الفصل الحادي عشر
الفن
(١) وظيفة الفن
لماذا يحب الناس الفن؟ لماذا نقضي وقتًا طويلًا ونبذل طاقاتٍ
كثيرةً من أجل عمل صورة أو كتابة دراما أو أغنية أو إعداد وأداء
رقصة … إلخ، لنا وللآخر؟ هل كل هذا لهوٌ لا طائل من ورائه أم أن
للفن وظيفة؟ مهما بدا لنا غيرَ ذي جدوى يجب أن نسلِّم بأنه قائم في
كل المجتمعات المعروفة، دون اعتبار لما يتعين على الناس توفيرُه من
وقت وجهد لأعمال أخرى. ثمة سؤال مهم يستلزم إجابة هنا: هل ذلك
الميل القوي لدى الناس لإنتاج الفن والاستمتاع به مجردُ نزوة
عفوية، أم أنه ظهر نتيجة نوع من الانتخاب الطبيعي؟ (ديساناياكي
Dissanayake، ١٩٨٤م؛ وكوي
Coe، ١٩٩٢م). وإذا كان الفن مضيعة
للوقت وتبديدًا للطاقة دون إنتاج إذن لماذا لم يَذوِ وينقرض بفعل
هذا المِعْول الذي لا يرحم، أعني الانتخاب الطبيعي؟ إذا أردنا
إجابةً عن هذه الأسئلة علينا أن ندرس ما إذا كان للفن وظيفة، وإذا
كان كذلك فما عساها أن تكون هذه الوظيفة.
قدم فلاسفة كثيرون تبريرًا للفن على أساس من علم الجمال: نحن
ننتج الفن لأنه جميل، أو لأنه يمثل الإبداع والإلهام. وينظر الناس
إلى الفن باعتباره خيرًا ونفيسًا في ذاته دون حاجة إلى تبرير آخر،
وهذه هي فلسفة الفن للفن، وربما تكون لها قيمة بلاغية كدفاع عن
حرية الفن والفنان، بيد أن هذا لا معنَى له كتفسير على أساس من علم
السلوك المقارن؛ لأنه لا يفسر تذوقنا للفن، وإن التبرير الجمالي
للفن لا يكون إلا تقريبيًّا وليس نهائيًّا أو أساسيًّا.
ونحن بحاجة إلى أن نستطرد قليلًا هنا لتفسير الفارق ين الأسباب
التقريبية والنهائية. إذا سألت طفلًا لماذا يلعب، سوف يجيب: لأن
اللعب مسلٍّ، وإذا سألت باحثًا في السلوك المقارن لماذا يلعب
الأطفال، سوف يجيب بأن اللعب عملية تعلُّم. ولا ريب في أن السبب
الخاص لدى الطفل صادق ذاتيًّا. إنه، هو أو هي، ربما لا يدرك
بالضرورة أن اللعب عملية تعلُّم. ولكن الطفل يشعر أن اللعب مُرْضٍ
ولاذٌّ، وعبر عن هذه اللذة بكلمة «مُسَلٍّ». وطبيعي أن الشعور بأن
اللعب مسلٍّ هو شعور تكيفي أيضًا؛ لأن الطفل يتعلم مهاراتٍ مهمةً
أثناء اللعب؛ لذلك فإن هذا الشعور برغبة في اللعب ظهر على الأرجح
نتيجة انتخاب طبيعي. وهذا هو السبب الأساسي للعب، أما السبب
التقريبي فهو أن اللعب لاذٌّ.
١
ويمكن القول بوجه عام إن غرائز البشر تعمل عن طريق اللذة والألم.
٢ إننا نشعر باللذة عند أداء أعمال تتفق مع غرائزنا مثل
الأكل، بينما نشعر بالألم أو الخوف إزاء أعمال ضد غرائزنا؛ مثل
اقتراب ثعبان خطر (سوف أعود إلى هذه المناقشة بعد ذلك). ويبدو
طبيعيًّا في ضوء هذه النظرية أن نفترض أن الوِجدان البشري إزاء
الفن له أساس جيني؛ ومن ثم لا بد وأن نلتمس العلة النهائية
الأساسية للفن في نظرية توضح لنا كيف ظهر هذا النزوع الجيني، وما
نوع الوظيفة التكيفية للفن الآن وفي الماضي.
يَروج بين العلماء رأي يقول إن الفن البصري والرقص عند الإنسان
البدائي كانا ظاهرةً مهمة من صور الاتصال المستخدم أساسًا لتعليم
تقنيات القنص والتدريب عليها (هوويس
Hewes، ١٩٧٣م؛ وشنك
Schenk وساكس
Sachs، ١٩٣٣م). والمعروف أن اللغة
المنطوقة أحدث من حيث النشأة والتطور النوعي، ولا بد وأن كانت هناك
وسائل أخرى للاتصال قبل القدرة على الحديث، ولا بد وأن الإيماءات
أقدمُ من اللغة المنطوقة، ومن المرجح تمامًا أن الرقص نشأ من هنا
(هانا، ١٩٧٩م). ويدعم هذه النظريةَ حقيقةُ أن الرقص عند قبائل
الصيد البدائية غالبًا ما اشتمل على محاكاة أنواع الحيوانات التي
تم قنصها (هوويس، ١٩٧٣م). والرقص ليس قاصرًا على البشر؛ إذ نجده
لدى حيوانات معينة مثل الطيور والنحل، حيث يتضح أن وظيفة الرقص
الاتصال، وربما كانت الموسيقى بدورها أقدم من اللغة المنطوقة
(لفنجستون، ١٩٧٣م).
أصبح واضحًا أننا إذا بحثنا عن أشكال مماثلة من الاتصال لدى
حيوانات مثل القردة العليا، سوف نرى توًّا أن كثيرًا من أنواع
الرئيسيات قادر على الاتصال عن طريق الحركات، على الرغم من أن هذه
الحركات نادرًا ما تكون إيقاعية على نحو خاص (موريس، ١٩٦٧م؛ وهانا،
١٩٧٩م). وأجد من المهم أن نذكر شكلًا من أشكال الاتصال تستخدمه
جماعات من قردة البابون المعروفة بنوع «الهامادرياس» أو الربَّاح
المقدس قبل الخروج بحثًا عن الطعام. إن قرارها بشأن الجهة التي
تذهب إليها بحثًا عن الطعام لا يعتمد فقط على الهيمنة والعدوان، بل
يعتمد أساسًا على التفاوض واتخاذ حل وسط؛ إذ قبل أن يخرج الفريق
بحثًا عن الكلأ نراه قد يقضي ساعاتٍ طوالًا استعدادًا لهذه
العملية، ونرى أحد الذكور يتحرك بضعة أمتار في اتجاه مكان يظنه
الأفضل، ثم بعد ذلك تتبعه بعض الحيوانات، ونرى حيوانات أخرى تتحرك
في اتجاه آخر، وتأخذ جماعة من القردة آنذاك شكل الأميبا ذات
الأقدام الكاذبة التي تمتد في اتجاهات مختلفة، وتكبَر بعض هذه
الأقدام الكاذبة بينما تتقلص غيرها حتى تصل الحيوانات إلى اتفاق
بشأن الاتجاه الذي يذهبون إليه (كومر، ١٩٦٨م؛ ١٩٧١م). وتستثمر هذه
العملية معارف عدد كبير من الحيوانات بشأن الأماكن التي يوجد بها
الطعام، وهذه طريقة أكثر فعالية بدلًا من أن يتخذ القرارَ قائدٌ
مهيمن وحده.
وهذا الشكل من الاتصال لدى قردة البابون تجمعه أوجه تشابه
وظيفيةٌ مع رقصة الاهتزاز عند النحل، ومع رقص البشر أيضًا. ومن
يدري ربما كان الرقص والغناء عند البشر له الآن، أو كان له في
السابق، وظيفة مماثلة تتعلق بتوافق الآراء بشأن البحث عن شيء، وهذا
ما سوف أفسره فيما بعدُ في هذا الباب.
طبعًا هناك فارق كبير بين الفن البشري وأي ظاهرة نجدها عند
الحيوانات، ويزداد الفارق أكثر حين يتعلق الأمر بالفن التصويري.
والملاحظ أن الشمبانزي وغيرها من القردة العليا لديها القدرة على
الرسم إذا أعطيتَها الأدواتِ اللازمة، وتراها تحبه، بيد أن هذا
النشاط الإبداعي لم نلحظه إلا عند الحيوانات الموجودة في الأسر.
وتتألف الرسوم فقط من حزمة من الخطوط التي لا تمثل، كما هو ظاهر،
أيَّ شيء (موريس، ١٩٦٢م). ويتفوق طائر الأيكة bower
bird، الموجود في أستراليا ونيوغينيا، على القدرات
الفنية للقردة العليا؛ حيث يبني الذكَر تكوينات محكمة ومتعددة
الألوان لكي يجذب الأنثى (دياموند، ١٩٦٦م).
وتكشف رسوم كهوف العصر الحجري القديم أن أسلافنا الأُوَل أنتجوا
فنًّا أيضًا، ورسوم الكهوف هذه هي تصويرات لحيوانات ولمَشاهد قنص،
ومن المفترض أن هذا الفن كانت له وظيفة اجتماعية في ارتباط بعقيدة
دينية تتضمن عبادة الحيوان. وتميزت علاقة البشر بالحيوانات بخصائص
سحرية، كما وأن تصوير الحيوانات عن طريق الرسم والرقص أفاد كنوع من
التعبير المجرد للمعتقدات الخارقة للطبيعة. واستلزم الصيد توفر
تعليم وتعاون وتنسيق مشترك وتنظيم، وهي أمور تحققت عن طريق الفن
والطقوس (شينك، ١٩٨٢م؛ هوويس، ١٩٧٣م).
٣
ورسوم وزينة الجسد شكل من أشكال الفن الذي يمكن أن يعود إلى زمن
أقدم. ووظيفة تزيين الجسد هو الرمز الدال على الهوية الاجتماعية
والأدوار الاجتماعية، وربما أيضًا له دلالة جنسية (كوي، ١٩٩٢م).
واكتسبت أشكال فنية متباينة وظائفَ جديدة عديدة مع التطور الثقافي
خلال عصور ما قبل التاريخ وبعد ذلك، ويبدو عسيرًا — بطبيعة الحال —
تحديدُ عمر هذه الوظائف المتباينة.
وليس من شك في أن الفن خضع لانتخاب ثقافي على أساس تفضيلات وتذوق
البشر. وجدير بالذكر أن عالم النفس كولن مارتيندال
Colin Martindale درس التطور
الثقافي للفن، وحاول الكشف عن مظاهر انتظام لعمليات التغيير.
والملاحظ أنه لم يولِ أهمية كبيرة للعلاقة بين الفن والظواهر
الاجتماعية الأخرى، وإنما وجَّه كل اهتمامه إلى الفن كظاهرة مستقلة
ذاتيًّا؛ وذلك بأن درس كيفية اعتماد الفن الجديد على الفن الأسبق
من حيث التاريخ. وذهب مارتيندال إلى أن الفن يخضع لضغوط انتخابية
في اتجاه الجدَّة والتباين اللذين يؤديان على المدى الطويل إلى
تباين دوري في التمثيل الفني (مارتيندال، ١٩٩٠م).
ويؤكد عالم الاجتماع
فيتوتاس كافوليس Vytautas Kavolis
أن شكل الفن يدعم ميول البشر نحو تفسير المواقف الاجتماعية
بأساليبَ ذات بناء معين، وييسر الفن تطور العلاقة الانفعالية لدى
البشر تجاه البيئة الاجتماعية، عن طريق خلق بؤر رمزية للتكامل
الثقافي الاجتماعي. ويؤكد الفن ويضفي مشروعية على التوجهات ذات
القيمة الثقافية للمجتمع، عن طريق ملء العالم المرئي بأشكال وصور
متسقة نفسيًّا مع هذه التوجهات القيمة. ولا يرى كافوليس أن
التوجهات الاجتماعية والثقافية تنعكس مباشرةً وبشكل محدد في
تعبيرات الفن، وإنما يرى أن الأرجح أن الأوضاع الثقافية هي التي
تصوغ تنظيم الشخصية أو الاستعدادات المعرفية، وأن هذه البنية
المعرفية تستلزم تفضيلًا جماليًّا للأشكال وللأساليب المتسقة
نفسيًّا مع التوجهات القيمية المستدخلة ضميريًّا (كافوليس،
١٩٦٨م).
وتفيد نظرية وثيقة الصلة بموضوعنا أن الفن يعبر عن التخييلات
(الفانتازيا) الاجتماعية، وترى أن التعبير الفني إسقاطٌ للبيئة
الاجتماعية للفنان حسبما يدركها أو يريد لها أن تكون. وثمة أساليبُ
ممكنة، ويفضل الفنان من بينها الأسلوبَ الذي يراه أكثر اتساقًا
وتلاؤمًا مع الظروف الاجتماعية التي يعيش فيها، وربما تكون هذه
العملية الانتخابية لاشعوريةً بالنسبة للفنان نفسه، ولكن حتى مع
هذا فإن النتيجة هي أن الفن يمكن اعتباره أشبه بصورة معرفية عن
المجتمع الذي يعبر عنه الفنان (فيشر
Fischer، ١٩٦١م).
وتجد النظريتان الأخيرتان دعمًا من بحوث التداخل الثقافي التي
تبرهن على وجود رابطة ملحوظة وواضحة بين التعبيرات الفنية والهيكل
الاجتماعي (فيشر، ١٩٦١م؛ كافوليس، ١٩٦٨م؛ لوماكس
Lomax، ١٩٦٨م؛ وبيلينجز،
١٩٨٦م).
وإن أحد العناصر المهمة التي تنطوي عليها الرسائل التي يوصلها
الفن عنصرٌ لاشعوري، وهذه هي اللغة الرمزية ذاتها التي نراها في
أحلامنا، وإن هذه اللغة أيضًا يمكن أن تكون أقدم كثيرًا من اللغة
المنطوقة. ويستلزم أي نشاط ذهني ذكي رموزًا لتمثيل الموضوعات التي
نفكر فيها، وتؤدي كلمات اللغة المنطوقة دورًا مهمًّا كرموز في
الفكر الواعي للبشر المحدثين، ولكن قبل ظهور اللغة المنطوقة لا بد
وأن أسلافنا استخدموا رموزًا أخرى؛ مثل الصور والأشكال والألوان
والإيماءات والأصوات … إلخ؛ باعتبارها الرموز الضرورية للنشاط
الذهني. ولا تزال هذه اللغة الرمزية البدائية تعيش في لاشعورنا،
وتغدو مرئيةً للعقل الواعي عند التعبير عنها في الأحلام وفي
الفن.
وأثبت عالم التحليل النفسي سي جي يونج أن أكثر رموز اللاشعور هي
بقايا حية موروثة عن مراحل تطورية سابقة؛ وقتما كانت النفس
الإنسانية تشبه النفس الحيوانية. وإن هذا الميراث القديم والمسمى
الأنماط الأصلية البدائية شائعٌ بين الناس جميعًا، ويؤلف ما يسميه
يونج اللاشعور الجمعي. وحريٌّ ألا نفسر مفهوم الأنماط الأصلية
البدائية على أنها صور أو دوافعُ ثابتة ومحددة تمامًا، بل اعتبارها
ميلًا موروثًا لصوغ تمثيلات للدوافع الميثولوجية، والتي يمكن أن
تتغير وتتباين تباينًا كبيرًا دون أن تفقد نمطها الرئيسي (يونج،
١٩٦٩م). وليس عندي شك في أن أجزاءً أساسية من الظواهر اللاشعورية
الجمعية تحددت بفعل الميراث الجيني، ولكن ثمة سبب يدعونا إلى أن
نؤكد أن نظرية الاتصال اللاشعوري عن الفن والطقوس تهيئ إمكانية
للاعتقاد بأن الكثير من منتجات اللاشعور، والمشتركة بين جميع أبناء
مجتمعٍ ما، ربما انتقلت عبر هذه القناة؛ أعني نوعًا من الوراثة
الثقافية.
وإن القول بأن الفن يتحدث لغة يفهمها العقل اللاشعوري على نحو
أفضل من العقل الواعي، فإن هذه الحقيقة ذاتها تجعل من الممكن للبشر
أن يتلقَّوا تأثيرًا انفعاليًّا عبر الفن غير واعين به؛ ومن ثم
تتضاءل لديهم إمكانية ممانعته:
«غرض ودلالة؛ أي اعتراف منطوق أو رسالة مُملاة أو منقولة
وكأنها مُملاة، يكونان دائمًا معروفَين للمتحدث وللناقل، وتكون
الدعوى مقبولة أو مرفوضة عن وعي من المتلقي، بيد أن الدافع
الذي يحققه أي عمل فني يظل أيضًا لاشعوريًّا، والحقيقة أن ليس
بالإمكان فقط التعبير عنه بأسلوب لاشعوري، بل ويمكن أن يكون له
تأثير لاشعوري. معنى هذا أنه يؤثر في أفكار ومشاعر وأفعال
المتلقي دون أن يأخذ هذا في الاعتبار. وإن من الحقائق المهمة
على أية حال أن التأثير الاجتماعي والسياسي لعملٍ ما يكون أقوى
كلما كان التعبير عن القصد أقل وضوحًا وقل التماسه لتحقيق
اتفاق …»
(هاوسر Hauser،
١٩٨٢م)
وعلى الرغم من إمكانية إثبات علاقة قوية بين أشكال الفن والبنية
الاجتماعية، إلا أن من العسير التمييز بين السبب والنتيجة؛ هل
المجتمع هو الذي يؤثر في الفن أم أن الفن هو الذي يؤثر في المجتمع؟
الأرجح أن كليهما يمثلان جزءًا في شبكة متكاملة من العوامل التي
تؤثر جميعها في بعضها البعض. وليس الفن ملحقًا غير ذي أهمية في هذا
التفاعل، بل هو قناة مهمة لتوصيل النظرة إلى العالم والرؤية وسبل
التفكير، أو بعبارة أخرى: الهياكل المعرفية. لذلك فإن الفن يمكن أن
يكون ناقلًا أو حافزًا للتغيرات في الهيكل الاجتماعي.
ومن المعروف تمامًا أن النظم الحاكمة الشمولية تحاول دعم سلطاتها
وقمع أي ميل إلى الانتفاضة، وسبيلها إلى ذلك السيطرة الصارمة
وتنظيم الإنتاج الفني. كذلك فإن الكثير من الحركات الثورية تلجأ
إلى استخدام أغاني المعركة أو الفن الساخر كوسيلة لخلق وحدة
أيديولوجية وتضامن بين أنصارها، ونجد على العكس من ذلك المجتمعات
الديمقراطية السلامية تهتم بدرجة أقل بالأهمية الأيديولوجية للفن،
وغالبًا ما تنظر إلى الأساليب الفنية الممعنة في اختلاقها
باعتبارها أساليبَ صحيحة سواءً بسواء.
والخلاصة أن الفن التصويري والأدب والدراما والموسيقى والغناء
والرقص وغير ذلك من أشكال الفن؛ هي وسائل توصيل تشتمل على رسالة
اجتماعية قد تكون شعورية أو لاشعورية لدى الراسل والمتلقي على
السواء. ويمكن انتقال هذه الرسائل داخل مجتمعٍ ما عبر أجيال كثيرة؛
ومن ثم تخضع للانتخاب الثقافي. وتأسيسًا على هذه الفرضية سوف تدرس
الفقرات التالية كيف يؤثر الانتخاب الثقافي في فروع الفن المختلفة،
مع الاهتمام بوجه خاص بكيفية انعكاس البعد
R/K الثقافي في الفن.
(٢) الأساليب والتقسيم الطبقي الاجتماعي
الطبقة العليا ذات السطوة والسلطان في مجتمع مقسَّم طبقيًّا لها
مصالحها الأنانية في الحفاظ على هيكل اجتماعي تسلطي ريجالي؛ إذ إن
هذا سبيلها لدعم سلطتها، بينما أبناء الطبقة الأدنى المقهورة ربما
تكون مصلحتهم في إضفاء طابع كاليبتي على المجتمع، ما لم يكونوا
معتمدين على حماية الطبقة العليا لهم. ويتجلى صراع المصالح هذا في
الغالب في صورة اختلاف في التذوق الجمالي وتباين الأساليب.
٤ ونظرًا لأهمية هذه الاختلافات في الأسلوب للناس، فسوف
تكون للأساليب المختلفة مسمياتُها، مع صوغ منظومة تصنيفية لها.
ودرس عالم الاجتماع بول ديماجيو
Paul
Dimaggio المنظومات التصنيفية للفن في المجتمعات
المختلفة، ووجد أنه كلما كان التقسيم الطبقي الاجتماعي أكثر بروزًا
ووضوحًا، كانت المنظومة التصنيفية للفن أكثر تباينًا واختلافًا
(ديماجيو، ١٩٨٧م). وتفضل الطبقة العليا الثقافة العليا الريجاليةَ
الطابعِ، وتزدري الثقافة الشعبية للطبقة الدنيا والتي يغلب عليها
طابع كاليبتي. وغالبًا ما تعمِد الدولة أو الطبقة العليا إلى دعم
سلطانها بإعطاء دعم اقتصادي للثقافة العليا التي تعجِز عن البقاء
بدون هذا الدعم؛ هذا على عكس موقفها من الثقافة الشعبية. وتحاول
الطبقة العليا أيضًا أن تنظم أساليب الفن في منظومة تراتُبية
هرمية؛ حيث تكون للثقافة العليا المكانة الأسمى؛ بينما يحتل الفن
الشعبي المرتبة الأدنى أو يجري إغفاله وعدمُ النظر إليه باعتباره
فنًّا على الإطلاق. وكلما زادت مظاهر التفاوت الاجتماعي داخل
المجتمع، أمعنت المنظومة التصنيفية للفن في تقسيمها التراتبي
الهرمي.
وإذا خضع الفن لآليات السوق الحرة للاقتصاد، فإن هذه الآليات سوف
تناهض في الغالب التصنيف التراتبي الهرمي للفن؛ وذلك لأن منتجي
الفن لهم مصلحة في خلق شعور بالاحترام والتقدير لمنتج يستهوي أوسع
قطاع من السكان (ديماجيو، ١٩٨٧م). وهكذا يمكن أن ينشأ صراع بين
المنظومة التصنيفية المختلفة للفن، ولا ريب في أن حاصل مثل هذا
الصراع مهم لمستقبل مكانة المجتمع
R/K.
(٣) الفن البصري
الفن التصويري شكل من أشكال الفن التي لها إمكانيات تكاد تكون
غير محدودة للتعبير. ويتميز بأن عدد الرسوم والأساليب والرمزيات
الممكنة كبير جدًّا؛ بحيث إن الفنان — مبدئيًّا — يمكنه أن يعبر
تقريبًا عن أي مزاج أو موقف عياني من خلال رسومه وألوانه. ودرس
عالم الاجتماع «في كافوليس» كيف تتجلى في الفن التصويري المظاهر
المتباينة للحياة الاجتماعية وللنظرة إلى العالم، وسوف أقدم هنا
موجزًا عن بعض هذه العلاقات، وأحيل القارئ إلى كافوليس (١٩٦٨م) إذا
أراد المزيد من التفاصيل.
لدى بعض المجتمعات نظرة عامة مشتركة تفيد أن البشر بطبيعتهم
أخيار، وتتجلى هذه النظرة في الفن في تصوير واقعي طبيعي للبشر،
ولكن إذا كانت نظرة المجتمع أن البشر أشرار فإن هذا يتجلى في صورة
شائهة عن البشر، كذلك فإن فكرة أن العالم غير متناغمٍ أو متنافرٌ
وأن الشر موجود كقوة لها استقلالها الذاتي؛ تتجلى في تصوير الواقع
تصويرًا تعبيريًّا شائهًا.
ويمكن أيضًا أن تقرأ من خلال الفن مفهوم الناس عن الزمن،
فالمجتمع المتجه إلى الماضي ويعبد أسلافه ينتج تحديدًا صورًا
ثلاثية الأبعاد ذاتَ منظور عميق؛ بينما الشخصيات المهمة تحتل
الخلفية. هذا بينما الناس الذين يعيشون في الحاضر فإنهم ينتجون
صورًا غير منظورية، بدون أفق أو عمق. ونلحظ أن المجتمع النامي
المتجه نحو المستقبل ينتج صورًا تعبيرية غير منتهية وديناميةً،
والتي تخرج أحيانًا عن الإطار.
وواضح أن النظرة الدينية إلى العالم لها تأثير كبير على الإبداع
الفني، ويمايز كافولي بين الأديان القائمة على إيمان قوي والأديان
الانفعالية التي تمثِّل فيها الخبراتُ الروحية عنصرًا مهمًّا، ووجد
أن فن الأديان القائمة على الانفعال يتميز بخصائص النزعة الحسية
والصوفية. هذا بينما تعبِّر الأديان القائمة على إيمان عقائديٍّ
جامد (دوجماطيقي) عن رمزية تجريدية وصراحة تطهرية (بيوريتانية).
والملاحظ أيضًا أن الأديان التسلطية القائمة على إيمانٍ بقدرة
مطلقة للرب تنتج فنًّا كتليًّا مصمَتًا massive
art زاخرًا بنزعة التمسك بالشكليات على نحو صارم.
هذا بينما العقيدة الدينية الأقل سيطرة وأقل تحكمًا، فإنها تؤدي
إلى ظهور فن أكثر مرونة وأبعد عن الشكلية، وزاخرًا بالتلقائية
والعفوية والتعبير الفردي.
ويرى كافوليس أن التقدم التقاني الذي يعطي للبشر إحساسًا بسيطرة
أفضل على الطبيعة يُفضي إلى ظهور أنماط هندسية في الفن؛ بينما من
يعيشون معتمدين على الطبيعة أو يعيشون في تناغم مع الطبيعة نراهم
ينتجون فنًّا أكثر التزامًا بالنزعة الطبيعية.
وطبعي أن الهياكل السياسية والاجتماعية مهمة بشكل خاص للنظرية
الثقافية R/K−؛ ذلك أن المجتمع
القائم بشكل صارم على تراتبية هرمية مع نظام حكم مطلق يميز نفسه
بمظاهر أبَّهة وترف، ويتجلى هذا في أشكال فنية مفعمة ببذخ زخرفي.
ونجد المساحة التصويرية ممتلئة مزدحمة، وأيُّ مساحة فارغة يملؤها
الفنان بتفاصيلَ تشي بنزعة الكمال. وإن الهدف من الزخارف الفنية
المسرفة هو تأكيد عظمة وشرف الحاكم أو الرب. ويرسم الفنان الأشخاص
عادةً من أمام بحيث يظهر الوجه، إلا إذا كانوا أشرارًا. وتتسم
النزعة المطلقة الدينية والسياسية بالتقليدية الصارمة والشكلية
النمطية.
ويختلف الفن تمامًا عن ذلك في المجتمع القائم على المساواة أو
الديمقراطية؛ إذ تحظى التلقائية الفردية وغير الشكلية بالسيادة
الحرة على العمل الفني، وتنتفي مظاهر الزخرفة المثقلة بالتفاصيل،
كما تنتفي مظاهر المبالغة في التقدير أو التمجيد لعناصر معينة على
حساب تفاصيل أقلَّ أهمية، وتكون للألوان أهمية أكبر من
الخطوط.
وتتميز الثقافات القائمة على التضامن بخاصية العناصر التجريدية
والتكرارية في الرسوم، ولا تكون مساحة التصوير مملوءةً بالكامل، بل
ربما تشمل مساحات فضاء، وربما مساحات غير ذات صلة بالموضوع. كذلك
رسوم الأشكال والشخوص ليست واضحة المعالم بصورة حادة ومحددة في
خطوط كاملة ومكتملة، على نحو ما نجد في الثقافات القائمة على نظم
تراتبية هرمية (كافوليس، ١٩٧٢م؛ وبرجيسين، ١٩٨٤م).
ولكن ثمة أسباب تدعو إلى التحذير من أن ننظر إلى الرابطة بين
الأسلوب الفني والهيكل الاجتماعي باعتبارها رابطةً نوعية ومطلقة.
ويؤكد كافوليس أنه حيثما ترسَّخ أسلوب فني، فإن من المرجح أن يبقى
ويمتد حتى وإن تغير المجتمع. والملاحظ أن المجتمع الذي يمر بمرحلة
تغيُّر لن ينتج بالضرورة أساليبَ جديدة؛ لذلك فإن علاقة الارتباط
السكونية (الاستاتيكية) ليس من شأنها أن تؤكد وجود رابطة سببية ولا
وجودَ اتساق نفسي بين الأسلوب الفني والظروف الاجتماعية. ولكن إذا
تلازم ظهور أساليب جديدة مع ظهور هياكل اجتماعية جديدة، فإننا
حينئذ نكون إزاء سبب يدعونا إلى اعتبار الرابطة حدثًا مبدئيًّا
وأساسيًّا (كافوليس، ١٩٦٨م). ويقرر كافوليس في كتاب تالٍ له أن
الإبداع الفني لا يبلغ ذروته في فترات النشاط السياسي الحادِّ
المتوتر أو في فترات الهبَّات السياسية؛ وإنما يبلغ ذروته على
الأصح خلال مرحلة تالية لإعادة التوحد والتكامل (كافوليس، ١٩٧٢م).
٥
مثال: الفن الأوروبي
حظي الفنانون بمكانة تضارع الصناع الحرفيين في العصور
الوسطى؛ إذ كانوا يعملون للكنيسة، وأنتجوا فنًّا خدم أغراض
ومصالح الكنيسة. وكان المطلوب هو صنعة موهوبة بارعة وليس
أصالة. وتميز الفن والعمارة بالأبهة والتمجيد ليؤكد كرامة
وسلطة الكنيسة، وبلغت هذه السيطرة الريجالية على الفن ذروتها
في أواخر العصور الوسطى؛ على نحو ما تجلت في الأسلوب
القوطي.
ومع نهاية العصور الوسطى حظي الفنانون بقدر أكبرَ من الحرية
وبدءوا يشكلون تدريجيًّا طبقةً ثقافية مستقلة ومتمايزة عن
الحِرفيين، ولم يعد إنتاج الفن تحدده مهامُّ موصوفة بدقة
لتأدية أغراض محددة مسبقًا، بل بدأت قوى السوق الحرة هي التي
تحدده أكثر فأكثر؛ علاوة على التذوق الشخصي للفنان الفرد.
وجعلت هذه الحرية من الممكن للفنان أن يكشف عما يتجلى به من
أصالة وعبقرية، وهو ما لم يكن ممكنًا في السابق؛ إذ إن السلطة
يمكنها التحكم في الموهبة ولكنها لا تستطيع ذلك مع العبقرية.
وحظي الفنانون بعد ذلك بمكانة لم تكن معروفة لهم من قبل، وبدأ
المجتمع يستحدث نظريات عن علم الجمال وعن تقييم الفن من أجل
الفن. وظهر فن النهضة كنتيجة لعملية إضفاء الطابع الكاليبتي
هذه، وظهر فنٌّ تغلب عليه النزعة الطبيعية والنزعة الحسية
وتجاوز الرمزية الشكلية للأسلوب القوطي.
وزخَرت هذه الفترة بصراعات دينية وسياسية بشأن الإصلاح
والإصلاح المضاد؛ مما أفضى إلى حدوث نوع من الاضطراب والفوضى
انعكس في عالم الفن. وشهدت هذه الفترة أساليب عديدة ومتباينة
تعايشت معًا جنبًا إلى جنب خلال القرن السادس عشر: النهضة
(الرينسانس) والمانريزم والباروك Renaissance,
Mannerism, Baroque. وارتبطت المانريزم
بالبلاط الملكي والنخبة الفكرية الدولية، وكان فن الباروك الذي
تغلب عليه نزعةٌ قومية وانفعالية هو دعامة حركة الإصلاح المضاد
(هاوسر، ١٩٨٢م).
ولعل من أوضح الأمثلة دلالةً على الرابطة بين الأيديولوجيا
الاجتماعية والأسلوب الفني ما يتجلى من اختلاف بين الباروك
الفلمنكي والنزعة الطبيعية الهولندية في القرن السابع عشر. ظهر
هذان الأسلوبان في آنٍ واحدٍ تقريبًا في منطقة تتميز بالتقارب
الجغرافي، ومن بين تقاليد ثقافية واحدة وماضٍ تاريخي واحد.
وليس بالإمكان تفسير الاختلاف إلا في ضوء الاختلافات السياسية
والاقتصادية والاجتماعية بين البلدين، والمعروف أن المعايير
والتقاليد الأرستقراطية والملكية كانت سائدة في منطقة
الفلامندرز الكاثوليكية؛ حيث يقوم تحالف بين الكنيسة والدولة.
وكان على الفنانين أن يدفعوا من حريتهم مقابلًا لأمتهم. ولكن
البروتستانتية الهولندية، من ناحية أخرى، كانت منذ البداية
مشبَعة بالديمقراطية ومناهضة لنزعة التسلط. ولهذا فإن أسلوب
الحياة الجمهوري والبرجوازي والرأسمالي وكذا استقلال الفنانين،
كل هذا جعل من الممكن ظهور وحياةَ أسلوب فنٍّ أكثرَ حرية
(هاوسر، ١٩٨٢م).
ولكن أسلوب الباروك الريجالي حل محله أسلوب أقل ريجالية؛ وهو
أسلوب الروكوكو Rococo، نظرًا
لتدني نفوذ الأرستقراطية لصالح البروجوازية. كذلك فإن عنصر
التنوير والثورة الفرنسية عزَّز ظهور الأسلوب الكلاسيكي الذي
يغلب عليه الطابع الكاليبتي خلال القرن الثامن عشر. وتميزت
النزعة الكلاسيكية بأنها أسلوب أكثر بساطةً وأكثر التزامًا
بالطبيعة، دون اعتبار للزخرفة المسرفة والمتكلفة التي كانت
سائدةً في العصور السابقة.
وكانت رومانية القرن التاسع عشر مَعلمًا لظهور طابع ريجالي
جديد غلب على الثقافة الأوروبية، وسادت أوروبا النزعات القومية
والإمبريالية والبيوريتانية (التطهرية) والفيكتورية، وانغمس
الأدب الرومانسي في عالم روحي ذي طبيعة مثالية، والذي نبذ
الحياة الخارجية الواقعية المملة. وتميز الفكر الديني بخاصية
السيطرة الذاتية وضبط النفس ومحبة البشر والدعوة التبشيرية.
واستمد الفن التصويري إلهامه من أسلوب فن الروكوكو، كما استوحت
العمارة الأسلوب القوطي. واتصف تعليم الفن في المدارس
البريطانية بأنه مرانٌ على إنتاج أعمال زخرفية معيارية، ولم
يكن ثمة مجالٌ للإبداع الفردي (ثيستلوود
Thistlewood، ١٩٨٦م).
وتخفَّف الفن من قبضة الطغيان الروحي عند ظهور الفن الحديث
مع نهاية القرن التاسع عشر. ويشير الفن الحديث بألوانه الزاهية
وتعبيراته غير التقليدية إلى نزعة فردية مثيرة. وتزخر الفترة
الحديثة بالكثير والكثير من الأساليب، وهذا في حد ذاته برهان
على انهيار التماثلية الثقافية.
الصراعات الأيديولوجية والجمالية
أحيانًا ربما يكون الفنانون على وعي تام بالرابطة بين
الأيديولوجية والأسلوب الجمالي، ولكن غالبًا ما لا يكونون
واعين تمامًا بأنهم منغمسون ضمن تمرد اجتماعي. ولنحاول معًا أن
نُلقي نظرة على مثال من عصر النهضة (الرينسانس:)
في مطلع القرن السادس عشر بدأت فينيسيا تفقد قدرًا كبيرًا من
سلطانها ونفوذها، وأدى هذا إلى ظهور أزمة سياسية وأخلاقية داخل
هذه الإمبراطورية، وشعر أهل فينيسيا أن الله حطَّ من شأنهم
غضبًا عليهم، وحاولوا بكل السبل الممكنة التصالح مع الرب
وإرضاءه؛ بغيةَ إصلاح الحلف المهدد بينهم وبينه. وشارك
الفنانون في هذه العملية، إذ عمدوا — حسب المفاهيم السائدة
آنذاك — إلى تحسين العلاقة مع الله (شتاينبرج وويلي
Steinberg & Wylie،
١٩٩٠م). وإذ كان رد الفعل المنطقي المتوقع في مثل هذه الحالة
هو إنتاج فن يعبر عن قدر أكبر من التمجيد للرب والحمدِ له؛ إذا
بالواقع يأتي عكس ذلك تمامًا؛ ذلك أن الأسلوب الطبيعي في
الرسوم الدينية ضاعف من صعوبة بيان الفارق بين المقدس
والدنيوي، وهو ما يعني تناقص مساحة الاختلاف بين الله والبشر.
مع استقراء أحداث الماضي يظهر واضحًا أن الانتقال إلى النزعة
الطبيعية ارتباط بإضفاء الطابع الكاليبتي الذي أدى إلى انهيار
إمبراطورية فينيسيا. ولكن يبدو واضحًا أن فناني ذلك العصر لم
يدركوا أنهم جزء من عملية أضعفت سلطة فينسيا، لقد كان مفهومهم
الخاص أنهم يفعلون العكس تمامًا.
(٤) الموسيقى والغناء
الموسيقى شكل من أشكال الاتصال الموجودة في جميع الثقافات، إنها
توصل قيَمًا ثقافية وجمالية من شأنها أن تحقق وظيفة المشاركة
الاجتماعية (لول، ١٩٨٥م). والموسيقى عامل تنشيط، إنها توحي بالرقص
والغناء والإيقاع النغمي وغير ذلك من مظاهر المشاركة النشطة.
وإنتاج الموسيقى والغناء طقس اجتماعي له تأثيره الانفعالي على
العازفين من الموسيقيين، وكذلك على جميع المشاهدين
والمستمعين.
وقد يكون عسيرًا تأويل الرسالة الكامنة، لنقل، في مقطوعة موسيقية
وترجمتها في كلمات وعبارات. ومع هذا فإن الموسيقى والغناء والرقص
أعمال شائعة يعرفها كل إنسان، ونُنصت لها باهتمام شديد، ونحن نشعر
حدسيًّا أننا نفهم الموسيقى لأنها تتحدث إلينا بلغة
اللاشعور.
ولكن ما هي الرسائل التي تنقلها إلينا هذه الفروع المختلفة من
الفن؟ عِشنا جميعًا تجربة الموسيقى وكيف تنقل إلينا مشاعرَ
وانفعالاتٍ مختلفة؛ مثل السعادة والبهجة والحب والأسى والحزن
والكبرياء الوطني والرهبة الدينية. وإن وظيفة مثل هذه الانفعالات
التحكم في أفعالنا، ولكن الشيء الأقل وضوحًا هو أن الموسيقى قادرة
أيضًا على توصيل ضروب متباينة من المعلومات عن الهيكل الاجتماعي
ومعايير القيم، ويبدو هذا واضحًا من خلال البحوث التي تكشف لنا عن
رابطة مذهلة بين الهيكل الاجتماعي وهيكل الغناء والرقص (وهذا ما
سوف أعود إليه بعد قليل). إن توصيل المعلومات عبر الموسيقى هو نقل
معلومات من العقل اللاشعوري لشخصٍ ما إلى العقل اللاشعوري لشخصٍ
آخر. وعادةً لا يكون الراسل ولا المتلقي مدركًا عن وعي بأن ثمة
عمليةَ توصيل جارية.
لذلك لنا أن نفترض أن الموسيقى لها دور اجتماعي بيولوجي؛ إذ
تُسهم في خلق التضامن الاجتماعي والهوية الجمعية داخل قبيلة أو
مجتمع. إنها أيضًا، وكما سوف أوضح فيما بعد، توصل إلينا معاييرَ عن
كيفية صياغة هيكل المجتمع وكيف تتشكل العلاقة بين الناس وبعضهم
البعض.
وأتصور أن كل إنسان في مجتمع ما يعبر من خلال ذوقه أو أسلوبه
الفني عن رأيه الشخصي بشأن الحالة التي يكون عليها هيكل المجتمع،
أو الحالة التي ينبغي أن يكون عليها هذا الهيكل. إن الغناء والرقص
الجمعي في مجتمع قبَلي يُسهم في بيان أساليب الأفراد في التقارب
بين بعضهم بعضًا، وبذا يكون تعبيرًا عن نوع من توافق الآراء حول
كيفية هيكلة ذلك المجتمع، أو لنقل بعبارة أخرى: إن ذلك النوع من
عملية التفاوض اللاشعوري، والتي تشبه الطريقة التي توصل بها قطيع
من قردة البابون إلى اتفاق بشأن كيفية الخروج بحثًا عن
الطعام.
وسبق لي أن أكدت أن من الأهمية بمكانٍ، لبقاء المجتمع على مدًى
طويل، أن يكون قادرًا على التكيف سريعًا مع التغيرات الطارئة على
الظروف والأوضاع الخارجية؛ وذلك عن طريق إضفاء طابع ريجالي أو
كاليبتي. ولن يكون تقييمنا لأيٍّ من استراتيجية
R/K− هو الأمثل في ظل الظروف
المعنية إذا ما كان التقييم رهن الزعيم وحده؛ ذلك لأن القائد له
دائمًا مصلحته الأنانية التي تدفعه إلى اتباع الأسلوب الريجالي.
ويتعين، لكي يكون التقييم فعالًا، أن يشارك في إنجازه جميعُ أبناء
المجتمع في تعاون مشترك. ولهذا أذهب في افتراضي إلى أن الغناء
والرقص على نحو جمعي وغيرَهما من التعبيرات الفنية المختلفة في
قبيلة أو في مجتمع؛ إنْ هي إلا وسائلُ تعبيرية لخلق توافق آراء
بشأن استراتيجيات R/K− وغيرها من
جوانب الهيكل الاجتماعي.
وثمة احتمال بأن تكون استراتيجية
R/K− واحدةً من بين عوامل اجتماعية
كثيرة، والتي يمكن التعبير عنها بالموسيقى. وسوف أعود مرةً أخرى
إلى هذه المناقشة، مع عرض بعض الأمثلة التي توضح لنا كيف أن
المفاوضات بشأن الهيكل الاجتماعي تتنكَّر في صورة مناقشات حول
القيمة الجمالية والحظر الاجتماعي لأنواعٍ وأساليبَ موسيقية
متباينة.
القياس المقطعي الموسيقي
Cantometrics
تولى في الستينيات فريق بحث برئاسة عالم «الإثنولوجيا» أو
علم السلالات آلان لوماكس Alan
Lomax (١٩٦٨م) إنجاز دراسة مثيرة عن الأغاني
في ثقافات كثيرة مختلفة، وحرص فريق البحث على التزام الدقة
الشديدة في تسجيل عدد من خصائص كل أغنية، ثم قارنوا كل ملف
البيانات مع بيانات إثنولوجية وسوسيولوجية خاصة بالثقافات التي
أنتجت كل قطعة موسيقية. ويسمى هذا المنهج في البحث القياسَ
المقطعي للموسيقى. وكشفت الدراسة التحليلية الإحصائية لهذه
البيانات جميعها عن رابطة منظومية بين أسلوب الأغنية والهيكل
الاجتماعي … «… مثلما يعيش الناس يغنون.» وأوضح مُعاملُ
الارتباط هذا أن ثمة درجةً من الدلالة الإحصائية نادرًا ما
تظهر في العلوم الاجتماعية. «ويكاد يكون عسيرًا العثورُ على
برهان أفضلَ من ذلك عن الرابطة بين أسلوب الأغنية والهيكل
الاجتماعي.»
ويناقش لوماكس عديدًا من خصائص الأغاني الفولكلورية، ويفحص
الدلالة الاجتماعية لهذه الخصائص، ووجد أن من أهم الصفات
الفارقَ بين الغناء الفردي «صولو» والجماعي أو الكورس
(الكورال). إن غناء الكورال القائم على تساوق النغمات تكون له
الغلبة والسيادة في المجتمعات التي ترتفع فيها درجة التضامن
الاجتماعي، وحيث يمثل التعاون وعمل الفريق عنصرًا مهمًّا في
الحياة اليومية. ونجد على العكس من ذلك الغناء الفردي «صولو»؛
إذ ينتشر في كلٍّ من المجتمعات التي تشدِّد على أهمية تأكيد
الذات، وفي المجتمعات التي بها قائد قوي له الكلمة والمشيئة في
تقرير كل شيء. وغالبًا ما تكون هذه الأغنيات معقدةً والصوت
صخَّابًا؛ مما يجعل من الصعب تمامًا على المستمعين أن يشاركوا
في الغناء، ولكن الغناء الفردي «صولو» غالبًا ما تكون كلماته
أكثر ثراءً من غناء الكورال. والملاحظ أن الأغنية الثرية
بالكلمات مع مخارج صوتية محددة تخص مجتمعاتٍ ذاتَ هيكل اقتصادي
واجتماعي معقد. ويواجه الناس في هذه المجتمعات تعليمات معقدة
في حياتهم اليومية، وحيث تحظى كلمات الزعماء والخبراء بأهمية
كبيرة. ونجد على الطرف المقابل من السلَّم أغانٍ زاخرةً
بالتكرارات، أو بكلمات لا معنَى لها، أو أصوات خرساء غير واضحة
التعبير. وتوجد مثل هذه الأغنيات الخالية من مظاهر الإطناب في
مجتمعات ذات هيكل اجتماعي بسيط، وحيث يفهم كل امرئ رسالة
قصيرة، وحيث لا حاجة لتفسيرات تفصيلية.
والصوت الخشن الأجش المثير علامة على تأكيد الذات. ونجد
الفواصل اللحنية «الميلودية» القصيرة في ثقافات تسودها منظومات
صارمة للمكانات الاجتماعية؛ بينما نجد الفواصل الممتدة الواسعة
حيث يكون الناس أقل تقييدًا ولديهم حرية أكبر للحركة؛ بدنيًّا
واجتماعيًّا على حد سواء، ويشير الصوت الثاقب المحدود وغلبة
أفكار الحب في النص إلى القيود المفروضة على الحياة الجنسية
للناس.
وليس الصوت وحده هو المهم، ولكن طريقة إبداعه أيضًا مهمة بكل
تأكيد. إن الفارق بين عدد مختلف من المغنِّين أو الموسيقيين
ضمن فريق أوركسترا؛ يعكس العلاقات الاجتماعية في المجتمع
بوسائل كثيرة. مثال ذلك أن فريق أوركسترا موسيقيًّا أو
كوراليًّا كبير الحجم ومتعدد العناصر بقيادة قائد واحد يكون
وثيقَ الصلة بنظام اجتماعي قائم على سيطرة سياسية مركزية
وتقسيم طبقي اجتماعي هرمي. ويرمز الغناء المتناوب
partisinging ومزج الألحان
counterpoints إلى تقسيم
العمل، خاصةً بين الرجال والنساء، وإلى أدوار تكميلية من
الجنسين. ويرى لوماكس أن هذا ينطبق على كل الحالات بغضِّ النظر
عن جنس المغنِّين.
ولكن الموسيقى الأوركسترالية المحكَمة والتفصيلية المليئة
بالزخارف الصوتية؛ هي من خصائص الموسيقى الدينية المعبِّرة عن
التقوى والرهبة أمام الله (لوماكس، ١٩٦٨م).
وثمة دراسة أكثر محدوديةً عن الموسيقى الأمريكية عند السود
تكشف عن وجود رابطة مماثلة بين الأسلوب الموسيقي والتضامن
الاجتماعي (برجيسين، ١٩٧٩م). بيد أن هذه الدراسة أقل شموليةً
من دراسة لوماكس، وتشتمل فقط على محدد اجتماعي أوحد؛ وهو
التضامن. وتركز نظرية برجيسين على نظرية برنشتين (١٩٧٥م) عن
المدونة (الكود) المحددة والتفصيلية؛ ذلك أن المدونة المحددة
هي اتصال حيث المفردات وعدد البدائل البنائية للجمل محدود.
وتهيئ المدونة التفصيلية قدرًا أكبر من الحرية وقدرًا أكبر من
الإمكانات البديلة للتعبير، ونجد المدونة المحددة في المجتمعات
التي تتسم بالتضامن والتماثل وتوافق الآراء، وحيث لا حاجة
لتعبيرات تفصيلية. ولكن المدونة المحكمة التفصيلية نجدها في
المجتمعات التي تتسم بقدر أكبر من التعددية، وحيث توجد إمكانات
أكثر للتعبير عن أفكار فريدة وشخصية. ويطبق بيرجسين هذا
التمييز على الموسيقى كاتصال، ويتخذ من موسيقى السود
الأمريكيين مثالًا على ما يقول.
والمعروف أن تاريخ السود الأمريكيين بدأ بالعبودية، وكانت
هذه فترة تضامن قوي بين السود. وتجلى التعبير عن هذا في أسلوب
الروحانيات، وهو أسلوب للتعبير الموسيقي أكثر انتظامًا من
الأشكال الموسيقية التالية. وظهرت موسيقى الجاز وموسيقى البلوز
blues، وقد ظهرت كلتاهما بعد
أن بدأ السود يهاجرون إلى الشمال ويحصلون على الاستقلال؛ ومن
ثم خفَّت قوة التضامن، وأضحت موسيقاهم اليوم تحديدًا نوعًا من
المدونة التفصيلية، وكم هو يسير أن نتبين هذا في موسيقى الجاز
حيث القاعدة، وليس الاستثناء، ظهورُ حالات النشاز والارتجال!
وعندما أدت حركة الحقوق المدنية وزيادة الوعي الإثني إلى ظهور
حاجة متجددة للتضامن بين السود هنا وُلدت موسيقى الروح
soul التي تمثل من جديدٍ
مدونةً أكثر محدوديةً وتقييدًا (برجسين، ١٩٧٩م).
الموسيقى الريجالية والكاليبتية
والآن لنحاول أن نتبين كيف يمكن استخدام النتائج التي توصل
إليها كلٌّ من لوماكس وبيرجيسين فيما يتعلق بما تكشفه دراستهما
عن رابطة بالنظرية الثقافية
R/K−. يصف لوماكس عددًا من
الخصائص المرتبطة مباشرة بالهيكل الاجتماعي والتراتبية الهرمية
السياسية (لوماكس، ١٩٦٨م). ونلحظ أن المَعْلم الأهم هو
الزخرفة. إن التفاصيل المحكمة والتزيين هي رموز دالة على
التقوي والمجد؛ ومن ثم فكلما كان التقسيم الطبقي أكثر تطرفًا
وتزمتًا، تعيَّن التعبير عن المزيد من الرهبة من خلال الموسيقى
المفعمة بالزخارف. ويعتبر التزيين مؤشرًا واضحًا على الطابع
الريجالي، كذلك فإن العلاقة بين قائد الأوركسترا والمغنين في
الفرقة أو القائد والعازفين الموسيقيين في أوركسترا، هي مؤشر
واضح أيضًا على التقسيم الطبقي الاجتماعي. إن الفرقة الغنائية
الكبيرة التي يقودها قائد كورال واحدٌ أو الفرقة الموسيقية
(الأوركسترا) الكبيرة بقيادة مايسترو واحد تعكس الهيكل السياسي
للمجتمع الريجالي، ولكن الطرف النقيض هو أسلوب غنائي يغني فيه
كل فرد بالدور دون أي نوع من القيادة … أشبه بسرب طيور. هذا
الأسلوب الكاليبتي في الغناء يمكن أن نجده في المجتمعات
البدائية التي تفتقر إلى أي وحدة سياسية دمجية.
وجدير بالملاحظة أن الفارق بين الغناء الفردي (الصولو)
والغناء الجمعي (الكورال) يقودنا إلى مفهوم التضامن. ويحتل
الشعور بالتضامن موضعًا قريبًا من منتصف الجدول الثقافي
R/K−، ويقوم المجتمع الريجالي
على التعاون القسري وعلى التماثل الإكراهي، ويقوم المجتمع
الوسيط على التعاون الطوعي والتماثل الإرادي. ويستلزم أكثر
المجتمعات إغراقًا في الطابع الكاليبتي تعاونًا محدودًا دون
حاجة إلى تماثل. ويتحقق شعور التضامن بفضل التعاون الطوعي.
ويمكن أن يتجلى التعبير عن هذا من خلال فِرق أو جماعات تغني
معًا في تساوق وانسجام دون قائد لها.
وثمة طابع آخر أكثر ريجالية إلى حدٍّ ما؛ وهو فريق غناء مع
مغنٍّ واحد رئيس قائد. والخطوة التالية هي الابتهال؛ حيث يغني
القائد أولًا ويردد بعده الفريق، والخطوة الأخيرة نحو الطابع
الريجالي هي الغناء «الصولو»؛ حيث يغني المغني الفرد (الصولو)
أغنية شديدة التعقيد بحيث تستحيل مشاركته، ويُنصت إليه الحضور
في خشوع، ويكون المغني هنا ممثلًا رمزيًّا للديكتاتور.
ولكن غناء «الصولو» نجده أيضًا في الطرف المقابل لجدول:
R/K− غناء الصولو تعبير عن
الفردية في الثقافات الكاليبتية، ويمكن للمرء بين الحين والآخر
أن يسمع ما يمكن أن نسميه الابتهال المردود
reversed litany؛ إذ يغني
الفريق سطرًا ويكرره المغني القائد، وهذا رمز جيد للديمقراطية
النيابية.
والملاحظ أن الموسيقى والغناء المتَّسمَين بالطابع الريجالي
تحددهما نزعة الكمال والبناء المتزمت للجمل، وثمة قواعدُ صارمة
للإيقاع والهارموني والسجع والتفعيلة أو وحدة القياس
foot، مع إمكانات محدودة
للتعبيرات البديلة. ويعتبر هذا بلغة برجيسين مدونة مقيدة، كذلك
فإن الموسيقى الوسيطة المعبِّرة عن التضامن وعن التعاون الطوعي
هي مدونة مقيدة. ولكن نجد على الطرف الكاليبتي النهائي من
المجدولة المدونةَ التفصيلية التي تسمح بالنشاز، وتعتبر موسيقى
الجاز أوضح مثال على هذا.
وسوف أدفع بأن التراتبية الاجتماعية الهرمية لا تجد تعبيرًا
عنها فقط من خلال العلاقات بين المغني الأول القائد والفريق،
أو بين قائد الفرقة الموسيقية (المايسترو) وفرقة العازفين، بل
تجد تعبيرًا عنها أيضًا من خلال العلاقات بين الصوت (الميلودي)
اللحني الأساسي والجزء الجهير (الباص)
bass أو بين الصوت المغني
والأدوات المصاحبة له. وتتميز الموسيقي ذات الطابع الريجالي
بالصوت اللحني الميلودي الواضح الغالب والمليء بتفصيلات محكَمة
ومصحوب بصوت جهير (باص) عميق وخفيض وغير مترابط. وتعتبر
الموسيقى الكلاسيكية والموسيقى الشرقية من الأمثلة المميزة
والواضحة لذلك. ونجد عند الطرف المقابل موسيقى البوب الشعبية؛
حيث الصوت الجهير (الباص) والمصاحبات الإيقاعية لهما الدور
الغالب. ولهذا فإن موسيقى الروك والجاز والأساليب الموسيقية
المماثلة هي موسيقى ذات طابع كاليبتي.
إن الذوق الموسيقي الفردي لشخصٍ ما هو تعبير لاشعوريٌّ عن
تنشئته أو تنشئتها الاجتماعية، وعن موقفه الاجتماعي. وثمة بحث
شامل عن الأذواق الموسيقية لدى الأمريكيين الشماليين (فينك
وآخرون، ١٩٨٥م) يبين أن بعض الأساليب الموسيقية وثيقة الصلة
ببعضها؛ بمعنَى أن الأشخاص الذين يستهويهم أسلوبٌ ما سوف
يعجبهم على الأرجح تمامًا الأسلوب الآخر. هذا بينما الأنواع
الأخرى من الموسيقى تكون بعيدة تمامًا مثل موسيقى الأوبرا
وموسيقى الروك. ويبين تحليل عاملي إحصائي أن المسافة بين أنواع
الموسيقى الأمريكية يمكن التعبير عنها بعاملين رئيسيين؛ ولهذا
فإن من الممكن توضيح المسافة بين النوعين برسمهما ضمن رسم
بياني ثنائي الأبعاد. ويفسر المؤلفون البعد أو العامل المسئول
عن القدر الأكبر من التباين (٣٠٪) على أنه مقياس النزعة
الشكلية والتعقد. ونجد عند الطرف النهائي المعقد والشكلي من
الجدول كلًّا من الأوبرا والموسيقى الكلاسيكية والفرق الكبرى
big band والموسيقى الدينية.
ونجد عند الطرف البسيط وغير الشكلي موسيقى الروك والريفية
country والبلوجراس (العشبية
bluegrass)، والصول أو النفس
soul والجاز. ويعكس العامل
الآخر في التحليل (والمسئول عن ٢٧٪ من التباين) الفارق بين
سكان الريف وسكان الحضر؛ حيث موسيقى الروك والجاز والموسيقى
الكلاسيكية تستهوي في الغالب أهلَ المدن، بينما الموسيقى
الريفية والدينية تستهوي سكان الريف (فينك وآخرون، ١٩٨٥م).
وجدير بالملاحظة أن البعد الأول (الذي يصفه فينك ومعاونوه
بالشكلانية والتعقد) نجده داخل إطار الانتخاب الثقافي يلائم
تمامًا الجدول R/K؛ حيث الأول
أكثر نزوعًا إلى الطابع الريجالي، وحيث موسيقى الروك أكثر
نزوعًا إلى الطابع الكاليبتي من بين الأنواع المذكورة. ويشير
هذا إلى أن العامل الثقافي
R/K− هو واحد من أهم العوامل
في تحديد أذواق الناس الموسيقية.
أمثلة
ليس ممكنًا هنا بطبيعة الحال تقديم دراسة تفصيلية عن التاريخ
العالمي للموسيقى في ضوء نظرية الانتخاب الثقافي؛ لذلك آمُل أن
يقنَع القارئ بقليل من الأمثلة التوضيحية.
في مطلع العصور الوسطى كان الموسيقيون، شأن غيرهم من
الفنانين الآخرين، تعيِّنهم الكنيسة أو البلاط الملكي، وكان
هدف الموسيقى الحمد والتسبيح لله، ثم أضيف بعد ذلك مدح الملوك
وأبطال الحروب. وتميزت العصور الوسطى بأن زمانها زاخر بالحروب؛
الأمر الذي انعكس في الموسيقى ذات الطابع الريجالي، والتي
تتحكم فيها المؤسسة الحاكمة. وظلت الهيمنة للأفكار والموضوعات
الدينية إلى أن بدأ عصر الرومانسية، والذي ظهرت معه موضوعات
وأفكار الحب.
وترتبط هذه الموضوعات الجديدة بتحول في الهيكل الاجتماعي،
بدأت جذوره في القرن الثامن عشر وقتما ظهرت الأسرة النواة
باعتبارها العنصر الأساسي للمجتمع (أرييس
Aries، ١٩٦٠م). واصطبغ الزواج
والحياة الأسرية بالطابع الرومانسي، وبدأ في الوقت ذاته
الاحتفاءُ بهما في الأغنية باعتبار ذلك أخلاقياتٍ جنسيةً جديدة
وأشد صرامة لتعلم الناس الزواج الأحادي
monogamy، كما تعلمهم الإخلاص؛
تأسيسًا على المثل الأعلى للحب الصادق. وزايل المجتمع الطغيان
الديني والسياسي الذي كان سائدًا في الأزمنة السابقة، وحل
محلَّه نهج أكثر تهذيبًا وصقلًا وأقل شفافية وذو طابع ريجالي،
وهو ما سُمي الأخلاقيات الجنسية. ويحتفظ موضوع الحب، الذي لا
يزال مهيمنًا في موسيقى البوب الحديثة، بهذه الأخلاقيات عن
طريق نظرة مثالية إلى الحب الصادق.
مؤشر آخر على أن الموسيقى الرومانسية ليست أقل، من حيث
طابعها الرومانسي، عن سوابقها، نجده في الجمهور الذي أصبح أكثر
انضباطًا والتزامًا خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
كانت العادة الإظلام التام لقاعات المسارح وقاعات الكونسير،
ويلتزم الجمهور بالجلوس في هدوء ودَعة ودماثة، ولا يصفِّق
تحيةً إلا بعد انتهاء العرض. والملاحظ أن التصميم المعماري
للمسرح كان يؤكد الهوة العميقة بين الأطياف القليلة فوق خشبة
المسرح وبين الأعداد الكبيرة غير المعروفين من الجمهور، وهنا
يصبح الفارق بين العالم الخيالي للممثلين والموسيقيين وعالم
الجمهور مُناظرًا للفارق بين العالم المقدس وعالم الأرض، ويغدو
آلاف المتفرجين أشبه بشيء رمادي، غُفلًا، فاقد الحيلة متواضعًا
(سينيت، ١٩٧٤م).
وعلى أية حال فإن الفن ذا الطابع الريجالي ليس دائمًا فنًّا
داعيًا للسِّلم؛ إذ من الضروري أن نمايز هنا بين الطابع
الريجالي الدفاعي والهجومي. وتكون الثقافة ذات الطابع الريجالي
في موقف دفاعي إذا واجهت تهديدًا من أعداءٍ خارجيين أو من قوًى
داخلية كاليبتية، ويخلق هذا الموقف موسيقى مَهيبةً جليلة وقورة
جادة وظيفتها ضبط الناس للالتزام بالنظام ومنع الثورة. وليس
الحال كذلك في الموقف الهجومي المميز لثقافة توسعية ذات طابع
ريجالي. وتتميز الموسيقى الهجومية ذات الطابع الريجالي بأنها
موسيقى طنانة، في أبَّهة وغرور، توحي بالكبرياء الوطني ومقاومة
الروح كأساس لسياسة إمبريالية، ولنستمع على سبيل المثال إلى
الليلة الأخيرة لجولة الفرقة الموسيقية البريطانية الشهيرة؛
حيث دفع الحب الجمهور إلى أن يغني أغنية إلجار
Elgar الشهيرة:
أرض الأمل والمجد
أُمُّ الأحرار
كيف لنا أن نمجِّدكِ؟
نحن المولودون فيكِ،
ها هي تتسع وتتسع دومًا
حدودُكِ المقدورة
الرب الذي جعلكِ قوية
يمنحك القوة لتكوني أقوى وأقوى
والرب الذي جعلكِ قوية
لا يزال يريدكِ الأقوى دائمًا
لا أحد يمكنه أن يشك في الطابع الريجالي لهذا
النص الإمبريالي الذي تردد مع مطلع القرن العشرين وقتما كانت
بريطانيا القوة الاستعمارية الأولى، وأصبح الجمهور يقينًا منذ
ذلك التاريخ أقلَّ انضباطًا والتزامًا بالنظام، غير أن الغلو
في النزعة الوطنية والحماس القوي ينبض بالحياة. وظهرت على مدى
القرن العشرين الكثير من الاتجاهات الثقافية الأكثر كاليبتية،
وتجلى هذا الظهور بخاصة في الثقافات الفرعية الفنية؛ إذ تظهر
هذه الثقافات على مدى بضع سنوات محدودة، وتستحدث معاييرها
وقيَمها وأزياءها، مميزة الأسلوب، وموسيقاها ورقصاتها وفنها
البصري وحدودها الإقليمية وفِرقها، علاوة على جميع العناصر
تقريبًا المميزة لثقافة بدائية. وجدير بالذكر أن هذه الثقافات
الفرعية تظهر عفويًّا عندما يشعر فريق بأنه بات هامشيًّا أو
مهددًا أو مجرد أنه غير راضٍ عن المجتمع المحيط به. ولا ريب في
أن السرعة التي تظهر بها هذه الثقافات الفرعية وتنتشر وتتغير
هي مؤشر عن مدى كفاءة قدرة الثقافة البشرية على التكيف وكيف
تتكيف على نحو فعَّال من خلال اللاشعور. ويمكن أحيانًا لهذه
الثقافات الفرعية الفنية أن تتميز بخصائص معينة كأن تكون
ثقافات مضادة تمثل تمردًا كاليبتيًّا ضد المجتمع الريجالي
الأكثر رسوخًا. وتعتبر الموسيقى وسيلة مهمة للتعبير عن هذه
الثقافات الفرعية — وغالبًا ما تكون هي الوسيلة الأهم قاطبة —
كأداة اتصال لتوصيل رسائل ثقافية وللتعبير عن الهوية الثقافية.
ونجد الكثيرين من الشباب يقنعون بتحديد هويتهم تأسيسًا على
ذوقهم الموسيقي.
٦ ولا غرابة في أن الغالبية العظمى من الأساليب
والأنواع الكاليبتية الجديدة مثل موسيقى الروك والجاز … إلخ،
ترجع أصولها إلى ثقافات فنية.
وظهرت خلال العَقدين الماضيين الفيديوهات الموسيقية
music videos كشكل فني جديد،
وحظيت بشعبية كبيرة جدًّا بين الشباب من البنين والبنات، هذا
على الرغم من أنها لم تحتل بعدُ المكانةَ التي تجعل منها فرعًا
من أفرُع الفنون المعترف بها. ويقدم لنا فن الفيديوهات
الموسيقية موسيقى يغلب عليها الطابع الكاليبتي؛ علاوةً على فن
بصري مساوٍ لها من حيث الطابع الكاليبتي أيضًا.
والملاحظ أن الثقافات الفرعية والثقافات المضادة الأكثر
شعبية في المجتمع الحديث غالبًا ما تتحول تدريجيًّا إلى سلعة
تجارية ومدمجة في الثقافة الرئيسية. وتفقد بعضًا من محتوياتها
الأصلية، كما تدفع في الوقت نفسه الثقافةَ الرئيسية بعيدًا
قليلًا في اتجاهها هي، أو لنقل بعبارة أخرى: إن الثقافة
الرئيسية الأم والثقافة المضادة يتحركان تدريجيًّا تجاه بعضهما
البعض؛ ليلتقيا معًا عند موقع وسط مشترك.
ولجأ الزعماء السياسيون والمدارس والمعابد في غالبية الأحيان
إلى الموسيقى والغناء لاستخدامها كوسيلة فعالة للتأثير في
الناس (كينشلوي Kincheloe،
١٩٨٥م). والملاحظ أن نظم الحكم الشمولية غالبًا ما تكون أكثر
وعيًا من الحكومات الديمقراطية بالآثار الاجتماعية والسياسية
للتعبيرات الفنية؛ لذلك نجد الرقابة على الفنون أكثر حدَّةً
وأوسع انتشارًا في الدول غير الديمقراطية.
محاورات جمالية
التغيرات التي تطرأ على فنون وموسيقى بلدٍ ما تكون أكثر
وضوحًا وبروزًا عندما يطرأ تغير جذري ومفاجئ على التوازن
R/K− للثقافة، ومن أقرب
الأمثلة وضوحًا انهيار الاتحاد السوفييتي؛ إذ كشفت السنوات
الأخيرة من التاريخ الشيوعي لبلدان الكتلة الشرقية عن درجة
عالية من الحرية الفنية، بما في ذلك إقبال متزايد على موسيقى
الروك (راكز وزيتيني
Racz
&
Zetenyi، ١٩٩٤م). بيد
أننا سمعنا الكثير من الأصوات الناقدة، ودارت حوارات ساخنة
بشأن ضرر موسيقى الروك التي وصفها البعض عن حق بأنها حصان
طروادة الموسيقى (مينرت
Meynert، ١٩٨٧م). وتمثلت الحجج
المناهضة لموسيقى الروك في أنها تثير في النفوس خَدَرًا وغباءً
واستسلامًا، وأنها تخاطب الجمهور كجماعة وليس كأفراد (بوبوف
Popov، ١٩٨٧م؛ وساركيتوف
Sarkitov، ١٩٨٧م). وعلى الرغم
من هذا فإن من الصعوبة بمكانٍ تخطئةَ هذه الحجج،
٧ إلا أنها مثال مهم على القدرة العامة لدى البشر
لتبرير وعقلنة نفور انفعالي أو غريزي ضد تلك التعبيرات
الثقافية تحديدًا، التي تشكل خطرًا كبيرًا على الوضع الثقافي
القائم.
ونجد صراعًا مماثلًا في الولايات المتحدة الأمريكية حيث يُسر
الكثيرون بأن الموسيقى الشعبية يمكن أن تؤثر في مواقف واتجاهات
الناس (توهي Toohey، ١٩٨٢م).
إن أكثر القوى التزامًا بالطابع الريجالي في البلاد (خاصة
الأصوليين الدينيين) حاولوا مِرارًا وتَكرارًا محاربةَ موسيقى
الجاز والروك التي يشعرون إزاءها بنفور قوي (جراي، ١٩٨٩م).
مثال ذلك أنهم يزعمون أن موسيقى الروك تشتمل على رسائل شيطانية
خفية يمكن أن يسمعها الجمهور عند عزف الموسيقى في اتجاه عكسي
(لوك، ١٩٩١م؛ وفوكي وريد، ١٩٨٥م). ولكن الموسيقى يحميها سلاح
أيديولوجي من أهم الأسلحة الأيديولوجية كفاءةً لدى النزعة
الكاليبتية؛ ألا وهو حرية التعبير. ولكن الاستثناء الأهم من
حرية التعبير هو الإباحة أو الفن الإباحي؛ لذلك لن نَدهَش إذ
نجد أن بعض أغاني الروك منعتها الرقابة وحظرت تداولها بسبب ما
فيها من فحش (اتحاد الحريات المدنية الأمريكية، ١٩٩١م). وحدثت
بالمثل محاولات لاتهام فريق لموسيقى الروك بالمسئولية عن
انتحار بضع أفراد من هواته (لوك، ١٩٩١م).
وعلى الرغم من أن هذه الصراعات قد تبدو غير ذات أهمية في
مجمل النظرة العامة، إلا أنها — مع ذلك — تعبيرات تكشف عن
عملية أساسية للغاية توجِّه مسار التطور الاجتماعي: كل إنسان،
رجلًا أو امرأة، يعبر على نحو لاشعوري في الغالب عن نظرته
الشخصية بشأن المجتمع؛ وذلك من خلال ممارسته هو أو هي للذوق
الموسيقي أو الفني؛ لذلك فإن الجدل الدائر بشأن: أيُّ الأساليب
والأنواع الموسيقية مقبول جماليًّا؛ إنما هو على مستوى
اللاشعور تفاوض بشأن الهيكل الاجتماعي المرغوب.
(٥) الرقص
الرقص شكل من أشكال الاتصال شأن الفنون الأخرى تمامًا، وليس
البشر هم فقط من يرقصون، ولكن هناك أيضًا بعض أنواع الطيور والنحل
والقردة العليا. وإن كثيرًا من الثدييات لديها لغة جسد متطورة
جدًّا، وحيث إن الرقص نوع من أنواع لغة الجسد فإن هناك ما يبرر
الاعتقاد بأن هذا الشكل من أشكال الاتصال أقدم من الناحية
التطويرية من اللغة المنطوقة. ويزعم بعض العلماء أن الرقص من حيث
هو شكل من أشكال الاتصال استخدمه البشر منذ أزمان سحيقة للاتصال
وللتدرب على تقنيات الصيد (هوويس، ١٩٧٣م و١٩٧٢م؛ وساكس،
١٩٣٣م).
وثمة أوجهُ تماثل كثيرةٌ بين الرقص واللغة المنطوقة (كايبلر
Kaeppler، ١٩٧٢م؛ ووليامز دي
Williams, D.، ١٩٨٧م؛ وهانا،
١٩٧٩م). ويمثل الرقص عنصرًا مهمًّا في التنظيم الاجتماعي والتنظيم
الديني في المجتمعات البدائية (سبنسر، بي ١٩٨٥م). ويحاكي الرقص
السلوك الاجتماعي مثل الصيد وغير ذلك من أعمال المطاردة،
والحيوانات والحروب والأساطير الدينية. ويستخدم البشر الرقص
للتفاهم والتفاوض وحل النزاعات، وقد يمتد الرقص لفترات طويلة مع
مصاحبة موسيقية رتيبة. ويُستخدم هذا النوع من الرقص الممتد في
الطقوس والمراسم الدينية رغبةً في الوصول إلى حالة من النشوة
والوجد وتغيير مستوى الوعي (سنايدر
Snyder، ١٩٧٤م؛ وهانا، ١٩٧٩م).
ويحقق الراقص لنفسه مستوًى بديلًا للوعي الذي يبدو غريبًا كلَّ
الغربة عن حياته وذاتيته اليومية، حتى إنه بإمكانه أن يصف الحالة
الجديدة بأنها روح جديدة غريبة تلبَّسته واستولت على جسده. وجدير
بالذكر أن الراقص الديني ربما يكون أوثق صلةً بعقله اللاشعوري وهو
في تلك الحالة الطارئة أكثرَ مما يكون في حالة الوعي السوية؛ لذلك
فإنه يكون في وضع اتصال وتماسٍّ أفضل مع لغة الرقص الرمزية.
وكما هو الحال تمامًا في فن الموسيقى والفن التصويري، فإن
بالإمكان إثبات وجود رابطة مهمة بين أسلوب الرقص والهيكل الاجتماعي
(روست Rust، ١٩٦٩م؛ ولوماكس،
١٩٦٨م). وترى عالمة الأنثروبولوجيا جوديث هانا أن الرقص وسيلة أكثر
فعاليةً للتأثير في مواقف واتجاهات الناس، ويتفوق في هذا على أشكال
الاتصال الأخرى لأنه يحفز إلى المشاركة النشطة، كما يؤثر في الوقت
نفسه على العديد من الحواس. والملاحظ أن الرسالة ذاتها تتكرر مراتٍ
كثيرة ويجري توصيلها مرات ومرات عبر قنوات عديدة بالتوازي: الحركة
والموسيقى والنص الغنائي وزينة الجسد، والسياق الاجتماعي، والأدوار
الاجتماعية في الرقص (من يرقص ماذا؟). ويكون كلٌّ من الجسد والعمل
منغمسًا من خلال المشاركة النشطة، كما يكون الانتباه مركَّزًا كله
على الرقص. وإذا كان ثمة شخص غير معنيٍّ بالإنصات إلى رسالة الرقص،
فإنه سوف يتلقى الرسالة لا محالة بأي وسيلة أخرى؛ لأن منبهاتٍ
كثيرةً تحيط به وتغريه وتجذب انتباهه. ويتأثر الناس بالرقص ليس لما
فيه من قوة، بل لما فيه من إغراء وغواية. لذلك تزعم هانا أن الرقص
له وظيفة سيبرنية في تنظيم المنظومة الاجتماعية والتحكم فيها
(هانا، ١٩٧٩م).
رمزية الرقص
الرأي الشائع أن الرقص شكل من أشكال الاتصال، ولكن من الصعب،
كما هو من الصعب في الفنون الأخرى، أن نقول ما الذي يجري
توصيله.
يزخر الرقص بالرموز، وجرت محاولات كثيرة لتأويل هذه الرموز،
وثمة موضوع يتكرر دائمًا وأبدًا، وهو الحلقة؛ حلقة الرقص.
والمعروف أن الناس حين يرقصون حول شيء سوف يركزون انتباههم على
أي موضوع في مركز الحلقة، قد يكون هذا الشيء سارية لمحرم
«طوطم»، أو رمحًا أو نارًا، أو قِدرًا مملوءة، أو شخصًا
مهيَّأً لضمه إلى الجماعة، أو جسدًا مَسجيًّا استعدادًا
لمواراته التراب، أو — كما هو الحال في أيامنا — شجرة عيد
الميلاد. وطبيعي أن التجمع في حلقة حول موضوعٍ ما يعني امتلاك
هذا الشيء أو حيازته والاستحواذ عليه واستيعابه داخل الطائفة
أو المجتمع، أو لطرده وإبعاده، كذلك رأس الأسد الذي اصطاده
الناس وأحاطوا به لا بد وأن ينقُل قوته التي كانت لصاحبه
السابق. ويرقص كاهن الشامان حول الشخص المريض ليطرد الروح
الشريرة عنه. وإن الرقص حول حيوان يضحي به الناس قربانًا يعني
أن الحيوان ضحية وفداء للمجتمع أو الطائفة، كذلك فإن الدائرة
لها معنًى ديني وهو ما يتضح على سبيل المثال حين نعرف أن شعب
النهوا Nahua في المكسيك
القديمة اعتادوا أداء رقصاتهم الدينية في دوائر وحلقات، أما
رقصاتهم الدنيوية فيؤدونها في صفَّين مستقيمين.
والملاحظ أن كل راقص داخل حلقة ندٌّ ومكافئ للراقصين معه،
فالجميع سواء، وتنكسر هذه المساواة إذا ظهر الراقصون في شكل
تكوينات أخرى مثل الثعبان، هنا يخرج أحدهم إلى المقدمة ويحتل
الصدارة، ويتبعه الراقصون الآخرون ويقلدون القائد. وثمة موضوع
آخر إذ يقف الراقصون صفين مستقيمين في مواجهة بعضهم البعض،
وهنا يكون الراقصون عادةً رجالًا فقط، ويرمز الصفان المتقابلان
للحرب، ونجد في حالات أخرى صفًّا مؤلَّفًا من رجال والصف الآخر
من النساء. ويعبر التمثيل الإيمائي الصامت هنا عن لعبة الزواج
(ساكس، ١٩٣٣م). ونرى في الممالك الكبيرة وفي الإمبراطوريات
استعراضات عسكرية؛ حيث يسير عدد كبير من الجنود في صفوف طويلة
يقودهم قائد آمِر واحد، ويظهر هنا على نحو مثير وجهُ التماثل
بين الاستعراض وهيكل القيادة الآمرة للمملكة.
ونشهد في مجتمعات عديدة الأمهات يرفعن أطفالهن إلى الهواء
لدعم نموهم، (ساكس، ١٩٣٣م). ونجد رمزية مماثلة في الرقصات
الزوجية الحديثة حيث الرجل يرفع المرأة كرمز على دعمه
الاقتصادي لها، ويقودنا هذا إلى أدوار الجنس، وأثبتت جوديث
هانا بالوثائق أن الرقص في مجتمعات مختلفة يعكس إلى حد كبير
أدوار الجنس (هانا، ١٩٨٨م؛ ١٩٨٩م).
وتوجد في أغلب المجتمعات البدائية رقصات الجنس المنفردة،
وهناك رقصات للرجال وأخرى للنساء. ولكن نادرًا ما يرقص الرجال
والنساء معًا (ساكس، ١٩٣٣م). ويعكس هذا تمامًا وَقْع تقسيم
العمل بين الجنسين والذي نشهده في المجتمعات البدائية. وهنا
تعتبر روح المجتمع القَبَلي أو القَروي أهم من زمالة الزواج.
وظلت الرقصات أحاديةُ الجنس هي المهيمنة في العصور الوسطى، بل
وكانت رقصات مهنية محددة تخص تجارة بذاتها (أرييس، ١٩٦٠م).
وظهر الرقص الثنائي، الجامع بين اثنين من الجنسين، خلال العصور
الوسطى، ولم يكن مسموحًا في البداية إلا بالكاد بأي ملامسة بين
الرجل والمرأة أثناء أداء هذه الرقصات، ثم بدءوا بعد ذلك يمسك
الزوجان الراقصان بأيديهما. وبلغ التزاوج ذروته في القرن
التاسع عشر بما نسميه اليوم رقصات صالات أو قاعات الرقص؛ حيث
الرجل والمرأة يمسك أحدهما الآخر ويضمه إليه بقوة (ساكس،
١٩٣٣م). والمألوف في هذه الرقصات أن الرجل والمرأة يتحركان
معًا بالكامل وكأنهما جسد واحد، وشاع هذا الضرب من الرقصات
شيوعًا كبيرًا في عصر ازدهار الرومانسية وقتما أصبح الزواج
والأسرة النواة يعتبران حجر البناء للمجتمع، ولكن اليوم، وقد
تضاءلت أهمية الأسرة النواة، يسود ميل بين الشباب والشابات إلى
أن يحُدَّ الرجل والمرأة من تماسكهما أثناء الرقص، وأن يتحركا
معًا ولكن منفصلين. هذا على الرغم من أنهما يرقصان كلُّ زوجين
معًا.
والملاحظ أن الرقصات الزوجية لم تحل تمامًا محل الرقصات
الجماعية التي عاشت في مناطق الريف وفي لعب الأغاني بين
الأطفال، وبدأت تظهر اليوم ببطء الرقصاتُ أحادية الجنس مرةً
ثانية في ثقافات شباب الحضر في أشكال مختلفة؛ منها رقصة بريك
دانس Break Dance، ورقصة هيب
هوب hip hop، حيث يتنافس شباب
الرجال لإظهار أفضلهم في أداء رقصات أكروباتية أو
بهلوانية.
ولنا أن نناقش ما إذا كان الرقص بقايا أثرية هامشية موروثة
عن ماضٍ بعيد، وتحولًا فارغًا وتسلية غير ذات معنًى، وتجاوزت
وظيفته منذ زمن طويل وسائل اتصال أخرى أكثر فعالية، أم أنه لا
يزال يحتفظ بمعنًى شعائري ووظيفة وثيقة الصلة بحياتنا
الاجتماعية وتنظيمنا الاجتماعي. وتبين أن أسلوب الرقص يتغير
وقتما يتغير الهيكل الاجتماعي (ريتشمان وشمايدلر، ١٩٥٥م؛
وساكس، ١٩٣٣م؛ وروست، ١٩٦٩م). وتكشف دراسة أوثق صلةً بالموضوع
عن أن الرقص يمكن أن يشتمل على نزعة رمزية ثرية جدًّا وتفصيلية
للغاية. وجدير بالذكر أن المؤرخ الموسيقي كورت ساكس
Kurt Sachs عُني كثيرًا بدراسة
الرموز الأكثر تقدمًا. وليسمح لي القارئ بأن أورد بضعة أمثلة:
مجتمعات كثيرة لديها رقصات، نجد فيها زوجًا أو أكثر من
الراقصين يصنعون بأذرُعهم جسرًا بحيث يمر من تحت أذرعهم بقية
الراقصين. ويحدث أحيانًا أن يقف صف كامل من الأزواج صانعين
مجموعةً من الجسور حيث يعبُر آخر الراقصين ليكون هو الأول،
ويحتل المقدمة بعد ذلك ويصنع جسرًا جديدًا ليعبُر من تحته مَن
يتْلونه في الطابور، كذلك فإن العبور تحت أذرع أو أرجل
الراقصين الآخرين يرمز عادةً إلى الميلاد. ونرى في التشكيل
المعروض هنا سالفًا رمزًا للتجديد الأبدي للحياة، حيث جيل يأتي
بعده جيل، في تعاقب مطرد، ويوجد شكل آخر وموضوع آخر متقدم أكثر
في ثقافات كثيرة، وهو عبارة عن سلسلة ممتدة لرقصة الضفيرة أو
الجديلة (وتسمى السلسلة الإنجليزية chaine
anglaise)؛ حيث يتحرك الرجال والنساء في
دائرتين في اتجاهين متضادين في السلسلة. وبعد مرور واحد تلتقي
أنت بالثاني ويمضي في الاتجاه المضاد لك، وتعطيه يدك اليسرى
وتمر أنت عن يمينه، وفي المرة التالية تعطيه يدك اليمنى وتمر
عن يساره. ويعتقد ساكس أن هذه الحركة الجديلية ترمز إلى عملية
النسج التي ترمز بدورها إلى الخلق (ساكس، ١٩٦٣م). هل هو على
صواب أم أن ما قاله ينطوي على مبالغة في التأويل؟
وللقارئ كل الحق في أن يسأل عما إذا كانت هذه الرمزية
المتقدمة مفهومة أصلًا أم لا. إن عددًا محدودًا من الراقصين هو
الذي يتأمل في تحليل الرموز وقتما يتمازحون وهم على منصة
الرقص، وهذا لا يفعله أبدًا المشاهدون السلبيون، بل ربما أن
الشخص الذي ابتكر في البداية رقصةً بذاتها لم يكن واعيًا
برمزيتها، ولكن أليس من المحتمل أن يكون ذلك متحققًا على مستوى
اللاشعور؟ هذا هو عين السؤال الذي طرحه إليانور ميثيني
Eleanor Metheny:
«أن يكبَر المرء ويشبَّ عن الطوق ليصبح رجلًا يمكن أن
تكون عملية مثيرة ومخيفة ومجزية في أي مرحلة من مراحل
العمر. لقد كانت خبرة مروعة بشدة بالنسبة للفِتيان الذين
بلغوا سنَّ الرجولة أثناء الحرب العالمية الثانية، وزاد من
تعقيد هذه الخبرة الحاجةُ إلى إخفاء تلك المخاوف، ولكن
بالنسبة لي كان الإحساس بهذه المشاعر المركبة مقترنًا
ضِمنًا بلعبة معروفة أيام الحرب باسم لوبي-لو
loopy-lo، والتي كانت تسمى
أيضًا هوكي-بوكي.
والملاحظ في الهوكي-بوكي أن النغمة المألوفة اكتسبت
طابعًا عاليًا من موسيقى الجاز، واعتاد أن يتحرك الراقصون
تجاه نقرة مرخَّمة، وتحولت راحة اليد إلى قبضة، وإصبع
السبابة مبسوطًا كأنما يشير إلى شيء، واتسعت كل حركة في
الرقصة أثناء الرقص، وأصبح عزفها وأداؤها شديد القوة،
وتغيرت الكلمات القديمة لتتلاءم مع هذه الحركات التي اتسمت
بالقوة والنبرة المرخَّمة، مع التأكيد مع الكلمات: «أدخل
ذراعي اليمنى.» ويتم ذلك والراقص منفرج الساقين متخذًا
وضعًا مثيرًا؛ بينما قبضة اليد والسبابة مبسوطة تشير إلى
مركز الدائرة. وينعكس الوضع مع عبارة: «أخرج ذراعي
اليمنى.» وتتردد عبارة: «ألعب الهوكي-بوكي بينما أهزه في
كل اتجاه.» وتعود الهاء هنا إلى جزء شديد الأهمية في
الجسد، والذي لا يمكن تسميته مباشرةً بينما يجري هزُّه
بقوة والإصبع ممدودة وقد ارتفعت إلى أعلى فوق الرأس،
وتتحرك حركة متهادية من جانب إلى آخر، وهنا يختلط جميع
الراقصين ببعضهم البعض، أو ينكفئون حول الدائرة وهم يحركون
أصابعهم إلى أعلى ويؤدون لعبة الهوكي-بوكي. الذراع اليسرى
والساق اليمنى والساق اليسرى تدخل وتخرج في تعاقب، ثم
أخيرًا إذا بي «أنا كلِّي» ملتزم بكل شروط الرقصة.
ترى هل كل هؤلاء الفتية الخائفون والشجعان وهم يكبرون في
عالم الهوكي-بوكي المشحون بالأخطار والموت يعرفون الدلالات
الضمنية لأنماط الحركات في حالات الامتداد والانسحاب
والاهتزاز؟ ترى هل كانوا يطابقون الإصبع المبسوطة برمز دال
على بندقية أو برمز دال على القضيب؟ هل كانوا يُحسُّون
بدلالات ضمنية للتظاهر بالشجاعة في حالة تحريك الإصبع
يمينًا ويسارًا؟ وهل فهموا معنى التأكيد وهم يحسمون صراعًا
بشأن الاهتزاز داخلًا وخارجًا، ثم يختلطون ببعضهم في غير
انتظام أو يتراكبون وينكفئون على الأرض؟ ربما لا، وربما
شعروا بالخجل مما هو وراء الكلمات لو أن أحدًا اقترح عليهم
مثل هذه المعاني. بيد أننا نعرف عن يقين أنهم لبَّوا
الدعوة لهذا الضرب من رقصات الأطفال ورقصوها مراتٍ ومرات،
ليس لأن أنماط الحركة يمكن أن يؤديها أيُّ مشارك في مراكز
الترفيه، وإنما لأن هذه المشاعر والانفعالات التي استثارها
هذا الأداء زاخرة بالمعاني بالنسبة لهم» (ميثيني،
١٩٦٨م).
وربما لن يراودنا شك في أن الفتية الذين يرقصون رقصة
الهوكي-بوكي في هذا المثال يفهمون رمزية الرقص من خلال
لاشعورهم أفضل من فَهمهم لها بالعقل الواعي؛ شأن أي راقصين
آخرين. ولكن غالبًا ما يكون من المستحيل أن نجيب بدقة عن تحديد
مدى هذا الفهم، وكيف ولماذا طالما وأننا لا نملك أية وسائل
فعالة وموثوق بها لدراسة اللاشعور. وواضح أن الرقص البشري يعكس
جوانب كثيرة من الحياة الاجتماعية، ولكن من العسير بيانُ ما
إذا كانت هذه الرمزية تؤدي بالفعل وظيفة أو غرضًا أم لا. ومن
يدري، ربما تكون وظيفة الرقصة هي توصيل وترديد معايير السلوك
الاجتماعي والتدرب عليها، وربما يستخدم الجميع الرقصة للتفاوض
وللوصول إلى اتفاق بشأن الهيكل الاجتماعي المنشود، وربما أيضًا
يفيد المجتمع بالرقصة لاقتراح وتجربة هياكل اجتماعية جديدة،
وربما يكون للعمل من خلال صراعات نفسية أو اجتماعية ومحاولة
حسمها.
وجدير بالملاحظة أن الغالبية العظمى من الدراسات عن الرقص
ودلالته الرمزية تركزت على حركات الراقص الفرد: أي أجزاء من
جسده هي التي يحركها، وفي أي اتجاه، وبأية سرعة … وهكذا (انظر
على سبيل المثال: لوماكس، ١٩٦٨م). ولكن إذا كنا نبحث بخاصة عن
هذه الرموز ذات الصلة الوثيقة بالهيكل الاجتماعي وبالنظرية
الثقافية R/K، فإن الواجب
يقتضينا النظرَ في التفاعل بين الراقصين وأدوارهم المختلفة: من
الذي يرقص؟ كم عدد الراقصين معًا؟ هل يوجد متفرجون سلبيون غير
مشاركين أم أن كل فرد يشارك وينضم إلى حلقة الرقص؟ هل يرقص
الناس للرقص في ذاته، أم للمجتمع المحلي، أم للإله، أم
للمتفرجين؟ وهل يظهر الراقصون في تشكيلات معينة أم على نحو
عشوائي بين بعضهم البعض؟ هل جميع الأوضاع في تشكيلٍ ما متكافئة
(كما هو الحال في الحلقة أو الدائرة) أم أن هناك أدوارًا
مختلفة (مثال ذلك وجود قائد يتصدر الطابور)؟ وهل ثمة رقصات
معينة أو أدوار معينة في إحدى الرقصات يرقصها أشخاص محددون دون
سواهم بحكم المكانة الاجتماعية؟ هل حركات الراقصين متآزرة
ومنسقة أم مستقلة عن بعضها؟ هل يتلامسون؟ هذه جميعها أسئلة
مهمة من أجل الوصول إلى تأويل للدلالة الرمزية الاجتماعية لأية
رقصة من الرقصات.
وسبق لي أن ذكرت كيف أن أدوار الجنس وهيكل الأسرة ينعكسان في
الرقص (لمزيد من التحليل انظر: هانا، ١٩٨٨م). وثمة جانب آخر
مهم ينعكس في الرقص؛ وهو التضامن مقابل الفردية؛ ذلك أن كل شخص
في مجتمع يتصف بدرجة عالية من التضامن يشارك في الرقص، ويتبع
كل منهم الآخر في حركة متآزرة منسقة، وغالبًا ما يلمس كلٌّ
منهم الآخر؛ مثال ذلك ما يحدث داخل حلبة الرقص حيث يمسك كل فرد
بيد الآخر، والنقيض لذلك هو الرقصة الفردية حيث يرقص الناس على
نحو عفوي مع بعضهم البعض، دون أي تنسيق ودون أن يلمس أحدهم
الآخر إلا بسبب تصادم غير مقصود. وثمة موقف أكثر إمعانًا في
الفردية حيث يرقص فرد واحد لفترة زمنية على نحو ما نجد كمثال
في رقصة الطلبة في جرين لاند.
كذلك يمكن أن نطبق على الرقص نظرية الشفرة
code المقيدة مقابل الشفرة
المفصلة الحرة. ونجد الشفرة المقيدة شائعة في المجتمعات
الريجالية والمجتمعات الوسيطة (الموحدة أو التضامنية)؛ بينما
نجد الشفرة المفصلة الحرة أساسًا في المجتمعات الكاليبتية.
وتعني الشفرة المقيدة أن الرقصة تنظمها قواعد معينة وبنية
صارمة، ولا مجال فيها للارتجال والتباينات الفردية، وأوضح مثال
على ذلك هو رقصة المينيويت
minuet البطيئة التي كانت
مألوفة في البلاطات الأوروبية قبيل القرن السابع عشر وما بعده
بقليل. وتعتبر رقصة المينيويت رقصة معقدة مع خطوات صغيرة دقيقة
رشيقة، وكانت هذه الرقصة تقتضي سنوات عديدة لكي يتعلمها المرء،
كما تحتاج من الراقص دقة متناهية. وكانت رقصة المينيويت تعتبر
درسًا في السلوك القويم الصحيح والانضباط الذاتي أكثر منها
متعةً للاسترخاء.
واختفت رقصة المينيويت فجأة في منتصف القرن الثامن عشر وحلت
محلها «الرقصة المضادة»
contradance التي يرقصها
الراقصون في أسلوب يغلب عليه طابع الهواية. وارتبط هذا التغير
في أسلوب الرقص بضعف الهيمنة الثقافية والسياسية للأرستقراطية
وتدنِّيها لصالح البورجوازية (ساكس، ١٩٦٣م). وهذا ما حدث
تمامًا بالنسبة لأسلوب الروكوكو في الفن الذي حل محل أسلوب
الباروك في الرسم وفي العمارة. ويمكن لنا أن نلحظ فارقًا
طبقيًّا مماثلًا في المجتمع الحديث، حيث نجد رقصات الطبقات
الدنيا أكثر تجديدًا وإبداعًا؛ بينما رقصة الطبقة العليا أكثر
التزامًا ومحافظةً (كوتيل
Cottle، ١٩٦٦م؛ وروست،
١٩٦٩م).
كذلك العلاقة بين الراقصين والمشاهدين مهمة أيضًا؛ مثال ذلك
أن المسافة بين راقصي الباليه وبين المتفرجين كانت كبيرة جدًّا
في حفلات الباليه الكلاسيكية. كان الراقصون خبراء لا يمسسهم
أحد، ويتحركون في عالم فائق الرقة والجمال أشبه بعالم حواديت
الجان، يتحركون كفراشات تحلِّق في خفة ورشاقة؛ بينما الجمهور
جالس في صمت وهدوء بعيدًا عنهم مشدودًا بالإعجاب بهم. وإن هذا
الموقف الاستسلامي المسالم هو في ذاته موقف ريجالي ويتناقض
تمامًا مع الرقص الفولكلوري؛ حيث يرقص الناس للرقص وللاستمتاع،
وحيث يمكن لأي فرد أن ينضم ويشارك مع الراقصين دون أي شرط من
شروط الخبرة.
وظل الرقص دائمًا ظاهرة اجتماعية؛ يرقص الناس مع آخرين أو من
أجل آخرين، ولكن نادرًا ما يرقص الراقص أو الراقصون وحدهم إلا
أثناء التدرب لموقف اجتماعي قادم؛ ولذلك لا غرابة في أن نشاط
الرقص يحتل أسمى مرتبةٍ في المجتمعات المتلاحمة. والملاحظ أن
أكثر المجتمعات إغراقًا في الطابع الريجالي أبدلوا قدرًا
كبيرًا من نشاط الرقص بأشكال أخرى لحركات أقل حيوية؛ مثل
الاستعراضات والمسيرات العسكرية والطقوس والشعائر الدينية.
وعلى الرغم من أن هذه الأشكال الحركية قد تكون إيقاعية إلا
أنها لا تدخل ضمن ما اعتدنا أن نسميه رقصًا، وتخرج عن التعريف
المحدد للرقص، وإنْ تضمَّن الرقص هذه الأشكال. وإذا كان الرقص،
كما ذكرنا في السابق، وسيلة فعالة للتعليم والتلقين، إلا أن
بالإمكان أيضًا اعتباره ضربًا من العبث والاستهتار، حين تكون
ثمة مناسبات جادة تستلزم ضبطًا ونظامًا صارمَين وتحكمًا في
الذات داخل مجتمع ريجالي. وهنا تشتد الحاجة لطقوس وشعائر أشبه
بالصلاة الجادة الحزينة مما يشبه إيماءات الخضوع والانصياع عند
الحيوانات.
ويوضح الرقص جوانب عديدة للهيكل الاجتماعي لأي مجتمع من
المجتمعات: العلاقات الاجتماعية، وأدوار الجنس، وتقسيم العمل …
إلخ. والملاحظ أن أكثر هذه الجوانب يرتبط بشكل أو بآخر
بالمستوى R/K− الثقافي، والذي
ينعكس لهذا السبب في الرقص. ولكن العامل الأهم فيما يتعلق
بالجدول R/K− قد لا يكون نوع
الرقص، بل كمِّيتَه وكثافته؛ إذ إن هذين، كما سبق أن أشرنا،
يبلغان أسمى مرتبةٍ في الثقافات التضامنية المتلاحمة وتحتل وسط
السلَّم R/K−.
(٦) العمارة
يسيرٌ علينا تبيُّن الرابطة بين الأسلوب المعماري والطابع
الريجالي. اعتادت النظم الريجالية دائمًا إنتاج مبانٍ تتسم بالأبهة
والضخامة والعظمة؛ بينما أسلوب البناء في المجتمعات الكاليبتية
تحدده أساسًا الاعتباراتُ العملية والاقتصادية أكثر مما تحدده
الرغبة في الإبهار والتأثير.
٨
وتتسم المباني ذات الطابع الريجالي برمزية عالية التطور وغالبًا
ما تكون واعية وشعورية تمامًا، وتعتبر الزخرفة هنا، كما هو الحال
في فروع الفنون الأخرى، علامةً مميزة للغاية للانتماء إلى الطابع
الريجالي. ونستطيع أن نلحظ ثراءً مسرفًا في تفاصيل دقيقة مع رمزية
واضحة، ونجد في المباني المهمة أن كل شيء أكبر حجمًا مما تتطلبه
الاعتبارات العملية: غرف فسيحة ضخمة ذات أسقف عالية، وبوابات ضخمة،
ودرجات سلَّم مهيبة، وهي أمور تجعل الزائر يشعر بالضَّعة
والضآلة.
والمعروف أن الأعمدة في الأزمنة القديمة كانت عنصرًا مميزًا
للمعابد ولغيرها من المباني الضخمة. وتفيد الأعمدة علاوة على
وظيفتها العملية في إضفاء دلالة رمزية تمثل عقيدة تعدد الآلهة
قديمًا، والذي تؤكده بالرسوم الزخرفية المرسومة أو المنقوشة عليها
(هيرسي Hersey، ١٩٨٨م).
وكانت مباني أصحاب النفوذ في العصور الوسطى لها ملحقات تشتمل على
عناصر جديدة؛ مثل الأبراج، والقِمم المستدقة، والقِباب، ومداخل
القصر … إلخ. وتتميز جميعها بالضخامة والأبهة الفاخرة التي تتجاوز
كثيرًا أيَّ غرض عملي، وإنما تفيد أولًا وأساسًا كرموز دالة على
السُّلطة (جرابر Graber، ١٩٧٨م)،
واستمرت حتى عصر النهضة نزعةُ بناء الأبراج التي تبدو في ظاهرها
وكأنها تدابير حماية، ولكنها في حقيقتها رموز للدلالة على المكانة
الاجتماعية (سامسون Samson،
١٩٩٠م).
والملاحظ في المباني الإسلامية أنها مغطَّاة من الداخل ومن
الخارج بوحدات هندسية ورسوم من فن الأرابيسك وزخارف وخطوط أو
كتابات بخطوط جميلة؛ حتى إن المشاهد لا يكاد يرى أي مساحة خالية من
الرسوم والزخارف (جونز، دي، ١٩٧٨م). وغني عن البيان أن الرسوم
الهندسية الدقيقة والمحكمة في كل هذه الزخارف إنْ هي إلا تعبير عن
العقلانية وعن الانضباط والنظام. والملاحظ هنا غياب الأشكال
والرسوم البشرية أو رسوم الحيوانات أو غير ذلك من صور طبيعية.
ويعكس هذا قمع المشاعر كما يعبر عن التخييلات (الفانتازيا). كذلك
فإن تكرار الأشكال الهندسية المنتظمة إلى ما لا نهاية ليس فقط مجرد
قمع رمزي للفوارق الفردية، بل وأيضًا رمزٌ للانتظامية ولروح الكد
والكدح في عمل شاقٍّ رتيب.
ويمثل الضوء رمزًا آخر مهمًّا في العمارة الدينية، إن الضوء رمز
العقيدة الدينية الموحدة (جونز، دي، ١٩٧٨م). وشاع كذلك، وعلى نطاق
واسع في الكنائس والكاتدرائيات وفي المساجد وغيرها من المباني
الممثلة لعقيدة التوحيد، الاستخدامُ الواعي لتأثيرات الضوء والظل
في الرسوم البارزة، واستخدام النوافذ ذات الزجاج المعشَّق
الملون.
ونجد إلى جانب القوى الدينية القوى العلمانية بقصورها، وهذه قصور
تتسم بالفخامة والثراء وأبهة الزخارف؛ شأن المباني الدينية، ولكنها
تختلف عنها من حيث توفر مساحات للإسراف في المتعة وللتسلية؛ كأن
نجد حدائق مسرفة الترف بها بحيرات ونافورات، وهذه أمور لا تتسق مع
العمارة الدينية التي تُلقى فيها مواعظُ عن الزهد
والاعتدال.
وكثيرًا ما كان فن العمارة عُرضة للجدل في عصرنا الحديث، ونجد
رابطة واضحة بين الخلافات بشأن الأسلوب المعماري والجدل العام
الأيديولوجي والدين بعامة في أي مجتمع (كيمبرز، ١٩٨٧م؛ كلارك،
١٩٧٦م). لقد درس عالم الاجتماع الهولندي برام كيمبرز
Bram Kempers الآثار والمباني
الرسمية المتسمة بالعظمة والضخامة، وغير ذلك من الفنون التذكارية
للدولة في أوروبا. ولوحظ أن بناء مثل هذه الآثار ذات العظمة
والبهاء بلغ ذروته في العواصم الأوروبية في منتصف القرن التاسع
عشر، واستمر حتى منتصف القرن العشرين. واشتعلت مقاومة أيديولوجية
قوية ضد الإمبريالية عقب الحرب العالمية الثانية أدت تقريبًا إلى
توقف كامل من جانب الدولة في تشييد مبانٍ أو نُصُب تتسم بالفخامة
والأبهة. وجدير بالذكر أن الفن الحديث الذي قمعه النازي عاد وازدهر
في الستينيات، والذي تجلى فيما يتعلق بالعمارة في أسلوب أكثر بساطة
وأميلَ إلى الطابع الوظيفي (كيمبرز، ١٩٨٧م).
وعلى الرغم من أن المباني الحكومية والدينية من أبرز الرموز
المعمارية الدالة على الطابع الريجالي، إلا أن بالإمكان أن نقرأ
الحركات الأيديولوجية في الأسلوب المعماري للبيوت الخاصة. وقدَّم
المؤرخ الأمريكي كليفورد كلارك دراسة موثقة توضح كيف أن الأفكار
والمعايير الدينية والأيديولوجية للأُسر وللحياة الخاصة انعكست في
الجدل المعماري الأمريكي في منتصف القرن التاسع عشر. ولحَظ أن
الأُسر الريفية المغرَقة في طابعها الديني فضَّلت، من بين أساليب
معمارية سائدة، إحياءَ الأسلوب القوطي مع خطوط صاعدة إلى أعلى
وزخارف غنية فوق الجمالونات، وتماثلية كاملة التناظر؛ بينما سادت
المدنَ الأساليبُ الأكثر بساطة والأكثر اهتمامًا بالدلالة
الوظيفية.
وأضحت المباني العامة تدريجيًّا أكثر ميلًا إلى الطابع الفردي؛
بينما أصبح البيت بصفته رمزًا على المكانة تعبيرًا عن شخصية صاحبه.
وحاول أصحاب الفيلات المتغطرسون المتكبرون أن يبُزَّ كلٌّ منهم
الآخر ويتفوق عليه في مظاهر الغرابة والندرة، وهو ما أفضى إلى ظهور
مزيج عشوائي من الأساليب (كلاركن ١٩٧٦م).
(٧) الملابس
الملابس وزينة الجسد شيء فردي وشخصي يعبر عن الهوية الشخصية
أكثرَ مما يعبر البيت أو أية ممتلكات أخرى على سبيل المثال. إن
الملابس من حيث هي فن ووسيلة اتصال يمكن أن تقول الكثير عن لابسها:
الانتماء إلى جماعة؛ مثل الأصل العرقي، أو الدين، أو الثقافة
الفرعية، وكذلك عن حقائق شخصية؛ مثل الجنس والعمر والحالة الزوجية
وعدد الأطفال والمكانة الاجتماعية والثروة … إلخ. كذلك يمكن أن
يعبِّر لباس المرء عن أحداث عابرة مثل الحزن أو الاحتفاليات أو
فصول السنة (ديلابورت Delaporte،
١٩٨٠م).
ولكن ما يهم بوجه خاصٍّ النظريةَ الثقافية
R/K− هو كيف يُرمز إلى المكانة
الاجتماعية في التراتبية الهرمية للمجتمع عن طريق الملبس. نعرف أن
ثقافاتٍ كثيرةً وتنظيمات عديدة لها قواعدها الرسمية التي تقرِّر أن
أبناء المجتمع من مرتبة اجتماعية بذاتها مخوَّلٌ لهم ارتداءُ ثياب
بذاتها أو وضع علامات بعينها؛ بحيث يستطيع أن يعرف كلُّ ذي عينين
إلى أي مرتبة اجتماعية ينتمي هذا الشخص. ولكن ثمة قواعد أخرى غير
مكتوبة وشائعة على أوسع نطاق (جوزيف، ١٩٨٦م؛ ديفليز شووار
Devlees Chuwer، ١٩٧٧م).
ويمكن لذوي المكانة العليا والثروة الكبيرة أن يعلنوا عن مكانتهم
هذه بما يرْتدونه من لباس باهظ الكلفة أو فاخر النوع، وكذلك عن
طريق تجديد ملابسهم كثيرًا أكثر ما تقتضي الضرورة. ويمكنهم أيضًا
إثبات أن ليست بهم حاجةٌ إلى أداء عمل شاق؛ وذلك بالحفاظ على
ملابسهم نظيفة أنيقة، وبارتداء ملابس غير عملية من شأنها أن تحُدَّ
من حرية حركة صاحبها، وهو ما يعني أنها غير ملائمة للعمل اليدوي.
وعبر عالم الاقتصاد ثورستن فيبلن Thorsten
Veblen عن هذا بمقولته الشهيرة: «استهلاك واضح،
إسراف واضح، وفراغ واضح.» (فيبلين، ١٨٩٩م، الاقتباس من سكواير
Squire، ١٩٧٤م).
والتزين وسيلة من وسائل إعلان المكانة العالية لصاحبه: المجوهرات
والأحجار الكريمة والسبائك الذهبية والسلاسل، والإسراف في ثنيات
اللباس، والإكثار من أهداب الأزياء، والأكمام الواسعة المزركشة،
والذيل الطويل … إلخ (ديفليز شووار، ١٩٧٧م؛ سكواير، ١٩٧٤م). ولكن
عادةَ تزيين الملابس لا تفيد فقط كعلامة دالة على الثراء والمكانة
العليا، بل تفيد أيضًا كعلامة على الهشاشة الرقيقة وفِقدان الحيلة
لدى النساء وصغار الأطفال (كايسر، ١٩٨٥م؛ روبرتس، إتش، ١٩٧٧م).
ولهذا نجد ملابس النساء أكثر زينةً من ملابس الرجال في مجتمع تشغل
فيه النساء مكانةً أدنى مرتبةً من الرجال. والملاحظ أن النساء
اللاتي لا يؤدين عملًا يدويًّا يحاولن الإبانة عن ذلك بارتداء
ملابس تقيِّد من حرية الحركة مثل القرينول، وهي تنورة منشَّأة، أو
الكورسيه (كايسر، ١٩٨٥م؛ وروبرتس، إتش، ١٩٧٧م). وقد نجد ملابس غير
عملية ومزخرفة على نحو مماثل لدى رجال من ذوي مكانة رفيعة في
مجتمعات تكون هذه المكانة موروثةً، ويقضي أصحابها حياتهم في دَعة
وكسل واسترخاء.
لذلك لنا أن نستخلص مما سبق أن اللباس المسرف في زخارفه وزينته
يوجد في الغالب الأعم في المجتمعات ذات الطابع الملكي، وليس
بالضرورة لدى أشخاص من أصحاب المكانة الاجتماعية الرفيعة. ولكن
الملاحظ أن الثقافات أو الجماعات ذات الطابع الريجالي لا يمكنها
جميعها أن تفرِض لباسًا مسرفًا في زينته وثريًّا في زخارفه؛ ذلك أن
بعض الثقافات أو المنظمات البيوريتانية لها لباسها المميز، والذي
يتسم بالبساطة قدر المستطاع.
وواضح أن اللباس لا يُفصح بشيء عن الشخص فقط، بل وأيضًا عن
المجتمع الذي يعيش فيه؛ ذلك أن التيارات الثقافية غالبًا ما تنعكس
في أزياء الملابس؛ مثال ذلك التاريخُ الأوروبي واللباس. إن أسلوب
الماناريزم المعروف بالغرابة في تكلُّفه وأسلوب الباروك الشكلي
وأسلوب الروكوكو المبالغ نوعًا في بهجته، والنزعة الكلاسيكية
الجديدة العقلانية والرومانسية الملتهبة المشبوبة عاطفة، كل هذه
أساليب تعكس نظرة العالم، وتعكس رؤيةً عن الطبيعة البشرية في
عصورها (سكواير، ١٩٧٤م). وجدير بالملاحظة أن المكانة الاجتماعية
والجنس كانا، وعلى مدى مئات عديدة من السنين، هما أهم الرسائل التي
يجري التعبير عنها بالملابس. ولكن منذ الحرب العالمية الثانية فقدت
هذه المعايير المعبرةُ عن الهوية الكثيرَ من أهميتها، وحلت محلها
إلى حد كبيرٍ تمايزاتٌ أخرى، والتي تُعتبر علامة على أن المنظومة
التراتبية الهرمية فقدت بعض سلطانها على مدى عملية إضفاء الطابع
الديمقراطي على المجتمعات (ديلهاي، ١٩٩١م).
ويزعم عالم النفس دين سيمونتون Dean
Simonton أن بالإمكان قراءة العمليات السياسية
مباشرةً من أزياء المرأة؛ إذ ثمة ميل لأن يكون الخصر أعلى وأوسع في
أزمنة الحروب الدولية؛ بينما يصبح في زمن السِّلم أضيق. وينعكس
الوضع إذا كنا في مرحلة حروب أهلية؛ إذ هنا يصبح الخصر أضيق مما هو
عليه في زمن السِّلم. ولم يقدم سيمونتون أي تفسير لهذه الظواهر
(سيمونتون، ١٩٧٧م). وتفيد النظرية الثقافية
R/K− بأن الحروب الدولية ترتبط
بالطابع الريجالي؛ بينما الحروب الداخلية للأمم أو الحروب الأهلية
فإنها تعبير عن تمرد أو تمزق اجتماعي نظرًا لبداية سيادة الطابع
الكاليبتي. وإذا ما التزمنا هذا الخط من التفكير فإننا نقول إن
الخصر الضيِّق سيكون علامة على الطابع الكاليبتي، بيد أن هذا لا
يتفق مع زعم أنصار الحركات النسائية وحرية المرأة؛ إذ يقال إن
الخصر المحكَم الرباطِ تعبيرٌ عن قهر المرأة (روبرتس، إتش،
١٩٧٧م).
ويعتبر التماثل والامتثال علامة واضحة على الطابع الريجالي كما
تعبر عنه أزياء العسكريين وغيرهم من منظمات مماثلة، وعلاوة على أن
الزي الرسمي له أسباب عملية واضحة فإنه أيضًا يقمع الفردية. ويمكن
اعتبار الانشقاق المتضمن نزعةً فردية ضربًا من الانحرافات البسيطة
عن الزي الرسمي المفروض، كما أوضح بالوثائق جوزيف (١٩٨٦م).
ونجد على النقيض في الطرف المقابل لأسلوب لباس رجال الأعمال
أساليب لباس شخصية وفردية الطابع؛ على نحو ما نرى في ثقافات الشباب
المحدَثين وبخاصة الموسيقيين منهم. إن كل عازف موسيقى في فرقة من
فرق الروك يمكن أن يكون له أسلوبه الخاص في اللباس والمختلف عن
الآخرين. وغالبًا ما يضاعف اللباس من إبراز مواضع البدن، ويكشف كل
ما يمكن الكشف عنه من الجسم ليجعل من عازف الموسيقى موضوعًا ووثنًا
جنسيًّا.
والملاحظ أن العديد من الثقافات الفرعية تعمِد في الغالب إلى
تطوير أسلوبها الخاص في اللباس وأحيانًا أيضًا في موسيقاها ورقصها
… إلخ. ويمكن لهذا التطور في ثقافات شباب الحضر أن يكون سريعًا على
نحو مذهل لا يصدَّق، وغالبًا ما نجد ثقافات كثيرة مختلفة جزئية
الطابع، ولكل جزء زيُّه الخاص من اللباس (ديلابورت، ١٩٨٢م؛
وكوسجروف Cosgrove، ١٩٨٤م).
والملاحظ أن بعض جماعات الشباب هذه هي لشباب كاليبتي الطابع متمرد
وضد النزعة العسكرية؛ بينما آخرون ذوو طابع ريجالي وعنصريون. ودرس
فريق من علماء النفس الرابطة بين أسلوب اللباس والشخصية بين أبناء
وبنات العشرين من العمر الأمريكيين. ووجدوا أن الشباب، الفتيات
والفتيان، الذين يرْتدون ما يسمى الأسلوب السخمي أو الجريزر
greaser لهم شخصية مفرطة في
تماثلها، هذا بينما شباب الهيبيز مفرِطون في فرديتهم، وواضح أن
الرابطة مهمة وذات دلالة إحصائية واضحة (جوريل وآخرون،
١٩٧٢م).
وغالبًا ما يحدث تجديد ثقافي مهم داخل جماعات الشباب من ذوي
المكانة الاجتماعية الدنيا، وبعد ذلك يأخذ الاتجاه الجديد للأزياء
في الانتشار صاعدًا إلى أعلى عبر المستويات الاجتماعية المختلفة.
وأكثر الأزياء إغراقًا في الطابع الكاليبتي في مطلع التسعينيات
نجده في ملابس الجينز المليئة بالثقوب أو المصنوعة من أقمشة تغطيها
ألوان متنافرة. واستوحت هذه الأزياء أسلوبها من موجة الابتذال
البريطانية وما اشتملت عليه من احتجاجات ضد كل المعايير الجمالية،
كما استوحت الطبقات الدنيا من شباب العشرينيات الأمريكي أبناء
الثقافات الفرعية لسكان الحضر في معازل السود.
ولكن انتشار وذيوع اتجاهات الأزياء يمكن أيضًا أن يأخذ الاتجاه
العكسي؛ من الشرائح الاجتماعية العليا إلى الشرائح الأدنى خاصةً في
العصور التي يسودها الطابع الريجالي. إن أبناء المجتمع المحرومين
من الامتيازات ربما يسعون إلى إخفاء مكانتهم الدنيا ومن ثم يعمِدون
إلى محاكاة أسلوب الطبقة العليا؛ مما يفضي إلى نوع من التضخم في
الأساليب. إن ذيوع زيٍّ ما يمكن أن يتجه صاعدًا أو هابطًا أو
أفقيًّا في عملية يؤثر خلالها أفرادٌ من أبناء وضع اجتماعي واحد في
بعضهم البعض؛ بحيث ينتهون إلى أسلوب مشترك يتأتى من خلال عملية
انتخاب جمعي (كايس، ١٩٨٥م؛ وبلومر، ١٩٦٩م).
(٨) الفنون الأخرى
أنجزت حتى الآن جولة عبر فروع عديدة للفن، ولكن القائمة لا تزال
طويلة يصعب عرضها كاملة؛ ذلك أن الفن يشتمل على أعمال روائية
وحواديت وحكايات عن الجان، ويشتمل على الشعر والمسرح والسينما،
وهذه جميعًا يمكن أن تتضمن قصة معقدة؛ ومن ثم تكون قادرة على نقل
رسالة أكثرَ تفصيلًا من الموسيقى أو الرقص أو النحت على سبيل
المثال. والمعروف أن تأويل الأدب والتمثيل المسرحي غالبًا ما يكون
مباشرًا صريحًا؛ إذ يمكن لهذه الفنون على سبيل المثال أن تمجِّد
ملكًا أو تشتمل على معيارٍ أخلاقي سهل الفهم. وقدَّم لنا مؤرخ الفن
روبرت شيلر بعض الأمثلة التوضيحية التي تبين لنا كيف أن الأدب
والفن عمِلا كأداة دعائية تروج للإمبريالية وللحروب الصليبية. وليس
بالضرورة أن يكون هذا النشاط الدعائي منظَّمًا أو منسَّقًا، بل
يمكن أن يتولد ببساطة عن العقلية السياسية والدينية السائدة في
عصره، وأن ينبع من ولاء الفنان لسلطانه (شيلر، ١٩٨٢م).
وغالبًا ما يتم انتخاب الأعمال الروائية والأفلام السينمائية
بسبب دورها في الضغط على الزرار الذي يستثير هوًى كامنًا في النفوس
أكثر مما يكون السبب هو ما تتضمنه من رسائل سياسية أو أخلاقية، وإن
زرار الخطر الأبرز هو سينما الإثارة التي تشتمل على قدر كبير من
الصراع والجريمة والكوارث والأبطال الذين يعرفون كيف يتجنبون
المصائب. يلي ذلك من حيث الأهمية زرارُ الجنس، هذا على الرغم من أن
المعايير الثقافية تحد من كمِّ الجنس الصريح.
وعلى الرغم من أن المشاهدين يعرفون أن الأفلام والروايات هي
أعمال من نسج الخيال، إلا أنها لا تزال تصوغ إدراكهم عن العالم.
ويتجلى هذا بخاصة في المناطق التي لا يكون فيها لأفراد الجمهور
خبرة أولى أصلية ومباشرة عن الثقافات الغريبة أو الأعمال البوليسية
أو إجراءات المحاكم الجنائية أو الجريمة المنظمة أو الحرب.