الفصل الثالث عشر
مناقشة ونتيجة
لنبدأ بتلخيص نموذج الانتخاب الثقافي: نظرية الانتخاب الثقافي شأنها
شأن نظرية داروين عن التطور البيولوجي تمامًا، مؤلفة من ثلاثة عناصر:
الابتكار، والتكاثر، والانتخاب.
ويعني الابتكار أي سمة أو فكرة ثقافية جديدة؛ سواء ظهرت نتيجة مصادفة
عشوائية أو أخطاء أو لعب أو تجريب، أو تفسير ديني للأحلام … إلخ، أو
نتيجة حل مشكلة عقلية أو تخطيط عقلاني.
والتكاثر أو النقل عملية يكتسب
عن طريقها الناس السماتِ الثقافية التي لدى آخرين، ويقوم التكاثر
الثقافي على آليات محتملة؛ من بينها المحاكاة والتنشئة الاجتماعية
والتعليم، وليس ضروريًّا أن يكون الوالدان مصدر التعليم للأطفال؛ إذ
يسمح النموذج بأن يكون أي شخص — علاوة عليهما — سببًا في تكاثر سلوك
وأفكار لدى أي شخص آخر.
ويمثل الانتخاب العنصر الثالث الأساسي، وهذا هو العنصر الأهم من بين
العناصر الثلاثة موضوع الدراسة؛ ذلك لأن الانتخاب هو الذي يحدد اتجاه
التطور الثقافي.
وتنشط في أي مجتمعات آليات انتخاب كثيرة ومختلفة، وإن الشكل الأكثر
مباشرةً للانتخاب هو الاختيار الواعي من جانب أيِّ وكلِّ شخص لأنماط
السلوك التي يريد اكتسابها، وقد يحدث الانتخاب الواعي أيضًا عند
المستويات العليا؛ حيث يختار قائد المجتمع ما يراه لرعاياه.
وعلاوةً على الاختيارات الذكية بدرجة كبيرة أو صغيرة التي يمارسها
البشر، هناك أيضًا كمٌّ كبير من آليات الانتخاب «التلقائية»، والتي لا
يكون المرء واعيًا بها أو عاجزًا عن التأثير فيها والسيطرة عليها،
وليسمح لي القارئ أن أذكر هنا بعض أهم هذه الآليات:
-
شعوب لديها أساليب حياة بعينها أو مواقف واتجاهات بذاتها
تشجع على إنجاب أطفال أكثر من غيرهم في المتوسط، وإذا حدث
وانتقلت أساليب الحياة والاتجاهات هذه إلى الأطفال، فإنهم على
الأرجح سوف ينتشرون أكثر من الأشكال الأخرى.
-
مجتمعات تؤمن بعقائد دينية معينة لديها فرص لكسب الحروب
والاستيلاء على أراضٍ جديدة أكثر من فرص غيرها؛ ومن ثم فإن هذه
الأديان لديها على الأرجح فرص للانتشار.
-
شعوب تؤمن بأفكار مميزة أو تتمتع بأنماط سلوكية ولديها فرصٌ
أكثر من شعوب أخرى لتتولى القيادة، أو لتكون هي القوة
المعلِّمة أو الأوثان؛ ومن ثم ينقلون أنماط سلوكهم إلى عدد
كبير من الأصول الثقافية.
-
شعوب تكشف عن نجاح أو على قَدْر ومكانة، فإنها تحظى بتقليد
الآخرين لها، ويصدق هذا أيضًا على السمات التي لا تسهم في
نجاحها أو في علو قدرها.
-
أشكال المنافسة الاقتصادية وغيرها قد يكون لها آثار جانبية
غير مستهدفة ولا مقصودة.
-
تجري في العقل اللاشعوري للبشر عمليات اختيار وقرارات اختيار
كثيرة جدًّا، بعض هذه الاختيارات هي ما وصفتُها بقولي اختيارات
بديلة؛ مثال ذلك ظاهرة ميل الناس إلى قيام حكومة تسلطية ذات
قبضة قوية حين يواجه المجتمع أو الجماعة خطرًا يتهددها.
-
هناك قصص أو خطابات بعينها تحظى بأكبر نصيب لتَكرارها
والحياةِ على مدًى أطول؛ نظرًا لأنها تستهوي مشاعر بذاتها، أو
لأنها ملائمة للتأثير في صراعات نفسية، أو لأنها تفيد كنماذج
سالبة أو موجبة للاندماج اجتماعيًّا، أو لأن خطابات بديلة
تَعوقها محارمُ ثقافية أو تتضارب وتتنافر مع مفاهيم مسبقة،
وهذا الانتخاب مستقل عمَّا إذا كان القصص صادقًا أم غير
ذلك.
وجدير بالذكر أن آليات الانتخاب اللاشعورية أو «التلقائية» مهمة
جدًّا للدراسة؛ لأنها غير مخططة ولا متعمدة، ونتائجها غير مقصودة عن
وعي، ولا موضوع تنبؤ. وإن دراسة مثل هذه الآليات يمكن أن تُلقي ضوءًا
على كثير من الظواهر المجتمعية التي ظلت ردحًا من الزمان مستعصيةً على
التفسير.
(١) الانتخاب الثقافي R/K−
الغالبية العظمى من النماذج المنشورة قبل ذلك عن الانتخاب
الثقافي ركزت على الآليات، ولسوء الحظ أننا كنا في وقت واحد في
أغلب الأحيان أمام آليات كثيرة جدًّا ومختلفة أشدَّ الاختلاف،
وتعمل في تواتر مع الكثير جدًّا من المحددات المجهولة التي يستحيل
معها صوغ نموذج رياضي مفيد؛ لذلك عمدت إلى التركيز على نهج آخر؛
ألا وهو معايير الانتخاب الثقافي. وإذا كان بالإمكان تحديد مقياس
للصلاحية العامة أو معيار انتخابي لنظرية ثقافية بعينها فسوف يكون
بالإمكان حينذاك أن نحدد اتجاه التطور الثقافي (وليس سرعته) حتى
وإن لم نعرف تفصيليًّا آلياتِ الانتخاب، وهذا هو المبرر لنموذج
جديد للانتخاب الثقافي، وهو النموذج الذي عرضته، وسميت هذا النموذج
الانتخاب الثقافي R/K−؛ وذلك بسبب
أوجه تماثل نظرية محددة بينه وبين نموذج الانتخاب البيولوجي
R/K−، والذي يعتمد أيضًا على
مقاييس الصلاحية دون الآليات.
ومن الأهمية بمكان للنظرية الثقافية
R/K− الموازنة بين الصراعات
الداخلية والخارجية داخل جماعة أو مجتمع محدد جيدًا. إن أي مجتمع
يتميز بوجود صراعات خارجية ضارية سيضطر إلى أن يبدد القسط الأكبر
من موارده على دعم وتعزيز موقعه في هذه الصراعات. وإن أي مجتمع
عاجز عن هذا سوف يخسر الحرب لصالح المجتمعات المجاورة؛ ومن ثم يخرج
من الانتخاب؛ بمعنى أن لن يكون قَمينًا بالانتخاب، وسوف تختفي
خصائصه الثقافية.
وحددت معنى المجتمع الريجالي بأنه مجتمع يخصص قسطًا كبيرًا من
موارده لإنفاقها على دعم موقعه في الصراعات الخارجية، ويولي
المجتمع الريجالي الأولوية القصوى لاهتماماته بالمجموع دون
اهتماماته بالفرد؛ ولذلك تتميز سياسته بالحكم المركزي التراتبي
الهرمي وبالضبط والنظام الصارمَين وبالتماثل، مع ارتفاع نسبة
المواليد، كذلك فإن الأيديولوجيا والدين والأخلاقيات والشعائر
والطقوس والفنون في المجتمع الريجالي تتطور في اتجاه يدعم هذه
السياسة وهذا الشكل من التنظيم.
والنقيض لذلك هو المجتمع الكاليبتي؛ حيث الصراعات الخارجية عند
أدنى حد وغير ذات أهمية، وحيث يتجه أكبر قدر من الاهتمام نحو حل
الصراعات الداخلية وكفالة السعادة لأفراده. والمثال الواضح عن هذا
صورةُ مجتمع مُقام فوق جزيرة معزولة؛ إذ إن رَفاهَ أبنائه له أهمية
أكبر من أمن المجتمع حيث لا خطر خارجي، ولن يقبل الناس أن يفرض
المجتمع مطالب بنسبة كبيرة تستنفد الموارد أو مطالب تحُدُّ من حرية
الأفراد؛ كما هو الحال عند نشوب حرب أو التهديد بحرب. ويتميز
المجتمع الكاليبتي بالتسامح والنزعة الفردية والحرية وانخفاض نسبة
المواليد، وربما تكون صفرًا، كذلك فإن المعتقدات والطقوس والفنون …
إلخ، في المجتمع الكاليبتي سوف تتطور في اتجاه يدعم هذه
القيم.
وتقول النظرية إن مجتمعًا ما سوف يتطور في الاتجاه الريجالي إذا
توفرت لديه إمكانية الاستيلاء على أراضٍ من مجتمع مجاور أضعف، أو
إذا كان بصدد المخاطرة بفِقدان أرضٍ لصالح مجتمع عسكري مجاور. ولكن
على العكس من ذلك التطور في اتجاه المجتمع الكاليبتي؛ إذ يحدث هذا
التطور إذا كان التصور أن الحروب أو الهجرات الجماعية غير
محتملة.
ولنا أن نتخيل مقياسًا مدرجًا متصلًا
R/K−؛ حيث الثقافات الأكثر إمعانًا
في الطابع الريجالي قائمة عند أحد طرفي الجدول، بينما الثقافات
الأكثر إمعانًا في الطابع الكاليبتي عند الطرف المقابل، ويمكن
استخدام هذا الجدول لتصنيف جميع الثقافات والثقافات الفرعية
والعناصر المفردة للثقافة؛ مثل الأيديولوجيا أو عمل فني. ولكن ثمة
ما يبرر لنا أن نحذر من أن هذا الجدول ليس سوى افتراضٍ مجرد، وأن
من العسير أن نعزو أرقامًا مطلقة لنقاط تقسيم الجدول؛ مثال ذلك أن
ليس من المعقول أبدًا أن نقارن القيمة
R/K− لثقافة بدائية تعتمد على
القنص وجمع الثمار بثقافة حضرية حديثة، ولكن المعقول أكثر أن نقارن
المكانة R/K− لمنظومتين سياسيتين
مختلفتين على سبيل المثال، وديانتين أو أسلوبين فنيين.
وجدير بالإشارة أن الثقافات التي تحتل الموقع المتوسط في الجدول
الثقافي R/K− يمكن أن نسميها
ثقافاتٍ تضامنيةً أو موحدة
solidaric. والملاحظ أن المجتمع
التضامني يولي أكبر قدر من الاهتمام للتعاون والترابط الجمعي، ولكن
التعاون هنا يرتكز على الطوعية الإرادية والنفع المتبادل أكثر مما
يعتمد على القسر والحكم المركزي. وطبيعي أننا نقع في التبسيط المخل
إذا زعمنا أن التضامن دائمًا يحتل مكانة أعلى في السُّلم من منتصف
الجدول R/K−. وإذا شئنا وصفًا أكثر
دقةً وتحديدًا فإننا نستطيع أن نحدد معنى التضامن مقابل النزعة
الفردية بأنه بُعدٌ ثقافي مستقل.
وليس الجدول الثقافي R/K−
مقياسًا كونيًّا شاملًا للتطور الثقافي، وإنما هو مجرد مقياس يبين
أبعادًا كثيرةً يشتمل عليها الهيكل الاجتماعي ومحكوم بالانتخاب
الثقافي، ولنا أن نختار دراسة أبعاد أخرى؛ مثل الموطن الإيكولوجي
الملائم، والمرونة مقابل التكيف النوعي المحدد، والنزعة المحافظة
مقابل النزعة الابتكارية المجددة، وحجم الوحدات السياسية والتعقد
الثقافي والهيكل الاقتصادي، وتقسيم العمل والعلاقة بين الجنسين …
إلخ. واخترت أن أركز على البعد
R/K−؛ لأن هذا العامل ينفُذ، فيما
يبدو، إلى كل جوانب الحياة الثقافية تقريبًا، وهذا يجعل بالإمكان
أن نكشف عن الترابطات بين الظواهر الاجتماعية المختلفة التي اعتدنا
حتى الآن أن نعتبرها مستقلة عن بعضها. وتفيد النظرية الثقافية
R/K− أيضًا في تفسير ظواهر كثيرة
داخل مجال السياسة والأيديولوجيا والدين والفن والسلوك الجنسي؛ بما
في ذلك الظواهر التي استعصت على التفكير قبل ذلك. ومن الممكن أيضًا
الاستفادة من النظرية للتنبؤ بالتطورات السياسية المستقبلية أو
لتوجيه التطور الاجتماعي في اتجاه معين (سنعرض المزيد من هذا الرأي
في الباب ١٤).
ودرست من بين الظواهر الثقافية ظاهرة الرياضة، وهي ظاهرة تعتمد
بأقل قدر ممكن على العوامل
R/K−،
ودرست كذلك الظواهر التي تعكس بوضوح القيَم الريجالية أو
الكاليبتية في مجتمعٍ ما، والتي تتمثل في أشكال الفن مثل الموسيقى
والفن التصويري. وسبق أن عرضنا في الجدول
٤-٢
عددًا من الخصائص المميزة للظواهر الثقافية والكاليبتية.
(٢) وسائط (ميديا) النقل الثقافي
سبق لي أن أوضحت لماذا التطور الثقافي أسرع كثيرًا من التطور
الجيني، وكيف أن الآلية الثقافية تيسِّر تطور هياكل شديدة التعقد
بأكثر مما يستطيع التطور الجيني وحده أن يحققه؛ لذلك فإن السعة
البشرية للثقافة تمثل تكيفًا أعلى أو تكيفًا حاكمًا أقوى فعالية؛
أي سمة تيسر تطور السمات الأخرى. إن الميزة التطورية التي جناها
الجنس البشري وتفوَّق بها على الحيوانات، بفضل ما توفر لديه من
تكيف حاكم؛ هي ميزة مهولة بحيث إنها أكثر من كونها تعويضًا عن الكم
الكبير من الموارد التي ينفقها لتأسيس آلية نقل ثقافي فعال، أو
بمعنًى أصح: العديد من آليات النقل الثقافي. وتنتقل السمات
الثقافية، كما أوضحنا في الفصول السابقة، عبر قنوات عديدة متوازية
تشتمل فيما بينها على المحاكاة واللعب والتنشئة الاجتماعية
والتربية والتعليم والطقوس والشعائر الدينية، ثم — وهو ما يدعو
للدهشة أكثر — الفن.
وافترضت أن الفن وسيط اتصال للتعاليم الاجتماعية، وأن هذا
الاتصال هو في الأساس اتصال لاشعوري موجه إلى كلٍّ من المرسل
والمتلقي على السواء. وهذه هي الوظيفة الأهم للفن، وهي السبب
النهائي الذي جعل البشر يطورون لديهم نزوعًا لإنتاج واستهلاك الفن.
وذهبت في تحديدي لمعنى الفن إلى أنه يشتمل على الموسيقى والأغاني
والرقص والحكايات والمسرح والصور والرسوم والعمارة وزينة الجسد …
إلخ. وقد يحدث أحيانًا أن يكون من العسير التمييز بين الفن
والشعائر والطقوس الدينية، بيد أن هذا التمييز ليس مهمًّا هنا
طالما وأن هاتين الظاهرتين الثقافيتين غالبًا ما تؤديان الوظيفة
نفسها.
إن الفن ظاهرة اجتماعية متميزة، كما وأن التعاليم المنقولة عبر
الفن هي أولًا، وقبل كل شيء، تعاليم عن الهيكل الاجتماعي. ولا ريب
في أن وضع المجتمع على جدول R/K−
يمثل معلومة شديدة الأهمية في هذا الصدد، ولذلك نرى هذه المعلومة
تنعكس واضحة في كل فروع الفن تقريبًا.
إن المهم حيويًّا لبقاء فريق اجتماعي في إطار المنافسة مع الفرق
الاجتماعية المجاورة والمحيطة به؛ أن يكون قادرًا على أن يكيف نفسه
مع الحد الأقصى للقيمة R/K− بأسرع
ما يمكن؛ لذلك يغدو ضروريًّا توفر آلية تيسر تحديد وبيان الحد
الأقصى والأمثل للقسمة R/K−، ولكي
ينقل هذه القيمة إلى جميع أبناء المجتمع. إن الحد الأقصى والأمثل
للقيمة R/K− لا يمكن إقراره عن
طريق الزعيم أو القائد وحده؛ ذلك لأنه بحكم وضعه سيكون صاحب مصلحة
أنانية في جعل الفريق أو المجتمع أكثر خضوعًا وتبعيةً واندماجًا.
ومن ثم فإن المطلوب هنا هو نوع أشبه بعملية تفاوض؛ التماسًا لحل
وسط حيث كل عضو من أبناء المجتمع يسهم بنصيب من جهده وفكره وعمله،
وذهبت في اقتراحي إلى القول بأن تبادل الفن هو في الحقيقة عملية
تمثل عملية التفاوض المنشودة، وأن كل فرد، رجلًا أو امرأة، يعبر عن
رأيه إزاء الهيكل الاجتماعي من خلال التذوق الجمالي الشخصي. إن
الغناء الجماعي والرقص الجماعي … إلخ، لدى القبيلة البدائية يشكل
نوعًا من توافق الرأي أو الحل الوسط بين الأذواق الجمالية للأفراد
من أبناء المجتمع؛ ومن ثم فإنه يمثل أفضل تقييم ممكن للهيكل
الاجتماعي الأمثل. وجدير بالذكر أن القيمة
R/K− ربما تكون واحدة من بين أبعاد
كثيرة للهيكل الاجتماعي التي يمكن تحديدها بهذه الطريقة، ويمكن
مقارنة آلية التفاوض هذه بعملية اتخاذ القرار التي لحَظها كومار
لدى جماعة قردة البابون حين «تتناقش» عن طريق الحركات لتحديد
المكان الذي تقصده في رحلتها بحثًا عن الطعام.
والسبب في أنني أعقد مقارنة مع القردة العليا هنا هو أنني أرى
آلية الفن هذه آلية تطورية قديمة جدًّا من حيث التاريخ التطوري،
إنها على أقل تقديرٍ أقدمُ من اللغة المنطوقة. إن قردة الشمبانزي
وغيرها من الحيوانات تقوم بمَشاهد راقصة أو شبه راقصة، وتصدُر عنها
أصواتٌ أشبه بقرع الطبول حين تضرب بيدها على بطونها أو تقرع بأشياء
أخرى. وتشير ملاحظات العلماء على قردة البابون إلى أن لديها آلية
لتنظيم هيكلها الاجتماعي بهدف التكيف مع الظروف والأوضاع
الإيكولوجية المتغيرة. ويمكن القول إن آلياتٍ مشابهةً لدى البشر
ربما تطورت في البدء كوسائل للتكيف مع البعد الجيني
R/K−، ومع محددات أخرى مهمة للهيكل
الاجتماعي. ولنا أن نقول إن هذه الآلية تطورت بعد ذلك إلى مدًى
أبعد بحيث تعمل على تنظيم وضبط البعد الثقافي
R/K−.
وقدمت علوم متباينة نظرياتٍ عن روح الجماعة أو الطابع القومي أو
الضمير الجمعي أو اللاشعور الجمعي، أو غير ذلك من تعبيرات تعني أن
أبناء أي مجتمع لديهم هياكل ذهنية مشتركة. وتعني هذه الظواهر
النفسية الجمعية ضمنًا وجود وسيط نقل يمكنه توصيل الهياكل أو
التكوينات الذهنية من إنسان إلى آخر. وإذا رفضنا القول بأن الجينات
وحدها يمكنها أن تكون مسئولة عن عمليات النقل هذه،
١ إذن يصبح لدينا المبرر لافتراضِ أن الفن والطقوس
والشعار تسهم في إنفاذ مثل هذا النقل الثقافي.
(٣) مبدأ اللذة
بعد أن عزونا إلى الفن وظيفة اجتماعية، نشير كذلك إلى أن ثمة
تفسيرًا إيثولوجيًّا؛ أي قائمًا على علم السلوك المقارن للذوق
الجماعي عند البشر. إن أي إنسان يمارس عملية التذوق الجمالي سواءٌ
عن طريق الإنتاج الفني أو الاختيار بين قطع فنية بديلة معروضة
أمامه، فإنه بذلك يعبر لاشعوريًّا عن رسالة بشأن الهيكل الاجتماعي
كما يراه الآن أو كما يريد له أن يكون، وتمثل هذه القدرة الفطرية
جزءًا من الطاقة البشرية للثقافة.
والمعروف أن من خصائص الدوافع أو الغرائز أن تعبر عن نفسها عن
طريق اللذة والألم، ويمكن القول إن مشاعر اللذة المتباينة هي
التجليات النفسية أو القوى الدافعة للجينات أو الغرائز. وتجد
الغرائز المختلفة تعبيرًا عن نفسها في مختلف أنواع مشاعر اللذة
التي أطلقنا عليها أسماءً مختلفة. إن لذة أكل شيء مغذٍّ نعبر عنها
بقولنا: «إنها جيدة أو حلوة المذاق.» وانعدام اللذة عند أكل شيء
فاسد أو سامٍّ نسميه: «إنها سيئة الطعم» أو «فاسدة المذاق»، ونعبر
عن الألم الناجم عن إصابة في الجسد: «إنه مؤلم»، ونسمي لذة الجنس
«حبًّا» أو «نشوةً»، والقلقَ أو الضيق الذي نشعر به عند فقْد صحبة
اجتماعية نسميه «وحدة». وتجد رغبة الأطفال في اللعب تعبيرًا يقول:
«إنه دعابة أو مزاح أو تسلية … إلخ.» وإن الكثير من الأحداث
اليومية تحكمها رغبة داخلية أو مشاعر اللذة التي ترغمنا على إتيان
هذه الأفعال تحديدًا.
وتشير الأبحاث الحديثة إلى أن التفضيل الجمالي لدى البشر للمشاهد
الجميلة له أيضًا تفسير بيولوجي تطوري. إن هذه المشاهد والمناظر
الطبيعية التي ندركها ونرى أنها الأجمل قاطبةً؛ إنما هي تحديدًا
تلك المناطق الأكثر ملاءمةً كموئل للإنسان الأول (أوريانز
Orians وهيرواجن
Heerwagen، ١٩٩٢م؛ وكلابلان، إس
١٩٩٢م). إن الجمال ليس خاصية موضوعية للشيء، بل يكمُن في عين
الرائي، أو لنقل ما يقوله علماء النفس التطوريون: الجمال يكمن في
تكيف المشاهد. وهذا هو عين ما يحدث عندما يصف المرء شريكًا جنسيًّا
محتملًا أو مقطوعة موسيقية يسمعها بأن أيًّا منهما جميل. معنى هذا
أن إدراك الجمال هو شعور بلذة يمثل تفضيلًا غريزيًّا، والذي يمكن
ألا نكون واعين بالوظيفة الأمثل له.
(٤) هل نحن عبيد الثقافة؟
وصف بعض علماء البيولوجيا الجينات وصفًا ينطوي على إثارة؛ إذ
قالوا إنها أشبه بكائنات أنانية هدفها الوحيد التكاثر، وإن الجسم
أشبه بآلة دورها الوحيد أن تكون وسيلة لتكاثر جينات الجسم (داوكنز
Dawkins، ١٩٧٦م). ويمكن تأسيسًا
على حجة مماثلة أن نعتبر الظواهر الثقافية أو حوامل معلوماتها
(الميمات) بمثابة كائنات طفيلية أو فيروسات تستخدم البشر كأدوات لا
حول لها ولا طَوْل من أجل تكاثرها. وصادفت هذه الصورة المجازية
نقدًا مبنيًّا على حجة مفادُها أن البشر يتحكمون في التطور الثقافي
عن طريق الممارسة العقلانية لإرادتهم الحرة. ولكنني أرى، وكما
أوضحت في كل صفحات هذا الكتاب، أن أيًّا من هذين الموقفين
المتقابلين لا يعبر عن الحقيقة كاملة، وأن الشيء المهم أن هاتين
العبارتين المتقابلتين إذا ما أخضعناهما لتقدير رياضي تُفضيان إلى
معادلة واحدة. وواقع الأمر أنها ظاهرة واحدة منظور إليها من
زاويتين مختلفتين: زاوية نظر بيولوجية اختزالية، وزاوية مثالية
محورية بشرية، أي ترى الإنسان، وعلى نحو مثالي، هو المحور والغاية
المثلى. والمعروف أن الكثيرين من الناس لديهم رفض وممانعة نفسية ضد
النظر إلى الظاهرة البشرية من زاوية بيولوجية، وينظر هؤلاء إلى
العالم نظرة مفادها أن البشر كائنات سامية تمارس حرية الإرادة
وليسوا آلات «روبوت» تحكمها عمليات بيولوجية وتأثيرات خارجة
عشوائية.
وليس من شك في أن البشر غالبًا ما يجرون اختيارات ذكية ونافعة،
كما وأن تقدم العلوم جعل من إمكانيات الاختيارات الذكية أكبر وأوفر
حظًّا بكثير، ورأينا من ناحية أخرى أمثلةً كثيرة على انتخابات تجري
على نحو لاشعوري وتفضي إلى نتائج غير مقصودة. والملاحظ أن
الاختيارات اللاشعورية غالبًا ما تضفى عليها صفة عقلانية بحيث
يعتقد الناس أنها اختيارات عقلانية (فيسار
Vissar، ١٩٩٤م).
إن البشر مهيئون تمامًا لتلقي المعارف ولديهم قدرة واضحة على
استدخال عقيدة دينية أو أيديولوجيا دون وعي بالاختيارات التي
يجرونها أو بالنتائج المترتبة عليها بعد ذلك. إنك إذا سألت شخصًا
متدينًا عميق الإيمان بدينه لماذا يؤمن بالعقيدة الدينية (أ) دون
العقيدة (ب)؟ يقول لأن أبويه علَّماه أو لقَّناه تلك العقيدة، وليس
من المحتمل أبدًا أن تأتيك إجابة تقول إن (أ) هي الدين الأفضل؛
تكيُّفًا مع الظروف المحيطة التي يعيش فيها؛ ومن ثم فإن انتخاب
العقيدة الدينية نادرًا ما ينبني على تقييم واعٍ بالنتائج المترتبة
على هذا الانتخاب بالنسبة للفرد أو للمجتمع ككل.
إن آراءنا السياسية والأخلاقية والدينية تحكمها إلى درجة كبيرة
عواملُ نحن غير واعين بها، وإن أحد هذه العوامل، الذي يتصف بأهمية
خاصة للنظرية R/K−، هو ظاهرة أن
الناس يصبحون تسلُّطيين يقبلون إخضاع الفرد ورغباته للإرادة العليا
الحاكمة عندما يواجه مجتمعهم أزمة. وعرفنا فيما سبق كيف أن الظاهرة
المعروفة في تاريخ العصور الوسطى باسم «مطاردة السحرة» إنما كانت
إحدى أبرز النتائج اللاعقلانية المترتبة على النزعة التسلطية، وليس
المهم مدى لامعقوليةِ ظاهرة مطاردة السحرة؛ إذ ربما لا تزال تؤدي
وظيفتها؛ بمعنى أنها تسهم في الحفاظ على بقاء الهيكل الاجتماعي.
ولكن معرفة ما إذا كان هذا الهيكل هو أيضًا الهيكل الأمثل للناس
(في ضوء قياسه على أساس نوعية الحياة، أو الصلاحية أو أي معيار آخر
كان) فإنها لا تزال مسألة دون إجابة. ولا ريب في أن ظاهرة مطاردة
السحرة كانت باهظة الكلفة؛ حيث إن كثيرين من الأبرياء عانَوا
الاضطهاد والعقاب، والمعروف أن ظاهرة مطاردة السحرة استمرت حتى
مطلع تاريخ أوروبا الحديث، وامتدت الظاهرة قرونًا عدة ولا تزال
ظواهر مماثلة واضحة للعيان اليوم (على نحو ما ذكرنا عن المكارثية
في الولايات المتحدة الأمريكية). معنى هذا أن البشر ليسوا دائمًا
في سلوكياتهم واختياراتهم عقلانيين كما يعتقدون هم عن
أنفسهم.
وأكثر من هذا أن الاختيار الواعي تمامًا وعلى نحو كامل ربما تكون
له نتائج سلبية، ولنتأمل على سبيل المثال ما يحدث حينما يؤدي الخوف
من اشتعال حرب بين بلدين إلى سباق تسلُّح يستنزف موارد كلا البلدين
ويهددهما بدمار كامل، ومع أن البلدين يفهمان الآلية الكامنة وراء
سباق التسلح بينهما، والنتائج السلبية المترتبة عليه، إلا أنهما
عاجزان عن وقف السباق طالما استحالت عليهما عملية بناء
الثقة.
مثال آخر هو إدمان العقاقير المخدرة، وهذا مثال معروف يوضح لنا
كيف أن ظاهرة طفيلية يمكن أن تنتشر على نطاق واسع ويتعذر وقْفُها
على الرغم من الجهود الذكية المضنية.
وطبيعي أن هذه أمثلة شديدة التطرف، ونعرف أن البشر بعامة يتحسن
وضعهم أكثر فأكثر إزاء اتخاذ اختيارات ذكية. بيد أننا لا نزال أبعد
كثيرًا عن العقلانية التي نعتقدها في أنفسنا، ولا تزال الاختيارات
اللاعقلانية أو اللاشعورية هي الموضوع الأهم للدراسة بسبب ما تترتب
عليهما من نتائج غير مقصودة أو غير متعمدة، وها هنا مناط الفائدة
الأهم لنظرية الانتخاب الثقافي؛ نظرًا لقدرتها على أن تلقي ضوءًا
على ظواهر متعمدة ولم يخطط لها الناس ولا تزال عصيَّةً على
التفسير.
(٥) قابلية الاختبار ومصادر الخطأ
اقترحت في هذا الكتاب نظريات وفروضًا عدة، ولكن إلى أي حد يمكن
الدفاع عنها والاحتفاظ بها؟ هل يمكن التحقق من صدقها؟
النظرية الأساسية هي أن التطور الثقافي يتضمن عمليات إبداع
وتكاثر وانتخاب، وليس ثمة مشكلات بالنسبة لهذه الصياغة: إذ إنها
واضحة، وهذا معروف منذ أكثر من مائة عام، وتمت دراسته وتفحصه
والتحقق منه في ضوء أمثلة كثيرة على مدى هذا التاريخ. ربما تكون
هناك أسئلة بشأن الأهمية النسبية لمختلف أشكال الانتخاب، ولكن
الشيء الذي لا يدانيه ريب هو أن الانتخاب حدث واقع وواقعي.
وعلينا ثانيًا أن نقيِّم نظرية الانتخاب الثقافي
R/K−، أي الزعمَ بأن الصراعات
الخارجية يمكن أن تؤثر في التنظيم الاجتماعي وفي الأيديولوجيا
والعقيدة الدينية … إلخ، لمجتمعٍ ما، ويدفع التأثير في اتجاه بذاته
سميته الاتجاه الريجالي. وإن غياب هذه الصراعات أو التهديدات من
شأنه أن يجعل التطور يمضي في الاتجاه المقابل الذي عرَّفته بكلمة
كاليبتي. ولكن إمكانية إثبات مثل هذه النظرية تحدُّ منها صعوبات
مثل تعذر إجراء تجارب على البشر، ولن تكفي التجارب على الأفراد،
إننا نتكلم عن جماعات تضم مئات أو آلاف البشر، ويتعين أن تمتد
التجارب على مدى أجيال عديدة لإثبات صدق النظرية الثقافية
R/K−. وطبيعي أن مثل هذه التجربة
العملاقة والمهولة يستحيل إجراؤها، ليس فقط لأسباب عملية
واقتصادية، بل وأيضًا، وكما هو واضح، لأسباب أخلاقية. إن التجارب
على الحيوانات أمر ممكن، ولكن الحيوانات التي قد تكون ملائمة، مثل
قردة البابون على سبيل المثال، لها ثقافة على درجة متدنية؛ بحيث إن
النتائج لن تفصح لنا إلا عن شيء غير ذي بال بالنسبة للتطور الثقافي
عند البشر.
إن الإمكانية الواقعية الوحيدة لدعم النظرية الثقافية
R/K− هي — والوضع كذلك — التجارب
الطبيعية؛ أعني دراسة الأحداث التي وقعت بالفعل أو التي تقع؛ سواءٌ
ندرسها أم لا ندرسها، ونعرف أن التاريخ البشري يشتمل على مصدر غني
مهول من الأحداث الملائمة لهذا الغرض. وسبق أن ذكرت العديد من
المسارات التاريخية لأحداث تؤكد النظرية
R/K−، وثمة أحداث وعصور تاريخية
أخرى عديدة يمكن اختيارها والاستشهاد بها وبحثها لتقييم النظرية،
ونعرض هنا قدرًا كافيًا من جهد فريق من المؤرخين شغلتهم هذه القضية
سنوات كثيرة. وإن أضخم مشكلة بالنسبة للتجارب الطبيعية هو أننا
نواجه دائمًا عوامل تثير الارتباك والحيرة ويتعذر تصحيحها. وهذه
مشكلة عامة تواجهها أيُّ نظرية اجتماعية، ولكن الملاحظ في حالتنا
هنا أن معاملات الارتباط قوية جدًّا، وكم المعطيات كبير للغاية؛
بحيث يمكن القول إن إمكانات اختبار هذه النظرية أفضل كثيرًا من
نظريات اجتماعية أخرى عديدة. ويمكن للقارئ أن يستعيد في ذهنه من
معارفه التاريخية والاجتماعية الكثيرة من الأمثلة وثيقة الصلة.
ونذكر طريقة أخرى لاختبار النظرية الثقافية
R/K−، وهي وضع تنبؤات عن المستقبل
تأسيسًا على النظرية ونرى ما إذا كانت التنبؤات تصدُق أم لا. وواقع
الأمر أن جاذبية هذه النظرية تكمن بالدقة والتحديد في جدواها لوضع
التنبؤات.
ومع أن النظرية الثقافية R/K−
ترتكز على أسس جيدة وقابلة للاختبار، إلا أننا نواجه مزيدًا من
المشكلات الجادة تتعلق بالجانب الأكثر جسارةً في النظرية: الزعم
بأن الفن له وظيفة اجتماعية، وهي وظيفة لاشعورية بالنسبة للغالبية
العظمى من الناس. وليس بالإمكان — كما هو واضح — توفير برهان حاسم
يؤيد أو يفنِّد وجود ظاهرة تحدث في اللاشعور، والتي من المفترض
أنها ظهرت بفعل التطور البيولوجي منذ ملايين السنين، والتي أمكن
اليوم تجاوُزُها أو التغلب عليها جزئيًّا بفضل مزيد من الآليات
الفعالة؛ ومن ثم علينا أن نقنع بالمؤشرات الإحصائية، وأن ندع
الفروض قائمة إلى أن يأتي إلينا آخر بفروض أفضل منها.
وهناك حجة تتكرر دائمًا في بحوث السلوك المقارن وتقضي بأنه إذا
كانت هناك ظاهرة قائمة فإنها — حسب النظرية الداروينية — لا بد وأن
تكون لها وظيفة تكيفية. ولكن نقطة ضعف هذه الحجة هي أن ثمة خصائصَ
غير تكيفية تظهر دائمًا، ولكن بمعدل تَكراري بطيء، وأن خصائص
محايدة للصلاحية يمكن أن تظهر لأسباب عشوائية خالصة، وأن تطور
السمات التكيفية قد تكون له آثار جانبية في صورة ظواهر مصاحبة غير
ذات وظيفة، وأن السمات التي كانت في السابق على مدى التاريخ
التطوري سمات تكيفية؛ يمكن أن تبقى لزمن طويل جدًّا على الرغم من
تغير الظروف التي كانت سببًا في ظهورها وكانت لها وظيفة تؤديها
خلالها. إن الظاهرة كلما بدت أكثر تفصيلًا وإحكامًا وتعقدًا، وزادت
الموارد التي تستلزمها وتعتمد عليها، زادت صعوبةُ تفسيرها
باعتبارها اختلالًا أو قصورًا وظيفيًّا عشوائيًّا، وزاد احتمال
تفسير ظهورها على أساس أن الظاهرة تولدت بفعل عملية
الانتخاب.
وهذا هو على وجه الدقة والتحديد الحال بالنسبة للإنتاج البشري
للموسيقى وللرقص وغير ذلك من أشكال الفن؛ ولذلك نرى أن الزعم
الفلسفي بأن الفن يمارسه البشر من أجل ذاته زعم ليس له أيُّ معنًى
تطوري، وسبب قولنا هذا أن الوجدان البشري المميز نحو الفن ما كان
له أن يتطور أو كان لا بد وأن تسقطه عمليات الانتخاب منذ زمن طويل،
لو أنه كان لا يعني شيئًا وليس سوى تبديدٍ للموارد لغير ما وظيفة
يؤديها. إن الأشكال المختلفة للفن شديدة التفصيل والإحكام، وعالية
التطور، وتستلزم نسبة عالية من وقت البشر وطاقتهم كما هو واضح في
جميع المجتمعات؛ ولهذا لم يكن بالإمكان رفضها باعتبار الفن ظاهرة
مصاحبة غير ذات وظيفة. وبناءً عليه لا بد أن كان للفن بالضرورة
وظيفة تكيفية. وواضح أن هذه الوظيفة لها علاقة بالاتصال. ويتفق
أغلب الباحثين في الرأي من حيث إن الفن صورة من صور الاتصال، ولكن
الاتفاق يتوارى إلى حدٍّ ما بشأن نوع وموضوع الرسالة التي يجري
توصيلها، كذلك فإن الزعم بأن الفن يشتمل على معلومات عن الهيكل
الاجتماعي زعمٌ مبني على دراسات تحليلية إحصائية لمعامل الارتباط
بين الهيكل الاجتماعي والأسلوب الفني. وتُثبت هذه الإحصاءات — دون
أدنى ريب — وجود رابطة بين الفن والهيكل الاجتماعي، ولكن الإحصاءات
تعجز عن التمييز بين السبب والنتيجة؛ لذلك فإننا من حيث المبدأ لا
نستطيع أن نعرف ما إذا كان الفن هو الذي يؤثر في المجتمع أم أن
المجتمع هو الذي يحدد شكل الفن، ولعل الأرجح أن كلًّا من العاملَين
يؤثر أحدهما في الآخر بدرجةٍ ما، بيد أن الفرض الذي أطرحه هو أن
الفن ربما عمِل كوسيط للمساومة والتفاوض بشأن الهيكل الاجتماعي فرض
لا يمكن التحقق منه؛ تأسيسًا على هذه الأنواع من الإحصاءات. وغنيٌّ
عن البيان أن المقارنة مع أسلوب قردة البابون في التفاوض بشأن
الجهة التي تقصدها بحثًا عن الطعام؛ مقارنةٌ تثبت فقط أن مثل هذه
الوظيفة ممكنة بيولوجيًّا، وليس أنها قائمة وموجودة لدى
البشر.
وسبق لي أن عرضت مبدأ اللذة الذي يقول إن أيَّ شعور باللذة أو
الألم مرتبط بغريزة أو بوظيفة تحددت جينيًّا، ونظرًا لأن الفن يفضي
إلى ظهور أو تولُّد لذة جمالية، فلا بد — وحسب منطق هذا المبدأ —
أن يكون موجهًا، ولو جزئيًّا على أقل تقدير، وَفق ميول تحددت
جينيًّا، ولكن يجب أن نحذر الوقوع هنا في محاجاة دورية؛ إذ على
الرغم من أن الرابطة بين اللذة والغريزة معروفة جيدًا، إلا أنه ما
كان لي أن أصوغها هنا على نحو صريح ومطلق لو لم أكن أومن بأن الفن
واللعب وغير ذلك من أنشطة لاذَّةٍ هي أنشطة تؤدي وظائف لازمة
ومطلوبة.
وهناك مشكلة نقدية أخرى؛ وهي مسألة العمر التطوري النوعي للفن،
لقد افترضت أن أشكالًا أساسية من الفن — خاصة الموسيقى والرقص —
أقدم كثيرًا من اللغة المنطوقة، أو لنقل بعبارة أخرى: إن الفن شكل
أكثر بدائيةً من الاتصال، والذي بقي وامتدت به الحياة إلى جانب
اللغة المكتوبة، وطبيعي أن مثل هذه النظرية يصعب جدًّا إثباتُها
والبرهنة عليها؛ إذ ربما رقص أسلافنا مع أدوات إيقاعية بدائية
خشبية مصنوعة منذ ملايين السنين، ولم يخلفوا لنا آثارًا أركيولوجية
دالة على ذلك. وتنبني النظرية على المقارنة مع أشكال الاتصال لدى
الحيوانات الأخرى، وعلى حقيقةٍ مفادها استحالة القول بأن شكل
الاتصال البدائي الذي يتألف من الفن ظهر إلى الوجود؛ بينما سبقه
إلى الوجود شكل للاتصال أكثر تقدمًا وأقل استهلاكًا للطاقة، ونعني
به اللغة المنطوقة. ويبدو واضحًا من ناحية أخرى أن الفن تطور أكثر
وأكثر ولا يزال يتطور، ويفسر هذا التطور الجديد المطرد مقترنًا
بقدر ضئيل من التغيرات البيولوجية أو بدون تغيرات بيولوجية على
الإطلاق. وهذا لا يتعارض مع افتراض أن الفن هو في الأساس امتداد
باقٍ منذ مرحلة تطورية أكثر بدائية. ويمكن للمرء أن يناقش ما إذا
كان الفن زائدة متميزة فقدت تمامًا وظيفتها أو لا تزال له أهمية في
المجتمع الحديث. ولا ريب في أن كثيرًا من المحدثين يولون أهميةً
كبرى للفن، ونحن حين نفكر في كمِّ الموارد التي ينفقها الإنسان
الحديث على فنون الموسيقى والرقص والسينما والمسرح والرسم والآثار
والعمارة وتزيين الجسد … إلخ … إلخ، فإننا لن نشك كثيرًا في أن
الفن لا يزال شكلًا مهمًّا من أشكال الاتصال وإن استلزم طاقةً لا
تتناسب مع المطلوب.
ولو شئنا وصفًا أكثر تحديدًا لما يجري توصيله عبر قطعة فن خاصة،
فإننا نجد أنفسنا فوق أرض رخوة؛ لأن القسط الأكبر من الاتصال
لاشعوري بالنسبة للراسل والمتلقي على السواء. إن دراسة الظواهر
اللاشعورية هو مجال التحليل النفسي الذي غالبًا — كعلم — ما يلجأ
إلى الحدس والتخمين، وطبعي أن الاختبار الصارم الدقيق مستحيل في
هذا المجال؛ ولذلك أغفل المحللون النفسيون تمامًا الحاجة إلى
اختبار نظرياتهم؛ الأمر الذي أساء كثيرًا لعلم التحليل النفسي في
إجماله. وعندي أن هذه المشكلة لم تأخذها مدرسة التحليل النفسي
بجدية كافية، وهذا هو السبب في أنني — وكلي أسف — لم أسهم في هذا
الكتاب بحديث عن التخمين الحدسي. ونظرًا لأن علم التحليل النفسي لم
يستحدث أي مناهج عامة وموثقة للتحقق، فقد لجأت إلى مباحث علمية
أخرى، أهمها التحليل الإحصائي للرابطة بين الهيكل الاجتماعي
والأسلوب الفني.
وإن الوضع R/K− لثقافةٍ ما له
تأثيره على مجالات كثيرة للحياة الاجتماعية والخاصة؛ بما في ذلك
الدين والأيديولوجيا والفن والسلوك الجنسي … إلخ، وتنعكس أحيانًا
التغيرات الطارئة على الوضع R/K−
لمجتمعٍ ما على هذه المجالات بأسرع مما يتوقع المرء من آليات
الانتخاب الواضحة المباشرة؛ لذلك افترضت وجود آليات انتخاب بديلة
ذات طبيعة نفسية، وتتمثل آثار هذه الآليات النفسية في أن الشخص
الذي يتصور موقفه الحياتي، وموقف جماعته بخاصة، بأنه مهدد وغير
آمن؛ سيتولد لديه ميلٌ للخضوع إلى قائد قوي ولقواعد وقوانين حياة
صارمة، أو أنه — بعبارة أخرى — سوف يطوِّر ما يسميه علماء النفس
الاجتماعيون شخصية تسلطية. وتقضي نظريتي بأن هذا الوضع النفسي لا
يؤثر فقط في الموقف السياسي للشخص، بل ويؤثر أيضًا في تفضيلاته
بشأن الفن وأخلاقياته الجنسية. وإن بالإمكان أن نصل إلى إحصاءات
تكشف عن وجود رابطة بين الموقف السياسي الذي يحياه الناس وذوقهم
الجمالي أو سلوكهم الجنسي … إلخ، ولكن على الرغم من أن مثل هذا
الإحصاء يمكن أن يشكل برهانًا على وجود رابطة، إلا أنه لا يستطيع
الإفصاح عن أي شيء بالنسبة للآليات الكامنة وراء هذه الرابطة.
وطبيعي أن أي برهان إحصائي شكلي سوف يستلزم إجراء تجربة تعمية
مزدوجة محكومة controlled double-blind
experiment على النحو الشائع في البحوث الطبية.
بيد أن مثل هذه التجربة مستحيلة — بطبيعة الحال — في هذا الصدد
مثلما هي مستحيلة في المجالات الأخرى لعلم النفس الاجتماعي.
مصادر الخطأ
أودُّ أن ألفت الانتباه إلى بعض المزالق ومصادر الخطأ
بالنسبة لأولئك الذين قد تراودهم رغبةً في المضي بعيدًا
بالنظرية الثقافية R/K−. إننا
حين نستخدم مصادر أركيولوجية وتاريخية فنية يتولد انحياز نسَقي
من المهم أن نكون على وعي به، تنتج الثقافات الريجالية بعامة
مصنوعاتٍ فنيةً تتسم بالأبهة والضخامة والفخامة ومصنوعة من
موادَّ قابلة للدوام؛ هذا بينما تنتج الثقافات الكاليبتية
عادةً مصنوعات فنية تتسم بصغر الحجم والبساطة ومصنوعة من
موادَّ قابلة للفناء. وهذا هو السبب في أن الثقافات الريجالية
جذبت دائمًا أكبر قدر من الاهتمام التاريخي؛ بينما منتجات
الثقافات الكاليبتية مآلها إما الفناء أو تجاوزها.
ونحن حين نقيِّم المستوى
R/K− لثقافةٍ ما لا بد وأن
نتجنب الاعتماد على مؤشر وحيد؛ ذلك لأن التقييم الموثوق به
يستلزم اختبار عوامل عديدة؛ مثل الدين والمنظومات السياسية
والعسكرية والشرائح الطبقية الاجتماعية والقانون الجنائي وحقوق
الإنسان والنمو السكاني والتعليم والفن والأخلاقيات الجنسية،
وإحصاءات الانتحار … إلخ. والملاحظ في حالة الالتباس أو عدم
الاتفاق بين هذه العوامل يتعين إجراء فحص أوثقَ صلة بالموضوع.
وغنيٌّ عن البيان أن أيًّا من هذه العوامل ربما تكون له مصادر
خطأ عند استعماله كمؤشرات
R/K−.
ويحدث أحيانًا، في حالة الدين، أن نكون إزاء بلدين يَدينان
شكليًّا بعقيدة دينية واحدة؛ بينما الناس في أحد البلدين أكثر
حَرْفية وتزمتًا من أهل البلد الآخر. ويمكن أن يكون النظام
السياسي غير متوافق مع ذهنية الناس إذا ما كان هذا النظام
مفروضًا عليهم من الخارج، وأذكر كمثال هنا دولة تشيكوسلوفاكيا
التي تخضع لنظام سياسي ريجالي بكل معنى الكلمة فرضه عليها
الاتحاد السوفييتي السابق، بينما أثبت الناس أنهم من تحت السطح
الظاهر ذوو طابع كاليبتي خالص.
وجدير بالذكر أن الهيكل العسكري والتقسيم الطبقي الاجتماعي
والقانون الجنائي وحقوق الإنسان لا تعتمد فقط على المستوى
R/K− للمجتمع، بل تعتمد أيضًا
على مستويات تطورها العام التقاني والاقتصادي والسياسي. وقد
يحدث أن يكون نمو السكان في بلدٍ ما أكبرَ كثيرًا من المتوقع؛
تأسيسًا على المستوى R/K− لهذا
البلد إذا ما كانت المواقف السياسية والاجتماعية مشوشة تشوشًا
كاملًا، أو إذا كانت العوامل الاقتصادية تحفز على إنجاب كثير
من الأطفال.
وإذا استخدمنا الفن كمؤشر
R/K−، فلا بد وأن نعتبر
بإمكانية وجود تباين واضح بين الثقافة العليا الرسمية
والمدعومة من الدولة التي يعرضها البلد بزهو وكبرياء على
العالم الخارجي، ولكنها في حقيقة أمرها ثقافة غرستها نخبة
قليلة العدد من الأدعياء، وبين — من ناحية أخرى — الموسيقى
الشعبية والسينما الجماهيرية التي تفضلها غالبية السكان.
وطبيعي أن تقييم المعلومات
R/K− عن قطعة فنية محددة سيخضع
دائمًا لحكم ذاتي، وأن ثمة إمكاناتٍ كثيرةً لسوء التفسير أو
المبالغة في التفسير. وحيث إن حديثنا عن الفن، فإننا نشير إلى
وجود حالة من اللاتماثلية بين الثقافتين الرجيالية
والكاليبتية، وهي حالة يتعين لفت الأنظار إليها: الثقافة
الكاليبتية متسامحة مع الفن الريجالي، بينما الثقافات
الريجالية غير متسامحة مع الفن الكاليبتي؛ لذلك يمكن أن نجد
الفن الريجالي بين الثقافات الكاليبتية بسبب ما فيه من جمود
وافتقار إلى القدرة الإبداعية، أو بسبب مصالح تاريخية
وإثنوجرافية، أو أن يأتي التعبير عن الفن الريجالي في أساليب
ساخرة كاريكاتورية؛ بحيث إن هذه السخرية تخلق مسافةَ تباعد بين
أسلوب هذا الفن وبين احتمال محاكاته.
ويمكن أن تكون المعايير الأخلاقية الجنسية مؤشرًا
R/K− مفيدًا؛ إذ يمكن قياسها
على نحو أدقَّ من قياس الفن كمثال، ولكن جدير بالذكر أن
التشريع الجنسي في بلدٍ ما ليس مقياسًا موثوقًا به لقياس
الأخلاقيات المفروضة عمليًّا؛ إذ غالبًا ما يجري تطبيق هذا
التشريع على نحو تعسفي، أو لا يلتزم به أحد على الإطلاق. ويصدق
هذا بوجه خاص في المستعمرات الأوروبية السابقة؛ حيث قوانين هذه
المناطق ما هي إلا بقايا من الحكم الاستعماري.
(٦) القدرة التفسيرية
مع التسليم بوجود مظاهر للنظرية الثقافية
R/K− يصعب التحقق منها، إلا أن ثمة
جانبًا يجعل النظرية شديدة الجاذبية، وأعني بها قدرتها التفسيرية
الرائعة. وسبق لي أن أوضحت كيف أن النظرية
R/K− يمكن تطبيقها على مجالات
مختلفة وشديدة التباين للعلوم الاجتماعية وللبحوث التاريخية.
وتستطيع هذه النظرية أن تفسر ظواهر متباينة مثل سقوط الإمبراطورية
الرومانية وظاهرة مطاردة السحرة في عصر النهضة، وظاهرة موسيقى
الروك في أواخر عهد الاتحاد السوفييتي، والمقاومة ضد الأدب الإباحي
في الولايات المتحدة.
وأتوقع أنه سيكون من المفيد تطبيق النظرية داخل نطاق واسع لعديد
من فروع العلم المختلفة؛ بما في ذلك البيولوجيا الاجتماعية
والأنثروبولوجيا والأركيولوجيا والتاريخ السياسي وتاريخ الفن
وسوسيولوجيا الثقافة وسوسيولوجيا الدين وعلم النفس الاجتماعي وعلم
الجنس «سكسولوجي»، وبحوث الصراع والسلم، وعلم المستقبليات. وواضح
أن من المستحيل أن أنهض وحدي بكل الجهد اللازم في جميع هذه
المجالات، وأن أختبر إمكانية تطبيق النظرية الثقافية
R/K−. هذا علاوة على أنني لا أملك
الخبرة المعرفية اللازمة؛ لذلك آمُل أن يكون هذا الكتاب مصدر إلهام
لعلماء تدرَّبوا في بعض هذه المباحث العلمية على اختبار إمكانية
تطبيق نظرية الانتخاب الثقافي داخل نطاق خبرتهم في مجال بحوثهم
الخاصة. لقد صُغت إطارًا عامًّا يبين كيف يمكن إنجاز ذلك، وها أنا
ذا الآن أدعو الآخرين إلى العمل وفق نموذج إرشادي جديد.