الفصل الثاني عشر
اللعب والألعاب والرياضة
(١) اللعب
للَّعب وظيفة مهمة وإن بدا في ظاهره نشاطًا عبثيًّا؛ إذ من خلال
اللعب يتعلم الأطفال وينمو مخهم. ونرى الأطفال يرددون أصوات
المناغاة في محاولة لتعلم نطق أصوات اللغة، ويهزون الخشخيشة أو
يلقون دُمياتِهم ليتدربوا على الوظائف الحركية، وليفهموا كيف تتحرك
الأشياء، وليستكشفوا قانون الجاذبية. ويلعب الأطفال الأكبر سنًّا
ألعابًا تقتضي أداء أدوار معينة، ويتعلمون كيف يفهمون ويسيطرون على
الأدوار التي هي أمور ضرورية في الحياة اليومية للكبار. ويعتبر
المؤشرَ على أهمية اللعب لنمو الأطفال كمُّ الوقت الذي يقضونه في
اللعب وكمُّ الطاقة التي ينفقونها (فاجين
Fagen، ١٩٨١م). وقد يكون الأطفال
أحيانًا مدركين أن ما يفعلونه لعِب؛ ومثال ذلك حين يمارس الطفل
الإمساك بكُرة، ولكن اللعب يمكن أن يكون وظيفيًّا تمامًا دون أن
يعي الطفل دوره الوظيفي.
ويحدث أحيانًا أن ينطوي اللعب على مخاطرة، ويحب الصبية، بخاصة،
الألعابَ التي تشتمل على السرعة أو الإثارة أو القتال أو أداء
أعمال بهلوانية تقتضي مهارة. وهذه الألعاب الخطرة لها وظيفة مهمة
تفوق دور المخاطرة؛ إذ يتعلم الطفل أن يفهم المواقف الخطرة، وتتوفر
له الفرصة لتجربة استجابات بديلة، وهكذا يتعلم تقنيات القتال،
وتقنيات السقوط المحكوم، وأنشطة المراوغة، والاستراتيجية، وغير ذلك
من مهارات يمكن أن يكون لها في الحياة بعد ذلك دورٌ مهم حين يواجه
مواقف محفوفة بالأخطار. إن القدرة على الاستجابة السريعة عند
مواجهة خطر مفاجئ قد تكون مسألة حياةٍ أو موت، وهنا لا تكفي فقط
المعرفةُ العقلية؛ ذلك لأنها تقتضي من المرء وقتًا طويلًا جدًّا
لتنشيطها في الذاكرة، ولكن رد الفعل الفوري لا يتحقق إلا من خلال
أفعال منعكسة تدرب عليها المرء، وهذه الأفعال المنعكسة لا يمكن أن
يتعلمها المرء إلا من خلال ألعاب تنطوي على «عنف وجسارة». ويمكن أن
يتعلم الأطفال في مناخ اللعب الوقائي أو الآمن نسبيًّا كيف يعرفون
ويقدِّرون المواقف الخطرة قبل أن تصبح واقعًا حياتيًّا داهمًا.
وهذا هو ما يسمى «التعلم الوقائي» buffered
learning (روبرتس وسوتون سميث، ١٩٦٢م؛ سوتون سميث
وروبرتس، ١٩٧٠م).
واللعب ليس قاصرًا على البشر، إن غالبة الثدييات تلعب مثلما تلعب
طيور كثيرة (فاجين، ١٩٨١م). ومن الشائع بين أغلب أنواع الرئيسيات
أن نرى صغار الإناث تلعب دور الأم مع أطفال من النوع نفسه. وتتعلم
بذلك كيف تتعامل مع أطفال القردة، وهذه المعارف يمكن أن تكون حيوية
حين تكبَر وتنجب صغارًا أطفالًا لها (لانكستر
Lancaster ١٩٧١م؛ فيربانكس وجولد
إل
Fairbanks & Gould L.، ١٩٩٢م).
١ وتشير الملاحظات التي نجريها على القردة العليا التي
نشأت وكبِرت في الأسر إلى أن إناثها التي لم تجد فرصة لتعلُّم كيف
تتعامل مع الأطفال، تعجِز عن رعاية أطفالها (هارلو وهارلو، ١٩٦٩م).
وغني عن البيان أنْ لم يسبق إجراء تجارب من هذا النحو على البشر،
ولكن ثمة مبرر يدعونا إلى الاعتقاد بأن لعب الأطفال بدمياتهم ولعب
دور الأم تجاه صغارها؛ هي ألعاب تؤدي هذه الوظيفة الحيوية نفسها
(إيبيل-إيبسفلت
Eibl-Eibesfeldt،
١٩٨٩م).
وصاغ كارل جروس Karl Groos
(1896–1899) ١٨٩٦م، ١٨٩٩م منذ مائة عام مضت
النظريةَ التي ترى أن اللعب طريقة للتعلم، ولا ريب في أنه كان
معروفًا وواضحًا قبل ذلك بزمن طويل أن اللعب يمكن أن يكون له دور
تربوي وتعليمي. وعلى الرغم من مدى وضوح هذه النظرية عن اللعب
والتعلم إلا أنه لا يزال الخلاف دائرًا بشأنها، ونجد كثيرًا من
النظريات البديلة التي لا يسمح لنا المكان هنا لمناقشتها
(ترافيك-سميث Travick-Smith،
١٩٨٩م؛ وسميث وسيدال Smith
& Syddall وبيكوف
Bekoff، ١٩٧٦م؛ وريلي
Reilly، ١٩٧٤م).
ويرى جان بياجيه Jean Piaget
العالِم المختص بعلم نفس نمو الطفل أن اللعب أكثر من مجرد ظاهرة
مصاحبة للعمليات المعرفية لدى الطفل (بياجيه، ١٩٤٥م). والملاحظ أن
بياجيه ينتقد أحيانًا ويمتدح أحيانًا أخرى نظريةَ التعلم عند كارل
جروس. ويختفي هذا التناقض وراء مستوًى رفيع من التجربة يصل إلى حد
أن بعض الكتَّاب يذكرون اسم بياجيه ضمن أنصار نظرية التعلم؛ بينما
كثيرون آخرون يذكرون العكس. ويعتبر بياجيه تقليديًّا واحدًا من أهم
السلطات المرجعية المهمة عن نظرية اللعب، ويعادل جوهان هويزنجا
Johan Huizinga مؤرخ الثقافة.
ويمكن القول إن هذا الأخير قلب النظرية رأسًا على عقب؛ إذ بينما
نرى أغلب الباحثين الآخرين يقولون إن الأطفال يحاكون في لعبهم
ثقافة الكبار، يحالو هويزنجا على طول صفحات كتابه أن يبرهن على أن
الثقافة تحاكي اللعب؛ ولهذا يرى أن اللعب أساسي لكل ثقافتنا وله
أهمية تكاد تكون ميتافيزيقية (هويزنجا، ١٩٣٨م). ويعتبر تفكيره
مثالًا للفلسفة واللاهوت المثالين الكلاسيكيين اللذين يعارضان
المفهوم العقلاني والميكانيكي عن البشر، ويؤكدان الجوانب الإبداعية
المستقلة ذاتيًّا للطبيعة البشرية (جرونو
Gruneau، ١٩٨٣م؛ ونوربك
Norbeck، ١٩٧٧م).
والمعروف أن الفلسفة والعلم في ذاتهما يخضعان أيضًا للانتخاب
الثقافي، وأن أكثر العلماء أمانةً ودقةً غيرُ معصوم من تأثير
الثقافة التي يعيش في محيطها، وهذا لا ينطبق فقط على هويزنجا، بل
وعلى بياجيه أيضًا. إننا حين نقرأ أوصاف بياجيه لملاحظاته
ومشاهداته التي بنى عليها نظريته يبدو واضحًا أنه متأثر بمفهوم
سابق يقضي بأن أي شيء لاذٍّ أو مثير للضحك عبثٌ لا جدوى منه
ومَضيعةٌ للوقت؛ بينما الأنشطة الجادة هي المفيدة. وهذا المفهوم
المسبَّق نابع من النزعة البيوريتانية؛ وهي فلسفة ريجالية تقمع دور
الفرد في تحديد ذاته ومصيره لصالح السيطرة الاجتماعية. ونعرف أن
إحدى وسائل البيوريتانية لتحقيق ذلك الزعم بأن أي عمل لاذٍّ هو عبث
ولا جدوى منه أو خطر؛ ولذلك يتعين قمع سعي الفرد من أجل اللذة
(وسوف أعود إلى تفسير وظيفة اللذة فيما بعد).
وعلى الرغم من حقيقة أن كتب بياجيه وهويزنجا هي الأعمال الأكثر
شهرةً وذكرًا فيما يتعلق بنظرية اللعب، فإن ثمة رأيًا سائدًا داخل
أوساط علم التربية وعلم النفس والأنثروبولوجيا وعلم السلوك المقارن
مفادُه أن اللعب له وظيفة تعليمية مهمة. وتدعم هذا الرأيَ
والنظريات دراساتٌ عديدة عن الأطفال، كما تدعمها تجارب على
الحيوانات (فايننجر، Weininger،
١٩٧٨م؛ رايلي، ١٩٧٤م؛ روبرتس وسوتون سميث، ١٩٦٢م؛ وسوتون سميث
وروبرتس، ١٩٧٢م؛ وروبنسون، ١٩٧٨م؛ وفاجين، ١٩٨١م؛ وكارو، ١٩٨٨م؛
وكورسارو وتومليتسون، ١٩٨٠م؛ وروزنتييل
Rosentiel، ١٩٧٧م؛ ولانس، ١٩٧٧م؛
وجولومب وكورنيليوس Golombo
& Cornelius، ١٩٧٧م؛
وسيلفا، ١٩٧٧م؛ وجافي، ١٩٧٧م؛ وفيتيلسون وروس
Feitelson & Ross، ١٩٧٣م؛
ودانسكي وسيلفرمان، ١٩٧٣م؛ وبولتون وسميث Boulton
& Smith، ١٩٩٢م؛ وإيبل-إيبسفلت، ١٩٨٩م؛
وفاجن، ١٩٨١م؛ وأوكلي ورينولدس Oakley &
Reynolds، ١٩٧٧م).
وجدير بالذكر أن عملية التعلم المحكومة جينيًّا تسمى تعلمًا
مبرمجًا (جولدي جي ومارلير Gould, J. &
Marler، ١٩٨٧م؛ وماير، ١٩٧٤م). وتسمى البرامج
الجينية برامج مفتوحة أو مغلقة؛ تأسيسًا على مرونة عملية التعلم.
وليسمح لي القارئ أن أفسر هذا الفارق بأمثلة قليلة، نعرف أن البشر
يولدون وليس لديهم قدرة على المشي، ولكنهم يولدون ولديهم قدرة على
تعلم كيف يمشون؛ ومن ثم فإن أي طفل سويٍّ سوف يتعلم المشي إنْ
عاجلًا أو آجلًا، وإن البرنامج الجيني لا يهيئ فقط للطفل قدرة على
التعلم، بل يحدد له — وبشكل دقيق ربما — ما الذي يتعلمه، وإن
القدرة على تعلُّم المشي هي برنامج جيني مغلق، وثمة برنامج آخر،
وهو القدرة على تعلم الكلام، وهو برنامج أكثر انفتاحًا أو مرونةً؛
بمعنى أنه ليس مثبَّتًا على لغة واحدة بذاتها. وواضح أن الفوارق
الثقافية بين لغات الناس أكبر كثيرًا من الفوارق بين طرق مشيهم،
ولكن المرونة ليست غير محدودة؛ إذ لو أن طفلين تُركا لنفسيهما دون
أي تنبيه لفظي كافٍ من قِبل الكبار، فإنهما سوف يبتكران لغتهما
المشتملة على أسماء وأفعال … إلخ. معنى هذا أن وظيفة التوصيل للغة
وظيفة محددة مسبقًا إلى درجة كبيرة.
ولنعد ثانيةً إلى اللعب كعملية تعلُّم، هل هذه العملية محكومة؟
ويحكمها برنامج مفتوح أم مغلق؟ هناك فوارق مهمة بين أسلوب الأطفال
في اللعب في الثقافات المختلفة، ولكن هناك أيضًا أوجه تماثل مثيرة.
ويمر أطفال الثقافات المختلفة عبر مراحل النمو ذاتها في سلوك اللعب
(سياجو Seago، ١٩٧٠م). ويشتمل
البرنامج على درجات معينة من الحرية، ولكن يشتمل أيضًا على قيود
معينة. يقلد الأطفال سلوك الكبار في لعبهم؛ من ثم فإن هذا النشاط
سوف يعكس بالضرورة الفوارق الثقافية في السلوك. ولكن هناك موضوعات
معينة تتكرر بذاتها في سلوك اللعب عند الأطفال في ثقافات شديدة
التباين. كذلك فإن بعض المهارات التي يتعلمها الأطفال عن طريق
اللعب تكون هامشية تمامًا بالنسبة للثقافة التي يعيشون في كنفها؛
مثال ذلك أن الأطفال يحبون بناء الكهوف على الرغم من مُضي آلاف
السنين منذ أن كان البشر يسكنون الكهوف، ونجد حتى في أكثر
المجتمعات سلامًا الأطفال يحبون لعبة الحرب، ونعرف أن لعب الحرب
شائعة بينهم على الرغم من عدم حب الآباء والمعلمين لهذه اللعبة.
والملاحظ أن موضوعات مثل القتال والطراد وبناء الأكواخ ورعاية
الأطفال والجنسانية من الموضوعات الشائعة في ألعاب الأطفال في كل
الثقافات؛ حتى إننا نجد ما يبرر الاعتقاد بأن ثمة غرائز أو برامج
جينية وراء هذه الأشكال السلوكية، وأن هذه البرامج تنفُذ إلى أعماق
سلوك اللعب.
ويعتبر الإنسان العاقل «الهومو سابينس» homo
sapiens أكثر الحيوانات مرونةً على الأرض، وإن
قدرته على التكيف مع البيئات المتباينة ومع أساليب الحياة تمثل
عاملًا مهمًّا في النجاح الإيكولوجي للبشر، ولكن المرونة تقتضي
التعلم. إن السلوك الذي تحكمه الجينات فقط سيظل دائمًا سلوك إنسان
آلي (الروبوت) وغير مرن، وكلما كان الحيوان أكثر مرونةً احتاج إلى
وقت أطول لتعلم السلوكيات الضرورية خلال تنشئته ونموه؛ لذلك يقضي
البشر طفولة طويلة غير مألوفة بالمقارنة بالحيوانات الأخرى. وكلما
كان المجتمع أكثر تعقدًا ازداد عدد المهارات التي يتعين على الطفل
تعلُّمُها، وطالت الفترة التي يقضيها في التعلم.
يعيدنا هذا ثانيةً إلى النظرية الجينية
R/K، إن الاستراتيجية الجينية
R− هي استراتيجية ينفق فيها المرء
أقصى قدر من الموارد على التناسل بأسرع ما يمكن وإنجاب أكبر عدد من
الذرية، ولكنه لا يستخدم أية طاقة في سبيل رعاية وحماية النسل.
والاستراتيجية K− على العكس من ذلك
تمامًا؛ حيث كل فرد ينجب أقل عدد ممكن، ولكنه ينفق أقصى قدر من
الموارد لكي يهيئ لكل طفل أفضل ظروف ممكنة. وواضح أن استراتيجية
التكاثر عند البشر هي نموذج للاستراتيجية
K−، ويقتضي طول فترة الطفولة أن
ينفق الأبوان قدرًا من الطاقة على رعاية الطفل وتعليمه. ولوحظ أن
الحيوانات المنتخبة K− يلعبون بوجه
عامٍّ أكثرَ من الحيوانات المنتخبة
R−، وهو ما يتفق تمامًا مع النظرية
R/K− (فاجين، ١٩٨١م).
وتوجد هنا رابطة وثيقة بين البعد الجيني والبعد الثقافي
R/K. إن البشر في الثقافات
الريجالية ينجبون عددًا أكبر من الأطفال، وينخرط الأبناء في مجال
العمل في سنٍّ مبكرة، ويصبحون كذلك قادرين على رعاية أنفسهم
باكرًا، وليس الحال كذلك في الثقافات الكاليبتية؛ حيث يندر وجود
أسر كبيرة، وحيث الأطفال يحظون برعاية الأبوين لسنوات طويلة،
وينعكس هذا الفارق أيضًا في الاتجاهات المختلفة من اللعب.
وقارن آرييل وسيفر
Ariel &
Sever (١٩٨٠م) لعب الأطفال بين أطفال البدو وأطفال
الكيبوتز في إسرائيل، ولوحظ أن الفارق بين هاتين الثقافتين مهول من
حيث معاملة الأطفال؛ ذلك أن أطفال البدو لا يحصلون على أي شيء من
التعليم الرسمي، وينخرطون في العمل في شئون المنزل منذ سن باكرة،
وليس لدى الأطفال لعب، كما أن المجتمع لا يرحب بأي نوع من اللعب؛
فضلًا عما يلقاه الأطفال من عقاب قاسٍ أحيانًا، ونجد على العكس من
ذلك أطفال الكيبوتز الذين يقضون اثني عشر عامًا في التعليم
المدرسي، ولديهم كميات من اللعب فضلًا عن أن دور الحضانة التي
تحتضنهم غنية بتجهيزاتها، ويبدي الكبار قدرًا كبيرًا من العناية
والاهتمام بالأطفال؛ ومن ثم لا غرابة في أن يكون لعب أطفال
الكيبوتز أكثير تباينًا للغاية من نظرائهم أطفال البدو (آرييل
وسيفر، ١٩٨٠م). وتتفق هذه الملاحظات تمامًا مع واقع أن ثقافة البدو
يغلب عليها الطابع الريجالي أكثر من ثقافة الكيبوتز، وليس ثمة
اختلاف هنا بين تنبؤات النظرية الجينية
R/K− والنظرية الثقافية
R/K−، ولكن نظرًا لأن المجموعتين
السكانيتين مرتبطتان جينيًّا، فإننا نخلُص إلى نتيجة محددة؛ وهي أن
الفارق يرجع بالضرورة إلى عوامل ثقافية.
٢
وواضح أن لعِبَ الأطفال يعكس الثقافة الاجتماعية التي يعيشون
فيها طالما وأن اللعب في أغلب الأحيان هو محاكاة لعالم الكبار.
ودرس دافيد لانسي David Lancy لعب
الأطفال في ليبيريا، ووجد أن الأطفال يتعلمون أنماط سلوك الكبار
بأربع طرق: بمراقبة عمل الكبار، أو بمحاكاة أنشطة الكبار في لعبهم،
أو بمساعدة الكبار، أو بالتلقين المباشر (لانسي، ١٩٧٧م). ونخص
بالذكر أن الأطفال يحاكون ما لا سبيل لديهم للوصول إليه في عالمهم
الواقعي. ويتعلم الأطفال من خلال اللعب القائم على المحاكاة
الجوانبَ الحركية والمعرفية لتلك الأنشطة التي لا يمكنهم الوصول
إليها في الواقع. وأوضحت الملاحظات على الثقافات التي تدفع
بأبنائها إلى العمل المنزلي في سن باكرة أن هؤلاء الأطفال لا
يحاكون أعمال المنزل في لعبهم؛ إذ ليس هناك مِن سبب يبرر لعب دور
يؤدونه في الحياة الواقعية (ستوري
Storey، ١٩٧٧م؛ وآرييل وسيرفر،
١٩٨٠م)، ولكن الأطفال يحاكون ما لا يستطيعون الحصول عليه بسهولة.
وثمة لعبة شائعة جدًّا بين أطفال البدو في إسرائيل وبين الأطفال في
ليبيريا، وهي محاكاة المركبات ذات المحرك. نعرف أن السيارات
والدراجات البخارية من الأشياء التي تجذب انتباه الأطفال؛ لأنها
تمثل أسلوبًا غنيًّا ومتميزًا في الحياة، وهو أسلوب يحظى به عدد
قليل جدًّا من أبناء البدو (آرييل وسيرفر، ١٩٨٠م؛ ولانسي، ١٩٧٧م).
وجدير بالذكر أن هذه الملاحظات مأخوذة من ثقافات بدائية نسبيًّا،
ولها اتصال بثقافة أكثر تقدمًا تقانيًّا واقتصاديًّا؛ مما يجعلها
غير صالحة للقياس عليها بسبب التباين الثقافي الجذري.
وتقترن الطفولة واللعب في الغالب بالتخييل (الفانتازيا) في
ثقافتنا، ولكن ليس جميع الأطفال متساوين في قدراتهم الخيالية. ونجد
اللعب القائم على التخييل (الفانتازيا) في الثقافات التي تُعلي من
قيمة المرونة والابتكارية والمبادرة الشخصية، ولا نجده في الثقافات
التي يخضع فيها كل شيء لمنظومات ثابتة وقواعد صارمة (ستوري، ١٩٧٧م؛
وآرييل وسيفر، ١٩٨٠م؛ وفيتلسون
Feitelson، ١٩٧٧م). لذلك ثمة ما
يبرر افتراض أن وظيفة اللعب القائم على التخييل هي تعلُّم
الابتكارية والمبادرة المستقلة.
وتكشف دراسات تاريخية عن الأطفال الأمريكيين عن حدوث تغيرات مهمة
في أنماط اللعب على مدى القرن العشرين؛ إذ لوحظ أن الألعاب
الجماعية ذات الصبغة الشكلية المحددة والمنظمة تدنت شعبيتها، كما
وأن الألعاب الغنائية تكاد تكون اختفت تمامًا، وظهرت أنشطة جماعية
غير ذات صبغة شكلية رسمية، وأصبحت أكثر شيوعًا مثل السياحة وصيد
السمك والطراد والإبحار بمراكب شراعية أو زوارق، وسباق الدراجات
ودراجات التزحلق. ولعل سبب ذلك أن المجتمع أصبح أقل التزامًا من
حيث التراتبية الاجتماعية ومن حيث التمسك بالشكليات
٣ (سوتون وسميث وروزنبرج، ١٩٦١م).
(٢) الألعاب
إذا أردت أن تقارن أنماط اللعب في الثقافات المختلفة، سوف يكون
عليك أولًا أن تصنف الألعاب في فئات. وحدد كايلويس
Caillios (١٩٥٥م) أربعة موضوعات
محرِّكة في اللهو وفي الألعاب: المنافسة، ألعاب الفرص أو الحظ،
المحاكاة، وعنصر السرعة والإثارة؛ على نحو ما نرى في مثال المزلقات
الدارجة roller coaster، ورياضة
سباق السيارات. وهذه ليست فئات جامعة مانعة؛ إذ يمكن إضافة موضوعات
محركة أخرى؛ مثل الاستكشاف والتجريب والتخييل (الفانتازيا)
والإبداع. ويشتمل تصنيف كايلويس على بُعد آخر هو تدرج من اللعب
العفوي إلى اللعب الارتجالي حتى المنظم واللعب المنتظم … وهو ما
يسمى ألعابًا. والألعاب من حيث التنظيم والترتيب المنهجي أيسر من
اللعب القائم على الفانتازيا، والمحاكاةِ أو لعب قائم على
الاستكشاف، ولذلك فإنها أيسر لعمل مقارنات فيما بين الثقافات دون
سواها من أنواع الألعاب الأخرى.
وقدم جون روبرتس ورفاقه منظومة تصنيفية مميزة للألعاب، يمايز
فيها جون روبرتس ورفاقه بين ما إذا كان حصاد اللعبة محددًا
مسبَّقًا على أساس المهارات البدنية للاعبين أم على أساس
الاستراتيجية أم العشوائية الخالصة. وارتبطت هذه البواعث بجوانب
مهمة في تعليم الطفل وبمبادئ هيكلية أساسية في المجتمع وَفقًا
لدراسات مقارنة بين الثقافات. ولوحظ أن الألعاب القائمة على أساس
المهارة البدنية أكثر شيوعًا في المجتمعات التي تولي أهمية
للإنجازات الفردية ولضبط النفس وللسيطرة على البيئة الفيزيقية.
وتمثل ألعاب الاستراتيجية التعقد الاجتماعي والتصنيف الطبقي
والطاعة والاستقلال والجزاءات الرمزية والسيطرة النفسية، وأخيرًا
ألعاب الفرص والحظ، وترتبط بالدين والسحر والإيمان بأن الكائنات
الخارقة للطبيعة يمكنها التأثير من خلال الطقوس والشعائر. وواضح أن
أنماط اللعب لدى كلٍّ من الأطفال والكبار تعكس الجنس والطبقة
والفوارق الثقافية. ويفسر المؤلفون هذه الملاحظات جزئيًّا بالرجوع
إلى النظرية القائلة بأن الألعاب ترمز إلى صراعات باطنية نفسية،
وبالرجوع أيضًا من ناحية أخرى إلى افتراض أن الأطفال يتعلمون
المهارات الاجتماعية لمستخدم اللعب نموذجًا (روبرتس، آرث وبوش،
١٩٥٩م؛ روبرتس وسوتون-سميث، ١٩٦٢م، ١٩٦٦م؛ سوتون سميث، روبرتس
وكوزيلكا، ١٩٦٣م؛ سوتون-سميث وروبرتس، ١٩٧٠م).
وفي نهاية القرن التاسع عشر كان الأطفال الأمريكيون يلعبون
ألعابًا مختلفة خاصة بالمهارة وبحيث يعاقَب الخاسر. وإن الشيء
اللافت للنظر أن هذه الألعاب اختفت في المجتمع الحديث وحلت محلها
ألعاب تقضي بتكريم الفائز (سوتون سميث وروزنبرج، ١٩٦١م). ويعكس هذا
المبدأ الأساسي في المجتمع الرأسمالي الحديث؛ حيث الجوائز
الاقتصادية تذهب للأشخاص المهرة الأكْفاء، وباعتبار هذه الوسيلة
أهم وسيلة للتحكم والإدارة بدلًا من معاقبة الكسول والمقصِّر. كذلك
من المهم أن نلحظ أن البلدان القائمة على التضامن والتلاحم ولا
تولي أهمية كبيرة للمنافسة، تسودها ألعابٌ لا تُعنى بإبراز الفائز
أو الخاسر، بل الشيء المهم هنا هو العملية ذاتها دون النتيجة
(كالعون، ١٩٨٧م، ولمن شاء الاطلاع على أمثلة محددة فإننا نحيله على
آجر، ١٩٧٧م؛ وروزنتال، ١٩٧٧م).
وحظيت النظريات التي تربط بين اللعب والهيكل الاجتماعي باعتراف
واسع النطاق (كالعون، ١٩٨٧م)، هذا على الرغم مما صادفته من انتقاد
(تاونشند Townshend، ١٩٨٠م). ولسوء
الحظ أن أغلب الدراسات الأنثروبولوجية عن اللعب ركزت على الألعاب
دون اللعب غير المنظم، وربما يكشف هذا عن انحياز نظرًا لأن الألعاب
المحكومة بالقواعد تسود في المجتمعات التي تسيطر عليها قواعد معقدة
أكثرَ مما تسود في مجتمعات تولي اهتمامًا وأهمية للمرونة. والملاحظ
أن بعض الدراسات لا تمايز بين ألعاب الأطفال وألعاب الكبار، هذا
على الرغم من أن ألعاب الكبار يمكن أن تكون لها وظائف أخرى، ويمكن
أيضًا لألعاب متماثلة أن تكون لها وظائف مختلفة باختلاف المجتمعات
(لوشين، ١٩٧٠م).
(٣) الرياضة
الرياضة شكل من أشكال اللعب، يلعبها الأطفال والكبار على السواء؛
حيث يتدرب من خلالها اللاعبون على مهارات بدنية. ولعل أفضل تفسير
لتوزيع الرياضيات المختلفة في البلدان المختلفة هو تفسير نظرية
مراكز الثقافة التي ظهرت وانتشرت منها الظواهر الجديدة وشاعت في
بلدان أخرى.
نعرف أن بريطانيا كانت في منتصف القرن التاسع عشر الدولة الرائدة
في عالم التصنيع والاستعمار، كذلك كانت بريطانيا مركزًا ثقافيًّا
للرياضة؛ إذ من هنا تطورت الرياضات إلى شكلها الحديث مع تداعياتها
وقواعدها ومنافساتها. إن كرة القدم أو لعبة كرة القدم، والتي كانت
أكثر الأشكال شعبيةً في بريطانيا، انتشرت في أواخر القرن التاسع
عشر إلى بلدان أخرى عديدة، ثم تبعتْها ألعاب الكريكيت والهوكي
والتنس والرجبي والجولف والتراك وألعاب القوى (ستوكفيس
Stokvis، ١٩٨٩م).
والمعروف أن الألعاب الرياضية في ألمانيا كانت تشكل جزءًا من
نظام تعليمي منظم على نحو جيد، وعمَدت الدولة إلى تطويره والنهوض
به؛ بهدف تعزيز الصحة البدنية والعقلية للسكان؛ لما سيعود به ذلك
من فائدة على التطوير الصناعي. وانتشرت الألعاب الرياضية
«الجيمنزيوم» إلى كل البلدان التي كانت داخلة ضمن النفوذ الألماني؛
خاصةً هولندا وبلدان إسكندينافيا وشرق أوروبا.
ومضت الرياضة في الولايات المتحدة الأمريكية في مسار تطور خاص
بها خلال القرن التاسع عشر، وعلى نحو مستقل إلى حد كبير عن أوروبا.
والمعروف أن لعبتَي البيسبول والكريكيت في أربعينات القرن التاسع
عشر، وكانتا لعبتين شعبيتين على قدم المساواة، حظيتا باهتمام
الروابط الرياضية التي عُنيت بوضع قواعد اللعبتين. ولكن المناخ
المناهض لبريطانيا والبريطانيين، والمرتبط بالحرب الأهلية، جعل
لعبة الكريكيت أقل شعبية؛ إذ كان الناس ينظرون إليها باعتبارها
لعبة إنجليزية. ولكن رياضة البيسبول التي كانت يُنظر إليها
باعتبارها لعبةً أمريكية خالصة ومميزة، سرعان ما أصبحت هي الرياضة
الأكثر شعبيةً في الولايات المتحدة الأمريكية. وفي أواخر سبعينيات
القرن التاسع عشر دخلت إلى الميدان كرة القدم الأمريكية كنوع جديد
من لعبة الرجبي الإنجليزية. وكان للجامعات ذات المكانة الرفيعة، من
مثل جامعة ييل وجامعة هارفارد، دور مهم في انتشار هذه اللعبة.
وبرزت إلى الوجود لعبتا كرة السلة والكرة الطائرة؛ نظرًا للحاجة
إلى المزيد من الأنشطة المثيرة وإضافتها إلى الألعاب الرياضية
الموجودة، وظهرت لعبة كرة اليد للسبب ذاته في ألمانيا (ستوكفيس،
١٩٨٩م).
والملاحظ أنه من هذه المراكز الثقافية المحدودة بدأت منذ ذلك
التاريخ ألعابٌ رياضية مختلفة في الانتشار إلى بلدان بعيدة وعلى
نطاق واسع، مع الاختلاف الشديد لثقافات هذه البلدان عن بعضها.
وانتشرت الألعاب الرياضية البريطانية إلى مسافات بعيدة، حتى وصلت
وذاعت في أفريقيا وفي أمريكا الجنوبية، بينما انتشرت الألعاب
الرياضية لأمريكا الشمالية ووصلت إلى اليابان وفرنسا وأستراليا
(ستوكفيس، ١٩٨٩م).
واقترح علماء النفس عديدًا من النظريات السيكولوجية المتباينة
لتفسير الاختلاف بين تفضيلات الناس للألعاب الرياضية في بلدان
مختلفة، ويذهب كل من أرينز (١٩٧٨م) ودوثي (١٩٨٠م) إلى أن تقسيم
العمل بشكل واضح ومميز في كرة القدم الأمريكية يعكس النظام
الصناعي، هذا بينما يشير كالعون (١٩٨٧م) إلى عنصر الحرب الإقليمية
في هذه اللعبة؛ إذ يراها رمزًا للاستيلاء على أمريكا. ويذهب بعض
الباحثين إلى أن كرة القدم رياضة حضرية نمطية؛ بينما تنتمي لعبة
البيسبول للأحياء الريفية (جوتمان ١٩٧٨م؛ وفاجنر، ١٩٨٨م). ويَعيب
مثل هذه النظرياتِ ضعفٌ واضح يتمثل في أنها تعجِز عن تفسير لماذا
لعبة مثل كرة القدم هي الرياضة الأكثر شيوعًا في الثقافات المختلفة
في بلدان متباينة في أوروبا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، بينما لعبة
البيسبول أكثر شعبيةً في أمريكا واليابان.
ويوضح التاريخ أن توزيع الألعاب الرياضية يعتمد على هياكل
ومجالات نفوذ السلطة السياسية أكثرَ مما يعتمد على التفصيلات
النفسية والثقافية، لقد انتشرت لعبة كرة القدم بسبب نفوذ بريطانيا
كقوة استعمارية رائدة، وانتشرت لعبة البيسبول بسبب النزعة الوطنية
الأمريكية، وانتشرت كرة القدم الأمريكية لأن الجامعات الأمريكية
ذات الشهرة والمكانة شجعت على لعبها. ويبدو أن الانتشار أهم من
الانتخاب تأثيرًا لتوزيع الألعاب الرياضية. وأشار علماء اجتماع
عديدون إلى أن الرياضة ظاهرة مستقلة ذاتيًّا، ومستقلة عن الفن أو
الدين أو الاقتصاد أو غير ذلك من الظواهر الثقافية (روبنز ١٩٨٢م،
بورديو ١٩٧٨م، نيكسون ١٩٨٢م، لوشين، ١٨٦٧م، ماهن ١٩٦٢م).
٤
ومع هذا لن أزعم بأن الانتخاب ليس له مجال هنا، إننا إذا قارنَّا
بين الألعاب الرياضية الأمريكية سنرى بسهولة أن الألعاب الرياضية
لم تنتشر جميعها على نحو فعال متكافئ؛ ذلك أن اليابانيين على سبيل
المثال قبِلوا لعبة البيسبول دون لعبة كرة القدم الأمريكية،
واستقبل الأوروبيون لعبتَي كرة السلة والكرة الطائرة استقبالًا
حسنًا؛ بينما نجد لعبة البيسبول أقل شعبية في أوروبا، بل ونادرًا
ما نجد مباريات لكرة القدم الأمريكية هنا. وثمة تفسيران محتملان
لماذا لا يلعب اليابانيون والأمريكيون كرة القدم الأمريكية، أحد
الاحتمالين أن هذه اللعبة لم يقع عليها الاختيار ومِن ثَم لم
تُنتخب بسبب ما فيها من عنف شديد (ستوكفيس، ١٩٨٩م). والاحتمال
الثاني أن هذه اللعبة معقدة بحيث يصعب تعلُّمها وتستلزم تجهيزات
خاصة يصعب الحصول عليها؛ مما يصنع حاجزًا يحول دون انتشارها. وإذا
كان فرض الحاجز الحائل دون الانتشار فرضًا صحيحًا، إذن فإن
الأوربيين سوف يستمرون في لعب كرة القدم الأمريكية لو أنهم
تعلموها، ولكن إذا كان للانتخاب النفسي دور هنا، إذن فإن
الأوروبيين سوف يفقدون الاهتمام بكرة القدم الأمريكية حتى بعد أن
يتعلموها، ترى أي الآليتين المحتملتين أكثر نفوذًا وتأثيرًا هنا؟
هذا ما لا يمكن تحديده بناءً على الأساس القائم، ولكن الآليتين لا
تنفي إحداهما الأخرى.
وإذا افترضنا أن الرياضة، شأن أنواع الألعاب الأخرى، تعمل كنموذج
لظواهر اجتماعية أو لنشاطات اجتماعية يومية، إذن سيكون بالإمكان
الكشف عن روابط بين التفضيلات الرياضية والهيكل الاجتماعي. ودرس
كثيرون من علماء الاجتماع هذا النوع من الارتباطات، وناقش لوشين
(١٩٦٧م) العلاقة بين الرياضة والدين، ولحسن حظ لوشين أن الاهتمام
بالألعاب الرياضية أعلى بين البروتستانت منها بين الكاثوليك، خاصةً
حين يتعلق الأمر بالألعاب الرياضية الفردية (وللغرابة أنه لم يذكر
شيئًا عن انخفاض النشاط الرياضي في البلدان الإسلامية [المترجم]).
ويفسر لوشين هذا الفارق في ضوء كَمِّ الاهتمام الذي توليه الثقافات
المختلفة للإنجازات الفردية، ويكشف عن أن الرياضة القائمة على
المنافسة أكثر شيوعًا وتفضيلًا في المجتمعات التي تعتمد فيها
المكانة الاجتماعية على الأداء الفردي (لوشين، ١٩٦٧م).
وهذا ما أكدته دراسات تاريخية؛ إذ الملاحَظ في المجتمعات
البدائية في الماضي أن التمارين البدنية أخذت شكل الطقوس والشعائر،
وغالبًا ما أضفى المجتمع عليها دلالة دينية. وتحول هذا في المجتمع
الحديث إلى رياضة علمانية؛ حيث تحظى المنافسة والتقدير الكمي
والتسجيلات القياسية بأهمية بارزة (جوتمان، ١٩٧٨م؛ وانظر أيضًا:
إبراهيم، ١٩٧٦م). ويزعم من ينتقدون هذه الخاصية أن الأزمنة القديمة
عرَفت أيضًا أمثلة للتقديرات الكمية وللمنافسة، علاوة على أنه لا
تزال توجد الآن طقوسٌ وشعائر في الرياضة الحديثة (كارتر وكروجر
Carter & Kroger، وإيكبرج
Eichberg، ١٩٨٦م). ومن الواضح أن
التطور الثقافي له تأثير مهم على الرياضة، ويكفي أن نفكر فيما
يعنيه اختراع المطاط المفلكن
vulcanized (أي معالجة المطاط
بالكبريت ليكون أكثر صلادة) بالنسبة لصناعة الكرات والعجلات، أو ما
تعنيه الاتصالات العامة الحديثة لمشاهدي الرياضة وصحافة الرياضة
(بيتس Betts، ١٩٥٣م).
وعرف القرن السابع عشر لعِبَ نوع من الرياضة شديدِ التهذيب
والرهافة؛ إذ كانت الدقة الهندسية والتشكيلات المحكمة الدقيقة قسمة
مشتركة في ألعاب الفروسية والمبارزة. وكان هذا الأسلوب شديد
الأرستقراطية موازيًا لرقصة المينيويت البطيئة في مجال الرقص،
ولأسلوب الباروك في مجال الفن (إيكبرج، ١٩٨٦م).
وقد يبدو طبيعيًّا أن نقارن رياضة المنافسة مع الحرب. والملاحظ
أننا أثناء المناقشات المتعلقة بالرياضة نسمع أحيانًا افتراضًا
مؤدَّاه أن الرياضة تهيئ متنفَّسًا للعدوانيات المتراكمة، والتي
يمكن بدون ذلك أن تعبر عن نفسها في صورة من صور العنف أو الحرب.
ونجد على نقيض هذه النظرية التي تقول بالتنفيس أو التفريغ افتراضًا
آخر يقول إن السلوك العدواني مكتسَب يتعلمه المرء؛ ولذلك فإن
الألعاب الرياضية المشابهة للحرب نجدها على أرجح تقدير في
المجتمعات العسكرية. وحاول ريتشارد سايبس أن يحسم هذا الجدل
النظري، وعمَد لذلك إلى تحليل غلبة وشيوع الحرب والألعاب الرياضية
في المجتمعات المختلفة، وكشف عن مُعامل ارتباط إيجابي بين الحرب
والألعاب الرياضية المماثلة للحرب. ورفض — بناءً على هذا — نظريةَ
التفريغ النفسي catharsis theory،
وأيَّد نظرية التعلم الثقافي (سايبس، ١٩٧٣م؛ ١٩٧٥م؛ وهيتانين
Hietanen، ١٩٨٢م). ولنا أن نتوقع —
تأسيسًا على هذه النظرية — أن تكون الألعاب الرياضية القائمة على
المنافسة أكثر غلبة وشيوعًا في الثقافات الريجالية عنها في
الثقافات الكاليبتية، ولكن من الصعب أن نجد دعمًا لهذا الزعم في
المجتمعات الحديثة، ولكن، على العكس من ذلك، من السهل أن نجد أمثلة
لمجتمعات كاليبتية تَروج فيها الألعاب الرياضية القائمة على
المنافسة، وأن نجد مجتمعات ريجالية ليست بها هذه الألعاب؛ لذلك ثمة
أسباب تبرر افتراض أن الألعاب الرياضية التنافسية لا تفيد فقط
كنموذج للحرب، بل وتفيد أيضًا كنموذج للمنافسة الاقتصادية. وقد
يكون سبب التناقض مع إحصاءات سايبس هو أن دراساته ارتكزت على
المجتمعات البدائية؛ حيث لم تكن المنافسة الاقتصادية مهمة أو غير
موجودة.
وإذا كان من الصعب الكشف عن روابط نوعية محددة بين الرياضة
والهيكل الاجتماعي، إلا أن من الأيسر لنا أن نتبين رابطة بين
المكانة الاجتماعية للشخص وتفضيلاته في مجال لعب الرياضة؛ مثال ذلك
أن ألعاب الجولف والتنس هي نموذج للألعاب الرياضية للطبقة الراقية.
ولوحظ بوجه عام أن الألعاب الرياضية التي تساعد اللاعب على أن يزيد
من قدراته، ومن المدى الذي يبلغه عن طريق الاستعانة بأدواتٍ ما؛ هي
الألعاب المفضلة أكثر لدى أبناء الطبقات الاجتماعية الراقية، الذين
اعتادوا السيطرة على تدفقات كبيرة من الموارد دون جهد بدني. ونجد
على العكس من هذا أن ألعاب الاتصال المباشر والتلامس وألعاب الفريق
أكثر شيوعًا بين أبناء الطبقة العاملة (ميثيني، ١٩٦٨م؛ وبورديو،
١٩٧٨م؛ وساك، ١٩٨٨م؛ ولوشين، ١٩٦٩م؛ وسايبلي، ١٩٨٨م). وتدعم هذه
الملاحظات النظرية القائلة إن الرياضة تعمل كنموذج لموقف العمل
الخاص بالإنسان.
وجدير بالذكر أننا حين نتحدث عن وظيفة ودور الرياضة يتعين علينا
أن نذكر أيضًا الاستخدام الواعي للرياضة لأغراض سياسية. والمعروف
أن الرياضة حظيت بدعم كبير في أغلب الحالات بهدف الارتفاع بالمكانة
الدولية للبلد، أو بهدف تحسين الوضع الصحي للسكان، أو التحكم
والتنشئة الاجتماعية، أو لخلق تضامن اجتماعي وهوية اجتماعية، أو
بغيةَ خلق تفاهم دولي (ريوردان
Riordan، ١٩٧٤م؛ وميراكل
Miracle، ١٩٨٠م؛ وإيكبرج، ١٩٧٣م؛
وبروم Brohm، (١٩٧٦م)؛ وهيتانين،
١٩٨٢م؛ وهويتسون Whitson،
١٩٨٤م).
(٤) مقارنة مع ظواهر ثقافية أخرى
سبق أن ذكرت أن اللعب وغيره من آليات التعلم ضرورية لتوفر
المرونة والقدرة على التكيف للجنس البشري؛ إذ حينما يقلد طفل أثناء
اللعب أحد الكبار، فإنه يتعلم سلوك الشخص الكبير، ويمكن أن نقول
إنه قد حدث انتقال ثقافي، ويمكن كذلك أن يكون اللعب بمثابة عملية
تجريب واستكشاف، وهنا لا يتعلم الطفل من الآخرين، بل يتعلم أن يعرف
بنفسه بيئته الطبيعية، ويمكن أيضًا أن يكون اللعب نوعًا من التمرين
والتدريب؛ حيث يتعلم الطفل كيف يتحكم في بدنه، وهكذا فإن بعض أنشطة
اللعب عند الطفل تمثل فقط جزءًا من عملية النقل الثقافي.
ويمثل الدين والفن — كما أوضحنا في الفصول السابقة — قنوات نقل
مهمة للمعلومات الثقافية، وإذا قارنا بين اللعب والفن كوسائط نقل
ثقافي سوف نجد بعض الاختلافات الأساسية الجديرة بالذكر ولفت
الأنظار؛ إذ نلاحظ في مجالات الموسيقى والرقص والفن التصويري …
إلخ؛ أن مرسل الرسالة يؤدي دورًا أنشط، وربما يجلس المتلقي في حالة
سلبية يرقب ويشاهد ويُنصت، أو ربما يشارك في الرقص أو في الغناء
داخل إطار تبادلي للمعلومات الثقافية، لكن المتلقي للمعلومات في
اللعب القائم على المبادرة يكون دائمًا هو العنصر الأكثر نشاطًا؛
إذ ليس على الكبير أن يؤدي أي عمل بذاته لكي يحاكيه الطفل، بل إن
الطفل ربما يعمِد إلى مراقبة الكبير دون أن يلحظ الكبير منه ذلك،
وربما يكرر الطفل ما شاهده أثناء لعبه، ويحدث أحيانًا أن يكون
الكبير جاهلًا تمامًا بالذي تعلمه الطفل منه. لذلك يمكن القول إن
اللعب القائم على المبادرة له طابَع التمثل والاستيعاب أكثر من
طابع الاتصال، وثمة فارق آخر بين الفن واللعب؛ وهو أن الفن حامل
للمعلومات مكثف بذاته ومستقل عن السلوك المنقول، تمامًا مثل الشفرة
الجينية، ولكن التعلم من خلال المشاهدة والمراقبة والمحاكاة ليس
فيه حامل للمعلومات منفصل.
والمعروف أن الرسالة المنقولة عبر الفن هي عادةً رسالة عن
الهياكل الاجتماعية وأنماط التفاعل، ولكن اللعب يشتمل على طيف أوسع
كثيرًا من المعارف المكتسبة، والتي تشمل مهارات فردية واجتماعية
على السواء؛ لذلك فإن الفن والموسيقى والرقص … إلخ؛ هي في الغالب
الأعم ظواهر اجتماعية؛ بينما اللعب ليس كذلك دائمًا.
ونعود إلى مناقشة التعلم المبرمج ودرجاته من الانفتاح، هنا يمكن
القول إن اللعب له درجة مهمة من الحرية؛ بمعنى أن الطفل يمكنه من
خلال اللعب أن يتعلم نطاقًا واسعًا من المهارات، ونجد من ناحية
أخرى أن اللعب ليس شديد المرونة حين يتعلق الأمر بالفوارق
الثقافية. هناك أوجه تماثُل مهمة بين لعب الأطفال في الثقافات
المختلفة، وغالبًا ما يتعلم الطفل مهاراتٍ ليس بحاجة إليها في
الثقافة التي يعيشها. ويمثل التدريب البدني أو الرياضة في هذا
الشأن بخاصة برنامجًا مغلقًا نسبيًّا. والملاحظ بين الظواهر
الثقافية التي درسناها هنا أن الرياضة هي الظاهرة التي تعتمد بأقل
قدر من غيرها على الهيكل الاجتماعي، وأن أغلب الألعاب الرياضية
مقبولة عقلًا على نحو مباشر ويرضى بها أي امرؤ، دون اعتبار للخلفية
الثقافية، وهذا هو السبب في أن للألعاب الرياضية مثل هذه الميزة
المهمة كوسيلة فعالة لخلق تفاهم وتعاون على الصعيد الدولي، وكذا
القدرة على خلق جمهور مندمج وموحد على الرغم من عدم تجانسه.
وعلى خلاف اللعب والرياضة يقف الفن كقناة اتصال مميزة للهيكل
الاجتماعي ولأنماط التفاعل. إن الفن غير ملائم لنقل أي شيء خلاف
المعلومات الثقافية، ولكن للفن حدود واسعة من حيث الهياكل
الاجتماعية الممكنة؛ ولذلك يعتمد الفن على الثقافة أكثر مما تعتمد
الرياضة. ويصدق هذا أيضًا على الشعائر الدينية والعقائد الجامدة
والأساطير.