المستقبل
وأقول بوجه عام إن علينا أن نحلل القوى الانتخابية التي تشكِّل المجتمع وتقرر أيَّ القوى تقود في اتجاه منشود ومستصوَب، وأيُّها يستلزم تدخلًا لتجنب حدوث أي تطورات خطرة، وإليك بعض الأمثلة:
يدفع أنصار الليبرالية الاقتصادية بأن المنافسة الحرة هي أفضل ضمان لانخفاض الأسعار والجودة المرتفعة لجميع السلع، وأنا أتفق مع هذا الرأي إلى الدرجة التي تتوفر فيها للمستهلكين المعلومات الضرورية لإجراء اختيارات رشيدة، ولا يكونون ضحايا عمليات غسيل مخ من جانب الإعلانات، ولكن لسوء الحظ أن ترْكَ كل شيء لهيمنة وسلطة قوى السوق الحرة لا يضمن الرفاه ولا السعادة البشرية. والملاحظ أن هناك اعتبارات كثيرة مهمة خاصة بالخير العام متروكة دون أن تسيطر عليها القوى الانتخابية لاقتصاد سوق حرة؛ ومن ثم نرى أن التدخل والتنظيم ضروريان لحماية تلك الاعتبارات التي لا تحكمها تلقائيًّا القوى الحرةُ للسوق.
وتوجد مشكلة مماثلة تتعلق بالديمقراطية، نعم الانتخابات الحرة هي أفضل ضمان ضد الطغيان وعدم الاستقرار السياسي، ولكن شريطة أن يتوفر للناخبين حقُّ الوصول الحر غير المقيد إلى معلومات موثوق بها عن القضايا الاجتماعية والسياسية، وهذا هو السبب في أننا نعتبر الصحافة الحرة مهمة جدًّا في المجتمع الديمقراطي، ولكن لسوء الحظ الصحافة ليست حرة، إنها تخضع لسيطرة القوى الانتخابية التي لا ترحم للسوق الحرة، وكما سبق أن أوضحنا في الباب التاسع أن المنافسة من أجل القرَّاء والمعلنين تفضِّل التسلية والترويح والقصص المثيرة للغرائز، فهذه عندها أفضل من الصدق والالتزام بالموضوع والتحليلات التفصيلية للقضايا الخلافية. وهذا فشل للديمقراطية كما نعرفها! ومن ثم فإن نوعًا ما من التدخل مطلوب يقينًا.
ويناقش هذا الباب بعض المجالات المهمة التي يلزم فيها التدخل لتوجيه الانتخاب إلى اتجاه ملائم.
(١) سياسة الأمن
المجتمع الكاليبتي له مزايا واضحة بالمقارنة بالمجتمع الريجالي؛ أولًا إنه يهيئ للفرد قدرًا أكبر من الحرية والأمن، ولكن المجتمع الكاليبتي النموذجي بالكامل يكاد يكون غير موجود طالما أحاطت به بلدان ذات طابع ريجالي. إن السلم والحرية لا يبقيان ويدومان إلا إذا كانت جميع البلدان آخِذةً في التطور في اتجاه كاليبتي. وقد يبدو هذا كلامًا طوباويًّا، ولكن الحقيقة هي أن هذه العملية آخذة في التحقق الآن، لقد انتهت عصور الاستعمار، وبلغت القوى العظمى أقصى حدود التوسع، وهي الآن على الطريق إلى عملية التحول إلى مجتمعات كاليبتية. ونحن ربما يراودنا خوفٌ من ظهور إمبراطوريات ريجالية جديدة على نحو ما حدث من قبل في التاريخ، وقد تكرَّر ظهورها مراتٍ لا حصر لها. ولكن لدينا الآن إمكانية غير مسبوقة لوقف مثل هذه التوجهات العدوانية، وأعني بذلك جهود الأمم المتحدة وغيرِها من منظمات دولية تعمل جميعها من أجل الحفاظ على السلم ووقف أي محاولات تستهدف إرساء قواعد للإمبريالية والعدوان، وكلما زادت كفاءة جهود الحفاظ على السلم، قلَّت احتمالات نشوب حروب جديدة، وحين ينتفي خطر الحرب سيتجه كل بلد على الأرجح إلى التطور على الطريق نحو الطابع الكاليبتي.
وإن من الأهمية بمكانٍ أن ندرك أن جهود حفظ السلم لن تُثمر إلا إذا خضعت لسيطرة منظمة دولية، وليس بإمكان قوةٍ عظمى ولا حكومة عالمية أن تفي بهذا الدور دون حدوث عمليات انتخاب ضارة تعرض للخطر استقرار البيئة العالمية؛ ولهذا نرى أن المنظمة الدولية هي وحدها القادرة على ضمان السلم والاستقرار للحدود القومية.
ومثل هذه المنظمة يجب أن تتوفر لها — بحكم الضرورة — مواردُ عسكرية تُسهم بها وتيسر لها البلدان الأعضاء. ويشكل الطابع الريجالي لهذه «السياسة العالمية» معضلة؛ إذ لو أنها مسرفة في طابعها الكاليبتي فإنها ستكون غير فعالة، وإذا كانت مسرفة في طابعها الريجالي فإنها ستثير تمردات وثورات أو تفضي إلى إضفاء طابع ريجالي على البلدان التي تتدخل فيها. وحتى نتجنب تصعيد الطابع الريجالي سيكون غالبًا من الملائم أكثر أن نطبق جزاءات وعقوبات اقتصادية، وليست عسكرية، ضد المعتدي. وثبت أن مثل هذه العقوبات والجزاءات الاقتصادية فعالة جدًّا في عدد من الحالات.
وإن الطابع الريجالي للقوات المسلحة يمكن أن يكون معضلة على المستوى القومي. إن الدولة الكاليبتية لكي تكون قادرة على الدفاع عن نفسها ضد معتدين يغلب عليها الطابع الريجالي، لا بد وأن تتوفر لها قوة دفع عسكرية أكثر ريجاليةً من البلد بعامة، وربما يؤدي هذا إلى ظهور صراعات متباينة؛ ذلك أن العسكريين الذين تلقَّوا تنشئة كاليبتية قد يواجهون مشكلةَ تقبُّل الأيديولوجية الريجالية والنظام الصارم الريجالي، وهو ما تستلزمه فعالية النظام العسكري. علاوةً على هذا فقد يظهر نوع من الشقاق أو الخلاف بين الجيش والحكومة، وهو ما قد يؤدي في أسوأ الحالات إلى خطر قيام انقلاب عسكري.
ولعل ضمان استقرار الحدود بين الأمم هو الوسيلة الأكثر فعالية في اتجاه إضفاء طابع كاليبتي كوكبي، ولكن هناك أيضًا إمكانات أخرى للتأثير على بلد في الاتجاه الكاليبتي، وهنا تمثل حركة حقوق الإنسان أمرًا بالغ الأهمية؛ ذلك أن أيديولوجيا حقوق الإنسان من أهم الأسلحة مَضاءً وقوةً في يد النزعة الكاليبتية. إن الديمقراطية وحرية التعبير، وحرية الفكر والضمير، وحرية الاجتماع وتكوين الأحزاب، والحرية الفنية، والمحاكمة النزيهة … إلخ؛ هي مبادئ تحدُّ، وبصورة فعالة، من احتمالات قيام نظم حكم ذات طابع ريجالي ولها السيطرة على الناس. وتدل الخبرة العملية على أن حقوق الإنسان تحظى بأكبر قدر من الأمان حين توجهها منظمات دولية؛ مثل اللجنة الأوروبية لحقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية، دون أن تخضع لسيطرة الأجهزة القومية. وجدير بالذكر أن المحكمة القومية ستظل دائمًا أقلَّ موضوعية من أي منظمة دولية حين تتعرض المبادئ التشريعية للبلد المعنيِّ للنقد. ويشهد التاريخ بأن المحاكم القومية غالبًا ما ساومت لأسباب نفسية حين يتعلق الأمر بحالات تتناول ظاهرة مثل الذعر الأخلاقي أو مطاردة السحرة. وغير خافٍ أن من الخصائص المهمة للذعر الأخلاقي أن المتورطين فيه إلى آذانهم يعجزون عن رؤيته.
(٢) السياسة السكانية
الأرض تكتظ بسكانها، والنمو الأُسِّي للسكان هو الخطر الأعظم الذي يتهدد السلم العالمي والاستقرار الإيكولوجي؛ لذلك أصبح ضروريًّا ضرورة مطلقة بذل الجهد للتحكم في النمو السكاني في تلك البلدان التي زاد فيها معدل النمو إلى أقصاه. وواضح أن ضبط النسل إجباريًّا، على نحو ما نرى في الصين، إمكانية نظرية قائمة، ولكن سيكون من العسير إلى أقصى درجات العسر تنفيذُه في حالات كثيرة؛ لذلك علينا أن نبحث عن إمكانات أخرى للحد من معدل زيادة المواليد.
وجدير بالذكر أن إضفاء الطابع الكاليبتي من شأنه أن يؤدي تلقائيًّا إلى نقص معدل المواليد؛ ولهذا فإنه نهج مستصوَب في هذه الحالة أيضًا. وسبق أن تحدثنا عن وجود آلية أخرى يمكن أن تحدَّ من نمو السكان، وهي الآلية التي سميناها موارد إضفاء المكانة والهيبة، ويمثل التعليم أحد هذه الموارد. وإذا سلَّمنا بأن التعليم هو الطريق إلى تحقيق المكانة والهيبة فإن الأبوين سينزعان إلى أن يُنجبا عددًا قليلًا من الأطفال وتوفير فرص تعليم جيد لأطفالهم؛ بدلًا من تربية وتنشئة أطفال كثيرين لا يملكون القدرة على تعليمهم تعليمًا جيدًا ولفترة تعليمية طويلة. علاوةً على هذا، سوف ينجب الأبوان أطفالهما وهما في سن متقدمة نسبيًّا إذا ما كانت الأولوية الأولى لتعليمهما ولمستقبلهما العملي. وهذا أيضًا يقلل من النمو السكاني؛ ولذلك فإن أية سياسة توفر التعليم وتجعله هدفًا جذابًا لكل أبناء المجتمع سوف تحُدُّ كثيرًا من النمو السكاني.
كذلك تؤثر الحوافز الاقتصادية في قرار إنجاب الأطفال؛ إذ الملاحظ في المجتمعات التي تدفع أطفالها إلى العمل في سن باكرة تغدو كثرة الإنجاب عاملًا جذابًا اقتصاديًّا؛ لذلك يكون ضروريًّا إضافة قيود ضد تشغيل الأطفال بهدف خفض معدل المواليد. ونجد من الضروري بالمثل أن يكفل المجتمع الأمن الاجتماعي والاقتصادي للمسنين والمرضى لتجنب الحاجة إلى إنجاب أطفال يكفُلون لهم العيش في شيخوختهم.
ومن الواضح أنه في حالات المجاعة أو الحرب، لا يضع الناس في الحسبان الاعتبارات الإيكولوجية بعيدة المدى. وإذا تركنا الأمر للحرب والمجاعة والأوبئة لكي تكون لها السيطرة والتحكم في الزيادة السكانية في العالم، فسوف تستنفد الموارد الإيكولوجية وسيكون من المستحيل الحد من التلوث؛ لذلك فإن السياسة السكانية الكاليبتية ضرورية لأسباب إيكولوجية.
(٣) سياسة الهجرة
تأتي الهجرة في المرتبة الثانية بعد الحرب؛ ذلك أن الهجرة من الثقافات الريجالية، وهي أكبر خطر يتهدد الطابع الكاليبتي للمجتمع. إن الهجرة الجماعية المكثفة ذات التكوين المتجانس ستفضي على الأرجح إلى تكوين تشكيلات انعزالية أو معازل (جيتو) وإلى إضفاء طابع ريجالي، هذا على عكس الهجرة المحدودة وغير المتجانسة؛ إذ يمكن أن تفضي إلى إضفاء طابع كاليبتي (انظر الباب الخامس)، وربما يكون عسيرًا على بلد ذي طابع كاليبتي أن يرفض اللاجئين إليه من منطقة ريجالية دمرتها الحرب. ولا ريب في أن كرم الضيافة خاصية طبيعية تتسم بها ذهنية المجتمع الكاليبتي، وأن المصير البائس للفرد اللاجئ يُحدث انطباعًا نفسيًّا يفوق الاعتبار التجريدي لثقافة البلد المضيف، ولكن المتوقع على المدى البعيد أن تؤدي سياسة الهجرة الليبرالية إلى غلبة مشاعر كراهية الأجانب وإلى غلبة الطابع الريجالي للمجتمع؛ على نحو ما نرى وبكل وضوح في أوروبا الآن.
إن البلدان ذات الطابع الكاليبتي ليست بحاجة إلى اتباع سياسة هجرة ليبرالية، وإنما هي بحاجة إلى التدخل في الصراعات المتسببة في المشكلات التي يعاني منها المهاجر؛ ومن ثم تساعد اللاجئين على أن يظلوا قدر الإمكان على علاقة وثيقة بوطنهم.
(٤) السياسة الاقتصادية
تستطيع البلدان الصناعية عالية التقدم أن تهيئ لنفسها بنية عسكرية أكثر تقدمًا من البلدان النامية؛ لهذا يصبح ضروريًّا أن نكون واعين وحذِرين تمامًا من نشوء آليات تحول المجتمعات المتقدمة إلى مجتمعات ذات طابع ريجالي. ويأتي الركود الاقتصادي في مرتبة تالية لخطر الهجرة؛ إذ يمثل الركود الاقتصادي عاملًا مهمًّا يسهم في تحول المجتمع إلى طابع ريجالي، وأوضحت بحوث عديدة أن هناك رابطةً وثيقة بين الأزمات الاقتصادية والنزعة التسلطية في الحكم (انظر الباب الرابع). إن هناك من يرى أن الأزمة الاقتصادية في ثلاثينيات القرن العشرين كانت أحد أهم عوامل اشتعال الحرب العالمية الثانية (بادجت وجورجنسون ١٩٨٢م؛ وسيلز، ١٩٧٣م).
ولا ريب في أن ارتفاع نسبة البطالة في فترات الركود الاقتصادي يمكن أن يؤدي إلى نتائج ذات طابع ريجالي، ولكن إذا ما ظل المجتمع مستقرًّا فسوف يكون بالإمكان تخفيف الآثار النفسية؛ وذلك عن طريق توفير ضمان اجتماعي واقتصادي للعاطلين؛ ذلك لأن الأخطار التي تتهدد المجتمع لا الفردَ هي علة قيام نظام حكم تسلطي؛ ومن ثم يصبح ضروريًّا وضْعُ سياسة اقتصادية توفر للمجتمع قدرة على مقاومة تقلبات الأوضاع الاقتصادية. ومعروف أن رد الفعل التقليدي عند السياسيين إزاء حالات الركود الاقتصادي هو محاولة تحقيق نمو اقتصادي، والتكهن بأن تقدمًا اقتصاديًّا دوليًّا سوف يحدث وشيكًا ويحل جميع المشكلات. ولقد حظي اقتصاد المجتمع الغربي بمرحلة نمو طويلة الأمد هيأت له إمكانية إقامة هياكل اقتصادية تعتمد على النمو كأساس للعمل وأداء دور محلي وعالمي. ويبدو أن السياسيين والاقتصاديين هم الوحيدون العاجزون عن إدراك أن للنمو حدودًا؛ ولهذا نحن بحاجة إلى تفكير اقتصادي جديد يسهم في خلق نظام لا يعتمد على النمو كضمان للاستقرار ولتحقيق أمن اجتماعي.
(٥) السياسة الإعلامية
آلاف المنظمات تحاول جذب انتباهنا كل يوم. نذكر من هؤلاء المعلنين التجاريين والمتنافسين السياسيين في حملاتهم، والحركات الدينية والمنظمات الإنسانية والصحف ومحطات التليفزيون. إن حياة أو موت شركة مياه غازية أو مؤسسة دينية رهن قدرتها على جذب انتباهنا إليها، وإن هؤلاء الفائزين في تلك المنافسة الشرسة التي لا ترحم من أجل لفت الأنظار؛ هم الأقدر على استثارة كوامن نفوسنا ونوازعنا النفسية. والملاحظ أن الصحيفة القادرة على خلق حالة ذعر أخلاقي بشأن منظمة للجريمة لا وجود لها، سوف تتفوق في المنافسة مع صحيفة أخرى تكتب تقارير عن انخفاض معدلات الجريمة. وليس المهم هنا ما إذا كانت قصص الأخبار صحيحة أو ذات صلة بالموضوع. وإنما المهم في المنافسة ما إذا كانت قصص الأخبار مثيرة أم لا؛ بمعنى هل تحرك أكثر الأزرار حساسية لمشاعرنا ونوازعنا أم لا. وما أحوجَنا الآن إلى مزيد من البحوث عن النتائج المجتمعية لهذه المنافسة المحمومة من أجل جذب الأنظار والاستحواذ على اهتمام الناس!
وغني عن البيان أن وسائط الإعلام الجماهيرية (الميديا) تملك الآن قوًى مَهولةً في المجتمع الحديث. إنها قناة الاتصال الرئيسية، والسلطة الرابعة التي تشكل عصب الديمقراطية، ولكن وسائط الإعلام الجماهرية (الميديا) على خلاف الفروع الأخرى للحكومات ومؤسسات السلطة؛ لا تزال عمليًّا حرَّةً من أي سيطرة خارجية؛ ولذلك فهي قادرة على إساءة استخدام سلطاتها (أريكسون وآخرون، ١٩٨٩م).
وسبق أن أوضحنا في الباب التاسع كيف أن ميديا الأخبار لها نفوذ قوي على انتخاب السياسيين في المجتمع الديمقراطي الحديث، وأصبحت مهارات الميديا أهم من المهارات السياسية في الحملات الانتخابية. ويجري انتخاب ميديا الأخبار على أساس صراعها من أجل البقاء من خلال عملية منافسة اقتصادية ضارية. إنها، لكي تحصل على الإعلانات وعلى مصادر تمويل، تعمل جاهدةً على جذب أكبر عدد ممكن من القراء أو المشاهدين. وجدير بالملاحظة أن الكثير من الصحف والمجلات ومحطات التليفزيون وضعت لنفسها استراتيجية فعالة تستهوي وتأسِر الانفعالات البدائيةَ لجمهورها، وأن هذه الوسائط الإعلامية (الميديا) التي تعمِد إلى التطفل على الحياة الخاصة لمشاهير الناس، والاهتمام بمسائل الترويح وألعاب الحظ واليانصيب، وأخبار الجنس والرعب؛ أصبحت عناصر لا غنى عنها في الاستراتيجيات التي تهدف إلى جذب القراء والمشاهدين؛ ومن ثم أموال الإعلانات.
والنتيجة المترتبة على ذلك هي أن ميديا الأخبار هي التي تتحكم في السياسيين، ويتحكم المعلنون في الميديا، ولا يعبأ المعلنون بالخطط السياسية. وحصاد هذا كله أن أهم عمليات الانتخاب في المجتمع الديمقراطي الحديث باتت خارج السيطرة.
وتعتبر أحداث الجريمة والكوارث من أهم الموضوعات التي تستثير كوامن النفس وتثير اهتمام الناس؛ ولذا تستخدمها الميديا سلاحًا لها في المنافسة. وجدير بالذكر أن كمَّ الجرائم التي تعرِضها الميديا تكاد ألا يكون لها أية علاقة بالمعدلات الفعلية للجريمة، كما وأن أنماط الجرائم المعروضة ليست هي الجرائم الممثلة للنوع السائد منها. معنى هذا أن الناس يحصلون على صورة شائهة ومبالَغ فيها عن الجريمة؛ مما يولد في النفوس خوفًا ونزوعًا نحو قيام نظام تسلطي. وتحرص الميديا على عرض أخبار الجريمة في إطار قصص شخص وليس في إطار مناقشة للموضوعات. ويعتبر العرض الانفعالي لمعاناة الضحايا من الموضوعات الأكثر إثارةً واستهواءً من عرض إحصاءات عن الجريمة أو عرض تفسيرات اجتماعية معقدة. ويخلق هذا صورة شائهة عن أسباب الجريمة، ويقع اللوم هنا على مظاهر القصور الأخلاقي عند الفرد المجرم، وليس على أسباب اجتماعية وهيكلية مثل الحديث عن الفرص المنعدمة والسبل المسدودة أمام الأفراد. ويفضي هذا مرة أخرى إلى وضع استراتيجيات قاصرة بل وربما فاشلة لمكافحة الجريمة (إلياس، آر، ١٩٩٣م).
وإن النتيجة الشاملة للتركيز المبالغ فيه من جانب وسائط الإعلام (الميديا) على الجريمة والكوارث؛ هي النزوع نحو الطابع الريجالي في المجتمع، وهذه النتيجة في واقع الأمر ربما كانت من أهم عوامل إضفاء الطابع الريجالي في بلدان مثل الولايات المتحدة الأمريكية اليوم؛ حيث المنافسة الشرسة بين وسائط الإعلام وانخفاض مستوى القدرة على التنظيم والتحكم.
(٦) مضار الوضع الكاليبتي
وصولًا إلى هذه النقطة ربما تكوَّن لدى القارئ انطباعٌ بأن كل شيء ينتمي إلى الوضع الكاليبتي جيد وخير، وكل ما ينتمي للطابع الريجالي فهو سيئ وشر، ولكن هل لنا أن نكون على يقين من أن عالمًا يسوده الطابع الكاليبتي سيجعل الناس أكثر سعادة؟ لا، بكل أسف. الأمور ليست هكذا بسيطة جدًّا، إن الأمن غير السعادة؛ ومن ثم كيف لنا أن نقيس السعادة ونوعية الحياة؟ وكيف لنا أن نحدد ما إذا كان الناس أكثر سعادة في مجتمع ما دون الآخر؟
طبيعي أن هناك بؤسًا في غالبية المجتمعات الريجالية: حرب وكثافة سكانية زائدة، وفقر ومجاعة وأوبئة وعمل شاق وعبودية ونظام صارم وعدم تسامح وتعصب وظلم … إلخ. وطبيعي أيضًا أنْ لا أحد سوف يفضِّل طوعيًّا مثلَ هذه الحياة، ومع هذا فإن المجتمع الريجالي له ميزة نفسية مهمة؛ إذ هناك دائمًا شيء تكافح من أجله؛ كفاح من أجل دعم الأسرة والحفاظ عليها، أو دعم الوطن والحفاظ عليه، وهي أمور تعطي للحياة معنًى. إذن ثمة دائمًا سبب للحياة.
وليس الحال كذلك في غالبية الثقافات الكاليبتية؛ حيث يمكن أن يشعر فيها البعض بأنْ لا شيء هناك يعيشون من أجله. كل امرئ مكتفٍ بذاته، ولا أحد يريد منك العون والمساعدة، وإذا لم تشعر بأن الحياة جديرة بأن يحياها المرء، فلن تطمع في مزيد دون أن يراودك شعور بالذنب تجاه الآخرين. وإن هذا الشعور بالخُواء وافتقاد التضامن ينعكس في صورة أحداث مأساوية مظهرها العزوف عن الحياة في البلدان ذات الثقافة الكاليبتية.
والمعروف أن جميع المجتمعات بها — لسبب أو لآخر — سكان يشعرون بعدم الأمان أو لديهم مشكلات تؤرق حياتهم. وعادةً ما يرتبط مثل هؤلاء الناس بحركات أو مؤسسات ذات ثقافة ريجالية يمكنها أن تحقق قدرًا من السكينة لعقولهم، وتخفف عنهم شعورهم بالمسئولية تجاه حياتهم. ونجد هذا في مؤسسات مثل الأديرة والطوائف الدينية والمنظمات السياسية والتجمعات الشبابية ومنظمات الجريمة، وفي الوظائف التي تطلب شروطًا قاسية وعملًا دءوبًا أو وظائف خطرة، أو منظمات عسكرية أو شبه عسكرية … إلخ. وسوف توجد دائمًا منظمات مختلفة ذات مستويات −ر/ك متباينة، كلٌّ منها تسد فراغًا في الموطن الملائم. وتوفر هذه المنظمات ذات الثقافة الريجالية، بدرجة أو بأخرى، ميزةً مباشرة لمن تستهويهم تلك المنظمات ويلتحقون بها؛ مثل النظام والضبط والربط والتضامن وتنظيم محدد المعالم والهدف؛ مما يعطي معنًى للحياة ويؤنس النفس غير الآمنة ويمنح السكينة والهدوء لمن يعانون من عدم الاستقرار. ويمكن لهذه المنظمات أن تحمي الشخصيات الضعيفة من إدمان خطر أو جريمة أو بؤس اجتماعي.
ولهذا السبب يمكن أن تظهر دائمًا حاجة إلى مؤسسات ذات طابع ثقافي ريجالي بدرجة أو بأخرى حتى داخل المجتمعات ذات الثقافة الكاليبتية؛ مثال ذلك أن علاج مدمني المخدرات يستلزم توفر درجة عالية من الثقافة الريجالية أكثر مما يمكن للمجتمع أن يتقبله في مجالات أخرى؛ وذلك لأن إدمان المخدرات يمكن اعتباره في ذاته أمرًا ذا طابع ريجالي؛ بمعنى أنه يحرِم المدمن من السيطرة الذاتية. وتعتبر القوات المسلحة — كما سبق أن أشرنا — مجالًا آخر يستلزم درجة معينة من الطابع الثقافي الريجالي.
ولكن إلى أي حد يمكن أن يتسامح مجتمع كاليبتي تجاه المنظمات الريجالية؟ هذا أمر رهن اعتبارات متباينة. إن المنظمات الريجالية ربما تتخذ لنفسها هدفًا مثاليًّا أو غرضًا مفيدًا اجتماعيًّا؛ ومن ثم تستفيد من الحاجة النفسية لدى بعض الناس والتي تستوجب قدرًا من الثقافة الريجالية. وثمة منظمات أخرى يقتصر نشاطها على الداخل فقط يمكن ألا تكون مفيدة ولا ضارة للمجتمع المحيط بها، ولكن المنظمات الريجالية يمكن أيضًا أن تكون ضارة بالمجتمع، وقد يحدث هذا على سبيل المثال بسبب عملية التعبئة العدوانية لأعضاء جدد، أو بسبب الاستقلال الاقتصادي للأعضاء، أو بسبب نزوع لارتكاب الجريمة؛ ومن ثَم تؤثر — بحكم كونها كذلك — على المجتمع المحيط بها وتدفعه في اتجاه مزيد من الطباع الثقافي الريجالي.
(٧) مخاطر ومحاذير تتعلق بتطبيق نظرية R/K−
النظرية الثقافية −ر/ك أكثر ملاءمةً لمقارنة ثقافات مختلفة عن تحليل ثقافة منفردة. وإن تطبيق النظرية في مجال الحياة العملية ينطوي على كثير من مصادر الأخطاء؛ على نحو ما أوضحنا في الباب الثالث عشر. مثال ذلك أن تحليل قطعة فنية واحدة يمكن أن ينطوي على مشكلات مهمة، كذلك فإن سوء التأويل والمبالغة المفرطة في تأويل الأعمال الأدبية والأساطير … إلخ؛ مشكلة معروفة ومشهورة، وأيضًا تتزايد مخاطر التأويلات الخاطئة مع تزايد الحاجة إلى النظرية −ر/ك للتأويل.
وحيث إن تحليل نظريةٍ ما ليس له من أهمية سوى أهمية أكاديمية فسوف تكون هناك فرصة للمناقشة ولاختلاف الآراء دون ضرر أو ضرار، ولكن النظرية عند وضعها موضع التطبيق، وحيث تكون النظرية −ر/ك ملائمة إلى حد كبير، فإن النتائج المترتبة على الأخطاء النظرية قد تكون شديدة الخطر. ونسأل ماذا، على سبيل المثال، لو استخدمنا النظرية في مجال بذل الجهد لتحقيق سلم دولي، بينما تنطوي النظرية على خطأ ما؟ إننا نستطيع — من ناحية أخرى — أن نقول إن مخاطر القرارات غير الملائمة والمؤسفة ستكون في حالة عدم توافر نظرية أعلى كثيرًا مما لو كنا نعمل في ضوء النظرية.
وثمة سؤال طبيعي؛ وهو ما إذا كان بإمكان حاكم مستبد طاغية أن يستخدم نظرية −ر/ك لتعزيز سلطته السياسية؟ وأود أن أجيب على هذا السؤال قائلًا إن تلك الوسائل التي ذكرتْها نظرية الانتخاب الريجالي سبق أن عرفها وطبَّقها حكام ديكتاتوريون عديدون على مدى آلاف السنين؛ إذ تهيئ النظرية فرصًا أفضل للرؤية عبر الوسائل الريجالية بدلًا من ابتكار وسائل جديدة، وتهيئ النظرية من ناحية أخرى فرصًا جديدة لتلك الحكومات التي تريد دعم السلم والديمقراطية.
وكم هو يسير أن نتخيل شخصًا ما سوف يحاول التأثير في مستوى −ر/ك لمجتمعٍ ما عن طريق التحكم في الإنتاج الفني لهذا المجتمع! وإن تقديم العون المادي لأنواع بذاتها من الفن وقمعَ أنواع أخرى؛ هو وسيلة سياسية معروفة في البلدان الريجالية، ولكنها تكاد تكون بغير فعالية أو تأثير في المجتمع الكاليبتي. وتوجد قنوات اتصال مختلفة وكثيرة جدًّا، فنية وشفاهية، بحيث إن أي رسالة مطلوب توصيلها لأسباب نفسية ستجد دائمًا سبيلًا لها، وهذا هو ما نشهده اليوم في بلدان ديمقراطية كثيرة؛ مثال ذلك في الثقافة العليا ذات الطابع الريجالي نسبيًّا، والتي تدعمها الدولة أو الطبقة العليا في المجتمع لا تمنع الثقافة الشعبية، ثقافة البوب ذات الطابع الكاليبتي الغالب، من الانتشار والازدهار.