الروائية والمسرحية التي تتناول الانحرافات الجنسية من نوع الجنسية المثلية، وأوضح مثال على هذا رواية رادكليف هول Radclyff Hall بعنوان: The Well of Lonliness، ورواية توماس مان Thomas Mann، بعنوان: Death in Venice.
ويتجلى هذا النوع من ازدواجية المعايير في الصحف أيضًا، بل وفي المجتمع الليبرالي المعاصر. والمعروف أن الجنس يستثير القراء ويضاعف من بيع الصحف، ولكن الاحتفاء باللذات الجنسية يعتبر انحطاطًا بالصحف، هذا بينما تعتبر موضوعات الجرائم موضوعاتٍ جادة؛ لذلك فإن الصحافيين المؤمنين بأن الجنس يبيع غالبًا ما يغرقون أنفسهم في عمليات استعلام وتحرٍّ بدون قيود عن فضائح وجرائم الجنس، ولا يتورعون عن الإغراق في مبالغات لاستثارة هوى القراء ودغدغة مشاعرهم. وإنهم بذلك — وعن غير قصد — يوصلون إلى القارئ خطابًا سلبيًّا فيه إدانة للجنس. هذا على الرغم من أن الهدف الخفي هو الضغط على زرار الإباحية الذي يستثير كوامن النفس. مثال آخر لانتخاب الخطاب هو حركة تحسين النسل في أوروبا خلال فترة ما بين الحربين، والذي استُخدم كمبرر لمناقشة الجنسانية وموانع الحمل (جونس ج. Jones G.، ١٩٨٠م).

(٣) المخطوطات الاجتماعية

السلوك الجنسي عند البشر مشحون بدلالة اجتماعية، وإن جزءًا بسيطًا جدًّا من الأفعال المدفوعة جنسيًّا هو الذي يهدف مباشرةً إلى التكاثر؛ لذلك فإن النماذج الفسيولوجية لا تكفي لتفسير الحياة الجنسية البشرية، ولعل الأفضل تأويل الأفعال الجنسية باعتبارها طقوسًا ذاتَ معانٍ اجتماعية وجنسية معًا. ورغبةً مني في وصف العلاقة بين الأفعال والمعاني سوف أستخدم مفاهيم كلٍّ من سيمون وجاجنون Simon & Gagnon التي ترتكز على نظرية المعرفة الاجتماعية، وأُحيل من يريد من القرَّاء الاستزادة إلى سيمون وجاجنون (١٩٨٤م).

ونظرًا لأن السلوك الاجتماعي يتحقق من خلال التعلم أساسًا، فإن بالإمكان وصفه بالمحاكاة. ويتعين دمج الحوافز الشخصية مع دلالات اجتماعية متاحة حتى يكون الفعل ممكنًا. ويصور لنا سيمون وجاجنون هذه العملية المركبة وكأنها تدوين مخطوطة. ونستخدم كلمة مخطوطة هنا وكأنها مجاز للدلالة على معرفة وإنتاج الفعل الاجتماعي، ويعكس أداء أيِّ دور اجتماعي، بشكل مباشر أو غير مباشر، محتويات السيناريو الثقافي الذي تعلمه المؤدي. وجدير بالذكر أن المخطوطة الاجتماعية لا تصف الأدوار والأفعال فقط، بل تصف كذلك الحوافز والمشاعر التي من المفترض أنها لدى الفاعل. ومن ثم إذا كانت حوافز ومشاعر شخصٍ ما ليست متوافقة مع ما هو متوقع اجتماعيًّا، فإن بإمكانك الحديث عن تنافر بين المخطوطة الثقافية والمخطوطة المضمرة في النفس.

ولا يوجد — من حيث المبدأ — أيُّ فارق أساسي بين الأفعال الجنسية والأفعال الأخرى إلا من حيث إن الجنسانية مقترنة بدلالة اجتماعية خاصة فقط، ويجري استدخال الدلالة الثقافية للأفعال الجنسية في ضمائر الناس إلى درجة أن أي تنافر بين الدوافع الباطنية والدلالات الثقافية يُفضي إلى ظهور صراعات نفسية باطنية خطرة تستثير آليات دفاعيةً؛ مثل الكبت والتكوين العكسي والتسامي … إلخ. وينتج عن هذا أن المخطوطة الثقافية أداة قوية للتحكم في سلوك الناس، وأن القليلين من الناس هم من يتوفر لديهم قدرٌ كافٍ من الخيال والأصالة لتنفيذ وتبرير أي فعل غير مكتوب في أي مخطوطة ثقافية، وليس لديهم علم عن أي إنسان آخر يأتي مثلَ هذا الفعل، ولا يعرفون عنه أو له أي دافع أو معنًى. وإن بالإمكان إسكاتَ أي فعل ومحوَه من أي مخطوطة ثقافية وإزالةَ أية إشارة إليه في مفردات لغة الناس، ثم يصبح بالإمكان عمليًّا الحيلولةُ دون إتيان هذا الفعل.

ونذكر أن السلطات في إسكندينافيا خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر نجحت بالفعل في إخماد ظاهرة الجنسية المثلية، حتى أضحت في خبر كان افتراضيًّا. وأثبت المؤرخ الدنماركي فون روزين Von Rosen (١٩٨٨م؛ ١٩٩٣م) أن السلطات خلال هذه الفترة آثرت ألا تضطهد الأشخاص الذين ارتكبوا «معاصيَ غير طبيعية»؛ لأنها رأت أن الأهم هو الصمت إزاء الظاهرة وتجنُّب الإيحاء إلى الآخرين بعمل الشيء نفسه، وأن هذا في رأيها أهم من تجريم المذنبين. ولم يكن لدى الناس — كما هو واضح — ولو مفردات لغة ملائمة وكافية لمناقشة مثل هذه الظاهرة. ولكن مساحات المعلومات المشتركة في أوروبا الوسطى كانت من الضخامة بحيث كانت استراتيجيةُ الصمت مستحيلة، واضطرت السلطات إلى محاربة بيت الداء بإعلان أنها رذيلة غير طبيعية وخطيئة كبيرة، وعمدت إلى إحراق المذنب فوق خازوق.

وتعتبر المخطوطات الاجتماعية وسائل تحكُّم قوية بخاصة في مجال السلوك الجنسي، وخير مثال على هذا تعريف مفهوم الجنسانية في الثقافة المسيحية. والمعروف أنه خلال العصور الوسطى جرى تضييق مفهوم الجنسانية تدريجيًّا وحصرُه في مفهوم يقضي بأن الوظيفة الوحيدة للأفعال الجنسية هي التكاثر؛ ومن ثم فإن أي فعل جنسي لا يخدم هذا الغرض هو فعل غير طبيعي. وعلى الرغم من أن هذه الفكرة ترجع نشأتها إلى الفلسفة الوثنية، إلا أن الكنيسة قبِلتها تدريجيًّا، وأضحت هي الداعية الرئيسية للنظرة القائلة بأن الجنسانية هي عين التناسل. ونلحظ اليوم أن هذا النهج في التفكير راسخ بعمق في الثقافة الغربية؛ حتى إن علماء الجنس على اختلاف عقائدهم أمْيُل إلى تحديد الجنسانية في ضوء فعل التناسل.

(٤) المحارم (التابو) والقداسة

غالبًا ما يجري تنظيم السلوك الجنسي للبشر عن طريق المحارم (التابو). ولحَظ علماء عديدون أن المنطقة المحرمة أو المدنسة، والتي ينظر إليها باعتبارها خطرةً وغير طاهرة، يمكن وصفها أيضًا بالمقدس؛ بمعنى أن لها دلالة متعالية خاصة. إن ثمة رابطة تربطها بعالم غير مرئي زاخر بالقوى السحرية الخفية التي تتصف بالقوة والجبروت والخطر (دوجلاس إم، ١٩٦٦م؛ وفرويد، ١٩١٣م؛ وبرجسن، ١٩٧٨م). ومن الأمور ذات الدلالة أن هذه القداسة ظلت على قيد الحياة بعد سيادة العلمنة في مجتمعاتنا، ونجد الجميع على اختلاف عقائدهم، بل ومن ينكرونها، يؤمنون بالمحارم الجنسية، على الرغم من صعوبة تقديم تبرير عقلاني لذلك. ولم يعد أحد يعرِّف المحارم باعتبارها مقدسات، ولكن لا تزال الحياة الجنسية أبعد من أن نشعر بها وكأنها جزء من حياتنا اليومية الدنسة. إنها تنتمي إلى عالم آخر؛ حتى إننا حين ننتقل إلى عالم الحياة الجنسية غالبًا ما نشعر وكأن هويتنا تغيرت:

«وينعكس فصل الهوية الشَّبَقية عن الهوية اليومية في الخبرة التي تتصف بالتعارض الشديد، والتي تحدث لدى الجميع عند مباشرة أفعال جنسية صريحة.»

(سيمون وجاجنون، ١٩٨٤م)

وثمة وظيفة للمحارم (التابوهات) الكثيرة المقترنة بالجنسانية؛ ألا وهي الحفاظ على تأصل القداسة في الحياة الجنسية؛ ومن ثم صون التعارض والفصل بين الحياة الجنسية والحياة اليومية الدنسة. وتفيد كذلك في دعم التمايز القوي بين الحب والجنس، والذي تعتمد عليه ثقافتُنا الأخلاقية.

ويرى فرويد أن أساس أي محرم (تابو) يكمن في فعل محظور تربطه صلة قوية لاشعورية. ونجد من الخصائص المميزة للمحارم أنها ممتدة بحيث لا تشمل فقط الموضوع أو الفعل المحظور، بل وأيضًا أيَّ تمثيل رمزي دالٍّ عليه؛ وذلك لأن التمثيل الرمزي للفعل المحظور يتضمن غوايةً بارتكاب الفعل المحظور (فرويد، ١٩١٣م). معنى هذا، فيما يتعلق بالجنسانية، أن أي كلمة أو صورة تمثل موضوعًا جنسيًّا لا بد من تحريمها؛ دعمًا لقداسة الجنس. وهذا هو السبب في الحظر واسع النطاق لكل ما هو إباحي.

وغالبًا ما وصِف في الغرب الحظر على الموضوعات الإباحية بأنه تفكير سحري: أنت تحاول محاربة الجنسانية النشاز عن طريق التحكم في تمثيلها الرمزي. ويمكن مقارنة هذا بالشعوب البدائية التي تحاول محاربة العدو بالهجوم على دمية أو صورة تمثل هذا العدو (جارفي Jarvie، ١٩٨٧م). وإن محاربة التمثيل الرمزي دون الظاهرة الحقيقية ليس مظهرًا من مظاهر الاحتلال الوظيفي على نحو ما يبدو للوهلة الأولى. إن سلوكنا الجنسي يحدده مفهومنا عن ماهية الجنسانية ودلالتها الثقافية، أو بعبارة أخرى: مخطوطتها الاجتماعية. وهذه الدلالة أو المخطوطة الاجتماعية يمكن توصيلها عن طريق هذه الرموز تحديدًا التي يهاجمها المجتمع. والملاحظ أن الفعل الجنسي الفردي يجري عادةً وعلى نحو طبيعي خُفيةً عن المجتمع؛ ومن ثم لا يخضع للمراقبة وللتحكم المادي. ولكن توصيل الرموز الجنسية حدثٌ عام ويمكن التحكم فيه. وطبيعي أن التحكم المادي سوف يفضح ويكبح شريحة صغيرة من الأفعال الجنسية المرفوضة، ولكن التحكم في الاتصال الرمزي للدلالات الجنسية من شأنه أن ييسِّر التحكم في سلوك الناس جميعًا؛ ممن يقرُّون عالم الرموز الأخلاقية أو المخطوطات الأخلاقية الاجتماعية السائدة.

وتستخدم عالمة الأنثروبولوجيا ماري دوجلاس (١٩٦٦م) كلمة نجس أو غير طاهر للدلالة على كل ما من شأنه أن يُفسد النظام القائم، فالأشياء الموضوعة في غير مكانها، أو الأشياء الواقعة على الحدود بين فئتين، غالبًا ما تُعتبر غيرَ طاهرة أو دنسةً أو قوية المفعول أو خطرة أو محرمًا (تابو). والملاحظ أن الناس في العصور الوسطى اعتبروا التركيب الخنثوي رحمة؛ لأن الخنثى يقع على الحدود بين الرجل والمرأة، وهذا انتهاك لنظام الطبيعة. ويسود اعتقاد في ثقافات أخرى؛ مثل ثقافة المواطنين الأمريكيين الأصليين بأن الخِناث يتمتعون بقوًى سحرية؛ ولهذا ينظر إليهم المجتمع نظرة تقدير. واعتادت أوروبا حوالي القرن السابع عشر معاقبة أحداث الاتصال الجنسي بين البشر والحيوانات؛ وذلك بإحراق الإنسان والحيوان لأن كليهما دنس. ونظر المجتمع إلى مثل هذا الفعل الجنسي باعتباره حدثًا شديد الخطر؛ لأنه يهدد بتدمير الحد المهم الفاصل بين الإنسان والحيوان. وفرضت المجتمعات أيضًا عقوباتٍ قاسيةً على أفعال الجنسية المثلية؛ لأنها تهدد النظام الطبيعي وتمحو التمييز بين الرجل والمرأة. ونجد من ناحية أخرى أن الأفعال الجنسية بين الكبار والأطفال لم تنظر إليها المجتمعات باعتبارها مشكلةً خطرة؛ لأن الحد الفاصل بين الطفل والبالغ غيرُ ذي أهمية كبيرة؛ وأيضًا لأن الأطفال منذ سنِّهم الباكرة يتمتعون بنفس وضع الكبار. ولكن الأمر عادةً على النقيض تمامًا اليوم، ونجد مجتمعات نزعت طابع التحريم من الجنسية المثلية؛ وذلك بفضل المساواة بين الجنسين، ولم يعد المجتمع يصنف الخناث في فئة اجتماعية متمايزة، ولا تزال المجتمعات تنظر نظرة تحريم مشددة تجاه الصلات الجنسية بين الإنسان والحيوان؛ فضلًا عن أن هذه الأحداث نادرًا ما تثير الانتباه العام أو يفرض عليها المجتمع عقوباتٍ ما. ويعتبر الجنس بين الكبار والأطفال اليوم أقوى المحارم الجنسية قاطبة، ويقسو المجتمع بشدة على مرتكبي هذه الأحداث؛ وسبب ذلك أن مجتمعاتنا تهتم كثيرًا بالتمييز بين فئتَي الكبار والأطفال؛ علاوة على الرغبة في الحفاظ على صورة الطفل باعتباره كائنًا بريئًا جاهلًا ولا جنسيًّا ومستضعَفًا يستلزم الحماية.

وتركَّز الجدل بشأن الجنسانية أساسًا على ثلاثة محارم هي التي يدور النقاش مكثفًا حولها: جنسانية المرأة، جنسانية الأطفال، والمثلية الجنسية الذكرية. وإن الحرب الدائرة بين حركات الإصلاح الجنسي من ناحيةٍ والقوى الدينية الأخلاقية والمحافظة من ناحية أخرى؛ هي في الأساس خلاف حول هذه المحارم الثلاثة وتمثيلاتها الرمزية في صورة إباحية، وهذه هي الآن ساحة قتال مهمة بين القوى الكاليبتية والريجالية في المجتمع الغربي.

جنسانية الأنثى

قدرة المرأة على الشعور بالرغبة الجنسية والوصول بها إلى غايتها ليست خَصيصةً كلية شاملة؛ إذ ثمة مجتمعاتٌ المرأةُ فيها — كما هو واضح — لا تشعر بأية لذة خاصة مع النشاط الجنسي، بل وإن هزة الجماع عند الأنثى ظاهرة غير معروفة فيها؛ حتى إنه لا يوجد لها اسم. وغنيٌّ عن البيان أن الرغبة الجنسية عند الأنثى خاصة يمكن دعمها أو قمعها خلال التنشئة الاجتماعية، ولا يوجد ما يمنع الثقافات المختلفة من التطور على نحو مختلف في هذا الصدد، طالما وأن رغبة الأنثى ليست بالضرورة من أجل الإخصاب (ميد Mead، ١٩٤٩م).

والملاحظ في المجتمعات الريجالية والأبوية (البطريركية) أن النشاط الجنسي يرتكز على الواجب دون الرغبة؛ لذلك فإن أيديولوجيا العصر الفيكتوري التي تجعل الاتصال الجنسي واجبًا زوجيًّا على المرأة؛ تعطي الرجل أيضًا سلطة جنسية كاملة على المرأة. ولكن إذا عزونا إلى المرأة رغبة جنسية فإنها بدورها سوف تتحكم في جنسانيتها؛ ذلك لأن الرجل لا يستطيع إرغام المرأة على الشعور بالرغبة. إن المرأة بوسعها أن تنكر على زوجها حق الممارسة الجنسية أو أن ترفض الزواج من رجل اختاره والداها؛ استنادًا إلى حجة بسيطة؛ وهي أنها لا ترغب في ذلك. وإن ربط الجنسانية باللذة يعني أيضًا أن الحوافز للزواج تغيرت من العقلاني والملائم إلى الانفعالي. ولم يعُد بإمكان الوالدين الآن أن يقررا من الذي سوف يتزوج به أبناؤهما وبناتُهما؛ كما ارتفع سن الزواج.

لذلك فإن الرغبة الجنسية الأنثوية باتت تمثل تهديدًا للمجتمع الريجالي، وإن المرأة التي تكشف بوضوح عن رغبتها يَصِمها المجتمع بأنها مهووسة جنسيًّا، أي nymphomaniac، أو بأنها عاهرة، وليس الحال كذلك بالنسبة للرغبة الجنسية الذكورية؛ إذ يعتبرها المجتمع أمرًا سويًّا؛ ذلك لأنه هو الذي يسيطر ويقرر في المجال الجنسي مثلما يسيطر ويقرر في المجالات الأخرى. وتبدو هذه المعايير المزدوجة أوضحَ ما تكون فيما يتعلق بالدعارة: المرأة الداعرة موصومة ومُدانة دون عميلها. والدعارة هي النشاط الجنسي الوحيد غير الهادف للتناسل، ومسموح به في مجتمع بيوريتاني. نعم يعتبره المجتمع خطيئة، ولكن يتسامح معه على الرغم من هذا كشرٍّ ضروري، والسبب نظرة المجتمع إلى جنسانية الذكر على أنها دافع لا يمكن كبته، ولا بد وأن يجد منفذًا له. وإذا حدث أن الرجل، لسبب ما، لم يجد إشباعًا لدافعه من زوجته، فإنه يلجأ بالضرورة إلى مسارب أخرى.
وقد لا يكون من الإنصاف الزعم بأن ازدواجية المعايير هذه أمرٌ فرضه الرجل قسرًا على المرأة؛ ذلك لأن كلًّا من الرجل والمرأة في العصر الفيكتوري حرَصَا على جعل المرأة عاطلة من الهوى والانفعال العاطفي، ولكن لأسباب مختلفة. وتذهب نانسي كوت Nancy Cott إلى أن الرجل معنيٌّ بأن تكون المرأة محرومةً من الرغبة، أي لا رغبة عندها. وليس الهدف فقط زيادة تحكُّمه وسيطرته على المرأة، بل وأيضًا وإلى حد كبير تحسين قدرته هو على التحكم في نفسه، ولكن المرأة من ناحية أخرى أرادت أن تفرِّغ علاقتها مع الرجل من مضمونها الجنسي رغبةً منها في الحد من الأنشطة الجنسية؛ بحيث تقتصر على ما هو ضروري للتناسل، وبذلك تحدُّ بالتالي من الهيمنة الجنسية للذكر. والملاحظ حتى بالنسبة للنساء الداعيات إلى الإصلاح استخدمن تعطل المشاعر الجنسية لدى المرأة في حروبهن من أجل حق المرأة في تحديد عدد الأطفال المزمَع إنجابُهم (كوت، ١٩٧٨م).
إن الجهل والبراءة الجنسيَّين اللذين اكتنفا المرأة خفَّفا عنها الصراعات الواعية؛ إذ تم قمع الصراعات بين الدوافع الباطنية والمحارم (التابوهات) الخارجية داخل اللاشعور بعد أن استدخلت المرأة في ضميرها الفكرةَ التي تُقرر تعطل جنسانيتها، ولكن الرجل الذي احتفظ برغبته بات لزامًا عليه أن يغرس ويؤكد مسئوليته وسيطرته الذاتية لحماية المرأة المستضعفة. واتسع نطاق هذه السيطرة الذاتية لتشمل كل مجالات الحياة الاجتماعية وليس الجنسية فقط. أو بعبارة أخرى: إن الصراع بين الغريزة والأخلاقيات كان صراعًا شعوريًّا عند الرجل ومقموعًا في اللاشعور عند المرأة البريئة من الدوافع. وأصبح لزامًا على الرجل أن يعوض نقص الإشباع الجنسي عن طريق العمل، بينما المرأة محصورة داخل بيئة الحياة المنزلية الواقية عمَدت إلى التسامي عن طريق الدين؛ فهو القناة الوحيدة التي يمكن للانفعالات الجنسية أن تجد من خلالها تعبيرًا حرًّا دون أن يصيبها خجل (كومينوس Cominos، ١٩٧٢م). وهكذا خلقت الثقافة الفيكتورية مجتمعًا من رجالٍ أشداءَ في العمل، ونساءٍ يتصفن بالتقوى وأداء الواجب.

ولكن المرأة في العصر الفيكتوري لم تكن باردةً كما يصفها الأدب المعاصر، وأثبت المؤرخ كارل ديجلر أن هذا الأدب كان منظوريًّا وليس وصفيًّا؛ ذلك أن المفهوم الفيكتوري عن جنسانية الأنثى لم يَمضِ دون تحدٍّ ومعارضة. ووجد ديجلر براهين في الأرشيف الطبي تؤكد أن نساءً أمريكياتٍ كثيرات في هذه الحقبة راودتْهن الرغبة، وكانت لديهن القدرة على الوصول بالرغبة إلى غايتها (ديجلر، ١٩٧٤م). والملاحظ أن الأدب الأخلاقي كان في الأغلب ينطوي على تناقض ذاتي وميول ثنائية التضاد، فالجنسي طبيعي ولا طبيعي. وتتمثل المفارقة الأكبر في بذل قدر مهول من الطاقة في محاربة ما زعم المجتمع أنه غير موجود؛ جنسانية المرأة والطفل (روزنبرج، سي إي، ١٩٧٣م).

جنسانية الأطفال

الشأن المحوري لتربية الأطفال هو التطابق الثقافي للسلوك الجنسي؛ نظرًا لأنه في سن الطفولة يجري استدخال وغرس المعايير الأخلاقية والمخطوطات الاجتماعية، وكذا تطوير المشاعر الجنسية؛ مثال ذلك أن المرأة الباردة جنسيًّا لا تنشأ إلا من خلال تربية للأطفال معادية للجنسانية وللبدن، والمعروف أن التأثير الثقافي في الكبر لا يمكنه أن يُحدث هذا الأثر. وسبق لي أن ذكرت أن التنشئة السلبية إزاء الجنس تستطيع أن تخلق نزعةَ تسلُّط سياسي وديني، وتخلق طاعة وتحكمًا ذاتيًّا، وسوف أستكمل هذه النظرية ببعض الملاحظات التاريخية والأنثروبولوجية والنفسية.

عمَد أخصائي علم النفس العصبي المثيرُ للجدل جيمس بريسكوت James Prescott إلى مقارنة التنبيه الجسدي عند الأطفال في ٤٩ ثقافة بدائية، وقارن هذه البيانات بالمستوى العام للعنف والعدوان في هذه المجتمعات، ووجد بريسكوت مُعامل ارتباط مهم بين الحرمان الجسدي (أي الافتقار إلى الملامسة الجسدية) والمستوى المرتفع للعدوان والعنف. وخلص من هذه المعلومات مع ربطها باعتبارات فسيولوجية عصبية إلى أن التنبيه البدني للأطفال (الربت واللعب) ضروري لخلق مجتمع آمن يسوده السلم. علاوة على هذا وجد بريسكوت أن هذه العوامل مرتبطة بالعديد من العوامل السلوكية الأخرى؛ مثل تلك المعروضة في الجدول ١٠-١ (بريسكوت، ١٩٧٥م).
وواضح أن غالبية أنماط السلوك الواردة في الجدول ١٠-١ ذات شأن مهم بالنسبة لنظرية R/K الثقافية، وتحتوي القائمة الأولى على سمات كاليبتية، بينما تعرض القائمتان الأدنى بشكل أساسي سلوكيات من الخصائص المميزة للثقافات الريجالية. وليس بالإمكان استخدام التحليل الإحصائي عند بريسكوت للتمييز بين السبب والنتيجة. ترى هل الإهمال في تنشئة الأطفال هو الذي يفضي إلى مجتمع عنيف؟ أم أن المجتمع الذي يسوده العنف هو الذي يفضي إلى الإهمال؟ ليس بالإمكان تحديد ذلك تأسيسًا على هذه الإحصاءات، ولكننا نستطيع فقط أن نؤكد أن هناك ارتباطًا بين الاثنين. وإن من المرجح أن التأثير السببي يمضي في الاتجاهين معًا في عملية دعم وإدامة ذاتية، ولعل الشيء المهم فيما يتعلق بالنتائج التي توصل إليها بريسكوت أنها تكشف عن علاقة قوية بين التغذية البيئية للأطفال وقائمة طويلة من المؤشرات الأخرى الريجالية والكاليبتية. وثمة بحث آخر عن التداخل بين الثقافات أكد الرابطة بين تنشئة الأطفال والعنف في المجتمع (روس، ١٩٨٥م). ويفيد هذا البحث أن مستوى العنف تحدده استعدادات نفسية مكتسبة في الطفولة، بينما نسبة الصراعات الداخلية إلى الخارجية في مجتمعٍ ما يحددها الهيكل الاجتماعي (روس، ١٩٨٥م).
وجدير بالذكر أن أعلى درجة في إهمال الأطفال حدثت على الأرجح في العصر الفيكتوري؛ إذ اعتاد الآباء الميسورون خلال هذه الفترة استئجار مربيات لرعاية أطفالهم، أو أن يرسلوا أطفالهم إلى مدارس داخلية (أرييس، ١٩٦٠م). ويبدو واضحًا أن الحب الأموي لم يكن ظاهرةً معروفة؛ إذ لم تكن الأمهات هن اللاتي يرضعن أطفالهنَّ، ولكن يرضعون من ثدي مرضعات أو من زجاجات (بادينتر Badinter، ١٩٨٠م).
جدول ١٠-١: عوامل السلوك وثيقة الارتباط بالتنشئة البدنية للأطفال والاتجاهات إزاء الجنس قبل الزواج (عن بريسكوت، ١٩٧٥م.)
سلوك الكبار في مجتمعات يتوفر فيها الحنان البدني بكثرة مع الأطفال
– انخفاض مستوى الاستعراض الفردي للثروة.
– انخفاض حوادث السرقة.
– ارتفاع مجمل تدليل الطفل.
– انخفاض الألم البدني عند الأطفال.
– ندرة أحداث قتل أو تعذيب أو تشويه بدن الخصم.
– انخفاض النشاط الديني.
سلوك الكبار في مجتمع يُنزل العقاب بأطفاله على أيدي الأبوين أو شخص مسئول عن رعايتهم
– الرق موجود.
– تعدد الزوجات.
– تدنِّي وضع المرأة.
– انخفاض مستوى العلاقة الوجدانية مع الأطفال.
– انخفاض مستوى تدليل الأطفال بعامة.
– انخفاض مستوى تطوير سلوك الرعاية في نفس الطفل.
– الكائنات الخارقة للطبيعة عدوانية.
سلوك الكبار في مجتمعات تفرض عقابًا قاسيًا على الجنس قبل الزواج
– حجم المجتمع كبير.
– الرق موجود.
– ارتفاع معدل التعقد المجتمعي.
– ارتفاع نسبة الجريمة الشخصية.
– ارتفاع نسبة التقسيم الطبقي.
– ارتفاع نسبة أحداث السرقات.
– صغر حجم العائلات الممتدة.
– إنزال العقاب على ممارسة الجنس خارج الزواج.
– شراء الزوجات.
– ارتفاع نسبة الحصر النفسي بسبب الختان.
– طول مدة تحريم الجنس بعد الوضع.
– التطرف في الولع بالقتال.
– ارتفاع نسبة قتل وتعذيب وتشويه بدن الخصم.
– ارتفاع نسبة العجز الجنسي.
– ارتفاع نسبة النرجسية.
– التأكيد على الرقص الاستعراضي.
– حدود الدين في كل الأخلاقيات البشرية.

وبلغ قمع جنسانية الأطفال ذروته في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وشاعت بين الأطفال ممارسات سرية، وأضحت ظاهرة أغفلها المجتمع وإن أصبحت الآن موضوع ذعر أخلاقي ثقيل الوطأة. وعزا المجتمع إلى هذا السلوك العديدَ من الأمراض والشرور الأخرى، ومن ثم لجأ إلى كل أنواع الإجراءات والتدابير لمكافحة هذه الرذيلة الخفية (أوسل وباركر، بنفيلد، ١٩٧٢م). والشيء المهم هنا أنه لم يكن يسيرًا التحكمُ في هذا السلوك، وأكثر من هذا أن الحملة دفعت إلى إخفاء جنسانية الأطفال؛ بحيث بات مطلوبًا البحث عن شيء خافٍ لكشفه ومعاقبته (فوكو، ١٩٧٦م).

وأدى تحريم جنسانية الأطفال إلى ظهور صراعات نفسية كثيرة، ليس فقط لدى الأطفال، بل وأيضًا لدى الكبار، وأضحى افتراض أن الأطفال لا جِنسيُّون وجهلاء بالجنس خاصيةً ضاربة بجذور عميقة في ثقافتنا؛ حتى إن كلمة «بالغ» باتت تعتبر تلطفًا في التعبير عن الإباحية. ونجد في مقابل ذلك نظرية فرويد عن جنسانية الأطفال والتي تلقى قبولًا عامًّا. وثمة تنافر معرفي شديد هنا؛ ذلك أن الأبوين سوف ينكران بشدة أن مشاعر الحب تجاه أبنائهما مماثلة تمامًا للمشاعر الجنسية. إن هذه المشاعر مناهضة بقوة لتحريم الاتصال الجنسي بالمحارم التي كبتوها بالضرورة بأي ثمن، واضطُروا إلى الاحتفاظ بالتمييز بين الحب والجنس. ويؤدي هذا الصراع النفسي الباطني إلى التكوين العكسي وإلى الإسقاط، وهو ما من شأنه، كما سبق أن ذكرنا، أن يعزز المحرَّم أو التابو. وأدى هذا الصراع منذ أواخر السبعينيات إلى تأجج نار ذعر أخلاقي واسع النطاق بشأن إباحية الأطفال والانتهاك الجنسي للأطفال في البلدان المتحدثة بالإنجليزية وفي أوروبا.

وتضخم الذعر الأخلاقي بشأن الانتهاك الجنسي للأطفال بسبب انتخاب «ميديا» وسائل إعلام الأنباء؛ ذلك أن قصص جرائم الجنس ضد الأطفال تتصف بصلاحية عالية جدًّا؛ لأنها تستثير فينا أهم ثلاثة أزرار حسَّاسة في حياتنا في وقت واحد: زرار الجنس، وزرار الخطر، وزرار حماية الأطفال.

ويمكن كذلك تفسيرُ الذعر الأخلاقي على أنه رد فعل ضد مظاهر التراخي العام إزاء الأخلاقيات الجنسية وقيم الأسرة، ونجد هنا عاملًا انتخابيًّا إضافيًّا مؤثرًا أيضًا، ونعني بذلك أن الناس من أصحاب الميول الريجالية باتوا عاجزين عن إيجاد أهداف بديلة يهاجمونها. إن الشخصيات المتسلطة قد تواجه مشكلات للبحث عن مخرج لميولهم ذات الطابع الريجالي؛ في الوقت الذي تمنع فيه المُثل العليا المقدسة للديمقراطية وحقوق الإنسان أيَّ شكل تقريبًا من الاضطهاد لكباش الفداء. ويمكن أن نرى جنسانية الأطفال في هذا الضوء باعتبارها آخرَ موقف أخلاقي للنوازع الريجالية.

١  تكوين عكسي reaction formation: عملية تكوين سمة شخصية أو ميل أو دافع مضادٍّ لسمة أو ميل أو دافع غير مرغوب يوجد دفينًا في الشخصية. وتتم هذه العملية بشكل لاشعوري بحيث يطرأ تغير جوهري على هذه السمة أو الميل أو الدافع، فينقلب إلى الضد تمامًا في شعور الشخص وإحساسه. وفي هذه الحالة يكون شعور الشخص مضادًّا تمامًا لما هو موجود في لاشعورِه. ويتجلى هذا التكوين بالنسبة للرغبات والميول المرفوضة اجتماعيًّا ويدينها الضمير؛ إذ تضطر الأنا إلى عكسها استجابةً لقواعد وقيم المجتمع. (عن موسوعة علم النفس والتحليل النفسي، تحرير: د. فرج عبد القادر طه [المترجم])

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤